كيف أعيش إيماني في ظل الكرورنا فايروس؟
كيف أعيش إيماني في ظل الكورونا فايروس؟
لماذا اخترت هذا الموضوع؟ وما هي علاقة الإيمان بوباء الكورونا؟ الحقيقة اخترت هذا الموضوع لسببين: أولاً، كما نعلم، عندما بدأ الحجر وأُغلقت الجوامع والكنائس، كانت ردة فعل الأغلبية هي الامتعاض. كيف يمكن أن لا نصلي؟ أن لا نمارس إيماننا؟
وثار جدل كبير بين المسيحيين بخصوص المناولة: هل يمكن للمؤمن أن يتناول بيده؟ هل يمكن للكاهن أن يناول بالملعقة القربان؟ هناك من لم تكن لديه مشكلة أن يتناول بيده، وهناك من أعطى صفة القداسة للموضوع وطمأن الناس بأنهم حتى ولو اشتركوا بالملعقة عينها للمناولة لا يمكن أن يُصابوا لأن القربان مقدس وهو من يحمي من كل خطر!
والملفت للانتباه في هذا الجدل هو موضوع الإيمان الذي لم يُطرح أبداً، كما لو أن الإيمان هو بكل بساطة ممارسة الأسرار، وخاصة الإفخارستيا. والسؤال إذن: هل يمكن أن نعيش إيماننا خارجاً عن الطقوس والممارسات الدينية وبشكل خاص الأسرار منها؟
هذا الأمر يطرح سؤال آخر مهم جداً وكان موضوع جدل كبير في الماضي الذي ليس ببعيد: ما علاقة الدين بالإيمان؟ هل الدين والإيمان واحد؟ إذن كما تلاحظون الموضوع أكبر ممّا يبدو عليه.
السبب الثاني لاختياري هذا الموضوع هو الامتعاض الكبير الذي عبّر عنه المؤمنين ورفضهم إغلاق الكنائس. فتوجهت الكنائس إلى البث المباشر للقداديس. فماذا يمكننا أن نقول؟
في العهد الجديد لا نرى أبداً يسوع يمارس الطقوس الدينية المعروفة من قبل شعبه. كان يدخل المجمع بين حين وآخر ولم يكن رجل طقوس ولم يكن كاهن بالمعنى الذي نعرفه ونمارسه.
لكنه كان ينعزل ليصلي، كما علّم تلاميذه صلاة الأبانا. وعندما تحدث عن الصوم والصلاة والصدقة، اكتفى بالدعوة إلى القيام بهذه الممارسات في الخفية لا في العلن: «أَمَّا أَنْتَ، فإِذا صَلَّيْتَ فادخُلْ حُجْرَتَكَ وأَغْلِقْ علَيكَ بابَها وصَلِّ إِلى أَبيكَ الَّذي في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك».
وأعطى الأولية للعلاقة على الطقوس: «فإِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إِلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً، فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك». ممّا يطرح سؤال العلاقة بين الإيمان والدين ومكانة الطقوس الدينية.
مشاكلنا، تأتينا من الدين لا من الإيمان! أي أن مفهومنا واستعمالنا الخاطئ للدين هو المشكلة. فالكثير من الناس، ومن أديان مختلفة تردد في مجتمعاتنا الشرقية بأن الدين معاملة. أي الدين ليس الطقوس. فلماذا الطقوس؟
أولاً، الدين له وظيفة واضحة وهي تنظيم الإيمان إن صح التعبير، أو بشكل أدق، تنظيم ممارسة الإيمان الجماعي، لأن البعد الجماعي في الإيمان مهم للغاية.
والطقوس مهمة لأنها تعطي الهوية لممارسيها: مثلاً رسم إشارة الصليب، قراءة الفاتحة، الخ. تقول لنا بأن هذا الإنسان مسيحي أو مسلم. لكن الطقوس ليست فقط دينية، هناك الطقوس الاجتماعية وهي أيضاً تعطي الهوية: طريقة السلام بين الناس تقول لنا أن هذا الإنسان من أمريكا اللاتينية، أو من الشرق الأقصى، الخ.
ولهذا السبب هي تكرر، هي نفسها لا تتجدد إلاّ ما ندر وبشكل طفيف، ولا تتغير: عندما نحتفل بعيد ميلاد شخص ما يجب دائماً أن يكون هناك قالب من الكاتو وليس شيء آخر. في حفلة الزفاف، الافتتاح دائماً بنفس الطريقة، الخ. لأن الهوية ثابتة، ظاهرياً لا تتغير، لكن مفهومها متحرك إن صح التعبير.
أمَّا الإيمان فهو أمر آخر. والإيمان لا يرتبط بالضرورة بالدين، فالإيمان هو قبل كل شيء، فعل إنساني. إذا كانت الطقوس تعطي الهوية للإنسان، فالإيمان يعطي المعنى لحياة الإنسان، وهذا لا يرتبط بالضرورة بالدين.
فالمعادلة بين الدين والإيمان خطأ فادح! الإيمان شامل، بمعنى أن لا وجود لإنسان بدون إيمان. قد يكون الإيمان إيمان بالإنسان، أو بقضية معينة، لكن لا يمكن للإنسان أن يستمر في الحياة بدون إيمان.
عادة ننعت بعض الأشخاص بسهولة، أو يُعرف بعض الأشخاص أنفسهم بسهولة أنهم ملحدون، أي غير مؤمنين. هذا الكلام غير دقيق أبداً. فالملحد قد لا يؤمن بدين معين، أو لا يؤمن بالله، لكنه يؤمن بشيء ما، يؤمن بإلحاده على الأقل، وإلاَّ لانتهى به الأمر بالانتحار.
ومن يقول إيمان يقول ثقة، والثقة، خلافاً لما نعتقد، لا تُبنى على البراهين. والأمثلة لا تُعدّ ولا تُحصى. عندما أقبل بأخذ دواء معين وأنا لا أملك الوسائل للتأكد من صحته، بناءً على أي شيء أقبل الدواء، إن لم يكن بناءً على ثقتي بالطبيب وثقته هو بهذا الدواء بدلاً من غيره، الخ.
فالإيمان مطلوب حتى في المجال العلمي. قلت أن لا وجود للإنسان خارجاً عن الإيمان، أُضيف وأقول، خارجاً عن الإيمان لا وجود للمجتمع ولا لحياة اجتماعية وعلاقات إنسانية. لأن كل علاقاتنا مبنية على الإيمان ـــ الثقة.
مثل آخر: الإعلام أو وسائل الإعلام: الإعلام هو السلطة الرابعة في الدولة، لكونه يستطيع التلاعب والتحكم بالرأي العام كما يريد. فعلى أي أساس أفضل هذه القناة على غيرها؟ هل أملك الإمكانية للتأكد من صحة ما تقول؟ هذا ما عانينا منه ولا نزال منذ 2012.
مثل آخر: أثناء دراستي في فرنسا كنت أعطي لقاءات للتعليم المسيحي للصفوف الثانوية في مدرستنا. في هذه السنة قام البابا يوحنا يولس الثاني بزيارة لمدينة (Parais le monial) التي منها انطلقت عبادة قلب يسوع التي أسسها الآباء اليسوعيين.
هدف الزيارة هو من جهة أهمية المكان بالنسبة لكنيسة فرنسا وللكنيسة الجامعة، ومن جهة أخرى الطلب من اليسوعيين إمكانية إحياء وتجديد هذه العبادة. في اللقاء القادم سألني الطلاب: هل صحيح أن البابا انتقد يسوعيين فرنسا؟
قلت لهم لا أعلم. أعطيكم الجواب الأسبوع القادم. فقمت بتصوير كل الجرائد التي تكلمت عن هذه الزيارة وأعطيتهم نسخة لكل واحد لندرسها معاً. فكانت النتيجة أنهم صعقوا وذهلوا عندما رأوا الاختلافات والتناقضات بينها.
وفي النهاية أعطيتهم النص الذي قرأه البابا فاكتشفوا أن إحدى الجرائد، وهي جريدة مسيحية هي الأقرب لنص البابا. لكننا لا نستطيع القيام بهذا الأمر كل يوم وعلى مدار الساعة!
ما يميز الإيمان إضافة إلى أنه يسمح بالعيش ضمن المجتمع وبين الأفراد، الإيمان يفتحني بالضرورة على الآخر شئت أم أبيت! إن كنت مؤمنناً بعملي، لا يمكنني أن أمارس عملي منعزلاً عن الآخرين، أو مؤمناً بقضية ما لا يمكنني الدفاع عنها بالعزلة والانعزال، وهكذا دواليك.
والانفتاح على الآخرين يعني قبول اختلافاتهم عني. أي الإيمان يساعدني لأكون واقعياً أن أقبل بالواقع كما هو. لا يمكن للواقع أن يكون كما أريده أن يكون. عليَّ أنا أن أتأقلم مع الواقع وأقبل بأنه فيه شر كما فيه خير، فيه حزن كما فيه فرح، فيه موت كما فيه سعادة.
هذا القبول ليس استسلام ولا خنوع، بل يساعدني لأجد المعنى العميق وأحاول التغير. هذا يعني أنه لا بد لنا من أن نؤمن بما يقوله لنا الآخرون. أن نؤمن بما يقوله لنا الآخرون لا يعني أبداً أن أكون أعمى، إنما إن لم يكن لدي القليل من الإيمان بالآخر لا يمكنني العيش في المجتمع. ومن جهة أُخرى ما من أحد يملك الحقيقة.
فالإنسان الذي يشك في كل شيء لا يمكنه العيش بالمجتمع يكون عاجزاً عن الإيمان بما يقوله الآخرون له. فعل الإيمان إذن، كما تلاحظون ليس فقط فعل إيمان ديني، أو الإيمان بالله الإيمان هو فعل إنساني لا بد منه، إنه جوهري لقيام المجتمع وإمكانية العيش مع الآخرين.
أكثر من ذلك، يمكننا القول بأن الإيمان مطلوب وموجود في المجالات الأكثر علمية. وبالتالي، الإيمان لا يناقض ولا يُلغي العقل، بل على العكس يكملان بعضهما البعض.
الإيمان بدون العقل سذاجة، والعقل بدون إيمان ديكتاتورية. العلم يقول لنا ما يحدث، والإيمان يعطينا معنى الأحداث. إذا كان هذا ما يخص الإيمان الشامل، أو كفعل إنساني، فماذا يمكننا القول بخصوص الإيمان المسيحي؟ وما علاقته بالطقوس وبالتحديد بالأسرار؟
بداية أقول أن الإيمان المسيحي هو إيمان متجسد وتاريخي. هذا يعني، من جهة، أن عليه أن يظهر ويعبّر عن ذاته في الواقع اليومي ويمكننا القول بشكل خاص في الظروف التي نعيشها اليوم.
ومن جهة أخرى، هذا يعني أن إيماني ليس بشيء جامد أعرفه مرة واحدة، متجسد وتاريخي يعني أن الإيمان يُفهم بحسب المكان والزمان حيث أوجد، وأن هناك ذهاب وإياب، تأثير متبادل بين ما تعيشه البشرية من سلبي وإيجابي وبين فهمي وعيشي لإيماني.
بمعنى آخر، لا يمكنني أن أفهم الكتاب المقدس، إيماني، وأن أعيش إيماني كما عاشه أجدادي، ومن سيأتي بعدنا بسنوات، لن يفهم ويعيش إيمانه مثلنا. مثلاً في الماضي كنّا نقرأ روايات الخلق بحرفيتها وبالتالي كنّا نعتقد بأن الله خلق آدم وحواء أولاً ثم تكاثرت البشرية.
اليوم نقول بأن الله خلق البشرية مكونة من رجال ونساء رُمز لهم بآدم وحواء. أو في الإنجيل عندما ينزل يسوع مع تلاميذه الثلاث من جبل التجلي يأتي شخص ويعرض عليه ابنه المسكون «بالشيطان».
كانت الكنيسة تُعنون النص: يسوع يطرد «شيطان» عن صبي. اليوم، وعلى ضوء تطور العلوم والعلوم الإنسانية من جهة، وتصرفات الصبي من جهة أُخرى أصبح عنوان النص: يسوع يشفي صبي مصاب بمرض الصرع.
في كلّ مرة نواجه فيها الشر، أثناء الحروب التي عشناها أو نعيشها اليوم، ما نسمعه هو دائماً العبارة الخالدة: أين هو الله؟ لماذا لا يتدخل ويوقف هذا الشر. إذا أردنا أن نجيب على هذا السؤال، فمن الضروري أن نصحح مفهومنا وتصورنا عن الله.
الكتاب المقدس يقول لنا بأن الله خلق الكون وسلّمه كليّة للإنسان: «انموا وأكثروا واملأوا...». فالإنسان هو المسؤول عن الكون وما فيه. والله لا يتدخل في العالم ليغير مجرى الأحداث. وإن تدخل فمن خلال حرية الإنسان. وفي حديثي الأول: كورونا فايروس نعمة أم نقمة؟ بينت مسؤولية الإنسان في ما حصل من وباءات في الماضي والكورونا اليوم.
الكون وبما فيه، والبشرية، هم مشروع قيد التحقيق وعلى الإنسان أن يسعى لتحقيق هذا المشروع إمّا باتجاه الخراب أو باتجاه البناء. وهنا برأيي يأتي دور الإيمان مسيحي أم لا.
إذا قبلنا أن الإيمان ثقة، فهذه الثقة تعني أن العالم هو ملك للجميع، والبشرية مؤتمنة عليه. المشكلة كما نعرفها جميعاً، أن الإنسان ميال للأنانية، وحب التملك لديه، لا حدود له وهنا تكمن المشكلة. واليوم مع الأسف عبارة الخير العام التي تربينا عليها اختفت من قواميسنا وحل مكانها الشعار: أنا ومن بعدي الطوفان!
لقد نسينا بأن الإنسان واحد، ودعوته الأولى أن يكون لإنسان بكل معنى الكلمة: حضاري، يقبل الآخر ويعمل معه من أجل الخير العام وبناء عالم إنساني بكل معنى الكلمة. وهذا هو دور الإيمان.
واليوم حلت كلمة المعتقد مكان الإيمان، وكل إنسان له معتقده الشخصي وأصبحت عوامل الانقسام والحروب بعدد المعتقدات الموجودة في البشرية. الإيمان يوحد بينما المعتقد يقسم.
والطقوس، دورها الحقيقي أن تجعل هذا الإيمان يتجسد في كل تفصيل من حياة الإنسان اليومية. وعلى السؤال: كيف أعيش إيماني في ظل الكورونا؟ أُجيب، أو بالأحرى كبداية لجواب على كل إنسان أن يجده بحسب إمكانياته، أن أقبل بأن الكوارث والوباءات موجودة في العالم منذ البداية، ولا علاقة لله بها، لكن البشرية مستمرة، قبول هذا الأمر يريحني ويجعلني أكثر انفتاحاً على الآخر. يساعدني لكي أعطي للطقوس الدينية مكانها الصحيح، وإذا كان، بسبب الوباء من غير الممكن ممارستها، فليس هناك من عقاب أو ما شابه.
إيماني يساعدني لكي لا أنغلق على ذاتي خوفاً، وأن أكون على ثقة بأن الكلمة الأخيرة هي للحياة لا للموت. وفي النهاية، أن أكون شاهداً للرجاء كما تقول رسالة بطرس الأولى: «كونوا دائِمًا مُستَعِدِّينَ لأَن تَرُدُّوا على مَن يَطلُبُ مِنكم دَليلَ ما أَنتم علَيه مِنَ الرَّجاء».
الوحدة الكنسية وهم أم واقع؟
«لا أَدْعو لَهم وَحدَهم بل أَدْعو أَيضاً لِلَّذينَ يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم. فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني. وَأنا وَهَبتُ لَهم ما وَهَبْتَ لي مِنَ المَجْد لِيَكونوا واحِداً كما نَحنُ واحِد: أَنا فيهِم وأَنتَ فِيَّ لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحدَة ويَعرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني (....) عَرَّفتُهم بِاسمِكَ وسأُعَرِّفُهم بِه لِتَكونَ فيهمِ المَحبَّةُ الَّتي أَحبَبتَني إِيَّاها وأَكونَ أَنا فيهِم»
نص الإنجيل الذي قرأناه هو جزء ممّا نسميه صلاة يسوع الكهنوتية. لا يمكننا فهم هذه الصلاة بعمقها إلاّ إذا وضعناها ضمن إطارها العام والذي هو عيد الغفران لدى شعب العهد القديم.
في هذا العيد، يقوم عظيم الكهنة بالكفّارة أولاً عن ذاته، ثم عن بقية الكهنة وأخيراً عن الشعب كله. الهدف هو إعطاء الشعب، بعد كل انتهاكات وتجاوزات السنة، الوعي لمصالحته مع الله.
صلاة يسوع هذه، لها بنية عيد الكفارة أو المغفرة. في هذه الليلة، يتوجه يسوع لأبيه في اللحظة التي سيبذل فيها ذاته. يصلي لنفسه، لتلاميذه ولجميع الذين سيؤمنون به، وأخيراً من أجل الكنيسة في كل الأزمنة: «لا أَدْعو لَهم وَحدَهم بل أَدْعو أَيضاً لِلَّذينَ يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم».
بصلاته لأجل ذاته يطلب أن يُمجّد، أن يُرفع في هذه الساعة، ساعته. في الواقع، إنه أكثر من مجرد طلب، إنه إعلان ملء استعداده للدخول، بحرية وبلا حدود، في مخطط الله الآب الذي يتحقق ببذل ذاته، من خلال موته وقيامته.
هذه الساعة تبدأ بخيانة يهوذا وتبلغ ذروتها بصعود القائم من بين الأموات إلى الآب. في العشاء الأخير، عندما يغادر يهوذا العلية، يقول يسوع: «الآنَ مُجِّدَ ابنُ الإِنسان ومُجِّدَ اللهُ فيه». فليس من باب الصدفة أن يبدأ صلاته الكهنوتية: «يا أَبتِ، قد أَتَتِ السَّاعة: مَجِّدِ ابنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابنُكَ».
فالمجد الذي يطلبه يسوع لذاته، هو دخوله في الطاعة الكاملة للآب، طاعة تقوده لبنوته التامة: «فمَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجدِ عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العالَم». هذا الاستعداد وهذا الطلب يشكلان العمل الأول من كهنوت يسوع الجديد، والذي يكمن في العطاء الكلي لذاته على الصليب.
فعلى الصليب ـــ عمل الحب الأسمى ـــ مُجِّد يسوع، لأن الحب هو المجد الحقيقي، المجد الإلهي. اللحظة الثانية لصلاة يسوع هي شفاعته لتلاميذه الذين كانوا معه: «أَظهَرتُ اسمَكَ لِلنَّاسِ الَّذينَ وَهَبتَهُم لي مِن بَينِ العالَم. كانوا لَكَ فَوهبتَهُم لي وقَد حَفِظوا كَلِمَتَكَ».
إظهار اسم الله للبشر يعني تحقيق حضور جديد للآب في البشرية. هذا الإظهار هو واقعي في يسوع، لأن الله فينا، ولكون يسوع واحد منا، فهذا الحضور قد تحقق.
في مركز صلاة الشفاعة والمغفرة لتلاميذه، هناك طلب التكريس: «لَيسوا مَنَ العالَم كَمَا أَنِّي لَستُ مِنَ العالَم. كَرِّسْهُم بالحَقّ إِنَّ كلِمَتَكَ حَقّ. كَمَا أَرسَلَتني إِلى العالَم فكَذلِكَ أَنا أَرسَلتُهم إِلى العالَم وأُكَرِّسُ نَفْسي مِن أَجلِهمِ لِيَكونوا هم أَيضاً مُكَرَّسينَ بِالحَقّ.».
كلمة التكريس حرفياً، لا تطبَّق إلاّ على الله. فالتكريس يعني تحويل شخص أو شيء، فصله ووضعه جانباً، ليكون ملكاً لله. فأن يكون الإنسان مفصولاً، أن يكون ملكاً الله، هذا يعني الإرسال، الرسالة. فالإنسان المُكرَّس، لكونه مُعطى لله، فهو موجود من أجل الآخرين، إنه مُعطى للآخرين.
والتكريس هو بهدف رسالة من أجلها يضع المكرس ذاته تحت تصرف الله بالكامل. في مساء الفصح، لدى ظهور القائم من بين الأموات للتلاميذ، يقول لهم: «السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً».
والعمل الثالث لهذه الصلاة يكمن في شمولية النظر إلى نهاية الأزمنة. لذلك يتوجه الآن يسوع إلى الآب ليتشفع من أجل جميع من سيؤمنون به بفضل الرسالة التي دشنها التلاميذ ولا تزال مستمرة عبر التاريخ: «لا أَدْعو لَهم وَحدَهم بل أَدْعو أَيضاً لِلَّذينَ يُؤمِنونَ بي عن كلامِهم».
لكن الطلب المركزي في صلاة يسوع، يبقى صلاة الوحدة المستقبلية لمن سيؤمنون به. هذه الوحدة تأتي حصرياً من الوحدة الإلهية وتأتي من الآب إلينا من خلال الابن في الروح القدس. هذه الوحدة هي بكثافة وعمق وحدته مع الآب. هذه الوحدة ليست وحدة الاندماجية. فالاندماجية قاتلة، إنما وحدة مؤسسة على الحبّ، وحدة تتحقق من خلال الاختلاف على مثال وحدة الثالوث.
هذه الوحدة عليها أن تمس كل مجالات الحياة: الوطن، العائلة والصداقة.
الوطن: أي تحدي لبناء وحدة حقيقية من خلال الاحترام وقبول الاختلاف، اختلاف الثقافات المكونة له واللغات.
العائلة: أي تحدي هائل ورائع في الوقت نفسه للكوبل بأن يحقق وحدة عميقة حيث كل ما يصيب الواحد يصيب الآخر، حيث هموم الآخر تأخذ مكان الهموم الذاتية في احترام لسر الشخص في فرادته التي لا تتغير. وكلنا نعلم تفاقم المشاكل الزوجية والعائلية حيث تفككت العائلة بسبب الهجرة وغيرها.
الصداقة: أي تحدي هائل أخيراً أن نعيش الصداقة والأخوّة كمدرسة للوحدة التي تهدف لتنمية الآخر في ما أعطاه الروح من مميز. أي سر في أن نكون جميعاً مخلوقين على صورة الله وفريدين في أنٍ معاً.
إنه يصلي «فَلْيكونوا بِأَجمَعِهم واحِداً: كَما أَنَّكَ فِيَّ، يا أَبَتِ، وأَنا فيك فَلْيكونوا هُم أَيضاً فينا لِيُؤمِنَ العالَمُ بِأَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني». من جهة، وحدة المسيحيين هي واقع سري، حاضرة في قلوب المؤمنين.
ولكن في الوقت نفسه، عليها أن تظهر في التاريخ بوضوح كامل، لكي يؤمن العالم. تظهر في الأماكن التي تحدثنا عنها منذ لحظة. وبما أن وحدة تلاميذ المستقبل هي الوحدة مع يسوع، فهي أيضاً نبع ومصدر فعالية الرسالة المسيحية في العالم.
هكذا، ما يعيشه يسوع مع الآب، هو النموذج الذي يريد أن نعيشه في علاقاتنا مع بعضنا البعض: بين الدول، بين الأزواج والأخوة. اتحاد عميق واحترام هائل للآخر. فالوحدة يجب ألاَّ تخيفنا بل يجب أن تُعاش كطريقة لتنمية الآخر، تنمية الخصوصية الفريدة لكل إنسان.
الله فريد لكنه ليس وحيداً؛ الله ملك لكنه ليس ظالماً. إنه يريد الوحدة لكنه لا يريد التوحيد، لا يريد وحدة تلغي غنانا. فالله لا يكون فريداً عندما يختزل كل شيء بالأمر الواحد، بإلغاء الفرديات، بل عندما يكون كل واحد هو ذاته وقد أصبح فريداً.
هكذا تتم نبوءة زكريا التي تقول: «ويَكونُ الرَّبُّ مَلِكاً على الأَرضِ كُلِّها، وفي ذلك اليَوم، يَكونُ رَبٌّ واحِدٌ واسمُه واحِد» (زك 14، 9). صلاة يسوع تلتحق بصلاة زكريا التي تأخذ القصد الأولي لله: إنسانية واحدة، ربّ واحد وواحد يكون اسمه.
آنذاك يصبح الله الكل في الكل كما يقول بولس الرسول دون أن يتوقف أحد أن يكون فريداً وله مكانه في المدينة المقدسة.
وبالتالي، يمكننا القول أنه في صلاة يسوع الكهنوتية، تتحقق الكنسية المرجوة. أثناء العشاء الأخير، يؤسس يسوع الكنيسة. فالكنيسة هي جماعة التلاميذ التي، بالإيمان بيسوع المسيح كمرسل من الآب، تستقبل وحدتها وهي مشاركة في رسالة يسوع لخلاص العالم بقيادتها له للاعتراف بالله.
يصلي يسوع ليكون تلاميذه واحداً. فالكنيسة، قوية بهذه الوحدة، يمكنها أن تتقدم في العالم دون أن تكون من العالم وتحيا رسالتها المؤتمنة عليها لكي يؤمن العالم بالابن وبالآب الذي أرسله.
هكذا تصبح الكنيسة المكان حيث تستمر وتمتد رسالة المسيح والتي تكمن في إخراج العالم والإنسان من الخطيئة، ليعود هذا العالم، مجدداً، عالم الله. هكذا تصبح الكنيسة فعلياً جسد المسيح، حضوره الفعّال في العالم.
ولكن إذا صلّى يسوع من أجل وحدة التلاميذ ووحدة البشرية، فهذا يعني أنه مدرك تماماً لصعوبة الأمر لكونه يعرف ما في باطن الإنسان، يعرف حقيقة الإنسان، ضعفه وقوته، غناه وفقره. ومع كل ذلك فهو يثق بالإنسان كما هو واضح في مثل الابن الضال. والملفت للانتباه أنه يصلّي من أجل الوحدة ولا يطلبها منَّا لكونه يعلم عجزنا عن تحقيقها وبالتالي علينا استقبالها من الله.
اسمحوا لي أن ألفت الانتباه إلى هذه الناحية (العجز) التي، في الكثير من الأحيان، تجعلنا نشعر بأن الإيمان المسيحي صعب وصعب جداً. عندما نتأمل في مثل الزارع أو نستشهد به، فغالباً لنقول أنه علينا أن نعطي ثماراً. وننسى بأن الثمار تأتي من البذرة، كلمة الله ونحن مجرد أرض قد تكون مستقبلة أو رافضة.
إذا كان الأمر بهذه الصعوبة، إذا كنَّا عاجزين على تحقيقها، فالسؤال ما الذي يمنعنا من تحقيق الوحدة ليس فقط بيننا إنما مع الآخرين المختلفين عنّا؟ وما هو سبب عجزنا على تحقيقها؟ عندما نتعمق في مفهوم وأهمية الحياة الروحية، نكتشف بأن أحد أهدافها أو نتائجها هي وحدة الشخص الإنساني، وحدة أو توحيد رغباته.
فالشخص الإنساني هو كائن منقسم غير موحد ولا يمكن توحيده. ومكان الانقسام هذا هو مكان تحقيق إنسانيته وبالتالي ألوهيته من خلال قبوله لاستحالة تلبية رغبته العميقة بالشكل الكامل. وهذا ما نسميه بالنقص، العلامة المميزة للإنسان.
بلغتنا الإنسانية نقول بأن هذا الانقسام يظهر من خلال وجود الوعي واللاوعي، من خلال الرفض المتبادل بين الرجل والمرأة، من خلال الصراع بين الفرد والمجتمع، والسلسلة تطول وتطول.
لا شك أن أفضل من عبّر عن هذا الانقسام هو القديس بولس الرسول عندما يقول: «الخير الذي أريده لا أفعله والشر الذي لا أريده فإياه أفعل» (رو 7، 19). كما أنه يعبّر عن الموضوع نفسه بطريقة أخرى عندما يتحدث عن التعارض بين ثمار الجسد وثمر الروح في رسالته إلى أهل غلاطية.
والملفت للنظر هو تعدد ثمار الجسد، أما الروح فله ثمر واحد وهو الإيمان والإيمان يقود إلى وحدة الشخص الإنساني. إذن الإنسان مدعو قبل كل شيء لتحقيق وحدته، أي أن يسكن ذاته ليكون قوله فعل، على مثال المسيح، وهذا ما يُسمى بلغة علم الألسنيات الكلام الفعّال: «إني أعمدك باسم الآب والابن والروح القدس»، هذا كلام ــــ فعل.
لتحقيق ذلك، على الإنسان أن يصغي إلى ذاته ليسكن ذاته وبالتالي يوحد رغباته، يحقق وحدته. هذا الإصغاء يتم أيضاً من خلال التأمل في الإنجيل حيث يستقبل المتأمل الروح القدس أساس هذه الوحدة كما هو واضح في يوم العنصرة حيث كان الناس الغرباء يفهمون بلغتهم، ما يقوله التلاميذ.
أخيراً، أقول إن تحقيق وحدة الكنيسة يبدأ بالذات، بتحقيق وحدتي الشخصية، بتوحيد رغباتي ليكون كلامي فعل فتُترجم رغبتي بالوحدة بالفعل لا بالقول. وبالتالي صلاتنا من أجل الوحدة مدعوة لتكون صلاة استقبال لهذه الوحدة من الله، استسلام للروح القدس لكي يحقق من خلالنا هذه الوحدة المرجوة.
الميلاد والكنيسة
الميلاد والكنيسة
اعتدنا منذ زمن بعيد، في زمن التهيئة للميلاد، أن نركز على أهمية ولادة الطفل يسوع في قلوبنا لكي يغيرنا ويجعل منّا أكثر إيماناً، أكثر على صورته كمثاله. وكتعبير عن هذا الأمر تقوم مختلف الجمعيات المسيحية والأنشطة الكنسية بالاهتمام بالأشخاص العزولين وبالفقراء سواء بزيارة مأوي العجزة أو بتوزيع بعض لوازم العيد للفقراء والمحتاجين.
دون التحدث عن الحجم الكبير الذي تأخذه المظاهر الخارجية: شجرة الميلاد، المغارة، الخ. ونقرأ في هذه الفترة أن الكنيسة المعينة أو المجموعة المحددة صنعت أكبر مغارة أو أكبر شجرة مع تدشين لها باحتفال رسمي وشعبي إن صح التعبير.
كل هذه الأمور لا بأس بها لكنها تطرح علينا سؤال مهم للغاية وكلنا نتساءله دون القيام بأي تصرف مختلف: هل هذا هو جوهر عيد الميلاد بالنسبة لنا نحن المسيحيين؟ قبل التحدث عن جوهر الميلاد، علينا الانتباه إلى أمر مهم جداً وهو أن الإيمان المسيحي هو أساساً إيمان جماعي، أي يُعاش على صعيد الجماعة، دون أن ينفي الإيمان الفردي.
والمسيح يقول لنا «كلّما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون بينهم». كما أن أول أمر قام به المسيح في حياته العلنية هو اختيار التلاميذ لعيشوا معه ويرافقوه ويتبعوه. بمعنى آخر أول أمر قام به هو تأسيس جماعة لتكون جماعة مسيحية تعيش منه ومعه ولكي، بعد القيامة تتابع رسالته في العالم.
فالمسيحي لا يمكنه أن يعيش إيمانه بعيداً عن الجماعة. وتلميذي عمّاوس عندما التقوا مع القائم من بين الأموات ذهبوا مباشرة ليعلنوا الخبر للجماعة، لكي تعطيهم تأييدها لما حدث. قد يكون السؤال الذي تحاورتم به في الحلقات فاجأكم ولكن هل يمكننا أن نفصل الميلاد عن الكنيسة؟
ليس من العبث أن الكنيسة تُدعى جسد المسيح السري. فإذا كانت الكنيسة جسد، فككل جسد هي في نمو وكل نمو هو، بطريقة أو بأُخرى ولادة جديدة. ونحن عندما نلتقي بإنسان لم نراه منذ زمن طويل نقول عنه كم تغير، بالكاد عرفته. فالكنيسة هي جسد المسيح السري، والكنيسة هي أيضاً جماعة المؤمنين.
والجماعة تختلف عن المجموعة. المجموعة هي عبارة عن مجموعة من الأشخاص يلتقون حول مشروع معين: مجموعة من الأطباء يلتقون لتنفيذ مشروع مستشفى، أو مجموعة من المهندسين يلتقون حول مشروع هندسي معين، وبالتالي يمكننا القول بأن المجموعة تنتهي مع نهاية المشروع، تموت لأنه لم يعد هناك من مبرر لوجودها.
هذا لا يمنع من تكوين صداقات أو علاقات حميمة بين بعض أشخاص المجموعة، وهذه الصداقة قد تدوم حتى بعد نهاية المشروع؛ لكن خارج عن المجموعة وجود الأشخاص هو وجود شخصي بحت لا علاقة له بالمجموعة. وما عاشوه أثناء العمل المشترك يتحول إلى مجرد ذكرى قد تكون جميلة أو لا.
بينما موضوع الجماعة، وجود الجماعة فهو أمر مختلف تماماً. ما يميز الجماعة، ما يجعلنا نسمي هذه المجموعة من الأشخاص جماعة هو وجود روح الجماعة. هذا يعني أن كل فرد من هذه الجماعة هو جزء منها، يحملها معه أينما وجد، حتى ولو هو حالياً ولسبب ما بعيداً عن بقية أفرادها، يبقى واحداً منها، لأن روح هذه الجماعة أصبحت جزءاً لا يتجزأ منه.
فالمسيحي ينتمي لروحانية الإنجيل وهو مسيحي حتى وإن وجد وحيداً على جزيرة منفية. لأن تصرفاته، علاقاته كل ما يقوم به ينطلق من روح الإيمان المسيحي الذي ينتسب وينتمي إليه. إنه يعيش إيمانه المسيحي انطلاقاً ومن خلال الكنيسة.
فروح الجماعة هو الذي يجعلني أنتمي إليها وأكون جزءاً لا يتجزأ منها. فالجماعة، كالأفراد لها الأنا الخاصة بها والتي ليست مجموع أنا الأفراد. لها اللاوعي الخاص بها، وأخيراً وليس آخراً لها هدف تسير نحوه وهو تحقيق الجماعة.
فالجماعة تُصنع كل يوم فهي ليست جامدة، ثابتة وهذا ما رأيناه عندما تكلمت عن الفراغ والمسافة بين القيامة والكنيسة. حيث رأينا بأن التلاميذ لم يكونوا يكرروا ببغائياً ما قاله وعمله المسيح. وكما يقول أحد اللاهوتيين: بشر يسوع بالملكوت، فالكنيسة هي التي أتت.
الظروف التي عاشها يسوع تختلف كثيراً عن ظروف التلاميذ بعد القيامة. ودخول التلاميذ في عالم مجهول، العالم اليوناني والعالم الوثني، عيشهم في ظروف جديدة كلية، مرغمين أن يجدوا حلولاً جديدة ويعطوا لأنفسهم هوية لكي يوجدوا، شكل التلاميذ جسداً واحداً.
ونحن اليوم. ألسنا في عالم جديد يعيش مخاض ولادة عسيرة ويطرح علينا العديد من التساؤلات والتحديات التي علينا الإجابة عليها؟ فكنيسة اليوم، كالكنيسة الأولى، تعي بأنها ولدت في العالم من قبل يسوع الذي بذل نفسه لأجلها وتحيا كل يوم من حضور معلمها.
كل ما كان يقوم به الرسل، كان القائم من بين الأموات هو الذي يقوم به من خلالهم، من خلالهم كجماعة. ما عاشه التلاميذ مع يسوع، ما قام به أمامهم، ما كان هو الحيد القادر على القيام به، الآن هم قادرون عليه.
كل ما هيء يسوع له أثناء حياته الأرضية، أصبح الآن ناضجاً، خصباً متينا فيهم مع أنه أصبح غائباً عنهم. كل شيء يأتيهم منه ولا شيء تغير: لا يزالون هم أنفسهم، كرماء لكنهم هشين. وبالتالي علينا كمراكز التربية المسيحية ــــــ وهي بمثابة كنائس صغيرة ــــ أن نعي بأننا مدعوين لكي ندع القائم من بين الأموات يعمل فينا ومن خلالنا كمراكز أي كجماعة وبالتالي ككنيسة.
ليتحقق هذا الأمر، علينا، على مثال التلاميذ والكنيسة الأولى أن نختبر حضور الله فينا وبيننا وذلك من خلال قراءتنا للقاءاتنا التربوية متسائلين دائماً أين كان الله في هذا أو ذاك اللقاء؟ وعلى الجواب أن يأتي من خلال أمور بسيطة جداً وليس من خلال أمور خارقة عجائبية.
مثلاً قد يكون من خلال جواب ملفت للانتباه من خلال طفل أو شاب مشارك في اللقاء، أو من خلال تصرف مسامحة أو مغفرة، أو قبول الأطفال والشباب لاختلافات بعضهم. ممّا يعني أنه علينا كجماعة مربين أن نتدرب على قراءة علامات الأزمنة لننقلها لمن نتعامل معهم.
لا ننسى أننا نحن الكنيسة ــ جماعة المؤمنين. وبالتالي في كل مرّة نسعى فيها لنكون جماعة، لنخلق ونصنع الجماعة ـــ لأن الجماعة تُصنع باستمرار لأنها ليست جامدة، ونحاول كجماعة الإجابة على التحديات والتساؤلات التي يواجهنا فيها مجتمع اليوم نكون في صدد تحقيق ولادة جديدة للكنيسة وعيش الميلاد على أنه ميلاد للكنيسة.
وبما أن المسيح يولد دائماً فينا، إذا سمحنا له بذلك، فهذه العملية عليها أن تكون مستمرة ولا تتوقف مباشرة بعد نهاية الاحتفالات الميلادية. فكل مركز مدعو ليكون جماعة مسيحية، أي كنيسة حيّة حيثما يوجد. بالمقابل، لكي يستطيع القائم من بين الأموات أن يعمل فينا ومن خلالنا، لا بد من أن نكون جماعة صلاة، جماعة تصلي.
وجودنا كجماعة تصلي هو أفضل شهادة يمكن أن نؤديها أمام من نتعامل معهم في مراكزنا لا بل أكثر من ذلك، وجودنا كجماعة يشكل شهادة أهم بكثير من كل ما نقدمه لهم خلال السنة. وصلاتنا عليها أن تكون على مثال صلاة الجماعة المسيحية الأولى التي عندما كانت في خطر أمام السلطات المعادية لم تصلي لكي يحميها الله من هذا الخطر، إنما ليساعدها على أن تستمر في نشر كلمته.
«فلمّا أُطلق سراحهما (بطرس ويوحنا) رجعا إلى أصحابهما واخبراهم بكلّ ما قال لهما عظماء الكهنة والشيوخ. وعند سماعهم ذلك، رفعوا أصواتهم إلى الله بقلب واحد فقالوا: يا سيّد، أنت صنعت السماء والأرض والبحر وكلَّ شيء فيها. أنت قُلتَ على لسان أبينا داود عبدك بوحي من الروح القدس: لماذا ضجّت الأمم، وإلى الباطل سعت الشعوب؟ ملوك الأرض قاموا، وعلى الربّ ومسيحه تحالف الرؤساء جميعاً.
تحالف حقَّا في هذه المدينة هيرودس وبنطيوس بيلاطس والوثنيون وشعوب إسرائيل على عبك القدوس يسوع الذي مسحته. فأجروا ما خطّته يدك من ذي قبل وقضت مشيئتك بحدوثه، فانظر الآن ياربّ إلى تهديداتهم، وهب لعبيدك أن يُعلنوا كلمتك بكلّ جرأة باسطاً يدك ليجري الشفاء والأعاجيب باسم عبدك القدوس يسوع. وبعد أن وصلوا زُلزِلَ المكان الذي اجتمعوا فيه. وامتلأوا جميعاً من الروح القدس فأخذوا يُعلنون كلمة الله بجرأة». (أع 4، 23- 31).
فالصلاة التي قرأناها لا تهدف إلى اعتبار الشر المرتكب ضد التلاميذ بسبب إيمانهم، بل الشر الذي ضحيته هي الكلمة، مُكبّلة، مفروض عليها الصمت بالقوة، مخنوقة بالتهديد. فالصلاة هنا تبدو أنها الوسيلة الأساسية للتعبير في الجماعة، طريقتها الخاصة والمميّزة في مواجهة الظروف الصعبة.
فبالنتيجة، عندما تكون الجماعة في لحظة مؤلمة حيث عليها الدفاع عن حياتها تتحد لتصلي، هذا يعني أنها تقوم بالخطوة الأولى لتثبيت ذاتها واستعادة هويتها ما وراء وقبل كل أشكال العمل الأخرى.
ما الذي يسمح بتحقيق الجماعة؟ الذي يصنع الجماعة هو أولاً انتمائي لها أي أن أتبنى روح الجماعة والسعي لعيش مسيحيتي انطلاقاً من روح هذه الجماعة، بمعنى آخر أن أحاول أن أعيش مسيحيتي مع جماعتي ومع من أعمل معهم أطفالاً كانوا أم شبان.
هذا يعني أيضاً أن أعطي من ذاتي لهذه الجماعة، أي أن لا أخاف أن أُشارك بخبراتي أياً كانت سلبية أم إيجابية: ليس المهم أن تكون خبرتي مميزة ورائعة وووو المهم أن أُشارك بها وبهذه الطريقة أُعطي من ذاتي وأٌفيد الآخرين منها؛ فالخبرة السلبية هي بنفس فائدة الخبرة الإيجابية.
أُعطي من ذاتي بمشاركتي الآخرين بفرحي وحزني وآلامي وسعادتي أيضاً. باختصار أُشارك بحياتي وعندما يتشارك كل منّا بحياته نخلق الجماعة وخاصة نجعلها جماعة حيّة وهذا ما يحمينا من الوقوع بالروتين والملل.
وبقدر ما أٌعطي من ذاتي بقدر ما أكون حجراً حياً في هذه الجماعة وأعمل على بنائها وتحقيقها، لأنه لا وجود لجماعة جاهزة، مفصلة مسبقاً، إنما على أعضائها من خلال مشاركاتهم وحواراتهم أن يصنعوا باستمرار الجماعة. سؤال آخر مهم: هل أعيش الجماعة من أجلي أو أنا من أجل الجماعة؟ أعمال الرسل يقول: «وكانَ جَماعَةُ الَّذينَ آمَنوا قَلبًا واحِدًا ونَفْساً واحِدة، لا يَقولُ أَحدٌ مِنهم إِنَّه يَملِكُ شَيئًا مِن أَموالِه، بل كانَ كُلُّ شَيءٍ مُشتَرَكًا بَينَهم».
فالمال الذي علينا المشاركة به هو، إن صح التعبير، ذاتنا، خبراتنا، حياتنا.
هكذا نعمل على ولادة الكنيسة على مثال الكنيسة الأولى حيث ما نقوم به، القائم من بين الأموات هو الذي يقوم به من خلالنا. والمسيح يقول لنا في إنجيل يوحنا: «الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن آمَنَ بي يَعمَلُ هو أَيضاً الأَعمالَ الَّتي أَعمَلُها أَنا بل يَعمَلُ أَعظَمَ مِنها لأَنِّي ذاهِبٌ إِلى الآب».
أخيراً أقول، إذا كانت القيامة هي التي تشرح الولادة وتعطيها معناها، والكنيسة تقول بأن القائم من بين الأموات قام من خلال الكنيسة، جماعة المؤمنين، فكم بالأحرى على الكنيسة أن تولد معه لتعيش قيامتها وتكون كنيسة تتجه باتجاه الكنيسة المرجوة: واحدة، جامعة، مقدسة ورسولية.
مسيرتنا مع المسيح اليوم
مسيرتنا مع المسيح اليوم
«لنستمد شجاعتنا من يأسنا». هذه الجملة وضعتها يوم الأربعاء على صفحتي على الفيس بوك وأثارت بعض الجدل. الحقيقة أن الإنسان لا ينمو إلاَّ من خلال الأزمات، من خلال البتر والقطع.
وحياتنا كلها بتر ببتر إن صح التعبير. لدى الولادة نختبر البتر الأول، ثم الفطام وبعده الذهاب إلى المدرسة وهكذا دواليك. والكتاب المقدس يبدأ بالبتر عندما يطلب الله من إبراهيم «اترك أرض وبيتك وعشيرتك واذهب باتجاه الأرض التي سأريك». «يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته». ماذا يعني هذا البتر ولماذا هو أساسي بحياتنا؟
أولاً، البتر لا يعني أن ما نتركه هو سيء، إنما إن أردنا أن نسير ونتقدم إلى الأمام، فنحن بحاجة إلى هامش لا بأس به من الحرية اتجاه ما نعيشه، وإلاَّ نبقى أسرى له ويتحول إلى حاجز يمنعنا من التقدم.
تخيلوا لو بقينا أطفال! ما الذي يحدث؟ هناك أشخاص يرفضون الدخول في عالم البلوغ، وهناك أشخاص بالغين جسدياً وعقلياً، لكنهم أطفال نفسياً ممّا يسبب لهم الكثير من المتاعب وصعوبات كثيرة في عيش علاقات صحية وسليمة مع الآخرين.
مجمل التقدم العلمي والتكنولوجي في العالم يتم من خلال القطع: كل نظرية جديدة تنطلق من سابقتها دون أن تنفيها كلية إنما تصحح ما تراه بحاجة للتصحيح وتطورها.....
في المجال اللاهوتي سبق وتحدثنا كثيراً بأن مفهومنا للكتاب المقدس ولإيماننا ولله في تطور دائم وكل تطور يتطلب شيء من القطع دون أن يلغي السابق بشكل كلي ودون الادعاء بأننا أفضل من أسلافنا، جل ما هنالك أن هذه المفاهيم تتم ضمن ومن خلال الزمان والمكان الذي نوجد فيه. دون أن ننسى بأن هذه المفاهيم لا يمكنها إلاَّ أن تأخذ بعين الاعتبار التقدم العلمي والتكنولوجي والحضاري، الخ.
أثناء دورات التأهيل الصيفية، رأينا كيف أن يسوع والتلاميذ عاشوا واختبروا أزمة كبيرة، كل بطريقته ومن خلالها تقدموا إلى الأمام. رأينا أزمتهم أمام طرد الشيطان عن الصبي المصاب بالصرع وكيف فشلوا بذلك مع أن يسوع سبق أن أعطاهم السلطان على ذلك. بالإضافة إلى عدم فهمهم ونكرانهم لجهلهم.
ويسوع تمحورت أزمته أولاً حول عدم فهم الناس له ولما يقوم به، ثم حول الرفض المتزايد والذي أدى به إلى الصليب. يسوع لم يرفض الأزمة واجهها وتجاوزها بموته وقيامته. وما هي القيامة سوى نوع من القطع مع حياة والدخول في حياة أُخرى.
كما أننا رأينا بأن مسيرتنا مع المسيح تكمن في السير معه، أن نكون معه ونبقى معه. أن نكون رفاقه ونعيش حميمية معه. وهذا ما قاله للتلاميذ بكل وضوح. كما قال لتلميذي يوحنا المعمدان الذين سألوه: «أين تقيم؟» فأجابهم: تعالا وانظرا. والنص يتابع فأقام عنده ذلك اليوم. ولكن هذه الحميمية لا تلغي الأزمات والصعوبات التي لا بد منها، كما قلت، للسير إلى الأمام.
يسوع يدعونا لنكون معه فنفهم سر الملكوت ونكون قادرين على استقباله في حياتنا. إنها دعوة إلى الحرية والمسؤولية، بما أنه علينا متابعة ما بدأه أثناء حياته الأرضية.
«فالوجود مع يسوع» واستقبال سر الملكوت منه أمران يحددان هوية التلاميذ ويشيران إلى الطريق الذي عليه أن يسلكه. الله يدعونا كما نحن، بضعفنا وقوتنا، بخطايانا ونكراننا، على أن تتكلل هذه المسيرة بتوبة حقيقية. ومن يقول توبة يقول مغفرة. فهل نستقبل دعوته وهل التوبة والمغفرة حاضرتين في حياتنا ونربي أطفالنا على أهميتها؟
إلى أي حد أعي أهمية دعوة المسيح لي؟ وهل أريد فعلاً أن أكون معه؟ كيف؟ إذا أردنا اليوم أن نكون تلامذة للمسيح، فهذا يعني أن نقيم معه، أي أن نتعرف عليه كما يقدم ذاته لنا لا كما تعلمناه، ولا كما نريده أن يكون.
نتعرف عليه كما يقدم ذاته لنا اليوم، أي في المكان والزمان الذي نحن فيه. ممّا يعني، أنه علينا أن نقرأ علامات الأزمنة اليوم لكي نحاول أن نفهم ماذا يريد منا اليوم. أي وجود مسيحي نريد اليوم في مجتمعنا السوري الجديد وأمام التحديات التي تواجهنا سواء من داخل الكنيسة أم من خارجها؟ وهل نحن مدركين لهذه التحديات؟ لا يمكننا أن نبقى أسرى الشكاوى والتأفف، علينا التفكير بكل جدية حول وجودنا الجديد.
جميعنا نعمل في حقل التربية المسيحية، ورسالتنا تكمن في نقل كلمة الله لمن نعمل معهم. وكلمة الله هي، كما نعلم، بشرى سارة. والسؤال: أي كلمة ننقل اليوم، هل الكلمة كما تعلمناها عندما كنّا أطفالاً في مركز التربية المسيحية، أم كلمة متجسدة تنطلق من الواقع الذي نعيش فيه؟ وما هي البشرى السارة التي ننقلها؟
هل ننقل معلومات أم نشارك بخبرات حياتية؟ إلى أي حد أعي بأن الكنيسة هي جماعة المؤمنين وليست فقط الكهنة والأساقفة وووو. مما يعني أنني مسؤول في أو عن هذه الجماعة.
فأي مسؤولية أريد أن أعيشها في الكنيسة؟ دون أن ننسى بأن المسؤولية هي قبل كل شيء خدمة وليست سلطة! ماذا نعمل لكي ندع كلمة الله تمس حياة من نعمل معهم؟
لاحظتم حتماً أثناء عملكم في الحلقات مدى حجم وجدية هذه التحديات التي لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي أمامها. والآن تقدِّرون لماذا لم أكن أريد إعطاء محاضرة.
فأنا لا أملك الأجوبة على هذه التساؤلات وما من أحد يملك الأجوبة. إن أردنا ذلك علينا، كما قلت، أن نقرأ علامات الأزمنة، وهذا يتطلب منا تفكير طويل وتحليل دقيق لواقعنا الجديد.
للقيام بذلك لا بد من أن نصغي للروح القدس الذي فينا من خلال التأمل والصلاة، ومن خلال مشاركاتنا لبعضنا البعض حول هذه التساؤلات. لذلك آمل أن تأخذوا هذا الأمر بكل جدية فالموضوع هو بصراحة وجودنا. هل نوجد أم لا!
لهذا السبب قررنا، في لجنة التربية المسيحية أن يكون لنا شعار لهذه السنة. شعارنا «كن مستقبلاً». مستقبلاً للروح الوحيد القادر على أن يحررنا من كل يمنعنا من السير إلى الأمام، من أن نكون تلامذة حقيقيين للمسيح.
الكنيسة الشاملة والكنائس الخاصة
الكنيسة الشاملة والكنائس الخاصة
سؤال بديهي يُطرح وقد يبدو سخيفاً: عندما نتحدث عن الكنيسة هل علينا التحدث عنها بالمفرد أم بالجمع؟ الجواب جاهز: بالمفرد بالطبع، بينما في الحقيقة علينا التحدث عن الكنيسة بالجمع وليس بالمفرد. مشكلة الكنيسة هي تفرقها أو تشتتها في كنائس متعددة، كنائس منفصلة، كنائس غير متحدة.
مجلس الكنائس المسكوني يضم 311 كنيسة لكن الكنيسة الكاثوليكية ترفض أن تنضم إلى هذا المجلس. عندما نتحدث عن هذه الكنيسة علينا التحدث عنها بالمفرد وليس بالجمع. هذا يبدو أمراً بديهياً!
الإعلام يؤكد مبدئياً هذه الرؤية الموحِّدة. أبسط وثيقة تصدر عن مكتب ما في روما تُقدَّم على أنها «موقف رسمي للكنيسة». بشكل لاواعٍ يتم التساوي بين الكنيسة ومنظمة عالمية وروما هي المركز الرئيسي، مديرها قداسة البابا وكثيرون يعتبرون الكنيسة كأبرشية واحدة كبيرة. وممثل المسيح، كما يُلقب البابا، هو رئيسها الوحيد، بينما الأساقفة هم المنفذون للسلطة المركزية. في أبرشياتهم هم ممثلون للبابا.
معطيات العهد الجديد: لغة العهد الجديد تبدو أكثرَ تعقيداً. سوف نتفاجأ حتماً إذا قرأنا جميع النصوص التي تذكر الكنيسة. في أكثر من 30 نص نجد كلمة كنائس بالجمع وليس بالمفرد، أي الجماعات المسيحية المنتشرة على محيط البحر الأبيض المتوسط. 46 مرّة تُستعمل الكلمة بالمفرد، لتشير إلى إحدى هذه الجماعات المحلية: القدس، إنطاكية، القيصرية، قورنتس، أفسس.
التركيز يتم على المكان: لا وجود لاسم شخص معيّن يمكن اعتباره كمؤسس لهذه الكنيسة أو لتلك الكنائس، أو حتى كمسؤول عنها. 23 مرّة تًستعمل الكلمة بالمفرد للتحدث عن ما سيُسمى لا حقاً بالكنيسة الشاملة.
من السهل أن نكتشف وراء هذه التعددية للكلمة وجود انسجام عميق وكبير. عندما تشير الكلمة إلى المفرد الشامل «23» مرّة، نلاحظ بأن الكلمة لا تًستعمل في هذه الحالة أبداً لوحدها. فإمّا «كنيسة الله»، أو «كنيسة المسيح»: «كنيستي»، جسده، عريسها بينما نادراً ما نجد هذه العبارات بخصوص الكنائس أو الكنيسة المحلية.
معنى هذه الازدواجية إن صح التعبير واضح: من الممكن دائماً التحدث عن الكنيسة إمّا من وجهة نظر الله وإمّا من وجهة نظر البشر.
من وجهة نظر الله لا وجود إلاَّ لكنيسة واحدة: كنيسته. هو الوحيد الذي يجمع شعبه. الكنيسة هي الشعب الذي اختاره ودعاه. المبادرة تعود له وحده. أعضاء هذا الشعب ليسوا أولاً بباحثين عن الله، بل هو من أتى ليبحث عنهم. «ولكِن تَأتي ساعةٌ - وقد حَضَرتِ الآن - فيها العِبادُ الصادِقون يَعبُدونَ الآبَ بِالرُّوحِ والحَقّ فمِثْلَ أُولِئكَ العِبادِ يُريدُ الآب» (يو 4، 23). الكنيسة هي كنيسة الله، أي كنيسة الآب.
وهي أيضاً كنيسة المسيح: «كنيستي» يقول يسوع لبطرس أثناء إعلان إيمان هذا الأخير في القيصرية. (متى 16، 18) لأنه «بكر الأولين» الذي عليه أن يُصبح بكر لكثير من الأخوة «ذلك بأَنَّه عَرَفَهم بِسابِقِ عِلمِه وسَبَقَ أَن قَضى بِأَن يَكونوا على مِثالِ صُورَةِ ابنِه لِيَكونَ هذا بِكْراً لإِخَوةٍ كَثيرين.» (رو 4، 29).
إنه يجمعهم من حوله، ويأخذهم معه فيصبحون جميعاً عروسه التي يحبها لدرجة أن يبذل ذاته من أجلها:« لأَنَّ الرَّجُلَ رَأسُ المَرأَة كما أَنَّ المسيحَ رَأسُ الكَنيسةِ الَّتي هي جَسَدُه وهو مُخلِّصُها وكما تَخضَع الكنيسةُ لِلمسيح فلْتَخضَعِ النِّساءُ لأَزواجِهِنَّ في كُلِّ شَيء. أَيَّها الرِّجال، أَحِبُّوا نِساءَكم كما أَحَبَّ المسيحُ الكَنيسة وجادَ بِنَفسِه مِن أَجْلِها لِيُقدَسَها مُطهِّرًا إِيَّاها بِغُسلِ الماءِ وكَلِمَةٍ تَصحَبُه، فيَزُفَّها إِلى نَفْسِه كَنيسةً سَنِيَّة لا دَنَسَ فيها ولا تَغَضُّنَ ولا ما أَشْبهَ ذلِك، بل مُقدَّسةٌ بِلا عَيب.
وكذلِك يَجِبُ على الرِّجالِ أَن يُحِبُّوا نِساءَهم حُبَّهم لأَجسادِهِم. مَن أَحَبَّ امرَأَتَه أَحَبَّ نَفْسَه. فما أَبغَضَ أَحَدٌ جَسَدَه قَطّ، بل يُغَذِّيه ويُعْنى بِه شَأنَ المسيحِ بِالكَنيسة. فنَحنُ أَعْضاءُ جَسَدِه. ولِذلِك يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرُ الاِثْنانِ جَسَدًا واحِدًا . إِنَّ هذا السِّرَّ لَعَظيم، وإِنِّي أَقولُ هذا في أَمرِ المسيحِ والكَنيسة.» (أف 5، 23- 32).
يصبحون جسده. حياة هذا الجسد بمجملها يديرها الرأس الذي منه يستقبل كل قوة، كل نبض وكل طاقة. لأن روح الآب وروح الابن هو بمثابة نفس هذا الجسد، الذي، بفضل الروح، يشترك في حياة الله نفسه. الله حب، والروح هو روح الحب. والكنيسة هي هذا الحب المُعطى للبشر. حب لا ينتهي أبداً. فالهوية العميقة للكنيسة هي الحب الذي يأتي من الله الذي هو حياة الله نفسه. حياة أبدية ليس للموت من سلطان عليها.
إذن ليس هناك سوى كنيسة واحدة. أُعطيت لنا من قبل الآب في المسيح ابنه وفي الروح القدس. هذا هو معنى نصوص العهد الجديد التي تُحدثنا عن الكنيسة بالمفرد. ومع ذلك هذه النصوص هي بعيدة عن أن تكون الأكثر عدداً لكنها لفتت انتباهَ وتركيزَ آباءِ الكنيسة. أغلبيتهم كانوا أساقفة يترأسون العماداتِ والإفخارستيا في جماعاتهم وكان عليهم أن يُعلّموا المؤمنين معنىَ الأسرارِ في الكنيسة.
فالأسرار هي، قبل كل شيء، أعمال المسيح المُرسل من قبل الآب لكي يعبر بنا إلى حياة الروح. الأسرار هي التعبير عن عطاء الله الذي يجعلنا كنيسة.
النصوص العديدة في العهد الجديد التي تتكلم عن الكنيسة بالجمع لم يتم التركيز والتعليق عليها كثيراً لأنها كانت تعتبر أمراً بديهياً كونها مُعاشة على أرض الواقع. فالكنيسة، عطاء الله للبشر، لا تصبح حقيقة واقعية، واقعاً ملموساً إلاَّ من خلال جماعات. الكنيسة ولدت من الثالوث وتأتي أيضاً من البشر: مسيحيون تجمّعوا في هذه الجماعات المحلّية حيث يمارسون الإفخارستيا.
من الكنيسة كسرّ إلى الكنيسة كمجتمع (مؤسسة): خلال قرون لم تكن العلاقة المفصلية بين الكنيسة بالمفرد والكنائس بالجمع تطرح أية مشكلة. السؤال الوحيد كان يكمن في كيفية تأمين الاتصال والوحدة أو الشراكة بين هذه الكنائس حيث الاختلاف بين شخصياتها كان يترسخ. فالشراكة كانت تتهدد في كل مرّة تدّعي فيها إحدى الكنائس المحلية بأنها تمثل وحدها الكنيسة الوحيدة.
فالتعددية ضرورية للتعبير عن غنى كنيسة الله. إذا كانت الكنيسة المحلّية هي بالفعل تحقيق لكنيسة الله، فهي تضع نفسها خارج الشراكة في كل مرّة تُقصي فيها الكنائس المحلّية الأخرى. ولكن المسؤولين في الكنائس المحلّية لم يكونوا وحدهم الفاعلين فيها. خلال مدّة طويلة كانوا يعيشون بانسجام، لا بل بشيء من الاندماجية مع المسؤولين المدنيين للمناطق المُعتبرين مسيحيين بكل معنى الكلمة.
كان ذلك زمن «العالم المسيحي» الذي بقي دائماً حلماً أكثرَ منه واقعاً. دون شك سرعان ما ظهرت التوترات في الغرب، لا بل الصراعات بين البابا وبين الإمبراطور؛ ثم بدأت ولادة الأمم وبالتالي ولادة الإمبراطوريات، وكانوا يُطالبون باستقلاليتهم عن ما تبقى من الإمبراطورية، وعن السلطة الشاملة للبابا، سلطة روحية موازية لسلطة الإمبراطور الزمني.
هذه المطالبة كانت قوية جداً في فرنسا حيث فيليب لو بيل «Philippe le Bel» عارض إدعاءات البابا بونيفاس الثامن «Boniface VIII». من كل جهة تمّ تجنيد رجالَ القانون واللاهوتيين. لاهوتيو البابا هم الذين أدخلوا ودافعوا عن فكرة وحدوية الكنيسة التي، خلال قرون، وضعت جانباً الكنائس المحلّية.
على مثال الأمم التي كانت، تدريجياً، تأخذ شكلاً وجسداً، سيبنون نظرية الكنيسة «مجتمع كامل». على مثالهم، ستكون الكنيسة مجتمعاً أو مؤسسة هرمية حيث السلطة، سلطة روحية قبل كل شيء، تتمحور حول الرأس. في القرون اللاحقة سيتم التركيز على هذا الخطاب الروماني (روما). لأنه بعد النظري يأتي العملي. فالمثال الكاثوليكي واضح: بابا واحد لكنيسة واحدة.
عمل المجمع الفاتيكاني الثاني: المجمع الفاتيكاني الثاني جدد العلاقة مع التقليد الرسولي الذي يؤكده العهد الجديد. دون شك، المجمع يهدف لمفهوم صحيح للكنيسة في سرّها الوحيد، وبالتالي يرفض أن يعتبر الكنيسة على أنها خارجة عن تحقيقاتها الواقعية. فالكنيسة الواحدة تتحقق من خلال الكنائس الخاصّة. والتأكيد على ذلك مستمر والنصوص كثيرة.
«وأمّا الأساقفة فهم، كلّ بمفرده، مبدأ الوحدة وأساسها المنظور في كنائسهم الخاصّة، هذه الكنائس المصنوعة على صورة الكنيسة الجامعة، ففيها ومنها تتكوّن الكنيسة الجامعة الواحدة والفريدة» (دستور عقائدي في الكنيسة رقم 23) وفي المقطع نفسه نقرأ: «الجسد السري هو أيضاً جسد الكنائس» لأن «كنيسة المسيح هذه هي حاضرة حقاً في كلّ جماعات المؤمنين المحلّية والشرعيّة، والمتحدة برعاتها والتي في العهد الجديد تُدعى أيضاً كنائس» (دستور عقائدي في الكنيسة رقم 26).
واقعياً، الكنيسة الخاصّة هي الأبرشية: «الأبرشية هي قسم من شعب الله الموكل أمره للأسقف، هو الراعي له بمساعدة المجلس الأبرشي، بحيث أنها وقد رُبطت إلى راعيها الذي يجمعها في الروح القدس بالإنجيل والقربان، تكون كنيسة خاصّة، فيها توجد حقّاً وتعمل كنيسة المسيح الواحدة المقدّسة الجامعة الرسولية» (قرار مجمعي في مهمة الأساقفة رقم 11).
فالكنيسة الخاصّة هي إذن «ظهور»، و«حضور»، و«تحقيق» كنيسة الله. هكذا يتكلم المجمع. من ستكون إذن في هذه الحالة الكنيسة الشاملة؟ لا شيء سوى وحدة الكنائس الخاصّة وخارجاً عنها، الكنيسة الشاملة هي مجرد تجريد.
كل ما يقوله لنا الإنجيل عن كنيسة الله، شعب الله، جسد المسيح، هيكل الروح، تنطبق على الكنائس الخاصّة، ككل تجمع عندما يكون المجتمعون متحدين في شراكة الإيمان الواحد والأسرار عينها «كلما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون بينهم». من بين كل هذه الكنائس هناك واحدة لها دور خاصّ. إنها كنيسة روما.
إنها تترأس على المحبة بحسب كلمة القديس اغناطيوس الإنطاكي. أسقفها يؤمِّن شخصيّاً خدمة الوحدة الشاملة. لأن كرسي هذه الكنيسة، روما، هي وريثة الكنيسة التي عرفت الشهداء، أي أنها تحفظ شهادة الرسولين المؤسسين، بطرس وبولس. إنها الضمان والحارس لوحدة الكنائس لأنها الضمان والحارس لأمانة الجميع لتقليد الرسل.
ولكن الكنيسة التي في روما لا تحقق أكثر، من كل كنيسة خاصّة منتشرة في أرجاء العالم، ملء كنيسة الله. إنها ملتقى ورمز اتحادهم. إنها هي نفسها، مع أنها الأولى، كنيسة خاصّة. خصائصها لا يمكن تصديرها. الوحدة التي يقع عاتق تحقيقها عليها أكثر من غيرها، لا تعني أبداً التماثل.
هناك كنيسة في أي مكان حيث، بمساعدة الكهنة، الكلمة مُعلنة، والأسرار تُمارس، في قوة الروح القدس الذي يجمع المؤمنين. ولكن المؤمنين متنوعون ومختلفون. كل كنيسة خاصّة هي مدمجة في شعب معين يتميز بثقافته الخاصّة، بلغته، بنمط تفكيره وتصرفه. لا شك بأن الإنجيل واحد. ولكن غناه لا يكشف عن ذاته كليّة إلاَّ بفضل تنوع حقول نشر الكلمة.
كمال المسيح لا يظهر إلاَّ من خلال آلاف التعابير التي تستعملها البشرية. الكنائس الخاصّة عليها أن تتأصل، تتجذر في هذه القطعة من البشرية التي هي أرضها.
كنائس ذاتية: بهذه الطريقة فقط يمكن تحقيق رسالة الكنيسة. لقد استلمت برنامجها في صباح يوم العنصرة. فبقوة الروح القدس قبلت تحدي بابل. فهل تعددية اللغات هي عنصر تبعثر، أم عنصر خلط ولا تمييز؟ هل بإمكانها أن تصبح التعبير عن الوحدة؟ في يوم العنصرة أُناس كلهم غرباء اكتشفوا أنه بإمكانهم أن يعيشوا معاً دون أن يُرغم أحد على التخلي عن ثقافته الخاصة ولغته، عن ماضيه وعن تضامنه.
هذا البرنامج هو دائماً معاصر. إنه يتطلب من كل كنيسة أن «تلعب» لعبة التجنس وفي نفس الوقت أن تُكثف علاقات الوحدة مع باقي الكنائس الخاصّة. والمجمع أكد هذا الأمر بقوّة بخصوص الكنائس الشابّة.
منذ ذلك الوقت ظهر تعبير كان له نجاح كبير: الانثقاف. لم يُستعمل في الوثائق المجمعية. لكنه يُعبّر جيداً عن نيته. الانثقاف يعني الدخول وتبني ثقافة الآخر، في هذه الحالة يعني نشر الكلمة بكلمات وبثقافة المكان والزمان. هذا الأمر ينبع بالضبط من سر التجسد حيث المسيح تبنى ثقافة وحضارة المنطقة التي تجسد فيها.
الكنائس الخاصّة الموجودة في الدول المسيحية قديماً لا تفلت من هذا الواجب. عليها أن تأخذ مجدداً مهمة الانثقاف التي قد تتحول نجاحاتها الماضية إلى عقبات اليوم. على الأبرشيات أن تجد وتقترح نماذج للوجود المسيحي تُجيب على مضايقات، وطموحات وقيم حضارة اليوم. فلغتنا، ومؤسساتنا عليها أن تتغير، وإلاَّ لن تكون الكنيسة بالنسبة لمعاصرينا علامة ووعد بخلاص يخصهم بشكل مباشر.
هذا العمل يجب أن تقوم به كل كنيسة خاصّة. وهذا لا يمكن أن يتم إلاَّ إذا كانت الكنيسة الخاصّة هي جزء من شعب الله. فمعضلة الكنيسة «كمجتمع كامل» كانت تعطي الامتياز لمنطق السلطة. هذا الأمر أدى إلى تصور غير متساوٍ للكنيسة (عدم المساواة داخل الكنيسة)، حيث السلطة تحتفظ لنفسها بكل مبادرة وبكل مسؤولية. في هذا المنظور لا يستطيع الكاهن إلاَّ أن يكون في موقف المكرر والحذر أمام كل محاولة للانثقاف.
ولكن شعب الله في الأبرشية، ليس فقط الأسقف والكهنة. فالأغلبية هي من العلمانيين، رجالاً ونساءً، شيوخاً وشباباً. فالعلمانيين هم أول العاملين، الفاعلين في الانثقاف المستمر. إنهم يتقاسمون كليةً حياةَ وثقافةَ مواطنيهم وبالتالي عليهم أن يجدوا كلَّ يوم ما يمكن أن تكون الأمانة للإنجيل في هذا العالم الذي هو عالمهم.
لا شك أن دعوة بولس لأهل روما تبقى دائماً معاصرة: « لا تَتشَبَّهُوا بِهذِه الدُّنيا، بل تَحَوَّلوا بِتَجَدُّدِ عُقولِكم لِتَتَبيَّنوا ما هي مَشيئَةُ الله، أَي ما هو صالِحٌ وما هو مَرْضِيٌّ وما هو كامِل». فعلى المسيحيين أن لا يتميزوا. لا يستطيعون القبول بكل شيء دون تمييز، كما أنه لا يحق لهم أن يرفضوا كل شيء دون تمييز أيضاً.
لأنه، حتى في أسوأ التشنجات والاضطرابات، يبقى تاريخ البشر المكان الذي تتثبت فيه قدرة الله الخلاّقة وعمل روحه. فعلينا دائماً أن نميّز ولكن التمييز ليس صالحاً إلاَّ إذا كان على اتصال مستمر مع الظروف الجديدة، فلا يمكننا التمييز إلاَّ حيث نكون مُتضمنين، «متورطين» إن صح التعبير في الموضوع.
علمانيو الأبرشية هم هكذا. لا وجود لهم لملجأ في عالم كنسي يكون على هامش دوّامة التاريخ. في الماضي غير البعيد كان الكاهن مُعرّضاً لتجربة الخروج من هذه الدوّامة. فقط الكنيسة المتضامنة والرافضة للعالم بإمكانها أن تكون علامة ووعداً للبشر. تبشير هذا العالم الجديد، عالم المدن والاتصالات، عالم الاستهلاك والسفر، عالم التقنيات والتكنولوجيا عالم دائماً أكثر إنتاجاً، يتطلب انثقافاً جديداً.
وحيوية الكنائس الأبرشية التي هي على علاقة مباشرة مع الواقع الحياتي المتطور، هي شرط ضروري لأمانة الكنيسة لرسالتها. كل الرجال وكل النساء لهم الحق والواجب في المشاركة في هذه الكنيسة، كذلك الأمر الحق في الكلام.
مفرد وجمع: الجواب على السؤال المطروح من البداية واضح: الكنيسة هي في الكنائس. هذا الجواب تتطلب وقتاً طويلاً قبل أن يفرض ذاته. فالتصورات صلبة وراسخة والإعلام الديني لا يفلت من هذا الأمر. فعندما يتحدث الإعلام عن كنيسة لا ترتكز كليّة على روما، فهو يقدمها على أنها منظمة عالمية موحدة مع، بدون شك، صراع بين النزعات، لكن خاصّة مع محدوديتها وتواطؤاتها.
كل شيء يُقرّر على المستوى العالي. وما على القطيع إلاَّ أن يتبع. واليوم الكنيسة تشجع على أهمية دور المجامع الأبرشية حيث تتجسد رؤية جديدة للكنيسة. بالنسبة للذين يشتركون بها من قريب أو من بعيد، كنيسة الأبرشية هي فعلياً الكنيسة. لكن علينا أن لا ننسى بالرغم من ذلك، أهمية دور الاتحاد مع الكنائس الأخرى.
بعض التساؤلات:
1- هل أعي أن رعيتي هي جزء من الأبرشية؟ أو هل أُميّز بين الرعيّة والأبرشيّة؟
2- هل أسعى للإطّلاع على ما يجري في أبرشيتي أمّ أنتظر من المسؤولين إعلامي بهذا الأمر؟
3- كيف يمكن للعلمانيين أن يأخذوا دورهم في الكنيسة؟
الطاعة في الكنيسة
الطاعة في الكنيسة
عندما نقول «الطاعة في الكنيسة»، هذا يعني أخذ البعد اللازم بالنسبة للتعبير: «الطاعة للكنيسة»، هذا يعني أيضاً الاعتراف بصعوبة ربط الانتساب للإيمان والنظام المؤسساتي. فالإيمان ينطلق من الوحي الداخلي، من اختيار حر.
ونحن نخضع في الحياة للعديد من المضايقات، وبالتالي من الطبيعي أن يكون هناك مجال خاص كالإيمان فيه لنا حق وواجب الدفاع عن حريتنا ضد كل ما يمسها ومن أين أتت. فلماذا ننغلق على الإيمان في مؤسسة مع عقائدها وقواعدها وطقوسها؟
مجال الإيمان المُعاش: عندما نطرح السؤال بهذه الطريقة، هناك خطر النسيان بأنه إذا كان الإيمان هو أمر شخصي، فهو أبداً لا يُعاش منفرداً. فالإيمان بالمسيح يسوع والاعتراف من خلاله بالآب، والانفتاح على الروح القدس، يجعلنا ندخل في تاريخ، وفي تقليد وفي شعب معين.
لقاؤنا مع المسيح يبقى أمر مستحيل لولا وجود التقليد الذي حمل إلينا كلامه وأعماله فهناك الكثيرة من الشهود الذين سبقونا ويحيطون بنا. فالمتعبد الذي يتأمل الكتاب المقدس، قد يظن نفسه وحيداً أمام الله، لكن هذا غير صحيح. فهو لم يكن هنا والكتاب في يديه لولا وجود سلالة طويلة من المؤمنين، قبله، بذلوا كل جهدهم لعيش ونقل ما تلقوه بأمانة: «سلّمت إليكم قبل كل شيء ما تسلمته أنا أيضاً» (1 قور 15، 3). وكل مُعمّد يجد نفسه بدوره ملتزماً بهذه السلسلة من الشهود. فالنقل بأمانة لما تلقاه هو بنفس أهمية استقباله للكلمة التي انتسب إليها.
فالإيمان يعني الدخول في سلالة، إنه أيضاً الاعتراف بأن المؤمن هو جزء من شعب، الشعب الذي يؤمن ويُعلن الإيمان نفسه، و يعيش من الروح عينه.
منذ البدء، الإيمان هو أساس الوحدة. إنه يحث تصرفات مشتركة، ويولّد رغبة المشاركة، والمواجهة. الإيمان يولّد هوية جديدة يجد المؤمنون أنفسهم فيها: إنهم مسيحيّون. يحتاجون كلماتٍ ليقولوا هذا الإيمان معاً (إعلانَ الإيمان)، وبعضَ التصرفاتِ ليعرفوا أنفسَهم ويتماهوا (الطقوس). فالمؤمنون لا يمكنهم الاتحاد والمشاركة في الإيمان الواحد دون أن يكوّنوا ما نسميه الكنيسة. قبل أن تكون بناءً تاريخياً، ضرورة مؤسساتية، الكنيسة هي بعد من الإيمان المُعاش.
هذا التذكير، يبدو كما لو أنه أبعدنا أو أخرجنا عن موضوعنا: الطاعة في الكنيسة، لكنه ضروري لكي نحدد إطار ما سنقوله الآن.
قاعدة الإيمان: إن لم يكن هناك من إعلان للإيمان إلاَّ ضمن تقليد وشعب، فيجب أن يكون هناك قاعدة للإيمان يمكن الرجوع إليها لنعيش الاتحاد في الأمانة.
هذه القاعدة في الإطار المسيحي هي إنجيل يسوع المسيح المقروء في وحدة الكنيسة: وأ«الله لم يره أحد، الابن الذي في حضن الآب هو أخبرنا عنه» (يو 1، 18) فالكنيسة تطيع الإنجيل إذن وجميع من هم فيها خاضعون له والقاعدة الأولى، القطب الأخير هو الإنجيل. فالقديسون الذين اقترحوا قواعد حياة لأتباع المسيح كالقديس «بنوا»، والقديس «فرنسيس الأسيزي».
مثلاُ، كانوا يحتجّون دائماً بأنهم يرفضون اتباع قاعدة أخرى غير الإنجيل. والمجمع الفاتيكاني الثاني، يستند على تقليد قديم، حيث أراد أن يبدأ كل جلسة من جلساته العامّة بإقرار احتفالي للإنجيل، محترماً ومٌعلناً قبل أي نقاش. فالنص المجمعي حول الوحي الإلهي يذكّر بأن الجميع في الكنيسة ـــــــ وأولاً السلطة العليا، أساقفة ومجمع ـــــــ خاضعون للإنجيل الذي عليهم السماع له بحب، وأن يحفظوه بصواب ويعرضوه بأمانة.
ولكن الإنجيل ليس ببشرى سارّة إلاَّ في اتحاد الكنيسة. إذا كانت كلمة يسوع هي التي أقامت جماعة التلاميذ، ففي هذه الجماعة تم تلقيها ووضعها كتابة ونقلها إلينا. لم يكتب يسوع رسالته على حجر ولا على رقيق، إنما ترك كل شيء لأمانة التلاميذ. لم يطلب لا ضمانة الكتابة ولا ضمانة القانون؛ لقد سلّم كلمته وروحه لكي يُثمروا في قلب تلاميذه.
فالروح ينير الكلمة والكلمة تفتح القلب على عمل الروح. فالإنجيل الذي نقرأه ولد في وحدة الكنيسة وهي التي حملته إلينا مميّزة، منذ البدء، بين ما هو شهادة أمينة ليسوع المسيح وبين ما هو كلام عن المسيح أو حول المسيح. في هذا التمييز لعبت السلطة الكنسية دوراً هامّاً جداً، فقد وضعت دائماً «قانون» الكتب:
القاعدة التي تحدد الكتب التي يمكن اعتبارها كتب مقدسة، لكنها قامت بذلك مستندة على خبرة الشعب المسيحي. فعلى الكنيسة أن تأخذ بعين الاعتبار «نعمة الإيمان» التي يعطيها الروح القدس للمُعمّدين والتي تعتبرها الكنيسة كمرجع أساسي.
فلكي تنقل بأمانة ما تلقته أعطت الكنيسة نفسها خدمة السهر والاتحاد التي سلمتها للأساقفة خلفاء الرسل. لهم ومنهم تطلب الكنيسة السهر على صفاء الإيمان. فما نعترف به اليوم ونعلنه بكلمات مختلفة وإطار ثقافي مختلف، هل هو إيمان الرسل نفسه؟
لقد أرادت الكنيسة أن تكون هذه الخدمة تحت ظل وقوة الروح القدس، وجعلت منها سر، السيامة الأسقفية، مقتنعة بأنها بذلك تتمم عمل المسيح بطلبها لرجال أن يكون لهم، من بعده، كاهتمام أوليّ، إعلان ونقل الإنجيل بأمانة. فربط الخدمة بالكلمة وبالاتحاد لا يعني وضعهم على نفس مستوى الأهمية، إنما يشير على العكس بأن لا معنى لها إلاَّ لخدمتهم وهي تابعة لهم.
الكلمة والاتحاد أو المشاركة والخدمة يتدخلون إذن في مكانهم لتنظيم الإيمان. فهذا التسلسل لعرض كل من الكلمة والاتحاد والمشاركة مهم، كذلك العلاقة الضرورية التي توحدهم، فإذا ما مسسنا هذه الوحدة ينهار كل شيء.
سوف نحاول أن نجدهم محافظين على التسلسل نفسه، محاولين أن نصف عملياً مراحل الطاعة في الكنيسة.
الطاعة تعني الإصغاء: الخطوة الأولى للطاعة في الكنيسة هي الإصغاء الجيد لكلمة الله. «اسمع يا إسرائيل...»، هذه هي الوصية الأولى. ولكن الإصغاء في هذا الإطار هو أكثر من مجرد السمع أو حتى الفهم، إنه يعني استقبال هذه الكلمة على أنها كلمة حياة. فالرسالة الموجّهة إليّ ليست مجرد رأي مطروح لتقييمي الخاص، إنما كلمة حياة وروح.
لست أنا من سيمتحنها ليقرر صحتها، بل هي من تحكم عليَّ وتقول لي إذا ما كنت أصنع الحقيقة أم لا. فالإصغاء بهذه الطريقة يعني ولادة جديدة، إعطاء جديد للحياة على ضوء ما نسمع.
هذا الإصغاء يفترض أن نستقبل هذه الكلمة على ما هي عليه: كلمة الله في كلمة إنسان، لها إطارها التاريخي، الثقافي والنفسي، وأنه علينا بذل الجهد اللازم لنفهمها ضمن إطارها الإنساني. هذا يعني أن المسيحي الذي يريد أن يطيع في الكنيسة لا يستطيع الاكتفاء بقراءة ساذجة للكتاب المقدس. فالأمانة لكلمة الله تطلب استقبالها من خلال الوساطات التي تأخذها لكي تلتحق بنا: بشراً وتقليداً.
بعض المسيحيين الذين لا يبذلون هذا الجهد لفهم أفضل للكلمة يمكنهم الاعتقاد بأنهم مُطيعون لكونهم يخضعون عادة لقوانين وعادات كنيستهم؛ قد يطيعون الكنيسة، لكنهم لا يطيعون في الكنيسة، لأن الإنجيل لا يشكل قاعدة حياتهم.
فهذا الأمر يشكل عنصرَ تمييزٍ أساسي، يجعل اعتراضات الأمانة التي لا تتغذى من الإنجيل مشكوك فيها؛ فكيف يمكننا أن نكون أمناء في كنيسة تجد نفسها في المسيح، في كلمته وفي روحه، غذاءها وحياتها، إن لم نتغذى في المائدة نفسها؟
الطاعة تعني التضامن: الطاعة تعني الإصغاء، الاستقبال للكشف الإلهي على أنه قاعدة حياة تلتحق بنا من خلال تاريخ وفي شعب معين، هذا يعني أيضاً المشاركة في إيمان هذا الشعب. من أولى اهتمامات المؤمن الذي يريد أن يكون أميناً لإيمانه يجب أن تكمن في التجذر في حياة شعب الله، والمشاركة في صلاته ورسالته والشهادة التي يسعى ليشهد فيها للمسيح.
ففي هذا التضامن يتعلم واقعياً تمييز طرق الله في حياة البشر. يُقرأ فيه الإنجيل الذي لا يكف الشعب المؤمن عن كتابته اليوم. إنه يجد فيه الإيمان والرجاء والمحبة الحيّة في المواهب التي يثيرها الروح القدس. إنه يحصل على قلب مسيحي باستقباله بحب التنوع العطايا في الاتحاد بالإيمان الواحد.
لن يعود بحاجة ليتساءل فيما إذا كان عليه الطاعة للكنيسة: فهو يعي بأنه عضو حيّ في هذه الكنيسة. فحياتها ورسالتها تصبحان حياته ورسالته وسيكرس طبيعياً قواه لذلك. وحريته لن تخضع لضغوطات خارجية، ستكون متضامنة مع من يلتحق بهم بالمحبة.
فلمعرفة فيما إذا كنت مطيعاً في الكنيسة يجب إذن أن أتساءل: هل أنا مشارك؟ هناك العديد من الطرق ليكون الإنسان عضواً حيّاً في الكنيسة، كأن يكون عاملاً ملتزماً في الرعية أو في منظمة أو نشاط كنسي ما أو خدمة معينة؛ هنا يمكننا أن نطيع فعلياً في الكنيسة بمشاركتنا بالبحث المشترك عن إرادة الله، فمجامع الأبرشية مثلاً، هي مكان مهم للطاعة في الكنيسة.
قد نقول بأن ديمقراطية هذه المجامع تُفقد كل من الطاعة والسلطة؛ لكن علينا أن نعلم بأنها مكان عبور لا بد منه لطاعة حقيقية. في تلك المجامع يتحقق، جزئياً، التمييز الذي يعطي للطاعة بعدها الإنساني من تبصر وحرية.
إنها تمثل أيضاً طرقاً من خلالها يستطيع المؤمنون أن يعبروا بطريقة مسؤولة عن معنى الإيمان مقابل التساؤلات الجديدة التي تطرح ذاتها للوعي أو للضمير المسيحي. وفي الكنيسة الكهنة والعلمانيون مدعوون لكي يجدوا معاً الأجوبة الإنجيلية على تساؤلات العصر. فالطاعة لن تكون حقيقية إلاَّ إذا استطاع المؤمنون أن يجدوا أبحاثهم وحساسيتهم الإنجيلية في الكلام الرسمي للكنيسة.
الطاعة تعني اختيار المشاركة: إذا كنت أبحث عن إرادة الله في المشاركة بالكنيسة، سوف أنقاد، عندما يكون ضميري غير أكيد أو متردد، إلى تفضيل الوحدة. فالمشاركة هي بالنسبة لي، متطلب إيماني لا يمكنني التهرب منه. لذلك سأحترم إذن خدمة السهر التي أعطتها الكنيسة لذاتها لكي تؤمن وحدتها: من أجل نقل أمين للوحي، رسالة السلطة الكنسية تكمن في رسم حدود الوحدة.
عليها أن تقوم بذلك بطريقة إنجيلية، دون أن تتماهى مع الحقيقة التي تعلنها ولكن بالسعي لخدمتها، دون أن تنسى بأنه ليس من سلطة للإنجيل إلاَّ في الحرية وأنه لكي تكون الكلمة إنجيلية عليها أن تكون مُحررة لمن تتوجه إليهم؛ فلا يكفي أن تكرر حرفياً كلمة المسيح، بل يجب أيضاً أن تُعلن على أنها بشرى سارة.
قد تبدو متطلبة، صعبة، لكنها لن تكون أمينة إلاَّ إذا كانت مُحررة. فإذا استطاع يسوع أن يقول بالحقيقة «إنَّ نِيري لَطيفٌ وحِملي خَفيف » (متى 11، 30) فلأن كلمته فتحت أفقاً لكل شقاء، ولأنه أعاد الصحة للناس وحرر من كانوا مستعبدين.
بصفتها في خدمة الحقيقة المُحرّرة، السلطة الكنيسة لا تستطيع أن تنسى بأنها تتوجه لضمائر مسكونة من الروح القدس. فعليها إذن أن تسعى لتكون كلمتها في مكانها الصحيح، وظيفتها هي خدمة الوحي، وهي موعودة بمساندة الروح القدس لها لكي تعرض وتدافع عن الوحي.
بالطبع بإمكانها التدخل بخصوص تساؤلات تبدو لها مرتبطة برسالة الخلاص، ضرورية لاستقباله، لا يمكن الاستغناء عنها من أجل حياة الكنيسة، لكن في هذه الحالة لن يكون لكلمتها السلطة ذاتها عندما تعرض الوحي. مقابل تعليم يحدد الإيمان يجب أن نجيب بطاعة إيمانية. مقابل كلمة توضح نتائج نظرية أو عملية للإيمان، يمكننا أن نطرح الأسئلة حول قيمة الرابط مع الوحي، وهذا بكل احترام للسلطة الكنسية.
فوجود «خدمة السهر» والاتحاد في الكنيسة، لا ينفي حقوق وواجبات الضمير المسيحي، فعلى هذا الأخير أن يلتزم في طريق الوحدة والمشاركة مقابل كلمة سلطة، متذكراً بأن الحقيقية تحرّر. (يو 8، 32).
الطاعة الضميرية: إذا كانت الطاعة تستند على عمل إيماني يجعلني أرى في الكنيسة علامة وسر الخلاص في يسوع المسيح وأفضّل أيضاً وحدة الكنيسة على أية قيمة أخرى، يبقى أن الإيمان لا يمكن أن يؤسس إلاَّ على انتساب حر للضمير. فالكنيسة ذكرّت علناُ في المجمع الفاتيكاني الثاني حرية الإيمان (دستور الحرية الدينية رقم 14).
ففي هذا الإيمان المُعطى بحرية، أُطيع. فأنا لا أخضع لسلطة خارجة عني، بل أُتمم التعهد العميق لضميري المؤمن. طاعتي لا معنى مسيحي لها إلاَّ إذا كان من الممكن ممارستها بأمانة للضمير.
عندما نذكر بأولوية الضمير الذي من منذ الأكويني إلى نيومان، ليس بأمر جديد في الكنيسة، فسرعان ما نُتهم بالفردية. هذا النقد يجهل ما هو الضمير المسيحي. فالضمير مسؤول لا يضع حريته تحت سلطة بشرية ولو دينية، إنما يسعى لعيشه أمام الله. ليس بضمير منفرد، إنما ضمير رسول يسعى لإتباع المسيح في شراكة الكنيسة.
الضمير المسيحي ليس ساذجاً لا يمكنه أن ينسى أخطاء ودروس الماضي. إنه يعلم بأن الكنيسة غامرت في بعض الأحيان بمجالات لا تملك الخبرة والمؤهلات فيها، وأنها بقيت أسيرة لبعض الصيغ الضيقة والتي تم تجاوزها بفضل العلوم والثقافات؛ فهو يحافظ إذن في انتسابه، على الروح النقدية التي تسمح له بالبحث عن الحقيقة فيما رواء الصيغ.
إنه يعلم إذا كانت المبادئ عامّة، فالظروف هي دائماً خاصّة أنه ما من توجهات يمكن أن تعفي من التمييز. فالطاعة في الكنيسة تعني بالحقيقة إتباع الضمير، ضمير يريد أن يكون أميناً للإيمان الذي تلقّاه، عاشه باتحاد مع الكنيسة. فأن نقول ذلك، هذا لا يعني أن الطاعة ليس لها صلبانها الخاصة. قد يكون هناك ضمائر مسيحية، مستقيمة كلية، لكنها لا تستطيع أن تجد في هذا أو ذاك التوجيه الكنسي صدى حالي للإنجيل.
فعليهم آنئذ أن يميزوا أمام الله تصرفهم الشخصي الذي قد يقود إلى ما يسمى بالحالة الضميرية أو معارضة الضمير أمام توجه عملي. إنهم يقومون بذلك بحب متجدد للكنيسة، لا يطعنون، بدون قيد أو شرط، الكلمة التي تصدمهم، ساعين لفهمها محاولين تمييز ما يريد الله أن يقول لهم من خلالها، حتى لو ضميرياً لا يعتقدون بأن عليهم إتباعها.
كما أنهم لا ينغلقون على وجهة نظرهم، عالمين بأن الحقيقة يجب دائماً صنعها ولا يمكنها أن تنمو إلاَّ من خلال الحوار في الكنيسة. وصعوباتهم بدلاً من أن تمسهم تتحول إلى فرصة لتعميق إيمانهم وانتسابهم الكنسي.
في هذه الحالة، معارضة الضمير بخصوص نقطة محددة ليست بقطع للوحدة. إنها سؤال موجه للكنيسة من داخل الكنيسة في مرجعية مشتركة للإنجيل، في هدف النمو معاً بأمانة للمسيح. فالتاريخ يشهد لكمية الأسئلة التي وجهت للكنيسة، أسئلة مؤلمة لكنها أمينة.
إذا كانت الطاعة للكنيسة قد تبدو أحياناً حلاَّ سهلاً، لا يمكن أن يكون الأمر بخصوص الطاعة في الكنيسة. هذه الطاعة تلزم كيان المؤمن في مسؤوليته وحريته أمام الله، الذي يمتحن تضامنه مع أخوته في الإيمان. إنها عمل من خلاله أصادق يوماًُ بعد يوم على معموديتي لكي أولد من جديد مع المسيح، وعلى مثاله، ابناً في الطاعة.
خلاصة عامة: لو كان المسيح ترك وراءه جماعة لها بنية دقيقة، ووظائف محددة، وطقوس مفصلّة، لن تكون لدينا من أسئلة نطرحها على الكنيسة. ولكن آنذاك نكون مثبتين على نموذج غير قابل للتغير ولا للفساد، نموذج لا يُمس! ونجد أنفسنا أمام نوع من الفولكلور وخطأ تاريخي. ولن يكون هناك من إمكانية إنثقاف ولا إبداع ولا خلق ولا حرية.
فلكي تكون الكنيسة حيّة فعلاً عليها أن تولد باستمرار، وأن توجد من جديد وتجدد الطاقة الإلهية التي أشرفت عليها في بدايتها. فمنذ زمن طويل واللاهوتيون يقولون بأن الكنيسة لا توجد إلاًّ بقدر ما تجدد نفسها، تأخذ شكلاً جديداً. فالكثير من الوظائف والمواهب التي تحدث عنها القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس لم تستمر بعد القرن الأول.
لا بل ليس أكثر من السنين الأولى للكنيسة. منذ البداية، الكنيسة تشكل نفسها بتجديد ذاتها. لذلك من الضروري ترك الكنيسة مفتوحة على الوجوه المجهولة التي قد تأخذها. فالكنيسة لم تقل بعد كلمتها الأخيرة: في الواقع لا وجود لكلمة أخيرة سوى الكلمة التي ستلفظ في نهاية مسيرتها الأرضية.
نتمنى أن هذه الأحاديث قد ساعدت أو ستساعد على فهم هذا الأمر المهم جداً لفهم معنى الكنيسة ولحياتها. مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل عمل جديد، إن كان من الله، فهو أيضاً من عملنا نحن. لا يمكن لأي مؤمن أن يغيب عن هذه «الورشة». أن «نصنع كنيسة» هذا يعني أن «نصنع الكنيسة».
العلمانيون والكهنة
العلمانيون والكهنة
في الماضي كانت الأمور في الكنيسة بسيطة جداً. فالمسيحي كان يختار بين الكهنوت وبين الحياة العلمانية، وعندما يتم القرار، لم يعد هناك من مشكلة. فالمسيحي آنذاك كان ينتسب إلى إحدى هاتين الفئتين الواضحتين: الكهنة أو العلمانيين، الرعاة أو القطيع. للبعض، المبادرة، المسؤولية، وللآخرين التابعين، الخضوع والتنفيذ بالإضافة إلى المشاركة المالية.
فوجودهم في موقع المستهلك، لم يكن يمنعهم أبداً من انتقاد رعاتهم. على كل حال الأدوار كانت موزعة بوضوح، وتوزيع العمل جازم. أمّا اليوم، أصبح الحاجز قابل للنفاذ والمراجع أقل دقة وبدأنا نسمع خطاباً جديداً. اليوم نتحدث أكثر فأكثر عن «المسؤولية المشتركة» كما تُوجه الدعوة لعلمانيين اليوم ليأخذوا دوراً في المجال الذي كان سابقاً مخصصاً للكهنة.
فنحن نشهد اليوم توسعاً واضحاً لدور العلمانيين في الكنيسة رجالاً ونساءً، والأنشطة الكنسية فتحت لهم سابقاً الأبواب. فالموضوع يمس إنعاش وإحياء الجماعات المسيحية والخدمات التي تؤمن حيويتها. وفي بعض الأحيان يشترك العلمانيين فعلياً في المسؤولية الرعوية. فالمشاركة بين العلمانيين والكهنة أصبحت، بهذه الطريقة، أمراً مستمراً.
لقاء صعب: هذا التطور لا يخلو من الصعوبات والمشاكل، حتى في المكان الذي تغيب فيه الصراعات: فاللقاء بين عالمين غريبين جداً عن بعضهما البعض، يجهلان بعضهما البعض، بالرغم من الظاهر، وخاصة في الرعايا الكبيرة وفي المدن تحديداً: طرق الحياة، نوع النشاطات، الهموم اليومية، كلّها كانت تشكل عالمين، وإلى حد ما ثقافتين.
فالكهنة بشكل خاص كانوا يمثلون ثقافة «كنسية» إلى حد ما لا يمكن اختراقها. فاللقاء مع الآخر يثير الحذر إلى حد ما غريزي، عندما لا يسبب الانغلاق على «ملعبه» الخاص، والتعاون الواثق يتطلب شيئاً من الترويض المتبادل، وهذا يتطلب وقتاً.
هذا يقودنا للخلاصة بأنه لا بد من وجود قواعد لتحقيق هذا اللقاء كما يجب. دون أن نشرّع كل شيء، علينا القبول بأن التوجه لكرم و تفانِ العلمانيين يحتوي على بعض الفخوخ. لقد سبق أن شهدنا ولا نزال، مع الأسف، الكثير من الأذى الذي لا يمكن إصلاحه لدى الضحايا، نتيجة العشوائية والرغبة الذاتية الكهنوتية. العديد من العلمانيين التزموا في خدمة الكنيسة دون نظام أو عقد واضح. حقوقهم وواجباتهم غير مُحدّدة.
ولكن هناك سؤالاً أساسياً لا يزال مطروحاً: من الواضح أنه في البداية، نقص عدد الكهنة في أوروبا، تأميم المدارس في سورياً مثلاً، كان الدافع، أو المُفجّر الأول لهذه المشاركة المتنامية للعلمانيين في مهمات رعوية كانت سابقاُ محصورة للكهنة لكن كان لا بد من إحياء الكنيسة. في هذه الفترة من الارتجالية والترقيع لم يكن يترك فيها إلاَّ مجالٌ صغيرٌ جداً للتفكير.
كما أن الكهنة والعلمانيين كان ينقصهم وجود مرجعيات مشتركة وحازمة إلى حد ما. هوياتهم واختلافاتهم أصبحت غير أكيدة. فاللاهوت بدون شك، لا يستطيع أن يحدد مسبقاً تفاصيل المؤسسات ولا يمكننا أن نستنتج انطلاقاً من هذه المبادئ، شيئاً من الأشكال الواقعية للتنظيم في الكنيسة.
فالفكر اللاهوتي يسمح بأن نستخلص من هذه الأشكال الواقعية للتنظيم، والتي تطورت عبر الزمن، البنية الدائمة التي تعطي لمجموعة إنسانية أن تكون فعلياً كنيسة المسيح. فالعلمانيون والكهنة لا يملكون نموذجاً يسمح لهم بأن يكونوا بالحقيقة بعضَهم مقابل بعض. يوجد لاهوت قديم «للكهنوت الخدمي أو الرسولي»، ولاهوت «العلمانيين» وجد حديثاً إلى حد ما.
ولم يتم توضيح العلاقة التي توجد بين «الكهنوت الخدمي أو الرسولي» وبين «الكهنوت المشترك للمؤمنين» أبداً، بل نكتفي بالقول بأنهم ليسوا من نفس المجال ممّا لا يسمح لهذه المشاركة بين الكهنة والعلمانيين أن تستند على أساس مضمون.
في الحقيقة هل علينا أن نطرح السؤال بهذه الطريقة؟ في أغلب الأحيان نتساءل حول مكان ودور العلمانيين في الكنيسة ومنذ بضع سنين، نطرح السؤال نفسه بخصوص الكهنة. كل شيء يتم كما لو أنَّ الكهنة والعلمانيين يمثلون أموراً مجهولةً بالنسبة لهذا الواقع المعروف جيداً ألا وهو الكنيسة.
في الحقيقة علينا أن نعكس الطريقة ونتساءل أولاً عن الكنيسة وعن طبيعتها ورسالتها. آنئذ فقط نستخلص بنيتها الدائمة والفرق بين العلمانيين والكهنة بإمكانه أن يأخذ كل معناه.
علينا في البداية أن نعترف بأن الكنيسة هي كليّة «هرمية» وكلية «علمانية» و«آخيرية».
كنيسة هرمية وعلمانية: علينا أن نوضح معاني هذه الكلمات لأنها تحمل بعض الغموض الذي قد يؤدي، في بعض الأحيان، إلى المعنى المعاكس. المعنى المعاكس الأكثر استعمالاً يمس الطابع الهرمي للكنيسة. فكلمة «هرمي» مألوفة لدينا إذ أننا نعيش في مجتمعات هرمية. الكلمة توحي بدرجات تصاعدية.
نرتفع بمراحل ابتداءً من القاعدة. فإذا كانت الكنيسة هرمية سنجد أنفسنا أمام جمهور من المسيحيين العاديين (كما نقول عن مجند أنه مجرد جندي) وفي الأعلى، فئات مختلفة من «السوبر مسيحيين» يتدرجون حتى القمة.
في البداية علينا أن نتساءل عن المعنى الأصلي للكلمة؛ فكلمة هرمي تعني مبدأ مقدس، أصل إلهي، أي أن الكنيسة هي كليّة تحت تأثير عمل مبدأ إلهي. والله الثالوث أصلها وهو دائماً آنيّ. ليس لها من حقيقة أو واقع إلاَّ عندما تستقبل ذاتها من الآب بواسطة الابن في الروح القدس. آنذاك هي كليّة هرمية.
إنها هكذا في كل عضو من أعضائها. فهي لا تملك شيئاً خاصّاً لها. كل شيء فيها هو عطية، كل شيء فيها هو نعمة. فملء العطية والنعمة ظهرا في المسيح يسوع. ففيه وفي الروح القدس، تم إشراك التلاميذ بهما وخبرة التلاميذ تبقى أساس حياة الكنيسة وقاعدتها الأخيرة. كل الكنيسة هرمية، وفي الوقت نفسه كل الكنيسة رسولية: عليها أن تحفظ بأمانة الإيمان الذي استلمته من التلاميذ.
عندما نقول بأن الكنيسة هي كليّة علمانية، لا نؤكد فقط بأن لها تاريخاً وأنها تطورت على مرّ القرون، بل أن التاريخ بالنسبة لها هو أكثر من مجرد إطار. فالتطور التاريخي للمجتمعات يمسّها مباشرة، إنه جزء من رسالتها. فالكنيسة استملت المهمة بأن تقدم للبشر، على ضوء وقوة الإنجيل، إمكانية توجيه تاريخهم بحسب قصد الله ضمن منظور الملكوت القادم.
عليها الواجب ولها القدرة للعمل على «تلخيص كل شيء في المسيح». إنها مهمّة تقع على عاتق الكنيسة بمجملها وعلى كل من أعضائها جميعهم في خدمة الروح الذي يعمل في تاريخ البشر.
فالكنيسة إذن هي كليّة هرميّة وكليّة علمانية، لكن في الكنيسة، ما على الجميع أن يعيشونه يجب أن يُترجم من قبل البعض. هذا هو المبدأ الأساسي الذي يسمح بالتعبير عن بنية الكنيسة. «مُعبّر عنه» يعني، بالواقع، مُعاش علانية، ليس فقط على صعيد وعي أكبر للبعد الكنسي الذي يمثلونه، إنما من خلال التزام فعلي مُترجم من خلال وضع اجتماعي.
هكذا تتمثل الأوجه المختلفة لسر الكنيسة من قبل البعض، سر يجب أن يُعاش بشكل كليّ من قبل الجميع. لا شيء مشترك هنا مع مبدأ توزيع العمل. ففي الكنيسة، ما هو مُعاش من قبل الآخرين يعنيني أيضاً شخصياً فهم لا يقومون، ولا يعيشون ما لم أعد، من الآن فصاعدا، بحاجة لعيشه ولا إلى القيام به. وضعهم جانباً لا يعني إقصاءَهم أو لا يشغلون مكاناً خاصّاً بهم حيث يتصرفون بحصرية.
فالكنيسة لكونها عطية من الله، فهي كليّة هرمية، بحاجة «لكهنة مرتسمين». إنهم العلامات والضمانات لأمانة الكنيسة لسيدها. علامات وضمانات لعمل المسيح، رأس كنيسته. منه تستلم الروح القدس فالروح يحي الكلمة التي استقبلتها الكنيسة من معلمها وتم تناقلها من خلال شهادة الرسل. إنه روح الحياة الذي يغذي الكنيسة من خلال الأسرار، روح الحب الذي يعطي للكنيسة أن تُصبح انعكاس للمشاركة الثالوثية.
كذلك الأمر، فالكنيسة كليّة علمانية بحاجة إلى مؤمنيها، لهؤلاء المعمدين الذي يُدعون بالعلمانيين إنهم علامات وضمانات لالتزام الكنيسة بمجملها في التاريخ عبر التزامهم الشخصي من أجل مستقبل المجتمعات العائلية، الاقتصادية، الثقافية وهم أعضاء فيها ورسالتهم تكمن في تمرير قوة الإنجيل ليجعل من الحياة الاجتماعية مكان تحرر تام للبشر عبر النضال ضد كل القوى الداخلية والخارجية التي قد تنزع عنهم صفة الإنسانية.
كنيسة آخيرية: لا الكهنة ولا العلمانيين وحدهم هم الكنيسة. هم هكذا من خلال لقائهم. لا وجود لكاهن «بحد ذاته» دون مرجعية للجماعة. لا وجود لعماني «بحد ذاته» دون مرجعية للكاهن المرتسم. ولكن هل هم معاً الكنيسة؟ ليس تماماً، أو بالأحرى ليس بعد. في الكنيسة التي تتقدم في مسيرتها، العلمانيون والكهنة هم مختلفون.
واللقاء بين اختلافاتهم هو رمزي. إنه يرسلنا لعنصر ثالث، عنصر وحدتهم حضور غير مرئي «إلى أن يأتي». فالكاهن المرتسم يشير إلى مكان المسيح بما أن المسيح غائب جسدياً. سبق له أن أتى، لكنه دائماً آت و سيأتي. والمعمدون هم علامة ملك الله العامل مسبقاً في العالم لكنه دائماً آت حتى مجيء المسيح الكليّ.
معاً الكهنة والعلمانيون هم علامة الكنيسة الآتية. إنهم معاً سر الملكوت حيث تُهدم كل الاختلافات بما فيها اختلاف الكهنة والعلمانيين، حيث تتوقف الازدواجية الحاضرة للعالم وللكنيسة. عند ذاك يتحقق ملء الكنيسة الحقيقية، شعب الله، جسد المسيح، هيكل الروح القدس. من هذه الكنيسة النهائية، كنائسنا ليست سوى السر. وازدواجية الكهنة – العلمانيين ترسلنا إلى هذه النهاية أو هذا الإتمام.
الفارق بين الكهنة والعلمانيين ليس فارق طبيعة يأخذ شكلاً نهائياً: العلمانيون هم مسيحيون عاديون، وبسبب رسامته الكاهن يصبح مختلفاً، لا بل أعلى في كيانه حتى. لا شك أن بعض التيارات اللاهوتية حجرت إلى حد ما، بهذا الاتجاه، التأكيد على «الطابع» الذي تعطيه السيامة الكهنوتية. إنها تحدث تحولاً داخلياً فيصبح الكاهن مختلفاً بالطبيعة.
في هذا المنظور لا يتم التحدث عن الكاهن إلاَّ بالمفرد، فننسى أن لا وجود لرسامة كهنوتية إلاَ من خلال اندماج المُعمّد في جسد الخدمات الكهنوتية: كهنة وأساقفة.
التعبير عن الفارق بين الكاهن والعلماني على أنه فارق وظيفي هو التعبير الأكثر سلبية: كل منهم له مجاله الخاصّ. لا شك بأن المعنى الأول للكاهن هو أنه يمثل رمزياً المسيح الذي يدعو ويحيي كنيسته لكنه من غير الممكن أن نستخلص من ذلك ما يخص عمل كل من الكهنة والعلمانيين.
«فالترأس» باسم المسيح للجماعة الافخارستية لا يؤدي طبيعياً إلى إدارة كل نشاطات الجماعة. فأن يكون الكهنة علامة وضمان للبعد الهرمي للكنيسة، لا يعفيهم من أن «يلعبوا» أيضاً «لعبتهم» ضمن حضور الكنيسة في العالم «العلماني».
كهنة وعلمانيين المستقبل: لا بد من تجاوز كل من منطق فارق الطبيعة وفارق الوظيفة للوصول إلى منطق الرمزية. فلقاء الطرفين المُوجهين باتجاه بعضهم البعض بالرغم من اختلافهم، يرسلنا إلى ثالث حاضر من خلال الغياب. فالمسيح ليس العلماني وحده «المسيحي هو مسيح آخر»، ولا الكاهن وحده «الكاهن هو مسيح آخر»، إنما لقائهم يقود إلى المسيح الكليّ، المسيح الآتي ما رواء كل انقسام.
فالفارق بين الكهنة والعلمانيين يشهد بأن الكنيسة لم تحقق بعد ملئها. هذا الفارق يشكل حاجزاً صلباً ضد كل تماهي وهمي. فكنيسة الأرض ليست بعد هرمية تماماً، أي لم تندمج بعد في حياة الثالوث، كما أنها ليست بعد علمانية تماماً: فالوقائع البشرية لا تشترك تماماً في هذه الحياة. فالمسيح لم يصبح بعد «الكل في الكل» على حد قول القديس بولس.
الفارق بين الكهنة والعلمانيين يفتح ثغرة باتجاه الرجاء. إنه يسجل في بنية الكنيسة البعد الآخيري، على ضوء الوضع النهائي للبشرية. بالنسبة للمُعمدين حضور الخدمات الكهنوتية هو العلامة بأن الخلاص الآتي هو دائماً مُنتظر من العلى. والفارق هنا يشير إلى مجانية العطاء. في نظر الخدمات الكهنوتية، الوجود والالتزام التاريخي للمُعمّدين العلمانيين هو العلامة بأن ملك الله يعمل دائماً حتى إتمام التاريخ في الملكوت.
إن لم نطرح موضوع العلاقة بين الكهنة والعلمانيين على هذا المستوى نغرق في بحر من الأسئلة الخاطئة، نتأرجح إلى اللانهاية بين خطر الخلط وخطر الفصل، وبالتالي يولد مجدداً آنذاك النموذج القديم لتقاسم العمل وتوزيع المهام، و يعود إلينا التعارض بين الزمني والأبدي، بين الدنيوي والمقدس.
هذه الطريقة المزدوجة لفهم العلاقة لها إيجابية واحدة إذ أنها تتجنب كل إمكانية للخلط. حقل عمل كل من الكهنة والعلمانيين كان واضحاً ومحدداً. هذه الطريقة تُغري الكثير من المسيحيين لكنها لا تجيب أبداً عن الدعوة الحقيقية، الأخيرية، التي هي دعوة كل الكنيسة، كما أنها تتجاهل حرية الروح القدس سيد المواهب، لأن جسد الكنيسة ككل هو مواهبي.
الموهبتان: لا شك أن هناك أولاً الموهبتان، التي يمكن وصفهما «بالبنيوية». لبعض المواهب الخدمية، وللبعض الآخر، الذين ليسوا بأشخاص غير مرغوب فيهم، موهبة «العلمانية». ولكن الروح القدس يوزع كما يريد المواهب الشخصية التي تؤهل كل إنسان لشكل خاص من الحياة والعمل والخدمة.
فلماذا لا يصبح هذا الكاهن عنصراً فعّالاً في التطور؟ لماذا هذا العلماني لا يحقق دعوته العميقة بالتزامه في خدمة الجماعة؟ الواحد ليس أقل كهنوتاً والثاني ليس أقل علمانية. فالاثنان مُعمّدان وعلى هذا الأساس أُعطي لهما رسالة وسلطة لتنمية الكنيسة في خدمة الإنسانية.
كلاهما كهنة ولكن الكهنة المرتسمين يمثلون المسيح وهو يجعل، من خلال الافخارستيا، عبوره إلى الآب دائماً آني، الكهنة والعلمانيين معاً يحملون رسالة مشتركة لجعل العالم افخارستيا حيث البشرية كلها تكون مأخوذة في فصح المسيح (رو 15، 16) إلى أن يأتي الفصح الأخير.
هكذا نرى أننا بعيدون جداً عن تصادم الحساسيات التي «تسمم»، في الكثير من الحالات، العلاقة بين الكهنة والعلمانيين. لا وجود لعلاج سحري. لكن هناك ضرورة أن يعي كل من الكهنة والعلمانيين المعنى الحقيقي للكنيسة. سيستمرون بالاصطدام مع محدوديتهم وشقائهم حيث بالنسبة للعلمانيين الذي لهم بعض المسؤوليات الرعوية، يعتبر هذا الأمر اكتشافاً ذاتَ طابعٍ امتحانيّ.
بالنسبة للاثنين هو دعوة لكي يفهموا بوضوح رهان الرسالة التي سلمنا إياها المسيح بتسليمه لنا كنيسته. لن تكون الكنيسة هرمية بالكفاية، أي موجهة نحو سيدها؛ ولن تكون الكنيسة علمانية بالكفاية أي مكرسة لِخدمة الإنسانية في مسيرتها التاريخية. إنها رسالة مستحيلة لكن ما هو مستحيل على الإنسان ممكن عند لله. فعلى العلمانيين والكهنة أن يكتشفا ذلك. عند ذلك يستطيعان أن يسيرا معاً.
الكنيسة والمجتمع
الكنيسة والمجتمع
منذ بداية المسيحية، والعلاقة بين الكنيسة ومحيطها السياسي والاجتماعي تشكل مكان نقاشات وتوترات، لا بل صراعات، وهل من الممكن أن يكون الأمر مختلفاً بالنسبة لتلاميذ من سبق له وأعلن: «أعطوا لقيصر ما لقيصر وما لله لله» (مر 12، 17). سوف نتحدث أولاً عن الانتقال الذي تم من إشكالية «الكنيسة ــــــ الدولة» إلى إشكالية «الكنيسة ــــــ المجتمع».
ثم نفكر بالتوتر الدائم بين الرغبة في إثبات الانتماء لكنيسة وبين احترام الإيمان. أخيراً، سوف نرى بأن الكنيسة الحاضرة في قلب المجتمع، عليها أن تأخذ على عاتقها مسؤولية عامة حيث رهانات عصرنا تتطلب منها ذلك.
نحو نهاية المواجهة: في أوروبا وتحديداً في فرنسا تم الفصل التام بين الكنيسة والدولة. هذا الفصل أخذ شكل القطع الجذري الذي وصل به المطاف إلى موقف المُعارض أمام تأثير الكنيسة على المجتمع المدني. فالعلمنة هناك كانت في البداية عنيفة، وأخذت شكل ردّة الفعل مقابل ما كانت تعتبره وتتلقاه على أنه خطر كهنوتي على ضمائر الناس وبشكل خاص على الأكثر ليونة: الأطفال.
كما أن المدرسة كانت رمز هذه العلاقة بين الكنيسة والدولة، وقد أُضيف إلى الإرادة في حماية الأماكن العامة من الكنيسة، الرغبة في جعل الدين أمراً خاصّاً وشخصيّاً. بعد فترة طويلة من الصراعات بينهما تم الاكتشاف تدريجياً بأن الفصل بين الكنيسة والدولة ليس بالضرورة أن يكون مبنياً على الإقصاء، إنما هو في النهاية مبني على مبدأ الاستقلالية. إنه يستند على الحرية الدينية المعترف عليها كجزء لا يتجزأ من الحريات الديمقراطية سواء على الصعيد الفردي أو على الصعيد الجماعي.
هذا الفهم الجديد للعلاقة بين الكنيسة والدولة يترجم تطوراً للنفسيات. كما أنه يستند على التغيرات التي طرأت على المجتمع آنذاك. فروح العلمانية امتدت وتغلغلت كثيراً في المجتمع الأوروبي والكنائس لم تعد تعتبر مرجعاً أو «رحمَ» الحياة الاجتماعية ــــــ الاقتصادية أو للإبداع الثقافي.
مهمشة اجتماعياً كيف يمكن للكنيسة أن تمارس الرقابة على النفوس أو تتسلط على المجتمع؟ بالمقابل الدولة، بسبب الليبرالية الاقتصادية المتفشية تراجعت مكانتها وخفّ دور الإيديولوجيات والمؤسسات بالإضافة إلى نمو الوعي لدى الناس بخصوص التمييز بين الكنيسة والدولة.
فأمام روح الفردية القوي حيث الفرد هو ملك وحاكم حياته الشخصية، لم يعد من مجال لكل من الكنيسة والدولة للعداوة بينهما، بل أصبح لهما اهتمامات مشتركة: كرامة الإنسان أصبحت محور ومركز الأخلاق الديمقراطية والخطاب الكنسي. كذلك الأمر مواجهة تحديات المجتمع (عدم المساواة، التوطن، الهجرة، العنصرية، الفقر الخ. ) قادت كل من الكنيسة والدولة للتدخل في هذه المجالات.
فالبحث عن الرابط الاجتماعي في ظل ديمقراطية تعددية ومنفتحة على الخارج دفعهما للتساؤل حول القيم التي بدونها لا يمكن أن يكون هناك مجتمع يستطيع أن يؤسس بشكل دائم حاضره على ما يدفعه ويفتحه على المستقبل.
على ضوء المجمع الفاتيكاني الثاني: الكنيسة ليست لعبة للحوادث وللظروف، بدون مرجعية وبدون تفكير حول علاقتها بالدولة وبالمجتمع. فاللاهوتي الألماني المعروف « كارل رانر» يُذكّر بخصوص المجمع الفاتيكاني الثاني: «من خلال الوثائق بحثت الكنيسة عن تحديد علاقتها بالعالم؛ هذا الوصف ينبع من طبيعة الكنيسة نفسها وليس فقط من خلال الضغوطات والظروف الخارجية».
فإشكالية «الكنيسة – الدولة» التي حددها الإعلان عن حرية الأديان في المجمع، موضوعة ضمن إطار أوسع: علاقات الكنيسة بالعالم. فالكنيسة لا تُطالب بمكانة مميّزة في المجتمع، لكنها تشدد على دور الدولة في تحقيق الحرية الدينية والاستقلالية الفعلية للكنيسة في إطار التعددية بدولة علمانية:
«من ثم حيث يسود نظام من الحرية الدينية لا معلناً بالأقوال فقط أو مسنوناً في الشرائع، بل مطبّقاً بواقعية وإخلاص، فهناك تجد الكنيسة شرعاً وفعلاً ظروف استقلالها مستقرة، ذلك الاستقلال الضروري لإتمام رسالتها الإلهية الذي طالبت به السلطات الكنيسة في المجتمع بإلحاح متزايد (دستور الحرية الدينية رقم 13)». فالكنيسة تتجاوز المنظور القانوني البحت، وتعبّر كما تفهم عن مكانها، دورها ورسالتها.
* إنها تقرّ بأن الإنسان هو في قلب رسالتها والتزامها. «الإنسان المُعتبر في وحدته وفي كلّيته، الإنسان، جسد وروح، قلب وضمير، فكر وإرادة.» (دستور الوضع البشري في عالم اليوم رقم 3)»
* إنها تحترم استقلالية الوقائع الأرضية وتعترف بالقوانين وبالقيم الخاصّة لأمور الدنيا وللمجتمعات « أعطوا لقيصر ما لقيصر وما لله لله ».
* ترفض أن ترتبط بأي نظام اقتصادي أو اجتماعي.
فالنصوص المجمعية تعطي مفهوماً جديداً لعلاقة الكنيسة مع محيطها الاجتماعي ــــــــ التاريخي: «نظراً إلى مهمة الكنيسة وصلاحيتها فهي لا تختلط بحال من الأحوال بالجماعة السياسية ولا ترتبط بأي نظام سياسي. إنها العلامة والضمانة لما يمتاز به الشخص البشري من تسامٍ» (دستور الوضع البشري في عالم اليوم رقم 76/2).
هكذا تعترف الكنيسة بحقها وواجبها بالتدخل في الحقل الاجتماعي بالنسبة لرهاناته الأساسية والتي هي كرامة الإنسان، حقوق الإنسان، وحدة العائلة البشرية، ومعنى التصرف البشري. من هنا، كلامها وأعمالها التي لا تريد أن تكون سياسية بشكل مباشر، لها مع ذلك صدى أو تأثير ونتائج على هذا الحقل، كما يبين لنا التاريخ الحديث في مختلف بلدان العالم (أميركا اللاتينية، الفلبين، أوروبا الشرقية...).
فالعبور من إشكالية الكنيسة ــــــ الدولة إلى إشكالية الكنيسة ــــــ المجتمع، لا تخفف، بل بالعكس، التأثير السياسي للكنيسة. برفضها أن ترى في الدولة عدوّها أو مستندها، تعترف الكنيسة باستقلالية السياسة وتحافظ على استقلاليتها. وبممارستها للتميز في المجال الأخلاقي والديني بخصوص تساؤلات المجتمع وباستنادها على مقياس الاحترام لكرامة الشخص الإنساني، فهي تلتزم بالعمق في معارك ومهمات هذا الزمن.
توترات متجددة: العلاقة بين الكنيسة والمجتمع تُخلق توترات ليست أقلّ أهمية من العلاقة بين الكنيسة والدولة. إنها تنبع من أخذ المواقف الكنسية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية وتلد من صعوبة الكنيسة، بقواها الشخصية وحدها، أن تجد مكانها في الرهان الاجتماعي المُقعّد والمتحرك.
توترات داخل الكنيسة أيضاً لأنه، في مجتمع يسعى لتخفيف الاختلافات والتوحيد، هناك الخطر في أن لا يرى الناس في الكنيسة سوى مجموعة اجتماعية من بين المجموعات الأخرى. آنذاك تظهر تجربة النظر إلى الكنيسة وعيشها على أنها مجتمع مضاد. فالموضوع هو تثبيت خصوصية الوجود المسيحي من خلال إبراز القطع الواضح مع تيار وأسلوب الزمن.
من المناسب أخذ الوسائل اللازمة لعيش حياة التلميذ آخذين البعد اللازم من المجتمع وتثبيت الهوية المسيحية مقابله. ففي مجتمع لديه شك بخصوص قيمه وأهدافه، من المهم أن نجد الأركان الحيّة لتعليم واضح حيث اليقينيات والقناعات تحل مكان البحث والتساؤلات اللانهائية.
لا شيء يدهشنا أكثر من الظهور مجدداً لتوترات ترتبط بماهية الإيمان المسيحي في علاقته مع العالم:
* من جهة، المسيحي له اليقين بأنه يملك، بفعل الوحي الإلهي، الحقيقة النهائية للإنسان: يشعر بأنه مسؤول عن كلمة لا يمكن التخفيف من جذريتها؛ ومن جهة أُخرى، يعلم أنه، في مجتمع متعدد، العيش المشترك يفترض تسويات وأن احترام الآخر يفرض عليه أحياناً تواضع الاعتدال والفطنة بخصوص ما هو حياتي.
* من جهة، يعلم المسيحي بأن وجوده يتم تحت علامة المستقبل الذي لا يأتي إلاَّ من الله وأن تاريخه مشدود بين ما قد تم وبين ما لم يتم بعد بخصوص ملكوت الله؛ ومن جهة أُخرى، فهو لا يستطيع الهروب من ثقل الحياة اليومية والضرورة المشتركة لعيش مهمته مثبتاً نظره على متطلبات الحاضر (هنا والآن).
* من جهة، مهمة المسيحي رفض «الأصنام» المتعددة التي يعطيها المجتمع لنفسه؛ ومن جهة أُخرى، يعرف أنه لا يمكن قلب الآلهة المزيفة دون زعزعت النظام الاجتماعي من خلال العنف الذي نعرف متى يبدأ لكن لا نعرف متى ينتهي؛ إنه يعرف بأن الرفض النبوي قد يعبر من خلال صبر المعارك الطويلة التي تمس قلبه شخصياً.
فعلاقة الكنيسة بالعالم تعبر من خلال حياة كل فرد، من خلال هذه التوترات التي تشكل الحافز والديناميكية الحياتية، من خلال قراراته واختياراته. مأخوذ بين قطبين، يستطيع الإنسان أيضاً أن يرفض هذه الحالة ويختار بين «الاستسلام» للمجتمع وبين المعارضة باسم إيمانه.
مطالبة غامضة: إثبات الإنسان ذاته كمسيحي في مجتمع فيه القناعات نسبية ويسخّف المرجعيات ليس «بانغلاق للهوية» أو مطالبة متصلبة للخصوصية المسيحية. إثبات الإنسان ذاته كمسيحي أمر مهم لكل من يريد أن يكون تلميذاً للمسيح.
لكن التميّز أو التفرد المسيحي لا ينحصر بتعريف: إنه ينبثق من الخبرة غير المتوقعة، المدهشة، والمتنوعة، والمتجددة من جيل إلى جيل، خبرة الحضور الحي للمسيح وخبرة الله الذي يأتي ليغلق الطريق على كل محاولة لجعل المسيحية عبارة عن عقيدة أو إيديولوجية.
خبرة الإيمان الذي يُعاش في التخلي عن كل الأفكار المسبقة الصنع والتسلط على الذات: إذا كان الإيمان ينقل الجبال، فليس من خلال سلطة مأخوذة من قدرات العالم إنما في «الضعف» الذي يشهد له مصير يسوع.
فالشهادة للإيمان تكمن في ترك الآخرين يعترفون أو يكتشفون مصدر تصرفنا وأعمالنا، أكثر من إثبات لهويتنا. فليس الإثبات الفظ النابع من الخوف من أن لا نُعرف، إنما الإرسال المريح لمن أشار إليه المعمدان على أنه الآتي للقاء كل انتظار.
البحث عن الهوية المسيحية قد يولّد عكس ما يهدف إليه. فالإيمان المسيحي في الواقع، ليس حكماً على العالم، ولا تحديد للحدود التي تفصل بين المساحة المؤمنة وبين المساحة التي يجب تبشيرها؛ إنه ديناميكية تتسلط على كل مجالات الحياة.
إنه رغبة متجددة باستمرار بأن نترك أنفسنا نُبشَّر، دعوة لكي نُخضع كل شكل اجتماعي ـــــــ تاريخي للخبرة المسيحية، للهدف الواحد ألا وهو الملكوت. بهذه الطريقة لا يمكن للإيمان أن يتغذى إن صح التعبير من احتقار المجتمع ولا أن يتسلح من الخوف من العالم؛ إنه يُعاش كتمييز، محبة وشهادة محاولاً أن يفهم ويحب هذه البشرية وهذه الخليقة التي تعيش «مخاض الولادة» (رو 8، 22).
الإيمان هو عطية. فلا شك بأن الرغبة الإنسانية تسعى لتملكه: «عندي» إيمان. لكن المسيح يأتي ليسأل كل ادعاء لامتلاك ما هو عطية وأن يسحب كل فوقية مما هو نعمة: لقد وضع ذاته في موضع من نُكر حقه حتى الموت، الموت على الصليب ، حقه في الكلام والحياة وإثبات ذاته.
هكذا أخذ على عاتقه ظلمة الحاضر، ثقل الأشياء، وكتمان موت العبد لكي تُكشف بالقيامة، قدرة الله. فعيش الإيمان يكمن أكثر في أن ندع الله والآخرين يثبّتون حقيقة ما نسعى لأن نكون وأن نعيش، من إثبات ما نحن عليه.
الكنيسة في قلب المجتمع: الكنيسة بصفتها جماعة المؤمنين، لا تقدم ذاتها ككتلة لا شكل لها مكونة من أفراد يعيشون الواحد بالقرب من الآخر: إنها جسد اجتماعي ذو بنية ومنظم. يمكن الالتقاء بالكنيسة بطرق مختلفة: مجموعة من المناضلين المسيحيين في العمل، أسقف محاور، مجموعات ملتزمة في الكنيسة...
وجوه مختلفة تُظهر حضور الكنيسة المتنوع في المجتمع. في الواقع لا تستطيع الكنيسة أن تلعب دورها تماما ًفي قلب مجتمعاتنا إلاَّ إذا قامت بذلك انطلاقاً من الرجاء بالروح الذي يعمل في هذا العالم ممّا يعني الثقة بإمكانيات المسيحيين لتبشير ثقافة عصرهم.
علينا أن لا ننسى بأن التبشير يبقى مهمة دائمة. فالعلاقة مع الثقافة تشكل أحدى الرهانات الأساسية لهذا الحضور الكنسي في المجتمع. والابتعاد عن ذلك يعني فقدان الصلة مع ما يربط البشر اليوم مع بعضهم ويفهمون من خلاله وجودهم المشترك. فالإيمان يصبح تجريداً خطيراً إن لم يكن مندمجاً في الثقافة حيث عليه أن يتجسد ليكون له معنى.
فمن داخل هذه الثقافات يستطيع المؤمن أن يُبيّن آنية التقليد الحي للكنيسة وحضور الإيمان في قلب العالم. إن حضور الكنيسة في المجتمع العصري له نتائج على المجتمع نفسه. فمقابل التساؤلات الأخلاقية التي تترك كل من الباحثين والأطباء وأرباب العمل عراة وبدون سلاح، تقدم الكنيسة تقليدها، خبرتها في الفكر الأخلاقي، تمييزها المستند على قيمها واهتمامها بالإنسان.
عليها أن تُذكٍّر، في وقته أو في غير وقته، بأن المجتمع لا يُبنى، لا على احتقار الإنسان ولا على إقصاء الضعفاء. شاملة بطبيعتها، تشير للدولة حدود سلطتها. أخيراً، ألا تعني الكنيسة لكل مجتمع بأن سبب وجودها لا يكمن فيها وبالتالي لا يمكنها أن ترفض كل مرجعية إلى ما رواءها أو أبعد منها دون أن تصبح شمولية أو كليّة؟
إن التحدث عن حضور الكنيسة في المجتمع بصفتها مؤسسة هذا يعني نسيان الواقع الطبيعي للكنيسة: مؤمنين يشهدون على كل أصعدة الحياة لما يعنيه الإنسان والمسيحي في هذا الزمن.
التزامهم اليومي يغيّر بشكل أكثر ديمومة عقلية وتصرفات معاصرينا من أي خطاب ديني: استقبال المهجرين، التضامن مع الفقراء في الداخل وفي الخارج، الاهتمام بالمهمشين في المجتمع الخ. والكثير من مجالات الحياة، حيث بعض المسيحيين مع غيرهم كانوا المبادرين: إنهم يشكلون علامات تسمح للآخرين باكتشاف إيمانهم المسيحي.
الكنيسة لها دور عام: الكنيسة تقبل مسؤوليتها الخاصّة بالنسبة للخير العام: فهي لا تفهم دورها على أنه محدود فقط بأعضائها وفي المجال الخاصّ فقط. تحجيم حق الكلمة للمسيحيين خارج الحقل العام يشكل طعنة في حرية التعبير وعيش إيمانهم أمام الملأ مع احترام قواعد الحقوق.
فالكنيسة تريد وعليها أن تحافظ على مكانها في الندوات الكبيرة للمجتمع التي تمس القيم والرهانات، وتُحدّد اختيارات المستقبل. ولكن بالمقابل على الكنيسة أن تقبل بقواعد الحوار: أن تجد اللغة التي تستطيع أن تُقنع كل إنسان، مهما كان غريباً عنها، بدقة وصحة موقفها. ومطالبتها بأن يكون لها مكان في الندوات العامّة يفرض عليها بالمقابل القبول بالقواعد وبالطريقة التي دونها لا يمكن أن يتم حوار متبادل.
إنها فرصة الكنيسة لكي تعيش حاضرها ومستقبلها دون مرارة أو حقد وأن تأخذ على عاتقها مهمتها «كمعلمة في الحكمة» و «أخصائية في الإنسانية» ضمن المجتمع الحالي. إنها أيضاً الوسيلة لتقول «الكنز الذي نحمله في آنية من خزف» (2 قور 4، 7)، مع إعطاء الإمكانية للجميع بأن يفهموا أن «الإنسان هو أول طريق والطريق الأساسي للكنيسة» (يوحنا بولس الثاني).
بعض الأسئلة:
* برأيكم ما هي العلامات الأكثر فعالية للحضور العملي للكنيسة (المسيحيين) في المجتمع؟
* كيف تظهر شخصياً هويتك المسيحية؟ هل هذا السؤال صح أو خاطئ؟ أم أنّ هناك طريقة صحيحة لطرح هذا السؤال؟
الكنيسة
مقدمة: لن نقوم بمعالجة موضوع الكنيسة بطريقة عقائدية إن صح التعبير، تتطلب تحليل مختلف وجوهها. لهذا السبب لن نتحدث مثلاً عن تعبير بولس الرسول بأن الكنيسة هي «جسد المسيح» كما أننا لن نتحدث عن العلاقة بين الكنيسة والتجسد، ولا عن الطابع السري، بمعنى الأسرار، للكنيسة.
سوف نتوقف على بعض النقاط التي يمكن اعتبارها حسّاسة، كالعلاقة التاريخية بين الكنيسة ومؤسسها. فنحن نرى الكنيسة كما هي، جاهزة إن صح التعبير كما لو أنها خرجت كما هي من إرادة المسيح، مع الميزات التي نعرفها عنها والتي أعطتها الكنيسة لذاتها بسبب الظروف التاريخية. ولكي تجيب الكنيسة على حاجات ولدت بسبب التاريخ، أصبحت مركزية لدرجة قد نفقد فيها أو نهمل الدور البنّاء للكنائس الخاصّة. سوف نتحدث أيضاً عن العلاقة بين الكنيسة والمجتمع.
الهدف من ذلك هو الإدراك بأن الكنيسة هي في النهاية مؤسسة حيّة حيويّة: بإمكانها أن تأخذ أشكالاً مبتكرة حتى ولو قامت بذلك استناداً إلى تقليدها حيث تجد نماذج التغيير والتحوّل المسبقة. ومع ذلك فكنيسة ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني أقل أحادية في التنظيم، أقل سلطوية، وأكثر انفتاحاً على نداءات العلمانيين، هذه الكنيسة قادرة على أن تولد فينا القلق بخصوص نقطتين.
أولاً بخصوص المكانة والعمل المميّز لكل من الكهنة والعلمانيين، ثانياً بخصوص مفهوم الطاعة التي علينا أن نؤديها أو نعيشها لها كهنة وعلمانيين. فهل نستطيع العبور من زمن الحرمان إلى زمن الشراكة؟
من المسيح إلى الكنيسة
السؤال المطروح علينا هو هل المسيح أسس فعلياً الكنيسة؟ لا شك بأننا نعرف جميعاً كلمة المسيح الموجهة لبطرس: «أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي». ولكن هذا النص كُتب بعد زمن طويل من مغادرة يسوع العالم، بينما حضور الكنيسة كان يفرض ذاته على الإنجيلي أو كاتب الإنجيل. كلمة كنيسة لا نجدها سوى ثلاث مرّات في الأناجيل. بينما توجد بكثرة في كل من كتاب أعمال الرسل والرسائل. فكتّاب العهد الجديد خصصوا هذه الكلمة، إن صح التعبير، لزمن ما بعد المسيح، كما لو أنه لم يكن من الممكن التكلم عن الكنيسة طالما كان حاضراً. من هنا تنبع بعض التساؤلات: ما الذي حدث في السنوات التي تفصل بين عمل يسوع التاريخي وبين تأسيس الجماعات المسيحية الأولى قبل نهاية القرن الأول؟ ما هي القوى الموجودة وراء هذه الحوادث؟ ما هو نوع العلاقة بين عمل يسوع التاريخي وولادة الكنيسة؟ أخيراً ما هي أو من هي الكنيسة؟ هل هي من صنع يسوع أم نتيجة، إلى حد ما، غير مرتقبة للظروف؟
سنحاول أن نبين المعطيات الأكثر وثوقاً أو تأكيداً، ثم نحاول أن نفهم ما حدث فعلاً.
1- معطيات الواقع
المُعطى الأساسي الذي لا يقبل الجدل هو المقطع يسوع – الكنيسة. لا يمكننا أن ننكر بأن ظهور الجماعات المسيحية الأولى يتبع عمل وموت وقيامة يسوع. والسؤال هو من أي نوع هذه الاستمرارية؟ فالخطر أن ننسى البعد والاختلافات الموجودة بين يسوع وتلك الجماعات.
نمط الحياة: يسوع وتلاميذه متنقلون، ليس لديهم، على ما يبدو، من منزل ثابت. المنزل الوحيد الذي يلتقون فيه لوحدهم والذي يذكره الإنجيل هو منزل حماة بطرس في كفرناحوم. موائد الطعام التي يتحدث عنها الإنجيل أغلبها دعوات. وجواب يسوع للرجل الذي يطلب إتباعه يعبّر عن هذا الواقع: «إِنَّ لِلثَّعالِبِ أَوجِرَة ولِطُيورِ السَّماءِ أَوكاراً، وأَمَّا ابنُ الإِنسان فلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه ». وبالمناسبة الكلمة المميزة للانتساب إلى يسوع هي فعل اتبع، أو اتبعني. يسوع إنسان متنقل يجوب الطرقات، من منطقة إلى أخرى، يتوقف حيث يتم استقباله، يتابع طريقه إن لم يلمحه أحد.
هذا النمط من الوجود لم يكن ثانوياً؛ ففي عالم يأخذ الدين فيه مكاناً وأهمية كبيرين، استضافة «رجال الله» كانت جزأً من العادات والتقاليد. هذا ما تفترضه الأناجيل من خلال التعليمات التي يعطيها يسوع للتلاميذ قبل أن يرسلهم للرسالة «لا تَحمِلوا لِلطَّريقِ شَيئاً، لا عصاً ولا مِزوَداً ولا خُبزاً ولا مالاً، ولا يَكُنْ لأَحَدٍ مِنكُم قَميصان وأَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فأَقيموا فيه ومِنه ارحَلوا. وأَمَّا الَّذينَ لا يَقبَلونَكم، فاخرُجوا مِن مَدينَتِهِم، وانفُضوا الغُبارَ عن أَقدامِكم شَهادَةً علَيهم» (لو 9، 1-5). إنها تشهد بدون شك للذكريات التي كانت لا تزال حيّة وللعادات التي كانت لا تزال تُمارس خلال سنين بعد ذهاب يسوع.
الوجه الذي تقدمه لنا الوثائق عن الجماعات المسيحية الأولى مختلف كثيراً، فرسائل بولس للعالم اليوناني بين العام 50 – 65 وكتاب أعمال الرسل الذي يصف لنا لاحقاً هذه الجماعات، كلاهما يقولان لنا بأنها كانت جماعات ثابتة في المدن، تجتمع في البيوت حيث يلتقي المسيحيون فيما بينهم باجتماعات دورية، وصلوات مشتركة، وطقوس لها بنية واضحة كالعماد والإفخارستيا. وإن كانت الوظائف داخل هذه الجماعات لم تكن تعرف بعد الثبات الذي نعرفه الآن، كانت قد بدأت بعض الخدمات والرسالات المتنوعة تأخذ شكلها.
مجموعات من الأقليّة: لا شيء يفاجئ في هذه التغيرات، بما أن انتساب اليهود لشخص يسوع لم يكن يتم بكثرة، فكان من المحتم أن يكون التلاميذ أقليّة، يلتقون فيما بينهم ليشكلوا مجموعات منسجمة، تميل إلى العزلة والتشديد على اختلافاتها بالنسبة لليهود. هذا الميل للانغلاق كان يُعوّض بالانتشار السريع للمسيحية في المدن الكبرى ومرافئ البحر الأبيض المتوسط. في المحيط الوثني، كان الإيمان المسيحي يُعاش في المدن ضمن مجموعات من الأقليّة، بحسب إيقاع (ريتم) أو مجرى الحياة. هنا نحن بعيدون جداً عن حرية يسوع وتحركاته، بعيدين عن التوقعات والانتظارات التي كان يحثها، أو يولّدها حضوره. وكما يقول أحد اللاهوتيين Loisy : «بشّر يسوع بالملكوت فالكنيسة هي التي أتت».
كل هذه الاختلافات، اختلاف نمط الحياة واختلاف الأفق، واضحة جداً ولا يمكننا أن نعبر أمامها كعابري سبيل. وبما أن هذه الاختلافات تعود للظروف المحلية، فنمو عدد التلاميذ وتنوع أماكن وجودهم، قد يجعلنا لا نرى فيها سوى مجرد تأقلم مع الأوضاع الجديدة للخبرة الجوهرية الأولى: الإيمان بالله الحقيقي من خلال شخص يسوع. ولكن هذه الخبرة نفسها تطرح مشكلة.
يسوع المُنظَر إليه، ويسوع المُعلن: إذا كان يسوع، بحسب شهادات الأناجيل، يكشف للناس عن سر إلوهيته، فسر شخصه لن يُكشف إلاَّ في ساعة موته وقيامته. طالما كان يسير بين الناس، فالألقاب التي قبلها أو طالب بها: المسيح، ابن الإنسان، ابن الله، هذه الألقاب تبقى غامضة ومحمّلة بأحلام شعبه وأوهام الإنسان. ما هو فريد لديه ولا يمكن تقليده، ما يجعله قريباً جداً وفي نفس الوقت لا يمكن الوصول له ، حميميته الشفافة مع الله، كلّها تظهر في كل عمل يقوم به، لكن لا يمكن تثبيته إلاَّ في اللحظة التي يسلّم فيها الروح بين يدي الآب الذي يستقبله في مجده.
حتى اللحظة التي يظهر فيها للتلاميذ، متحولاً بنور القيامة وحرية الله، ومع ذلك فهو هو نفسه، قريب جداً وطبيعي جداً، يبقى معرضاً لنظر الناس: من هو؟ ماذا يفعل؟ ماذا يريد؟ الأكثر أمانة يتبعونه لكنهم لا يستطيعون الامتناع عن طرح السؤال: إلى أين تذهب؟ هل سترمم ملكوت داود؟
كل شيء يتغير عندما يفهم التلاميذ القيامة. حتى الظهورات لاتكفي: إنهم بحاجة لنور وقوة الروح القدس. فالتلاميذ الذين بقوا مندهشين من الماضي، من قبل الشخص الذي لم يعد بينهم، يلتفتون فجأة باتجاه القدس. إنها العنصرة، وبالتالي علاقة جديدة مع يسوع. الآن يتكلمون باسمه، يشرحون الحوادث، يعطون المعنى، ويستخلصون النتائج: «لقد قتلتم المسيح وسامحكم؛ وأقامه الله وأعطاكم إياه مخلصاً».
هاتان اللحظتان نراهما في الكتاب المقدس. الأناجيل تعطينا الخبرة الأولى، والكتابات الرسولية (كتاب أعمال الرسل، الرسائل) تعطينا الثانية. إنها متناسقة ومنسجمة، تلتقي فيما بينها، لكن لا تتطابق. يمكننا ويحق لنا أن نتساءل: الخبرة الثانية، خبرة القائم من بين الأموات، أثرت على طريقة قراءة وفهم الأولى ولكن هل شوهتها؟ قبل الإجابة على هذا السؤال علينا التوقف على اختلاف آخر مهم.
يسوع المرئي ويسوع غير المرئي: هنا الاختلاف أكيد. تلاميذ يسوع الملتزمون معه، بعض الفضوليين هم الذين اختبروا يسوع على طرق الجليل، رافقوا خطواته، سمعوه يتكلم ورأوه يستجيب لتساؤلات الناس وتوسلات المرضى، رأوا ردود أفعاله أمام معارضيه وأعدائه. هذه الخبرة فريدة جداً وليس ما يعادلها بعد القيامة، وقد شعر بهذا الأمر بولس مما دفعه لتبرير اعتباره أحد الرسل « أَلَستُ حُرًّا؟ أَلَستُ رَسولاً؟ أَوَ ما رَأَيتُ يسوعَ رَبَّنا؟ أَلَستُم صَنيعَتي في الرَّبّ؟ » (1 قور 9، 1). هنا نلمس وجود حد لا يمكن تجاوزه أو اختراقه ولا يزال يفرض ذاته على الكنيسة؟ فالكنيسة لا تزال تتمسك بالتمييز بين الرسل وشهود العيان، المؤسسين الأوائل وخلفائهم، مما يعني وجود شيء من النقص أو العجز الذي لا يمكن سده، والتأكيدات الأكثر شدّة حول استمرارية الهوية بين يسوع والكنيسة تهدف إلى سد هذا النقص.
- الواقع: كنيسة المسيح
لن نعود إلى الملاحظات والنتائج التي تكلمنا عنها، لكن علينا أن نفهم جيداً ما هو معناها. يمكننا أن نجد فيها ضعف جذري أو ولادي إن صح التعبير، بمعنى أن الكنيسة لن تكون يوماً سوى تجمع لمن يتأرجحون بين الإيمان واللاإيمان، بين الكرم والحب وثقل الأنانية. دون أن ننكر المكان الفريد الذي تحتله في تاريخ البشرية، علينا أن نحافظ على الكنيسة في مكانها: خاطئة، معرّضة للخطأ، بشرية.
هذا المنظور المُختزل يبدو على أنه ليس منظور الشهود الأوائل، الجيل الذي عرف زمن يسوع وزمن الكنيسة الأولى. هذه الخبرة المزدوجة هي أساس العهد الجديد، أساس الوحدة العميقة التي تربط الإنجيل برسالة الرسل.
مؤلّف القديس لوقا: كتابان من العهد الجديد يُظهران لنا هذه الوحدة بطريقة ساطعة، كتابيّ لوقا، صديق بولس، الإنجيل وأعمال الرسل، كُتبا لكي تتم قراءتهما بشكل متسلسل لكونهما يرويان لنا قصة واحدة. الواقع الذي يرويه لوقا لا ينحصر به، فنحن نرى العديد من النقاط المشتركة مع العهد الجديد، لكن هذا الواقع يأخذ كلَّ قوته لدى لوقا: وحدة الكتابين اللذين لا يمكن فصلهما عن بعض، ممّا يعني أنهما يعبّران عن وحدة عمل الله، أي كنيسة ابنه يسوع المسيح.
اسم يسوع المسيح: اسم يسوع المسيح يشكّل لازمة تتكرر كثيراً في كتاب أعمال الرسل سواء لإعلان كلمة الله، أم لشفاء المرضى، أو للعمل بدون انقطاع أو لبذل الحياة، كل ما يطبع وجود الرسل، كل ما يشكّل الطابع الخاص للمسيحيين، باختصار كل ما تقوم به الكنيسة هو من عمل اسم المسيح. بنظر إنسان اليوم، قد تبدو هذه اللغة من مجال السحر. فالمعنى المعاكس يكون كلي.
عندما يعلن بطرس أو بولس أمام الجموع أو أمام المحاكم اسم يسوع فهم لا يفكرون أبداً باستدعاء قوة سرية خفية، إنهم يقولون بكل بساطة ما يتحملون ويعيشون.
ما يعيشونه من خلال أعمالهم وكلامهم، في ضعفهم وشجاعتهم، هو من عمل يسوع نفسه. ليست قوة مماثلة لقوته، أو عمل مشابه إلى حد ما لعمله، إنما قوة وعمل يسوع نفسه في العالم. من بين الأمثلة التي تبين لنا بشكل صارخ هذا اليقين يمكننا ذكر موقف بطرس ويوحنا أمام عظيم الكهنة والرؤساء والشيوخ: «فلمَّا كانَ الغَدُ اجتَمَعَ في أُورَشَليمَ رُؤَساؤُهم والشُّيوخُ والكَتَبَة، وكانَ في المَجلِسِ حَنَّانُ عَظيمُ الكَهَنَةِ وقَيافا ويوحَنَّا الإِسكَندَر وجَميعُ الَّذينَ كانوا مِن سُلالَةِ عُظَماءِ الكَهَنَة. ثُمَّ أَقاموهما في الوَسَطِ وسَأَلوهما: بِأَيِّ قُوَّةٍ أَو بِأَيَّ اسمٍ فَعَلتُما ذلك؟ فقالَ لَهم بُطرُس وقَدِ امتَلأَ مِنَ الرُّوحِ القُدس: يا رُؤَساءَ الشَّعْبِ ويا أَيُّها الشُّيوخ، إِذا كُنَّا نُستَجوَبُ اليَومَ عنِ الإِحسانِ إِلى عَليلٍ لِيُعرَفَ بِماذا نالَ الخَلاص ، فَاعلَموا جَميعًا وَلْيَعلَمْ شَعْبُ إِسرائيلَ كُلُّه أَنَّه بِاسمِ يسوعَ المَسيحِ النَّاصِريِّ الَّذي صَلَبتُموه أَنتُم فأَقامَه اللهُ مِن بَينِ الأَموات، بِهذا الاِسمِ يَقِفُ أَمامَكم ذاك الرَّجُلُ مُعافًى».
الشخصيات المذكورة معروفة جيداً: حَنَّانُ عَظيمُ الكَهَنَةِ وقَيافا وهم حاضرون في حدث آلام المسيح. بطرس موجود أمام الناس الذين سبق أن سلّموا يسوع للموت. في هذه الليلة بينما كان يسوع يعترف برسالته الإلهية، كان بطرس ينكره. كيف يمكنه أن ينسى ذلك، وهو الآن في مواجهة المحكمة ذاتها ومُعرّض للموت عينه؟ في المكان الذي انهار فيه بطرس منذ فترة قريبة، ها هو الآن يأخذ مكان يسوع ويجيب باسمه متأكداً بأن الوعد الذي أعطاه إياه معلمه ليس كلاماً فارغاً: « وعندَما تُساقونَ إِلى المَجامِعِ والحُكَّامِ وأَصحابِ السُّلطَةِ، فلا يُهِمَّنَّكُم كَيفَ تُدافِعونَ عن أَنفُسِكم أَو ماذا تَقولون، لأَنَّ الرُّوحَ القُدُسَ يُعَلِّمُكم في تِلك السَّاعةِ ما يَجِبُ أَن تَقولوا » (لو 12، 11- 12).
يسوع غير المرئي والحاضر: خبرة بطرس قطعية ونفهم بأن يسوع أسس كنيسته على هذا الرجل. خبرته هي تماماً خبرة الكنيسة أثناء ولادتها. ما عاشه التلاميذ مع يسوع، ما قام به أمامهم، في الوقت الذي كانوا فيه مجرد مشاهدين، ما كان الوحيد القادر على القيام به، الآن هم قادرون عليه، بقوته هو.
أكثر من ذلك، ما كان يقوم به يسوع فيهم بنوره وبكلمته، بحرارته وبحضوره، بقوة شخصيته، ما كان يخلقه فيهم بكل صبر من شجاعة وتعلق بشخصيته ومن إيمان بالله، ما كان يُنضجه ببطء بعلاقته معهم، ها هم الآن يختبرونه ناضجاً، خصباً، متيناً، في الوقت الذي هو غائب من بينهم. فكل شيء يأتيهم منه وبالتالي لا شيء تغيّر: لا يزالون هم نفسهم، كرماء وهشين، بينما يسوع على العكس قام من الموت يحيا في مجد الآب، لا يمكن الوصول إليه، يبدو متحولاً بشكل جذري، ويعيش في عالم جديد. في الواقع القيامة لم تغير شيئاً فيه، إنمّا تُظهر على العكس كل ما هو عليه. إنها تنشر في أرجاء المعمورة العمل الذي كان يقوم به ضمن حدود شعب صغير ومن خلال حياة إنسان. فيسوع الذي يتكلم من خلال بطرس المُستجوَب من قبل عظماء الكهنة هو نفسه يسوع الذي كان يدعو سمعان لكي يترك سفينته ويتبعه. يسوع الذي يتكلم من خلال الكنيسة هو نفسه الذي كان يعلن في الجليل التطويبات.
بطرس وبولس: بطرس ورفقاؤه لا يشكلون سوى نواة صغيرة جداً ضمن البشرية. إذا كانت خبرتهم هي التي تشكل الكنيسة، فهذا يعني أنه كان عليها أن تموت معهم: هم وحدهم استطاعوا التأكد من وحدة الهوية بين يسوع الناصري ويسوع الذي يتكلم من خلالهم. لكن بطرس لم يبقى وحيداً، فالله حثَّ بقربه رسولاً آخر، خبرة مختلفة: بولس الرسول. والله وحدّ بطرس وبولس في الدعوة نفسها، في الرسالة الإنجيلية ذاتها.
بولس لم يعرف يسوع التاريخي، أثناء حياته الأرضية، حتى ولو التقى به في إحدى شوارع القدس، حتى ولو سمعه يتكلم، بقي يسوع غريباً بالنسبة له. لا نجد أي أثر في رسالاته لذكرى عاشها معه. بولس لا يعرف التقليد الإنجيلي إلاَّ بدرجة ثانية إن صح التعبير. بخصوص العشاء الأخير والقيامة فهو مرتبط، تابع لما استقبله من خلال انتسابه إلى الكنيسة «سلّمت إليكم قبل كل شيء ما تسلمته أنا أيضاً». لقد تم عماده ككل الأجيال المسيحية قبله وبعده. لكن تم القبض عليه من قبل المسيح، والذي قبض عليه هو نفسه الذي بذل حياته من أجله، يسوع المصلوب. بولس كبطرس لا يمكنه أن يفصل في يسوع بين الإنسان الميت وسيد المجد. حياته الحاضرة، حياته كرسول في الكنيسة، هي حياة المسيح الذي أحبّه وبذل نفسه من أجله. من هنا تتم العملية المعاكسة إن صح التعبير، أي إن حياة بولس تكمن في أن تلتحق على مشنقته بيسوع المصلوب: « لأَنِّي بِالشَّريعةِ مُتُّ عنِ الشَّريعةِ لأَحْيا لله، وقد صُلِبتُ مع المسيح فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ. وإِذا كُنتُ أَحْيا الآنَ حَياةً بَشَرِيَّة، فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن أًَجْلي. فلا أُبطِلُ نِعمَةَ اللّه. فإِذا كانَ البِرُّ يُنالُ بِالشَّريعة، فالمَسيحُ إِذًا قد ماتَ سُدًى» (غلا 2، 19 -21).
خبرة كل من بطرس وبولس تلتقيان وتتطابقان. بدخولهما في عالم مجهول (العالم اليوناني والعالم الروماني) وبعيشهما لظروف جديدة كلية، مرغمون أن يجدوا حلولاً جديدة ويعطوا لأنفسهم هوية لكي يوجدوا، شكّل التلاميذ جسداً واحداً. منذ البداية، كنيسة اليوم والكنيسة الأولى تأسست على الوعي بأنها ولدت في العالم من قبل يسوع الذي بذل نفسه وتحيا كل يوم من حضور معلمها.
بعض التساؤلات المساعدة:
1- «يسوع نعم، الكنيسة لا!» أي موقف، أي تصرف من حولنا يذكرّنا بذلك؟ ما هو سببها؟ تصرفات الكنيسة؟ أي منها؟ انتظارات نتوقعها منها؟ أي انتظارات؟ كيف يمكن لهذه المحاضرة أن تغيّر هذا المفهوم؟ في بعض الأحيان نحلم بكنيسة سوبر إنسانية. ألا يعود ذلك لمفهوم خاطئ عن الوحي المسيحي؟ كيف يكشف الله عن نفسه في العهد القديم؟ كيف يستمر عمل المسيح اليوم؟ كيف يمر الوحي، مهما كانت الظروف، من خلال الإنسان؟
2- المسيحيون يريدون أحياناً أن تكون الكنيسة قد خرجت مباشرة وبشكل جاهز من عمل وكلمة يسوع. ما الذي يتعارض مع هذا الوهم من خلال المحاضرة وفي العهد الجديد؟
بأي معنى يمكننا القول بأن يسوع أسس الكنيسة؟ هل هو المؤسس كالذين أسسوا الرهبانيات؟ أم هو الأساس وحجر الزاوية؟ مؤسس بقيامته ولكن كيف؟ أي نتيجة يمكننا الوصول إليها من خلال هذا التمييز مثلاً بخصوص التنظيم داخل الكنيسة (الكهنوت، الأسرار الخ.)
وإذا كان البعد، الهوة بين يسوع والكنيسة ليس بعيب ولا بضعف، بل غنى؟ لنبحث عن نصوص في العهد الجديد التي تضعنا على هذا الطريق بشكل خاص في إنجيل يوحنا. ما المدهش فيما تقوله؟ أليس الموضوع هو الإيمان بالروح القدس؟
3- في الليتورجيا تُعلن النصوص على أنها كلمة الله. فما هو السبب؟ هل هي كلمات يسوع؟ ليس بالضرورة. إذن ما الفرق بين كلمات يسوع وكلمات الله؟ وما هو دور الكنيسة في إعداد هذه النصوص؟
هناك من يقول «المسيح يحارب هذه الكنيسة». كثر من يتحدثون عن أخطاء في الكنيسة قد تكون خطيرة. يمكننا أن نجد بعض النصوص في العهد الجديد تنتقد هذا النوع من التصرفات أو بعض الأشخاص في الكنيسة. بعضها قاس جداً. ومع ذلك فهي كُتبت بعد ولادة الكنيسة بين العام 70 – 100 ولم نكن نستطيع معرفتها لو لم تكتبها الكنيسة ذاتها وتنقلها لنا. ما ذا يعني ذلك بخصوص الكنيسة وعلاقتها بالإنجيل؟
4- ما هو مكان ولادة الكنيسة في خبرة الفصح لدى الرسل؟ هل هو شريعة للإيمان المسيحي؟ لننظر إلى روايات القيامة وما يتبعها وبداية كتاب أعمال الرسل.
5- إذا كان علينا القبول بأن الكنيسة كانت أمينة ليسوع بابتعادها عمّا قاله وفعله (رسالة، الذين تتوجه إليهم، نمط الحياة، العماد، العمل الرسولي الخ)، أي ضوء يسلط هذا الأمر على كنيسة اليوم؟
قراءة علامات الأزمنة
1 ـ "النظر إلى الكون بإيجابية":
في مقدمته، الدستور الرعوي: الكنيسة في عالم اليوم «فرح ورجاء» (Gaudium et Spes)، في الفصل (1، 17)، يدعو «الكنيسة لتفحص علامات الأزمنة وتأويلها على ضوء الإنجيل، ممّا يسمح لها بالإجابة، بطريقة مناسبة لكل جيل، على التساؤلات الدائمة للبشر... ولمعرفة وفهم العالم الذي نعيش فيه».
تفحص وتفسير علامات الأزمنة على ضوء الإنجيل
لذلك مِن الأهمية بمكانٍ أن نَطَّلِعَ على العالمِ الذي نعيشُ فيه ونفهمَهُ مع ما يَحمِلُ من أشواقٍ ورغبات وما يتميَّزُ به في أغلبِ الأحيان مِنَ المآسي. وفيما يلي بعضُ ملامحِ اليومِ الأساسية كما يمكن تصويرها.
يعيشُ الجنسُ البشري اليومَ تغييراتٍ عميقةٍ وسريعةٍ. إنَّ هذه التغيُّرات التي يصنعها الإنسانُ بفضلِ ذكائِهِ وعَمَلِهِ الخلاق تَرتدُّ عليه، وعلى أحكامِهِ ورغباتِهِ الفرديَّةِ والجماعيّة، وعلى طُرُقِ تفكيرِهِ وتصرُّفاتِهِ، سواء بالنسبةِ إلى الأشياءِ أو بالنسبة إلى الآخرين، إلى حدِّ أنَّهُ من الممكن أن نتكلَّمَ على تبديلٍ جذريٍّ حقيقيٍّ اجتماعي وثقافي تنعكسُ نتائجُهُ حتى على الحياةِ الدينية.
سلطة الإنسان اليوم هائلة لكن، مع الأسف من النادر ما يستطيع أن يستعملها لمنفعته: مثلا كل ما يخص مجال التواصل الاجتماعي «فيسبوك، تويتر الخ» الإنسان أوجدها وأعطته سلطة لكن ما نراه على أرض الواقع مختلف: في الكثير من الأحيان تُستعمل ضد منفعة الإنسان.
ومع أنّه يجتهِدُ في سَبْرِ دوافِعِ كيانِهِ الخفيّة (مختلف علوم النفس)، غالباً ما يبدو في حيرةٍ من ذاتِهِ. إنَّهُ يَكتشِفُ رويداً رويداً وبمزيدٍ مِن الوضوحِ نواميسَ الحياةِ الاجتماعية؛ ومع ذلك فإنَّهُ يتردَّدُ في أن يعطيها التوجيهاتِ اللازمة.
تَنعَمُ البشريَّةُ اليومَ بفائضٍ من الثروات والإمكانياتِ وبقوةٍ اقتصادية لم تنعَمْ بها في ما سَلَف، ومع ذلك فإن قِسماً كبيراً مِن سُكان الأرضِ يَعضُّهم نابُ الجوعِ والشَّقاء وكثيرونَ مِنهم يَجهلونَ القراءةَ والكتابةَ. لَمْ يتوصَّل البشرُ كما توصَّلوا اليومَ إلى إِدراكِ معنى الحرّية بكلِّ أبعاده، ولكن في الوقتِ نفسِهِ تظهَرُ أشكالٌ جديدةٌ مِن الاستعباد الاجتماعي والنفسي.
وبينما يَشعُرُ العَالَمُ شعوراً قوياً بوحدَتِه وبرباطاتٍ مُتبادلةٍ بين الجميعِ في تضامُنِهم الضروري (العولمة وتضامن المجتمع الدولي)، يتنازَعُهُ بقساوةٍ تَضادُّ القِوى المتحاربة: فالخلافاتُ السياسية مِنها والاقتصادية والعُنصرية والعقائدية لا تزالُ قائمةً، كما أنَّهُ لا يَزال مُخيِّماً خَطَرُ حربٍ قادرة على خراب كلّ شيء.
إنَّ تبادُلَ الأفكارِ يتزايَدُ ولكنَّ الكلماتَ ذاتَها التي تُستعمَلُ لتعبِّرَ عن مفاهيم ذاتَ أهميَّةٍ كُبرى، تَتَّخِذُ معاني متباينة جداً وفقاً للعقائد المختلفة (الحبّ، الحرية، الديمقراطية، الخ). وأخيراً تَسعى البشريةُ مجتهدةً لإيجاد تنظيمٍ زمنيٍّ أَكمَلَ، دون أن تَصحَبَ هذا التقدُّمُ انطلاقة روحيةً متوازية (الإيمان المسيحي يطبع بالطابع المسيحاني الأمور الزمنية).
بسبب الوضع المعقد للبشرية اليوم، هناك صعوبة كبرى في تمييزِ القِيَمِ الثابتةِ، وفي كيفية التوفيق بينها وبين الاكتشافات الجديدة. إنَّهم لَفي حيرةٍ يتساءَلونَ بمزيجٍ من الأمَلِ والقَلقِ عن تطوُّرِ العالمِ الحالي. وأنَّ هذا التطوُّر يَتحدّى الإنسانَ وبالأحرى يُرغمُهُ على الجواب».
مقدمة الدستور الرعوي حول الكنيسة والعالم.
رؤية الله يعمل في هذا العالم:
قبل المجمع الفاتيكاني الثاني 1962 كان هناك نوع من الانفصال بين منطق الإيمان، ومنطق وتطور العالم (مع الأسف لا نزال نقول بأن العلم والدين يتناقضان). بينما ما أراده المجمع الفاتيكاني الثاني قبل كل شيء، هو النظر إلى العالم بنظرة جديدة، لا للحكم عليه، إنما ليّدرك بأن روح الله، الذي يعمل منذ الخلق، يستمر بالعمل في هذا العالم ويُنتج ثماراً من أجل خير العالم. كلّ ذلك لا يُلغي مساوئ عالمنا، ولا أخطاء البشر، ولا خطيئتهم. ولكن هذا يسمح لنا بأن نعي بشكل أفضل أنه في الخبرة الإنسانية قوى واقعية، يمكننا الاعتماد عليها لبناء عالم أفضل.
فالإنسان هو في العالم لأن الله أراد ذلك، والله أراد أن يكون الإنسان شريكاً له. وهذه الشراكة بين الله والبشرية تستند جوهرياً على إمكانية كل إنسان بأن يختار ويعيش حرّاً، ولكونه حرّاً يمكنه أن يصبح شريكاً لله.... لكونه حرّاً يمكنه أن يجيب على الله، ولا يمكننا أن نجعل البشرية تتقدم في علاقتها مع الله إن لم نعمل باستمرار على تنمية هذه الحرّية، وإقصاء ما يمنعها من الوجود، من تحقيق شروط الاختيار الحرّ في الوجود الإنساني.
العيش بعيون الله:
«كان هناك رجل مسنّ جالساً، ذات يوم، على مدخل مدينة في الشرق الأوسط. اقترب إليه شاب وقال له: لم يسبق لي أبداً أنني أتيت إلى هنا؛ فكيف هم أُناس هذه المدينة؟ أجابه الرجل المسن بسؤال: كيف كان الناس في المدينة التي أتيتَ منها؟ قال الشاب: أنانيين وخبيثين. ولهذا السبب كنت مسروراً للذهاب. أجاب المُسنّ: ستجد الناس أنفسهم هنا.
بعد فترة من الزمن، شاب آخر اقترب وطرح عليه السؤال نفسه. لقد وصلت للتو إلى المنطقة؛ فكيف هم الناس الذين يعيشون في هذه المدينة؟ والمسنّ أجاب بنفس الطريقة: قلّ لي، يا بنيّ، كيف كان الناس في المدينة التي أتيت منها؟ أجاب الشاب: كانوا طيبين مستقبلين وشرفاء؛ كان لديَّ هناك أصدقاء جيدين؛ وكان لديَّ صعوبة في ترك المدينة. ستجد الناس أنفسهم هنا أجاب المسنّ.
وكان هناك تاجر، ليس بعيداً عن المكان، يسقي جماله وقد سمع الحديثين. وبمجرد أن أبتعد الشاب الثاني، توجه إلى الرجل المسنّ معاتباً: كيف يمكنك أن تُعطي جوابين مختلفين كليّة على السؤال نفسه المطروح من قبل شخصين؟ من يفتح قلبه يُغيّر أيضاً نظرته للآخرين، أجاب الشيخ. وكل إنسان يحمل عالمه في قلبه».
فجميعاً، رجالاً ونساءً، مطبوعين، كلّ منّا، بتاريخه الشخصي. فالجوهري هو أن نجد على طرقاتنا أشخاص يأخذوننا بيدنا وينهضوننا عندما نتعثّر. إنهم العلامة المرئية لحضور الله في قلب إنسانيتنا (دور الكنيسة في المساعدات الإنسانية وغيرها، وكل من يعمل على مساعدة الآخرين على النهوض). أي على الكنيسة أن تكون هي علامة من علامات الأزمنة.
إذن، العيش بعيون الله يعني النظر إلى الكون بإيمان، أي أن تكون دائماً لدينا الثقة بالآخر، والاعتراف بأنه حتى ولو ضَلّ، يمكنه أن يستدرك ذاته ويستعيد قدرته ليسير من جديد منتصباً على طريق حياته. فهناك إذا هذه الثقة بالكائن البشري بالرغم من نقاط ضعفه (شرح معنى الثقة).
العيش بعيون "الله" يعني النظر إلى الكون برجاء. فقد يغادر الرجاء قلبنا إلى الأبد لولا وجود علامات تقول لنا أن الزمن أحياناً، هو الفترة الضرورية للإنسان كي يستطيع أن يقوم باكتشافاته وأن ينضج نتيجة خيباته (الله يثق بالإنسان أكثر من العكس) ... إن المحبة تسمح لنا باحترام الطريق الشخصي لكل كائن بشري، بل بمرافقته حتى ولو أخطأ وأن نبتهج إذا عاد إلى نفسه. فالحبّ مصبوغ دائماً بالرأفة ولذلك يسمح بأن نعيش المغفرة والمصالحة. فالإيمان والرجاء والمحبة، يسمحون لنا بإلقاء نظرة أخرى على الكون بما أن كلاًّ منّا يحمل الكون في قلبه.
«النظر للعالم كصيرورة»:
تمييز علامات الأزمنة، يعني الأخذ بعين الاعتبار تحولات العالم كمراحل لمستقبله الذي يدعونا الله للمشاركة به.
خلق الله العالم لكن عملية الخلق لم تنتهي، إنها تستمر وعلينا المشاركة بإتمامها: «لقد أراد الله أن يخلق العالم بحالة مسيرة نحو كماله النهائي» (التعليم المسيحي الكاثوليكي رقم 310). لقد سلّم الإنسان مسؤولية «إخضاع الأرض والتسلط عليها» (تك 1، 26 ـ 28).
قدرة الإنسان على تحويل العالم تتناسب جيداً مع مخطط الله. «القاعدة الوحيدة هي أن تكون مطابقة لخير الإنسانية كما عليها أن تتيحَ للإنسان، أن يزدهر وفقاً لكمالِ دعوته» (الدستور الرعوي عن الكنيسة والعالم رقم 35).
فولادة ملكوت الله، كما يقول لنا بولس الرسول، لا يمكن أن تتم بدون ألم وصعوبات. فالمعركة الروحية ضد كل أشكال الشر تفرض ذاتها. وكل مظاهر الانحطاط تحتوي في داخلها بذرة لواقع جديد. فالاستسلام، والموقف السلبي، يعني التخلي عن أن نكون «عامِلينَ مَعًا في عَمَلِ الله» (1 كور 3، 9). كل إنسان وبحسب المكان الذي يحتله والدور الذي يلعبه، له حصته في ترقية الخير العام.
«إن الله الذي خلقك بدون مشاركتك لن يخلّصك بدون مشاركتك» القديس أغسطينس.
إذا تدخل الإنسان في الطبيعة دون استغلال ولا تسبب بأضرار، يمكننا القول «بأنه يتدخل لا ليعدل الطبيعة إنما ليساعدها على النمو ضمن مسارها، مسار الخليقة، المسار الذي أراده الله. عاملاً في هذا المجال، الحساس بدون شك، الباحث ينتمي إلى مخطط الله، فالله أراد أن يكون الإنسان ملك الخليقة.
ماذا يعني التطور للإنسان، أي مكان لحريته؟
قبل كل شيء، علينا أن نتساءل: ماذا يعني بالفعل «التطور»؛ ما الذي يعد به والذي لا يعد به؟ منذ نهاية القرن التاسع عشر، كان هناك انتقاد للإيمان بالتطور... إذا لم يقابل التقدم التقني تقدم في التكوين الأخلاقي للإنسان، في نمو الإنسان الداخلي (انظر أف 3، 16؛ 2 قور 4، 16)، هذا يعني أن ذلك ليس بتطور، إنما تهديد للإنسان وللعالم.
بما أن الإنسان يبقى دائماً حراّ وحريته دائماً هشّة، فَمُلك للخير قوي بشكل نهائي لا يمكن أن يوجد في هذا العالم. فالذي يعد بعالم أفضل ويدوم بطريقة مستمرة، وإلى الأبد فهو يعطي وعد خاطئ؛ إنه يجهل الحرية الإنسانية. فالحرية عليها أن تُستعاد دائماً من جديد ومن أجل الخير.
نظرات خاطئة عن الله، والعالم.
.... لماذا إذن، الذين يخيّبهم الإلحاد لا يتوجهون إلى المسيحيين؟
ـ لأن المسيحيين لا يبدون سعداء في إيمانهم بالله.
ـ لأنه، على كل المستويات، يُظهرون القليل من الحميّة للتحدث عن إلههم.
أحد الصحفيين، وفي دعابة لا تخلو من القساوة، كان يسمّي مؤخراً هذه الكنيسة التي لا تعرف التحدث عن الله: «كنيسة الصمت».
ـ لأنه أخيراً وجه الله الذي يظهره المسيحيون بتصرفاتهم، وأحياناً بكلامهم، ليس جذاباّ.
فإلى هذا الوجه المزيف عن الله توجَّه بدون شك كتّاب نص الدستور الرعوي حول الكنيسة والعالم بكتابتهم لهذه الجملة الغير منتظرة: «قد يكون للمؤمنين دور غير صغير في ولادة الإلحاد».
علينا جميعاً أن نقوم بفحص ضمير شديد انطلاقاً من السؤال التالي: أليس الذين يروننا ويسمعوننا، معرّضين للخطر بأن يخطئوا في معرفة وجه الله الحقيقي؟ أيها الآباء والأمهات، عندما يُطرح عليكم هذا السؤال، فكرّوا بالأبناء الذين أعطاكم إياهم الله.
روايتين للخلق في سفر التكوين: بناء حضارة الحب
الأولى حاسمة: إنها تُعطي معنى لتاريخ البشرية وهدفها ونهايتها. الإنسان ــــــ «رجل وامرأة، خلقهما» ـــــ هو على صورة الله: الحبّ الذي يسير في الله، يسير بين الرجل والمرأة. كل شيء ينطلق من هذا التشابه بالحبّ. في نهاية الأزمنة، هذا الحبّ المُستقبل من الله سينمو: فنرى الله، «سنصبح شبيهين له» (1 يو 3، 2). فهدف العالم هو الحبّ.
الرواية الثانية هي أكثر وجودية لكنها تفترض الأولى. إنها متمحورة حول عزلة الإنسان. فالله يُقدّم له حيوانات الحقول، وعصافير السماء فيسميّها الإنسان، فيتملكها. ولكن هذا ليس كافٍ. فيقدّم له الله المرأة. فالحبّ، شبه الله، هو هنا لكنه في الوقت نفسه قيد البناء: لم يعرفوا بعضهم وعليهم أن يكتشف الواحد الآخر؛ ثم، مختلفين، متمّمين لبعضهم، فقد جُعل الواحد من أجل الآخر؛ وأخيراً يلاحظون الجوهر: «إنهما واحد». إنه لطريق رائع للحب الزوجي المُقدّم من الله، علامة لحضارة الحبّ الواجب بناؤه.
4 - احترام الشخص الإنساني
في الواقع الإنسان له قيمة لما هو عليه وليس فقط لما يملك أو لما يفعل. فالإنسان يستحق الحبّ والاحترام لما يعيش، وليس لما يملك. كرامته هي بالتحديد مرتبطة بكونه شخص. وبالنتيجة، طالما أنه يعيش، كل إنسان سيحتفظ دائماً بقيمته؛ حتى ولو كان فقيراً أو معاقاً، حتى ولو يرتكب الأخطاء أو إذا كان جانحاً. الشخص الإنساني لا يفقد أبداً عظمته الأصلية وما من أحد يستطيع انتزاعه إياها. يبقى الإنسان هو مبدأ ونهاية المجتمع المدني. كما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: « يتفق المؤمنون مع غيرِ المؤمنين على هذا: يجب أن يؤولَ كلُّ شيءٍ على هذه الأرض إلى الإنسانِ باعتباره مرجعُ كل شيء وذروته » (1).
المجتمع هو جماعة من الأشخاص بعلاقة مع بعضهم البعض، وليس بقطيع من الأفراد المجهولين الواحد بقرب الآخر وكل منهم لا يفكر إلاَّ بنفسه: بدون المسؤولية الاجتماعية، لا وجود للحرية الشخصية. والخير العام ليس بالمجموع الكلي للخيرات الفردية، بل إنه خير الجميع وكل فرد. «إن الميزة الاجتماعية التي يتميَّزُ بها الإنسان تُظهرُ ــــــــ يؤكد المجمع ــــــ أن هناك ارتباطا بين انطلاقة الشخص وتقدُّمِ المجتمع.
دور المسيحين هو أيضاً حاسم. الوحي المسيحي يأتي أيضاً للمساعدة. فالتضامن ضروري، لكن الشرعية الصافية وحدها لا تكفي: «باسم العدالة المزعومة (مثلاً تاريخية أو لطبقة)، نلغي أحياناً القريب، نقتل، نحرم من الحرية، نزيل الحقوق الإنسانية الأكثر أساسية. خبرة الماضي وزمننا يُظهرون لنا بأن العدالة لا تكفي لوحدها، وحتى بإمكانها أن تقود إلى نفي ذاتها وخرابها الشخصي، إن لم نسمح لهذه القوة الأكثر عمقاً التي هي الحبّ بأن تصوغ الحياة الإنسانية في مختلف أبعادها» (3).
إهانة كرامة الشخص الإنساني: إهانة لله
بالنظر إلى الخليقة ترتبط عبادة لله والانتماء إليه باحترام الإنسان، «صورة الله»، الذي أنشأه شريكاً له، مشارك في مسؤولية حياته الشخصية، وحياة الآخرين والوقائع الكونية والبيئية. فاحترام حرية ضمير كل إنسان التي تفترض في الدرجة الأولى احترام الحرية الدينية وفي الوقت نفسه رفض كل عنف، هي جزء من هذا المفهوم. يبدو لي بالنتيجة أن طبيعة الواقع الديني بشكل عام والواقع المسيحي والكاثوليكي بشكل خاص، يطرح ثلاث متطلبات أساسية وأولية بالنسبة للعلاقة الواقعية بين الإيمان والقانون.
أولاً، المتطلب الأنثروبولوجي، أي مفهوم الإنسان الذي يطالب باحترام كرامة كل شخص إنساني. من جهة، الإهانة الموجهة لكرامة الإنسان، حتى ولو كانت مدفوعة من حسّ ديني أُسيء فهمه هي إهانة لله. ومن جهة أُخرى، الإكرام الموجه لله عليه أن يتجسد في احترام الإنسان المخلوق على صورته كمثاله. وبالتأكيد، يجب ألاّ يُختزل احترام الإنسان، إلى مجرد احترام ضميره، بل أيضاً وأولاً كاحترام لحياته منذ اللحظة الأولى لوجوده باعتباره أساس كافة الخيرات البشرية.
المتطلب الثاني يعود إلى نظرية المعرفة: على الإيمان إلاَّ يُعارض البحث العلمي والعقلاني، بل عليه أن يشير إلى معنى هذا البحث، في إطار أهداف الإنسان واحترام كرامته.
المتطلب الثالث هو مبدأ القبول بالنظام الديمقراطي. بالنسبة لكل كائن إنساني، حق الحرية ــــــ المسؤولية يجب أن يكون مضموناً، في جو من الحوار والقناعة، وإمكانية عدم الاتفاق عليها أن تكون مؤمنة عندما يمس الموضوع بعض القيم الأخلاقية الأساسية. يجب أيضاً التوضيح هنا بأنه، بالنسبة للدولة، النظام الديمقراطي هو الذي يتطلب واجب الدفاع عن حياة كل إنسان وتوفير الشروط اللازمة لنمو كل شخص بالعدالة والتضامن.
5 - الفقير محبوب من الله
«وسأَلَه أَحَدُ الوُجَهاء: «أَيُّها المُعَلِّمُ الصَّالِح، ماذا أَعمَلُ لِأَرِثَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة؟» فقالَ لَه يسوع: «لِمَ تَدعوني صالِحاً؟ لا صالِحَ إِلَّا اللهُ وَحدَه. أَنتَ تَعرِفُ الوَصايا: لا تَزْنِ، لا تَقتُلْ، لا تَسرِقْ، لا تَشهَدْ بِالزُّور، أَكرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ» فقال: «هذا كُلُّه حَفِظتُه مُنذُ صِباي! » فلَمَّا سَمِعَ يَسوعُ ذلِكَ قالَ له: واحِدَةٌ تَنقُصُكَ بَعدُ: بعْ جَميعَ ما تَملِك ووَزِّعْه على الفُقَراء، فَيكونَ لكَ كَنزٌ في السَّموات، وتَعالَ فَاتبَعْني» فلمَّا سَمِعَ ذلك اغتَمَّ لِأَنَّه كانَ غَنِيّاً جِدّاً. فلَمَّا رأَى يسوعُ ما كانَ مِنهُ قال: «ما أَعسَرَ دُخولَ مَلَكوتِ اللهِ على ذَوِي المال. فَلِأَن يَدخُلَ الجَمَلُ في ثَقْبِ الإِبرَة أَيسَرُ مِن أَن يَدخُلَ الغَنِيُّ مَلَكوتَ الله» فقالَ السَّامِعون: «فمَن يَقدِرُ أَن يَخلُص؟ » فقال: «ما يُعجِزُ النَّاسَ فإِنَّ اللهَ عَليهِ قَدير» (لو 18، 18 ـ 27).
مأساة ودعوة للرجاء.
بعد أن قدّم لهذا الشاب الدعوة المشتركة (التقيد بالوصايا)، يدعوه يسوع لدعوة خاصّة: الفقر كي يتبعه. مأساة: غناه يقيده. غناه الأرضي أثر فيه عن كثب. فكنز السماء يلمسه من بعيد.
«الفقير، وجه لله».
تمييز علامات الأزمنة، يعني الاعتراف بأن الفقير عامل حقيقي في المجتمع.
إن النظرة الموجهة للفقر تطورت عبر القرون. في نهاية القرون الوسطى، ظهور المال كوسيلة لقياس الغنى يؤدي إلى تمييز «بالمعنى السلبي» الفقير في المجتمع. تدريجياً، أصبح الفقراء هم غالباُ، أُناس مزعجين. والذي يعطي هو فوق الذي يستقبل والمحبّة تُعبِّر عن ذاتها جوهرياً بتسلط الغني على الفقير. القديس أغسطينس سبق أن كشف بطريقة فاضحة دوافعنا العميقة: «بتأدية خدمة إلى بائس، ربما ترغب في الترفع تجاهه، وتريد أن يُصبح أسير فضلك، هو الذي كان أصل عملك للخير. لقد كان في الحاجة وأعطيته جزءً من مالك: لأنك تُعطي، يبدو لك أسمى من الذي تُعطيه».
ومع ذلك، في هذا الإطار، لا يمكننا أن ننسى العديد من المسيحيين الذين بحثوا عن الشهادة لمحبة الله: القديس فانسان دو بول « St Vincent de Paul»، القديس يوحناــــــ باتيست دو لا سال « St JeanـBaptiste de la Sales»، القديس شار بوروميه « St Charles Borromée»، القديس أنطوان دو بادو « St Antoine Padoue»، القديس مارتان دو بورّيس « St Martin de Porrès»، والعديد من الرهبانيات.
والسعي للبحث الشخصي ما وراء المظاهر، العمل مع الفقراء وليس على الفقراء، الاعتراف بهم كفعالين حقيقيين في المجتمع، يظهر اليوم كمُعطى أساسي لحلق جديد للنسيج الاجتماعي. وكما يقول جان ـــــــ ماري بلوكس «الوحي المسيحي لا يتم من الأعلى بل من الأسفل؛ ليس بالقدرة بل بالضعف المتشارك به؛ ليس بالتسلط بل بالخدمة».
العمل «مع الفقراء» وليس «على الفقراء»
في مثل السامري (لو 10)، ساعد هذا الأخير المجروح لأنه قد «أخذته الشفقة» أو «تأثر حباً» ... تصرف كل من الكاهن واللاوي، الذين رأوا الجريح وعبروا يطرح علينا السؤال: ما الذي منعهم من أن يشعروا بالشفقة كالسامري؟
هذا يقودنا للتفكير حول ما يجب تسميته مثبطات الرحمة؛ سلسلة بكاملها من الأدلة المتكررة خلال التاريخ تحملنا على ألاَّ نساعد الفقراء أو عندئذ بطريقة محدودة جداً ومراقبة. قبل القرن التاسع عشر، نادرين هم الذين بينوا أن الفقر قد يكون له أسباب أخرى غير فردية.... علينا أيضاً أن ننوه لنقد للرحمة يرفض موقف الاستعلاء الذي ينزع عن الفقير استقلاليته وكرامته.
الشفقة الحقيقية تبدأ بالوضوح، وبشكل خاص بالاعتراف بوجود حلقة فارغة للبؤس.... في البؤس، لا يمكن أن نكون «فقير طيب». الشفقة الحقيقية تتطلب المجيء لمساعدة البائسين، بمرافقتهم كما هم ومساندتهم بالرجاء لكي يصبحوا طرفاً معنيّاً. تعبير يمكنه أن يصفهم جيداً: ليس «العمل من أجل»، بل «العمل مع» ...
كما سبق وقلنا، الذين يعيشون في البؤس لا يمكنهم أن يُسمعوا صوتهم. فهم إذن بحاجة لمفسرين ومدافعين... لنتذكر يونان: هذا الفقير الذي فقد كل شيء وأراد أصدقائه إقناعه بأنه هو المسؤول عن بؤسه. وهذه هي صرحة أيوب: «مَن لي بِأَن تُكتَبَ أقوالي ومَن لي بِأَن تُحفَرَ في سِفْرٍ. بإِزْميلٍ مِن حَديدٍ» (أي 19، 23 ـ 24). في الواقع، متى يأتي من سيأتي لدافع عن قضيته؟ فالذي يدافع عن أيوب، مع إقحام الله في هذا الدفاع، هو بالتحديد مؤلف السفر... هكذا، بفعل هذا الجواب، لم تُنسى هذه الصرخة، ولا يمكن أن تُنسى، التي هي صرخة كل إنسان بائس.
كذلك، كل الذين هو في البؤس بحاجة لمن يُسمع صرختهم.. يحمل قضيتهم لضمير الجميع ويدافع عنها في الحوارات العامة. فإذا كان يسوع استطاع القول بأن الفقراء هم بينكم ومعكم دائماً (متى 26، 11)، فليس بهدف دفعنا للاستسلام، إنما ليذكرنا بأنه علينا دائماً أن نبدأ من جديد هذه المهمة لمساعدة الفقراء على الخروج من الهوامش حيث يريد المجتمع أن يدفعهم إليها. ولكن من أجل ذلك، علينا أيضاً أن نحافظ على الضمائر بحالة يقظة، وأن ندفع إلى الأمام الشعور بالإلحاح وتثبيت التصميم الجماعي.
فالصرخة التي تأتي من حالات البؤس تطرح علينا سؤال، إنها تضعنا أمام تحدي تحويل الرحمة إلى تخيل الممكن.
برنار روردوف ««Bernard Rordorf»، أستاذ شرف في كلية اللاهوت في جنيف. يوم عمل حول التسوّل – تسوّل، الغرامة أو الشفقة. 2 آذار 2012
من المغارة إلى الصليب
على ما أعتقد أنه سبق لي وتحدثت معكم عن العلاقة بين الميلاد والقبر. قارنا آنذاك بين أيقونة الميلاد وأيقونة وضع يسوع في القبر. اليوم أريد التوقف معكم حول العلاقة بين المغارة، وليس الميلاد، وبين الصليب ولهذا السبب عنونت حديثي من المغارة إلى الصليب.
قبل الدخول في صلب الموضوع أريد أن أسلط بعض الأضواء على روايات الطفولة. هذه الروايات لا نجدها
إلاَ لدى متى ولوقا. كلا الاثنين لم يكتبا لنا سيرة ذاتية عن يسوع لأن هدفهم هو تسليط الضوء على أصوله مبينين بذلك أنه منذ اللحظات الأولى من وجوده، كان بالفعل المرسل من الله.
بما أن التعبير الأول عن الإيمان كان الإيمان بالقيامة، فروايات الطفولة هي بمثابة العودة إلى الوراء عودة إلى ماضي يسوع. انطلاقاً من ذلك، اعتبروا أن يسوع، منذ زمن طويل، له أهمية خاصة وكبيرة لدى الله، وأنه ينتمي منذ البدء إلى تاريخ الخلاص. أي إلى مشروع الله للبشرية: يسوع منذ الأصل هو المرسل من قبل الله إلى البشر، وروايات الولادة توضح لنا هكذا إرادة الله في جعل الطفل، الذي سيولد، ابنه ويعطيه للعالم.
طفل ضعيف، بدون إرادة شخصية، لا يستطيع الكلام. هذه الصورة تقول لنا الكثير عن كيفية مجيء الله إلى البشرية. لا كمحتل ولا كمتسلط، إنما من خلال العطاء الذي يعطينا إياه. فقر هذه الولادة ينسجم مع آلام يسوع. الله يأتي ليجدد البشرية، ليُخرج منها، كما يقول القديس بولس، خليقة جديدة.
أمام المغارة يمكننا أن نقرأ من بولس إلى أهل أفسس: «أَنَّه اختارَنا فيه قَبلَ إِنشاءِ العالَم لِنَكونَ في نَظَرِه قِدِّيسينَ .... وقَدَّرَ لَنا مُنذُ القِدَم أَن يَتَبنَّانا بِيَسوعَ المسيح على ما ارتَضَته مَشيئَتُه» (1، 4 – 5).
أو من رسالته إلى أهل غلاطية: «فلَمَّا تَمَّ الزَّمان، أَرسَلَ اللهُ ابنَه مَولودًا لامرَأَةٍ، مَولودًا في حُكْمِ الشَّريعةْ لِيَفتَدِيَ الَّذينَ هم في حُكْمِ الشَّريعة، فنَحْظى بِالتَّبَنِّي» (4، 4 - 5). أي أن يسوع يأخذ وضعنا العاجز ليعطينا وضعه كابن لله. إنه أول توضيح لإرادة الله بتبني البشر. فهم أيضاً أبنائه، منذ ولادتهم.
لا يمكننا تحليل وفهم كل سر من أسرار يسوع على حدى. ولكن إن فهمنا بأن إعلان الإنجيل يبدأ بموت وقيامة يسوع، يمكننا أن نفهم بأن الميلاد يجعل من كليّة حياة يسوع حدث كشف.
روايات الولادة تريد أن تمحور نظر المؤمن على شخص يسوع، شخص به وفيه سيتحقق اللقاء بين الله والبشرية. منذ ولادة يسوع، يُقدَّم لنا مشروع الله للإنسان: تجمع كل البشرية في النهاية، في الوحدة: «ليكونوا واحداً كما نحن واحد» (يو 17، 22).
منذ بدء تاريخها شعرت البشرية أن حياة الإنسان موعودة بالخلود بالقرب من الله. ولادة يسوع تثبت هذا الرجاء. ولكن، بينما العصور القديمة الوثنية كانت تترك الله في السماء ــــ ولا يلتحق به الإنسان إلاَّ بعد الموت ــــ هنا، يأتي الله ليلتحق بنا ويشركنا حياتنا. الله ينزل، يأتي إلى الإنسان. سوف يسكن معنا، يأخذ على عاتقه كليّة الخليقة.
الإيمان بولادة يسوع يقود المسيحيين ليجسدوا بأنفسهم الإنجيل في المجتمع حيث يعيشون. هذا الإيمان ليس مجرد اعتقاد بحقائق هبطت من السماء، إنه مفهوم كالتزام. علينا أن نحقق انقلاباً. وكما أن إيمان المسيحيين الأوائل رجع من القيامة باتجاه ميلاد يسوع، ليستقبلوا مجمل حياته كحدث كشف، كذلك، نحن أيضاً، علينا أن نجعل من وجودنا الإنساني تجسد لمشروع الله للإنسان، مشروع تبني بنوي.
من المغارة إلى الصليب ومن الصليب إلى العالم:
التجسد ليس أولاً ترميم خليقة فاسدة ومتضررة بسبب الخطيئة، إنما إتمام مشروع الله الخلاّق. السماح للإنسان، ومن خلاله، للخليقة جمعاء، المشاركة في حياة الله عينها. الله فينا ونحن في الله: هذه هي حصتنا، إن صح التعبير، في ملكوت الله، الذي وضع أساسه تجسد الكلمة.
والقديس أثناسيوس يقول «صار الله إنساناً ليصبح الإنسان الله». ولكن الله صار جسداً في عالم تسوده الخطيئة والشر، ولهذا السبب المغارة تقود إلى الصليب. عندما نتأمل بالميلاد ــ المغارة، الأنوار، والتراتيل والأغاني ــ علينا أن لا ننسى واقع العالم المطبوع بالصراع بين النور والظلمة.
صراع يقسم البشر منذ إعلان ميلاد يسوع. يقسمهم بين مستقبلين له: التلاميذ وكل من تبعه ورافضين له: هيرودس وعظماء الكهنة. هذا الصراع يجتاز كل واحد وواحدة منّا. اتبعني يقول طفل المغارة، يقولها لكل واحد وواحدة منّا، ويضعنا بذلك أمام الخيار بين النور والظلمة. فالمغارة تحمل مسبقاً ختم الصليب، الذي، في آنٍ معاً، رفض الله وعلامة حب الله الغير مشروط للعالم. حبّ تؤكد القيامة انتصاره على النور.
كل منّا اختبر ويختبر فرح الميلاد، ولكن السماء والأرض لم تتحدا بعد. اليوم أيضاً، نجمة بيت لحم تبرق في ليل عميق. وفي الطقس اللاتيني، تحتفل الكنيسة باسطفانس، في اليوم الثاني للميلاد، بأول شهيد يتبع المسيح في موته، وفي اليوم الرابع بالقديسين الأبرياء، أطفال بيت لحم واليهودية الذين قتلوا بدون رحمة، جميعهم يشكلون موكباً يرافق الطفل في المغارة.
ماذا يعني ذلك؟ أين، إذن، هو فرح الأجرام السماوية، أين هو النعيم الهادئ في الليلة المقدسة؟ أين السلام على الأرض؟ السلام للناس أهل رضاه. أي للناس ذوي الإرادة الحسنة. ولكن ليسوا جميعاً دوي إرادة حسنة.
فالكلمة، ابن الله تجسد لأن الشر غلّف العالم بالظلمة. فالليل غطى الأرض، كما في بداية الخلق عندما «خلق الله السماوات والأرض وعلى وجه الغمر ظلام وروح الله ترفرف على المياه». لقد أتى الله إلينا ليبرق كالنور في الظلمة، والظلمة لم تدركه كما يقول لنا إنجيل يوحنا في مقدمته.
وللذين استقبلوه حمل لهم النور والسلام. سلام مع الآب، سلام مع كل الذين، مثلهم، هم أبناء النور وأبناء الآب، والسلام العميق للقلب. لكن ليس السلام مع أبناء الظلمة. لأبناء الظلمة لا يحمل، ملك السلام، السلام لهم، بل السيف، بمعنى الفصل بما أنهم يرفضونه فينفصلون عنه.
بالنسبة لهم إنه حجر عثرة يتحطمون عليها. هنا لدينا حقيقة صعبة وخطيرة وعلى طفل المغارة أن لا يجعلنا ننسى هذه الحقيقة. سر التجسد وسر الشر مرتبطين بقوة كبيرة. على النور الآتي من السماء يحل، أكثر ظلمة وتهديداً، ليل الخطيئة. وهذا ما يؤكد العلاقة بين المغارة والصليب.
طفل المغارة يمد يده ليقول لنا: تعالوا إليَّ أيها المتعبون وأنا أُريحكم. أول من تبعه هم الرعاة الفقراء الذين ظهرت لهم النجمة وصوت من السماء يُعلن البشرى السارة. الرعاة يقولون هلم بنا نذهب إلى بيت لحم لنرى ما حدث ذان الذي أخبرنا به الرب. أية ثقة!
أول من تبعه هم المجوس الثلاث الذين أتوا من المشرق وبإيمان بسيط تبعوا النجمة. أيدي طفل المغارة تعطي وتتطلب: حكماء، ضعوا حكمتكم وصيروا بسطاء كالأطفال؛ ملوك أعطوا تيجانكم وكنوزكم واعبدوا بتواضع ملك الملوك. وأطفال بيت لحم، الذين ليس لهم بعد ما يقدموه، وحياتهم الطريّة، قبل أن تبدأ بالفعل، تأخذها أيدي الطفل ــ وهل من نهاية أفضل من أن يُضحى بكم لسيد الحياة؟
اتبعني، يقول طفل المغارة. هكذا دعا التلميذ الذي أحبه، يوحنا الذي تبعه دون أن يتساءل إلى أين ولماذا؟ ترك مركبة أبيه وتبع المعلم على طرقه حتى الجلجلة. اتبعني، هذا النداء سمعه اسطفانس الشاب. لقد تبع يسوع في معركته ضد قوى الظلام، ضد العمى والرفض العنيد للإيمان به.
لاحقاً يشهد له بكلامه وبدمه. تبعه حتى بروحه، روح الحب الذي يصارع الخطيئة لكنه يحب الخاطئ، وأمام الله يدافع عن القاتل حتى الموت. هذه الشخصيات حول المغارة هي وجوه لنور صافي: هؤلاء الضعفاء «الأطفال» الأبرياء، الرعاة الواثقين، ملوك المجوس المتواضعين، اسطفانس، التلميذ الغيور والمتحمس، يوحنا تلميذ الحب، جميعهم لبوا دعوة الرب.
مقابل هؤلاء هناك ليل القساوة التي لا يمكن تخيلها، هناك العمى أيضاً: علماء الشريعة القادرين على تحديد ساعة ومكان ولادة مخلص العالم، لكنهم عاجزين على التصرف انطلاقاً من ذلك والقول هلم بنا لنذهب إلى بيت لحم. كذلك الملك هيرودس الذي يريد قتل سيد الحياة. أمام طفل المغارة تنقسم النفوس وتقود إلى الصليب.
إنه ملك الملوك، من سيملك على الحياة والموت. إنه يقول: اتبعني، ومن ليس معه فهو ضده. يقول أيضاً لنا هذا الكلام الذي يُلزمنا بأن نختار بين النور والظلمة. الإنجيل يعبر بنا من نعومة وجمال المغارة إلى عنف الرجم بالحجارة، من الاندهاش المنور: «المجد لله والسلام على الأرض» إلى الإعلان المخيف: «يبغضكم جميع الناس من أجل اسمي» (متى 12، 2).
لقد عبرنا من الأعياد العائلية الفرحة إلى كشف الانقسام الهائل في قلب العائلة الواحدة: «سَيُسلِمُ الأَخُ أَخاهُ إِلى الموت، والأَبُ ابنَه، ويَثورُ الأَبناءُ على والِدِيهم ويُميتونَهم» (متى 10، 21). فالإنجيل ومن بعده الكنيسة يساعدوننا على أن لا نقع في فخ جو الأعياد المزيف: فرح الميلاد ليس بسحر بسيط علينا أن نحيه كل سنة.
باحتفالنا بعيد الشهيد اسطفانس ثاني يوم الميلاد، وبأطفال بيت لحم في اليوم الرابع، نعبر مباشرة من المغارة إلى الجلجلة، إلى الصليب، بدون فترة زمنية. من خشب المغارة إلى خشب الصليب. الحياة والموت، البداية والنهاية، هم هكذا مجموعين ب 48 ساعة، لا لتخريب جو الأعياد، طبعاً، إنما لكي نعلم حقيقة الطريق التي فُتحت أمامنا من المغارة، بولادة المخلص.
لا يُمكن أن يُفهم الميلاد انطلاقاً من الروح، بل انطلاقاً من بنيتنا الجسدية وهذا معنى أنه يأخذ على عاتقه كليّة إنسانيتنا. فالله هنا لكنه صامت، كما كان صامتاً على الصليب، ومجمل وجوده فينا اليوم هو وجود صامت. فحقيقتنا في جسدنا، في ضعفنا. ونتيجة ذلك هي بالضرورة التغيير. أليس هذا هو معنى المعجزات؟
التجسد هو جنون حب الله كما يقول بولس الرسول، أليس هذا هو معنى العهد؟ في التجسد هنا الألم والموت: صار إنساناً حتى الموت: تخلى عن ذاته. فالمغارة تسبب الانقسام. إنها تفتح أمامنا طريق جديد نأخذه أو نرفضه!
فالصليب موجود في المغارة بمعنى أننا لا نستطيع استقبال الله في طفل المغارة إلاَّ إذا تركنا هذه الحقيقة «تفلحنا» ونستقبلها بالإيمان. وهذا وجه من أوجه الصليب. والإنجيلي لوقا يستعمل الكلمة عينها ليقول المضافة حيث لم يكن فيها مكان ليولد ابن الله، والصالة التي أقام فيها يسوع عشاءه الأخير أي الصليب!
فالإيمان ينتزعنا من ذاتنا، يجعلنا قادرين على القيام بأشياء لا يمكننا القيام بها عادة: «من يؤمن بي يعمل الأعمال التي أنا أعملها لا بل يعمل أعظم منها». فإذا وضعنا أنفسنا بين يدي طفل المغارة فسيقودنا إلى الجلجلة. والآلام، آلام الصليب هي نتيجة اتحادنا مع المسيح، والارتفاع على الصليب يعني ارتفاعنا نحن، ارتفاع إنسانيتنا.
والصليب بدوره يقودنا إلى العالم حيث نحن مدعوين أن نعيش دعوتنا أبناء لله، عملة حقيقيين في بناء الملكوت: «لا أسألك أن تُخرجهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير». يقول يسوع في صلاته الكهنوتية كما نسميها عادة.
بصليب الحب نستطيع أن نغير العالم ونكون كالخميرة في العجين. لذلك أعدل عنوان المحاضرة من المغارة إلى الصليب ليصبح من المغارة إلى الصليب ومن الصليب إلى العالم.
فبين المغارة والصليب يكمن مجمل سر مصيرنا.
مفهوم الأسرار في الكنيسة الجزء التاسع
V. الأسرار والرجاء :
V. 1 لغة الأفق :« أَيُّها الأَحِبَّاء نَحنُ مُنذُ الآنَ أَبناءُ الله ولَم يُظهَرْ حتَّى الآن ما سَنَصيرُ إِليه. نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِه أَشباهَه لأَنَّنا سَنَراه كما هو» (ا يو 3، 2).
المحية بالنسبة للمسيحي هي الله ـــ الحب الذي ظهر في تاريخ البشر بشخص يسوع مدشناً بذلك مسيرة المصالحة الشاملة، التي نحمل رسالتها (2 قور، 5، 18). حب الله هذا، المودع تحت إدارة الإنسان، يميل نحو عالم من الاتحاد والأخوّة لن يتحقق قبل ساعة الملكوت. فعمل المسيحي، كإيمانه، مُحدّد بأفق، بحدود لا يمكن بلوغها، إنما عليه أن يذهب باتجاهها بدون استسلام. هذا البعد وهذا الوعد، بالإيمان وبالعمل، هو مكان وموضوع الرجاء.
V. 2 تراجع الرجاء : الرجاء لا يسمح بإقصاء الذات خارج تاريخ البشر حالماً بمكان آخر أو بزمن آخر، ولكنه لا يسمح أيضاً بأن يجد الكلمة الأخيرة أو المعنى النهائي في قلب هذا التاريخ. فتقديم الكلمة المسيحية بإلغاء البعد الآخيري يشكل خيانة للرجاء. هناك طرق عدة لتجاهل «ما لم يتم بعد» للملكوت، لها انعكاساتها على طريقة تصور السر.
* يمكننا أن نعتقد بأن كل شيء قد أُعطي، كل شيء قد تم منذ التجسد، ملء الأزمنة. وبالتالي التاريخ لا يستطيع أن يحمل من جديد، ونحتقر التاريخ. إذا اعتبرنا هكذا أن الآخيرية قد تمت في تاريخ البشر، يفقد السر كل بعد مستقبلي، ويصبح سر انتظار سلبي، فاقد لكل دينامية.
في الإفخارستيا مثلاً، نشدد على الحضور الواقعي، في التوبة، نشدد أقلّ على المصالحة التي تحقق الاهتداء من المغفرة المُعطاة والبر الذي وجد من جديد. في الزواج، نحتفل بالعهد الذي تم مسبقاً بشكل رمزي، الخ. بينما، كما يقول اللاهوتي مولتمان «السر سابق لذاته»، أي أنه جوهرياً انفتاح على ما يجب أن يصبح ما وراء ما سبق أن تم. فالسر يعلن بأن الرجاء المسيحي يتزامن مع أمل الناس، لكنه يحافظ على هذا الأمل مفتوحاً على العالم الجديد المنتظر لله.
* يمكن اعتبار الآخيرية على أنها تمت، أقلّه في الكنيسة، مجتمع كامل، مقدس، الخ. نعادل الكنيسة بالملكوت؛ نفول ببساطة أن سلطة الكنيسة هي سلطة المسيح؛ نتحدث بعاطفة ومشاعر عن وحدة الجماعة الإفخارستية، ناسين بأن هذه الوحدة هي جوهرياً متطلب ومهمة، أي عمل. في هذا المنظور، ننسى بأن السر ليس نهاية الهدف، إنما عبور مستمر.
كل سر، وبما أنه رمز، يرسم وجه الكنيسة لن توجد مطلقاً في التاريخ؛ إنه يمارس، انطلاقاً من هذا الأمر، دور نقضي لا يمكنه إلاَّ أن يُطلق الرجاء. إنه احتجاج، لأنه يعني أن الكنيسة عليها أن تكون وأنها ليست كذلك؛ لهذا السبب، يحث الحرية ويرسل إلى المهمة، إلى العمل.
الإفخارستيا، مثلاً، تكون إعلان الوحدة. لكن دور هذا الإعلان، في الروح والكلمة الحيّة، لا يكمن في محو الصراعات أو التصرف كما لو؛ على العكس، السر يقوي الوعي والادراك لما هو غير مُعاش من الوحدة ويحث بذلك الحريات من أجل طرق طويلة علينا اتباعها، في الرجاء بالمستقبل.
* الطريقة الثالثة لتجاهل «ما لم يتم بعد» يكمن في إعطاء قيمة زائدة لما قد تم، بتساوي الأخيرية مع الإنجازات والحريات الإنسانية. فالرسالة الإنجيلية مختزلة بالإنسانية، والمسيح هو نبي الالتزام الأخلاقي من أجل العدل والأخوّة. فالسر آنذاك ليس سوى ضمانة، سند إلهي يحمله المسيح للبشرية المتصارعة.
من المؤكد أن الرجاء ليس له مكان آخر للكشف والواقع غير التاريخ؛ لا يوجد إلاَّ مدموج بممارسات الإنسانية. لكن يبقى أن الرجاء المسيحي هو الوعد، المؤسس على السر الفصحي، لانتصار كامل على الموت، ولإتمام للتاريخ لن يكون نتاج التاريخ نفسه، بل عطية من الله.
على هذا الرجاء أن يجد مساحته للتعبير؛ هذه المساحة موجودة، وهي الاحتفال المسيحي. مكانه ليس على مستوى العمل وتعقيداته؛ فالإيمان به يعني المخاطرة في خلق خطابات مخادعة تدفع للاعتقاد بأن المسيحيين لديهم مصادر وحلول غير موجودة لدى الآخرين. في الاحتفال، على العكس، العمل الإنساني، المعترف عليه لذاته، موجود في الرجاء ويأخذ مكانه الصحيح في الكشف عن الملكوت الذي لم نصل إليه.
السر يعيد الرجاء إلى التاريخ بدعوته للإنسان إلى العمل، لكن في الوقت نفسه، يّذكر الإنسان بأنه لا يمكن أن تكون له الكلمة الأخيرة ولا اليد الأخيرة على هذا التاريخ. فالسر هو كذب إن لم يترجم العيش الإنساني، خبرة، معركة؛ إنه كذب أيضاً إن لم يكن سابقاً لذاته.
الخلاصة: قناعتين كبيرتين:
* لا يمكن اعتبار الأسرار بحد ذاتهم. ففصلهم عن النواحي الأخرى للحياة المؤمنة، للكنيسة، للمسيح ــــ السر الأولي، يقود بالضرورة لرفع كل معنى مسيحي لهم وتحويلهم إلى طقوس سحرية أو إلى تصرفات اجتماعية غريبة عن الكلمة المسيحية.
بدت لنا الأسرار كنقاط تركيز لعمل متعدد الأشكال للمسيح وكفترات ـــ مميّزة، بدون شك ـــ لكشف، لظهور إلهي أكبر بكثير.
* نحن مقتنعون أيضاً بأنه على السر أن يجد الغنى المفقود لجذوره الأنتروبولوجية. عالم الخلاص بيسوع ليس بعالم آخر، غير عالم الخلق. فإذا خُلاق الإنسان على صورة الله كمثاله، حياته كإنسان، الشخصية والجماعية، تحمل بالضرورة آثار الحيّ. والكلمة المسيحية تأتي لتغني، وتوضح، من خلال كشف قاطع، ما كان مسبقاً في قلب كل إنسان، حامل للشرارة الإلهية.
فالسر المسيحي ليس بواقع غريب عن الأبعاد الأكثر عمقاً للإنسان وعمله. والاحتفال المسيحي يأخذ على عاتقه ويُجلّي غنى معبّر، كما أنه بإنسانيته، تصرفه كإنسان حر، في مساحة وزمن مُعطيين للتاريخ، أظهر يسوع مجد الآب.
دع الشمس تدخل: الدين هو خطوة الإنسان الذي يبحث عن الله؛ والإيمان هو استقبال، من قبل الإنسان، لخطوة من الله. ففي الوجود المسيحي، الحركات الدينية للمؤمن، الصلاة، الأعمال الطقسية، هي أعمال الإنسان، أعمال الجماعة المؤمنة؛ لكن الإيمان يجلّي هذه التصرفات ويجعلنا نكتشف بأنها أكثر أعمال الله من أن تكون أعمال الإنسان.
إذا كانت الأسرار تُفعّل إمكانية الجماعة المسيحية الشخصية، علينا أن لا ننسى أبداً بأنها أساسياً، وقبل كل شيء، أعمال المسيح. فالله هو الذي يُمارس، في الأسرار، وليس الإنسان أولاً. فالكلمة التي يجعلها الروح حيّة، تأتي إلى الإنسان الذي يستقبلها. هذا الموقف بأن الله هو الممارس الكبير في الكنيسة تجعل من المسيحي من يهيئ طرق الله، لكنه لا يرسمها.
مفهوم الأسرار في الكنيسة الجزء الثامن
V. الأسرار والرجاء :
V. 1 لغة الأفق :« أَيُّها الأَحِبَّاء نَحنُ مُنذُ الآنَ أَبناءُ الله ولَم يُظهَرْ حتَّى الآن ما سَنَصيرُ إِليه. نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِه أَشباهَه لأَنَّنا سَنَراه كما هو» (ا يو 3، 2).
المحية بالنسبة للمسيحي هي الله ـــ الحب الذي ظهر في تاريخ البشر بشخص يسوع مدشناً بذلك مسيرة المصالحة الشاملة، التي نحمل رسالتها (2 قور، 5، 18). حب الله هذا، المودع تحت إدارة الإنسان، يميل نحو عالم من الاتحاد والأخوّة لن يتحقق قبل ساعة الملكوت. فعمل المسيحي، كإيمانه، مُحدّد بأفق، بحدود لا يمكن بلوغها، إنما عليه أن يذهب باتجاهها بدون استسلام. هذا البعد وهذا الوعد، بالإيمان وبالعمل، هو مكان وموضوع الرجاء.
V. 2 تراجع الرجاء : الرجاء لا يسمح بإقصاء الذات خارج تاريخ البشر حالماً بمكان آخر أو بزمن آخر، ولكنه لا يسمح أيضاً بأن يجد الكلمة الأخيرة أو المعنى النهائي في قلب هذا التاريخ. فتقديم الكلمة المسيحية بإلغاء البعد الآخيري يشكل خيانة للرجاء. هناك طرق عدة لتجاهل «ما لم يتم بعد» للملكوت، لها انعكاساتها على طريقة تصور السر.
* يمكننا أن نعتقد بأن كل شيء قد أُعطي، كل شيء قد تم منذ التجسد، ملء الأزمنة. وبالتالي التاريخ لا يستطيع أن يحمل من جديد، ونحتقر التاريخ. إذا اعتبرنا هكذا أن الآخيرية قد تمت في تاريخ البشر، يفقد السر كل بعد مستقبلي، ويصبح سر انتظار سلبي، فاقد لكل دينامية.
في الإفخارستيا مثلاً، نشدد على الحضور الواقعي، في التوبة، نشدد أقلّ على المصالحة التي تحقق الاهتداء من المغفرة المُعطاة والبر الذي وجد من جديد. في الزواج، نحتفل بالعهد الذي تم مسبقاً بشكل رمزي، الخ. بينما، كما يقول اللاهوتي مولتمان «السر سابق لذاته»، أي أنه جوهرياً انفتاح على ما يجب أن يصبح ما وراء ما سبق أن تم. فالسر يعلن بأن الرجاء المسيحي يتزامن مع أمل الناس، لكنه يحافظ على هذا الأمل مفتوحاً على العالم الجديد المنتظر لله.
* يمكن اعتبار الآخيرية على أنها تمت، أقلّه في الكنيسة، مجتمع كامل، مقدس، الخ. نعادل الكنيسة بالملكوت؛ نفول ببساطة أن سلطة الكنيسة هي سلطة المسيح؛ نتحدث بعاطفة ومشاعر عن وحدة الجماعة الإفخارستية، ناسين بأن هذه الوحدة هي جوهرياً متطلب ومهمة، أي عمل. في هذا المنظور، ننسى بأن السر ليس نهاية الهدف، إنما عبور مستمر.
كل سر، وبما أنه رمز، يرسم وجه الكنيسة لن توجد مطلقاً في التاريخ؛ إنه يمارس، انطلاقاً من هذا الأمر، دور نقضي لا يمكنه إلاَّ أن يُطلق الرجاء. إنه احتجاج، لأنه يعني أن الكنيسة عليها أن تكون وأنها ليست كذلك؛ لهذا السبب، يحث الحرية ويرسل إلى المهمة، إلى العمل.
الإفخارستيا، مثلاً، تكون إعلان الوحدة. لكن دور هذا الإعلان، في الروح والكلمة الحيّة، لا يكمن في محو الصراعات أو التصرف كما لو؛ على العكس، السر يقوي الوعي والادراك لما هو غير مُعاش من الوحدة ويحث بذلك الحريات من أجل طرق طويلة علينا اتباعها، في الرجاء بالمستقبل.
* الطريقة الثالثة لتجاهل «ما لم يتم بعد» يكمن في إعطاء قيمة زائدة لما قد تم، بتساوي الأخيرية مع الإنجازات والحريات الإنسانية. فالرسالة الإنجيلية مختزلة بالإنسانية، والمسيح هو نبي الالتزام الأخلاقي من أجل العدل والأخوّة. فالسر آنذاك ليس سوى ضمانة، سند إلهي يحمله المسيح للبشرية المتصارعة.
من المؤكد أن الرجاء ليس له مكان آخر للكشف والواقع غير التاريخ؛ لا يوجد إلاَّ مدموج بممارسات الإنسانية. لكن يبقى أن الرجاء المسيحي هو الوعد، المؤسس على السر الفصحي، لانتصار كامل على الموت، ولإتمام للتاريخ لن يكون نتاج التاريخ نفسه، بل عطية من الله.
على هذا الرجاء أن يجد مساحته للتعبير؛ هذه المساحة موجودة، وهي الاحتفال المسيحي. مكانه ليس على مستوى العمل وتعقيداته؛ فالإيمان به يعني المخاطرة في خلق خطابات مخادعة تدفع للاعتقاد بأن المسيحيين لديهم مصادر وحلول غير موجودة لدى الآخرين. في الاحتفال، على العكس، العمل الإنساني، المعترف عليه لذاته، موجود في الرجاء ويأخذ مكانه الصحيح في الكشف عن الملكوت الذي لم نصل إليه.
السر يعيد الرجاء إلى التاريخ بدعوته للإنسان إلى العمل، لكن في الوقت نفسه، يّذكر الإنسان بأنه لا يمكن أن تكون له الكلمة الأخيرة ولا اليد الأخيرة على هذا التاريخ. فالسر هو كذب إن لم يترجم العيش الإنساني، خبرة، معركة؛ إنه كذب أيضاً إن لم يكن سابقاً لذاته.
الخلاصة: قناعتين كبيرتين:
* لا يمكن اعتبار الأسرار بحد ذاتهم. ففصلهم عن النواحي الأخرى للحياة المؤمنة، للكنيسة، للمسيح ــــ السر الأولي، يقود بالضرورة لرفع كل معنى مسيحي لهم وتحويلهم إلى طقوس سحرية أو إلى تصرفات اجتماعية غريبة عن الكلمة المسيحية.
بدت لنا الأسرار كنقاط تركيز لعمل متعدد الأشكال للمسيح وكفترات ـــ مميّزة، بدون شك ـــ لكشف، لظهور إلهي أكبر بكثير.
* نحن مقتنعون أيضاً بأنه على السر أن يجد الغنى المفقود لجذوره الأنتروبولوجية. عالم الخلاص بيسوع ليس بعالم آخر، غير عالم الخلق. فإذا خُلاق الإنسان على صورة الله كمثاله، حياته كإنسان، الشخصية والجماعية، تحمل بالضرورة آثار الحيّ. والكلمة المسيحية تأتي لتغني، وتوضح، من خلال كشف قاطع، ما كان مسبقاً في قلب كل إنسان، حامل للشرارة الإلهية.
فالسر المسيحي ليس بواقع غريب عن الأبعاد الأكثر عمقاً للإنسان وعمله. والاحتفال المسيحي يأخذ على عاتقه ويُجلّي غنى معبّر، كما أنه بإنسانيته، تصرفه كإنسان حر، في مساحة وزمن مُعطيين للتاريخ، أظهر يسوع مجد الآب.
دع الشمس تدخل: الدين هو خطوة الإنسان الذي يبحث عن الله؛ والإيمان هو استقبال، من قبل الإنسان، لخطوة من الله. ففي الوجود المسيحي، الحركات الدينية للمؤمن، الصلاة، الأعمال الطقسية، هي أعمال الإنسان، أعمال الجماعة المؤمنة؛ لكن الإيمان يجلّي هذه التصرفات ويجعلنا نكتشف بأنها أكثر أعمال الله من أن تكون أعمال الإنسان.
إذا كانت الأسرار تُفعّل إمكانية الجماعة المسيحية الشخصية، علينا أن لا ننسى أبداً بأنها أساسياً، وقبل كل شيء، أعمال المسيح. فالله هو الذي يُمارس، في الأسرار، وليس الإنسان أولاً. فالكلمة التي يجعلها الروح حيّة، تأتي إلى الإنسان الذي يستقبلها. هذا الموقف بأن الله هو الممارس الكبير في الكنيسة تجعل من المسيحي من يهيئ طرق الله، لكنه لا يرسمها.
مفهوم الأسرار في الكنيسة الجزء السايع
IV. عيش واحتفال :
I. الوجود المسيحي : السر المسيحي، طقس ورمز خاص جداً، ليس سوى بعد من أبعاد الوجود المسيحي، ولا يأخذ معناه إلاَّ من خلال علاقته مع الأبعاد الأخرى. فهناك أولاً الخبرة الروحية، أي هذا الوعي الحيّ للرابط الشخصي للأنا العميق مع سر الله الحي. «هذا الرُّوحُ نَفْسُه يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله» (رو 8، 16).
الوجود المسيحي يتضمن المرجعية المستمرة لهذه النقطة من السر فينا حيث ترتبط حياتنا بالحيــــــــــاة، أو بالحيّ. ثم هناك، تصورات ولغات الإيمان، وهذا الإيمان، مُعاش على أنه بشرى سارّة، يحمل في داخله تطلب الاتصال، والمشاركة مع الآخرين. وأخيراً هناك نتائج وتأثير هذا الإيمان وهذه الخبرة على التصرفات الأخلاقية والسياسية للمؤمن.
فالدور الذي نعطيه للطقس هو تحقيق الرابط بين السر وهذه الأبعاد الأخرى للوجود المؤمن. فإذا فضلنا الرباط مع الخبرة الروحية، نعطي للسر طايع أو شكل طقس تنشئة. رابط قوي جداً مع الاعتراف ولغة الإيمان، يجعل منه سر التزام.
بتحديد دور السر بالنسبة للإيمان والمحبة، يمكننا أن نرفع بعض الصعوبات والغموض، وبشكل خاص، الهروب من المعضلات الخاطئة التي يحاول الناس إغلاق المسيحيين فيها.
IV. 2 المعضلات الخاطئة : إذا لم أعيش الإيمان، فالاحتفال بالسر لا معنى له، وإذا أعيش الإيمان، فلماذا الاحتفال بالسر؟ بالطبع لا يمكن أن نغلق أنفسنا بهذا النوع من الاختيار: الاحتفال أو العيش. لكن يمكننا أن نفهم تماماً كيف أن بعض الناس انقادوا ليطرحوا اليوم هذا السؤال الجذري: لماذا الاحتفال بالسر! سؤال غريب بنظر الكثير من المسيحيين الذين يعتقدون بأن الحياة المسيحية تتماهى مع الممارسة.
III. 3 الأسرار والإيمان : الإيمان ضروري للأسرار. وحده الإيمان يعطي مفتاح المعاني المتعددة التي تكوِّن السر. في قلب الاحتفال هناك الحوار حول المعاني المعترف عليها والمُعاشة. التأكيد يتم، والتشابه أيضاً، كما في اقتراب قطعتي الرمز البدائي. إعلان الإيمان وتلاوة صلاة الأبانا في كل سر يُظهر ضرورة حضور الإيمان، خارجاً عنه يكون السر مجرد عمل سحري. ولكن، بالمقابل، لا يحق لنا أن نستخف بما نسميه عمل السر. فما هو هذا العمل؟
* الشكل الأول للعمل يكمن في عملية نفسية ونفسية ـــ اجتماعية ملتزمة بموجب الاحتفال، والتي علينا أن لا نهملها أبداً. ما يقوله علماء الاجتماع عن الرمز يأخذ كل قيمته في الاحتفال بالسر. بالنسبة للعائلة، تواجد الأشخاص حول العماد أو للزواج يضع، موضع رهان، كل العناصر التي يمكنها أن تسمح لكل شخص وللمجموعة أن يواجه هويته، بعيشه لتصورات الوجود الشخصي والجماعي. كم من المؤتمرات واللقاءات، كانت محتواها قليلة الأهمية مقابل الحمل الاجتماعي والعاطفي المُمثل بالتجمع بحد ذاته.
* ولكن السر، كما قلنا، يجد خصوصيته في كلمة حيّة، تحمل حضور الروح في من قالها وفي الذين يسمعونها. عمل السر لاينحدّ إذن بالعملية النفسية الملتزمة، إنما يقيم قبل كل شيء في شكله الخاص جداً لتأوين الخلاص بيسوع.
إنسان بالغ لا يتقدم من العماد بدون انتماء للكلمة المسيحية التي سمعها. ومع ذلك، في الحوار الذي يتم بين الكاهن وبينه، السؤال الأول هو ماذا تطلب من الكنيسة والله؟ ويجيب: الإيمان، الإيمان كالتزام بالعمق، في الروح، بهذه الكلمة التي تحملها الجماعة المؤمنة التي هي الكنيسة في كل مكان ودائماً.
أي الإيمان كعطاء من الله. فالطقس الرمز للسر هو إذن مختلف عن تصديق الإيمان المعلن مسبقاً، بالسر، في كل الأسرار، المسيحي شريك في الكنيسة ــــ السر؛ ومن خلال هذه الوساطة فقط يستوعب ملء وكلية الإيمان.
مفهوم الأسرار في الكنيسة الجزء السادس
III. الطقوس والإنسان:
لاشك أننا إذا فكرنا قليلاً فإننا نتفاجئ عندما نكتشف إلى أي حد حياتنا مملؤة طقوس. ونتفاجئ أكثر عندما يتوضح كيف أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش بدون طقوس. طريقة اللباس، تحضير المائدة، الاحتفال بالأعياد، كلها قد نعتبرها على أنها مجرد عادات أو تقاليد. في الواقع، في العديد من الحالات، نحن أمام شيء أهم بكثير، وبدونه لا يمكننا أن نعيش كبشر، بدونه لا يمكننا أن نكتشف هويتنا ولا أن نحقق اندماجنا بالمجتمع.
III. 1 ما هو الطقس؟ «الطقس هو عمل اجتماعي رمزي، مبرمج وتكراري، يتم من خلاله تعريف الفرد في المجتمع وتعريف الفئة الاجتماعية في المجتمع العام» (R. Didier).
عمل اجتماعي: الطقس هو قبل كل شيء عمل اجتماعي. أشخاص متنوعة تلعب أدوار مختلف ومكملة بعضها لبعض. فالطقس إذن نشاط اجتماعي حيث كل فرد يجد مكانه فيه. ليس بنشاط مجاني كاللعب مثلاً. على خلاف المشهد، الطقس يدعو لعلاقة، للاتصال بين المشاركين. ليس له هدف إنتاجي مباشر كالعمل.
رمزي: في الطقس كل شيء رمزي بالمعنى الواسع للكلمة: الفاعلين، أعمالهم، الأشياء المستعملة، الخ. زجاجة المشروب، قالب الكاتو، جرس الكنيسة، كلها تتبع إلى عالم خاص من المعاني، حيث يدخل كل الفاعلين وبالتالي يتم الاتصال بين بع هم البعض.
مبرمج وتكراري: كل طقس يتطلب بعض التحديدات المسبقة. لا وجود لطقس دون شعائر، فرائض. عند القيام بطقس ما نعرف مسبقاً ماذا سيحدث، لأنه سبق أن احتفلنا به وسوف نحتفل به لاحقاً. فالطقس يتعارض مع العفوية الصافية، كما مع الإبداع، حتى ولو كان لا بد من القليل من الإبداع لكي يكون الطقس متأقلم مع الواقع.
يتم من خلاله تعريف الهوية: علماء الاجتماع لا يوالون يؤكدون على أن الإنسان لا يجد هويته، لا يثبتها إلاَّ من خلال عدد من التصورات، والوساطات منها الرمز والطقس. مثلاً بعض أنواع الموسيقى، الموسيقى العنيفة والقوية، بعض أماكن لقاء وتواجد الشباب.
بالطبع من الممكن أن يتحول الطقس إلى مجرد تكرار عفوي، وبالتالي قد يتحول إلى شيء من الهروب إلى الماضي والحنين إليه. ولكن بالرغم من ذلك، يبقى للطقس مكانة مهمة في حياة الإنسان وفي تاريخه. فلكي نفهم هذه الأهمية علينا أن نرى أية علاقة للطقس مع الزمن.
III. 2 الطقس والزمن:
التقاليد والإبداع: البعض يعتقد أنه لا بد من الاختيار بين التقاليد والإبداع، وأنه لا بد من القطع الجذري مع التقاليد إذا كنّا نريد الحصول على مستقبل ما. فالتفكير والتاريخ يُظهران جيداً أننا لسنا مرغمين على هذا النوع من الاختيار لا بل بالعكس. فالوردة لا تنبت إلاَّ انطلاقاً من جذورها.
فإذا كان من الممكن للإنسان أن يتجذر في ماضيه لدرجة التعلق الغير سليم، فإنه من الممكن أيضاً أن يجف بدأ من الجذور إذا انقطع عنها كلية. فلا وجود للإنسان بدون لغة، بدون طفولة، بدون عائلة، بمعنى آخر، لا وجود للإنسان بدون حضارة. فالحياة البشرية مهددة بكل لحظة بخطر ظهور المفاجئات، وعدم التناغم، والعشوائية والفوضى.
حتى إمكانية الاستقبال والتجديد في حياة الفرد أو في حياة الجماعة. هذه الإمكانية تبقى مرتبطة بجدية تجذره؟ فالطقس يجد مكانه على هذه الحدود الدقيقة والخطيرة بين الماضي والإبداع. إنه الإعلان العملي لشيء من الاستمرارية.
القوة في الحاضر: للطقوس وظيفة أخرى: إنهم يختصرون، يلخصون ويوحدون وبالتالي يعطون قوة أكبر ومعنى أعمق للحاضر في الواقع. بغض النظر عن الأبعاد النفسية الجزئية العائدة لتنوع الفاعلين في الطقوس (العائلة، العمل، الصداقات، الخ)، الأنا العميقة تسعى لتقول ذاتها، لكي تظهر من خلال الطقوس.
مثلاً عيد زواج لزوج متحابب، مع الهدايا والورود، المائدة المزينة، الخ. أو عيد وطني مع كل الاستعراضات التي ترافقه: هذه الطقوس هي محاولات رمزية للتعبير عمّا يجول في الأعماق والذي لا يستطيع التعبير عن ذاته بسبب الروتين اليومي والهموم اليومية.
دون شك الحدس أو الشعور المسبق الفَرِح بأن ما هو أكثر حقيقية وعمقاً يسعى لكي يظهر من خلال الطقوس. هذا الشعور المسبق، هذا الحدس يجعل الطقوس تتحول إلى أعياد فيما إذا كانت تُعاش بشكل حقيقي وصادق. والسؤال: إلى أي حد الأسرار في الكنيسة هي طقوس؟
III. 3 اصنعوا هذا لذكري: الأسرار هي عمل اجتماعي. كل سر من الأسرار يحتوي على أشخاص بأدوار مختلفة، كل واحد له مكانه، بالإضافة إلى حوار. إنه بالفعل عمل اجتماعي، ولكن الاطار الاجتماعي الذي يرتبط فيه السر هو اطار من نوع خاص جداً.
ما وراء المجموعة الصغيرة التي تحتقل بالسر، هذا الأخير يرسلنا إلى مرجع أساسي وهو الجماعة المؤمنة، الكنيسة، من خلال الجماعة المحلية، فالكنيسة في كل مكان ومنذ البدء حاضرة في الاحتفال بالسر.
السر مبرمج وتكراري. يفترض وجود شعائر وبنية داخلية ثابتة ومحددة. إنه يشكل وحدة منظمة من عناصر مختلفة. لا يمكن أن يُقام السر من قبل أي كان ولا في أية ظروف كانت. هذه الناحية المبرمجة والتكرارية للسر، تعود لكونه ذكرى لحدث الخلاص وبالتالي هو في موقع التقليد.
من خلال الطقوس والسرار ترتبط الجماعة المؤمنة بالأحداث التأسيسية، بأصولها. كل الأسرار هي تحت شعار موت وقيامة المسيح. هذه المرجعية لنقطة محددة، الاهتمام بالعودة إلى الأصل حيث يوجد الأساس، يؤدي إلى اعتناء متطرف للأمانة لهذا التقليد الذي يعيد الزمن.
نعمل كما عمل المسيح، نقول كما قال المسيح. نعمل كالقدماء. هذا الاهتمام في التجذر، في التقليد، في سر هو ذكرى، يمن أن يقود إلى شيء من التحجر والعيش في الآثار. مع العلم أن التاريخ يبين لنا لأن الرغبة في التطابق مع الأصل تصحبها دائماً الإرادة في تأوين هذا الأصل.
فهناك دائماً تعلق في الأشكال التي تأتي من القدماء، وفي الوقت نفسه، هناد دائماً تنوع قد يذهب في بعض الأحيان إلى قلب الرمز والطقوس.
هذا التعلق بالأصل يهدف فقط إلى التأكد من تأوين العمل الخلاصي. فبالأسرار ومن خلال الأسرار يلتحق المسيحي بتاريخ المسيح الذي تم تأوينه، تاريخ أني من جديد. بهذا المعنى الأسرار هي فترات يعيش فيها المسيحي ويعبر عن اللقاء مع الحيّ.
III. 4 أقوال وكلمات: لا يوجد في المسيحية نوعين من الكلام المقدس. من جهة الكلام الذي يريد أن يقول شيء ما لكي يتم سماعه وفهمه، ومن جهة أخرى، الكلمات التي تعود أهميتها فقط لمجرد أن تُقال. هذا الكلام مرتبط بهذا أو ذاك الطقس لكي يكون الطقس صحيحاً أو ساري المفعول. للأسف، في أغلب الأحيان نعتقد أن الأسرار تعمل بطريقة إلى حد ما سحرية.
فالأسرار تتوجه إلى جماعة المؤمنين الذين وصلوا إلى الإيمان بفعل كلمة الله. ولكن الأسرار، كما نعلم، تحتوي على كلام أسراري كعنصر أساسي. ومن المهم أن نفهم مكانته الأصلية. فما هو هذا الكلام وما هي مكانته، وكيف يمكننا فهمه؟
إنها كلمات مرتبطة بعمل، بحركة يقوم بها الكاهن. هذا الأخير يقوم بهذا العمل باسم المسيح والكنيسة وليس باسمه الشخصي. من خلال هذا العمل يقوم الكاهن بما قام به المسيح، لا بل أكثر من ذلك، فالإنسان المسيحي يقول لنا ــــ منذ كتابة العهد الجديد ــــ بأن المسيح هو الذي يقوم بهذا العمل من خلال الكاهن.
فالكلام الأسراري يزهر لنا كقمة الكشف الذي يقوم به المسيح ـــــ الحاضر دائماً في كنيسته ـــــ لكنيسته بخصوص سره الشخصي. يمكننا القول أنه عندما يحي المسيح فينا الإيمان، ينور إيماننا بعطائه لنا إمكانية معرفته والاعتراف به ككلمة حياة. يمكننا القول بأن هذه الكلمة هي الكلمة القاطعة. في كل الأحوال الكلام الأسراري يعتبر كاستمرارية لعمل التبشير:« كلما أكلتم من هذا الخبز، وشربتم من هذه الكأس، تعلنون موت الرب إلى أن يأتي» (1 قور 11، 26).
فالأسرار المسيحية ليست تكراراً لكلمة تُقال، بل لكلمة تتكلم اليوم والآن: «الكلام الذي كلمتكم به روح وحياة» (يو 6، 63). في النهاية نقول بأن حضور الروح القدس في الجماعة المؤمنة، في قلب الإنسان المسيحي، هو الذي يسمح للأسرار الكنسية أن تتجاوز حدود الرمز والطقوس كما تدرسهم وتحللهم العلو الإنسانية. وذلك لكي يعطيهم إمكانية تحقيق ما يعبّرون عنه.
مفهوم الأسرار في الكنيسة الجزء الخامس
ΙΙ. 4 السر هو رمز: سبق وقلنا أن الحضارة هي جملة من الأنظمة الرمزية. على هذا الصعيد، يبني المسيحي ذاته ضمن مجموعة، مجتمع رمزي: الكنيسة جماعة المؤمنين. فأن يكون الإنسان مسحي، هذا يعني الدخول في عالم منظم بقوانين وبتقاليد، بالحقوق والعقائد: عالم يعبّر عن ذاته من خلال لغة، وأبنية، وأعياد واحتفالات، الخ. فالرمز على هذا الصعيد، هو بمثابة الوتر لكل ما سبق وقلناه بخصوص الأسرار.
ولكن الأسرار تبدو لنا على أنها لقاء الرمز، الواقع الإنساني الأساسي، مع الكلمة المسيحية بما فيها من مرجعية خاصة بها: عطاء الله بيسوع المسيح. ففي العماد، التغطيس بالماء يستعمل رمزية الماء بشكل عام. فالماء، أم الحياة، تنظف وتجدد وتطهر، ولكن، كما يقول القديس اغسطينس، الكلمة هي التي تظهر.
فإذا ألغينا الكلمة، فما هي الماء سوى ماء. والكلمة تُضاف إلى العنصر وهذا الأخير يصبح سر كما لو أنه كلمة مرئية. «إنكم دفنتم معه بالمعمودية وبها أيضاً أُقمتم معه» (كول 2، 12).
الماء بالنسبة للمسيحي ليست فقط الحياة أو الطهارة. إنها قبل كل شيء ماء الروح. روح الخلق الأولى، الطوفان، البحر الأحمر، ماء الصخرة في صحراء الأردن. الماء الذي خرج من جنب المسيح على الصليب. ماء وروح الخلق الجديد. الخبز والخمر، المائدة المشتركة. هي مَنّ الصحراء وإيليا النبي في جبل حوريب، تكثير الخبز، خبز الحياة، العشاء الأخير.
عندما وجد كل من الخبز والخمر مكانهما في الافخارستيا، كان معناها الإنساني قد تطور وعبر بمراحل عديدة.
على الصعيد الأول: كثمر الأرض وعمل الإنسان، الخبز والخمر يرمزون إلى تملك الإنسان للكون. فالإنسان كما نعلم، انطلاقاً من هذه العناصر البسيطة جداً طور غذائه، فجعل منهم غذاء إنساني. بفضل التقدم العلمي والتقني، هذا التقدم هو في الوقت نفسه عملية تملك بمعنى إدخال واقع ما إلى واقعي الشخصي.
بهذا المعنى لم يعد الخبز والخمر عبارة عن منتج طبيعي، بل منتوج حضاري حصيلة عمل إنساني يعطي معنى للأمور وللأشياء. فالخبز كنموذج للغذاء الذي يعطي طاقة للإنسان، غذاء ينتجه الإنسان، يتحول إلى صورة للحياة. والنبيذ كنموذج للشرب والاحتفال العادي، يتحول إلى صورة للفرح.
ملاحظة مهمة: هنا مثلاً نحن على صعيد الخيال أو المخيلة.
على الصعيد الثاني: المائدة المشتركة، أن يأكل الإنسان ويشرب بشكل جماعي ــــ وهذا الأمر له بحد ذاته قيمة محض بيولوجية ــــ تتحول بدورها إلى تعبير عن التضامن الأخوي، حميمية العلاقات الشخصية، تصديق أو الموافقة على اتفاق وعهد، خاتم الصداقة.
ملاحظة: هنا نحن على الصعيد الرمزي، وعلى هذا الصعيد نجد استعمال الخبز والخمر في العديد من الأديان.
على الصعيد المسيحي: في المائدة الفصحية، المشاركة في الخبز والخمر له معنى خاص جداً ومتعلق بالدث الأساسي: الخروج من مصر. والمسيح لم يستعمل أي خبز ولا أي خمر لكي يحتفل مع تلاميذه بعطاء ذاته حباً بأخوته البشر وبأبيه السماوي. إنه يقوم بعمل له علاقة مع كلية تاريخ الخلاص وبعلاقة مع الطقوس الفصحية.
بهذا المعنى يأخذ خبز الفطير الفصحي الذي يذكر بالخروج من مصر، من أرض العبودية إلى أرض الحرية. رمز حياة الإنسان التي تنتهي بالموت.
الخمر يرمز إلى شيء آخر تماماً. إنه يرتبط عملياً بالدخول إلى أرض الميعاد. رمز ملء الحياة. ويسوع يقول «لن أشرب بعد الآن من عصير الكرمة هذا حتى ذلك اليوم الذي أشرب فيه معكم جديداً في ملكوت أبي».
هذه الرمزية الجديدة، إذا كانت متأصلة في معنى أولي، فإنها تتجاوزه ومن بعيد. فالرمزية الأساسية (الماء، المائدة) ينقلون معنى آخر، معنى آتٍ من تاريخ الخلاص، وبشكل خاص من سر الفصح. هذا يعود إلى أهمية الكلمة التي وحدها، تستطيع الكشف عن غنى وعمق الرمز. فالرمز بحد ذاته ليس مرتبطاً بالماضي، بالتاريخ: في الأسرار ما هو إلاَّ الخلفية التي يظهر عليها الوجه الحقيقي للسر.
مهما كانت أهمية الكلمة في السر، علينا أن لا ننسى بأن هذا الأخير ليس بخطاب أو بموعظة، بل عمل من نوع حاص جداً. عمل رمزي، يمكننا القول بأن الرمز يحتوي على قوة بمقدار ما يكون محمّلاً بنقل التاريخ والتقليد. وبقدر ما يمد جذوره في أعماق اللاوعي الشخصي والجماعي. فقط العمل بإمكانه تأمين هذين العاملين.
مفهوم الأسرار في الكنيسة الجزء الرابع
II - الرمز: يكفي أن ننظر قليلاً إلى أسرار الكنيسة لكي نلاحظ على أنها مبنية ومؤسسة على الرموز، على لغة رمزية. الماس، والخبز، والخمر، النور والزيت، كلها رموز محمّلة بمعان روحية مهمة: الحياة والقوة، نور الله الخ. ولكن ما معنى الرمز. وما هي مكانته ودوره.
II.1 خلق علاقات: كلمة رمز تأتي من اللغة اليونانية التي تعني قطعة، تذكرة مقسومة إلى قسمين: تقارب القسمين يُعتبر علامة اعتراف أو معرفة، علامة الوحدة والصداقة بين شخصينـ أو مجموعتين. الوظيفة الأولى للرمز هي إقامة علاقة بين الناس. فالرمز هو عمل اجتماعي، وهذا أمر مهم وعلينا أن لا ننسر هذه الناحية منه. بهذا المعنى نتحدث عن «قانون إيمان الرسل» « symbole des apôtres»: ترداد هذا القانون للإيمان كان ــــ ولا يزال ــــــ علامة الاتحاد والوحدة بين المسيحيين والجماعات المسيحية.
انطلاقاً من هذا المعنى الأول، تم اعطاء معنى الرمز لكل واقعة ملموسة، ترسلنا بطريقة ما، إلى شيء آخر أو ما لا يمكن أن إدراكه. باقة من الزهور نقدمها لأحد ما، تعني العاطفة التي تتجاوز ما يمكن أن نقوله الكلمات؛ يد ممدودة ترمز إلى الصداقة أو إلى عهد بين شخصين؛ الوليمة ترمز إلى الوحدة والمشاركة الإنسانية؛ الغطس في المياه يرمز إلى الموت الخ.
II. 2 ثقافة، عالم رمزي: هذه الإمكانية في خلق المعنى، في خلق العلاقات، في تحديد المعاني، هذه الإمكانيات هي التي تسمح للإنسان بخلق الثقافات والحضارات الإنسانية. كمعنى أولي وواسع، يمكننا القول بأن الرمز يعني جملة من المعاني التي تتنقل ضمن حضارة معينة والتي من خلالها تجد المجتمعات والفراد هويتهم. (r. Didier).
يقول كلود ليفي ستروس (Cl. LEVI-STRAUSS) عالم الأنثروبولوجيا المعروف: «كل ثقافة أو حضارة يمكن اعتبارها كجملة من الرموز أولها هي اللغة، قواعد الزواجـ العلاقات الاقتصادية، الفن والعلم والدين».
يمكن بالواقع اعتبار الحضارة كجملة معقدة من التصورات والمعاني، أو كقواعد للعلاقات الإنسانية وللقيم، قواعد مفتاحها مدفون في عمق قلب الإنسان، في ضميره الأكثر عمقاً، في كل لحظة من تربيته.
هذا المفتاح يسمح للإنسان في كل لحظة من لحظات وجوده، أن يفكّ الرموز ويقرأ المعاني الخاصة بمجموعته. مثلاً طريقة الاستقبال لا يمكن فهمها وتأويلها وتفسيرها إلاّ ضمن إطارها الحضاري والثقافي. وهذا المعنى ليس شامل. كل حضارة هي عالم من الرموز، بنية خاصة، تنقلها وتكشفها اللغة.
فالإنسان لا يكتشف هويته الاجتماعية، والمجموعة لا تجد تلاحمها ووجودها، إلاَّ من خلال هذه السلسلة المذهلة للرموز التي تحدد التصرفات في كل أشكالها العملية. هذه الجملة من الرموز اخترعها الإنسان، وتعود إلى شيء من التصورات إن صح التعبير: ولكن غيابها يولد القلق والفوضى التامة.
هناك عدد هائل من القواعد الرمزية التي تحدد اختيارات الإنسان بشكل قاطع وحتمي أكثر بكثير مما يتصوره. قواعد التهذيب، اللباقة، اختيار الملابس، والسيارة ومكان السكن، الشهادات العلمية وغيرها، الخ. كلها تعطي للإنسان، لكل إنسان وجوده وهويته. واللغة هي، بدون شك، الوسيلة الممّيزة لنقل وتناقل هذه البنى الرمزية لحضارة معينة.
ΙΙ. 3 البشر وتاريخهم: الإنسان، عمل الإنسان الرمزي هو الذي يحول شيء ما أو عمل ما أو كلمة ما، يحولها إلى شيء مختلف. علامة أو ذكرى معينة لواقعة أشمل، أعلى. هذه العملية تجعل من الشيء، من العمل أن من الكلمة، رمز، أي نوع من الخليط بين الواقع الخام والواقع الآخر الذي ينوه الرمز إليه ويعبّر عنه.
المعنى الموظّف في شيء ما أو في عمل ما يكون إلى حد ما غني. كما أنه يتطور. وبقدر ما يكون المعنى غني، يكون الدور الاجتماعي للرمز مهم. إشارات المرور مثلاً (ممنوع المرور، ممنوع الوقوف، الخ) هي علامات وليست برمز. الوردة الحمراء تغير رمزها بعد أن أخذ عيد الحب أهميته المعروفة.
ملاحظتين:
* العلوم الإنسانيةبمجملها، التحليل النفسي وعلم نفس المجتمع، يحملون لنا نظرة جديدة لمفهوم الرمز ويجعلوننا نكتشف أهميته ومكانته سواء على الصعيد الفردي أو على الصعيد الجماعي. يكفي أن نقرأ الرموز في الحلام أو على صعيد الأسطورة واللاوعي الجماعي.
* بالإضافة إلى اللاوعي، هناك ما وراء الواقع والخيالي، بنية عميقة جداً يمكن أن نسميها البنية الرمزية لدى الإنسان. مثلاً العزوبية أو البتولية، هذا يعني عدم وجود شريك. هذا هو الواقع. أمّا الخيالي، فهو جملة من التصورات والأفكار (الهواميات) التي قد ترهق أو تقتحم البتول: لست برجل، لست بامرأة حقيقية... بينما الرمز، كما نعلم، بالنسبة لمن اختار بحرية البتولية، يرسل إلى البعد المطلق للملكوت وللعطاء إلى الله.
مفهوم الأسرار في الكنيسة الجزء الثالث
- 6 الأسرار السبعة: مؤخراً، حوالي القرن الثاني عشر تم تحديد عدد الأسرار بالسبعة، من قبل الكنيسة. بعض لوائح القرون الوسطى تتحدث عن أكثر من مائتي سر. نجد فيها العماد، غسل الأرجل، الدخول في الحياة الرهبانية، مسحة الملوك، اللباس الرهباني، التوبة، وتسليم الصليب للأسقف، الخ.
تكون العدد السبعة انطلاقاً من التنشئة المسيحية: العماد، التثبيت أو سر الميرون، والإفخارستيا. وتم إضافة كل من سر مسحة المرضى، والكهنوت وسر المصالحة، وأخيراً وليس بدون مقاومة، في القرن الثاني عشر الزواج.
بعض الملاحظات:
* المعنى الرمزي للرقم سبعة لعب دور جذري، الرقم سبعة هو رمز الكلية، رمز الكمال والتلخيص. فالتوقف عند الرقم سبعة للأسرار يعود للتعبير عن كلية عطاء الله في كلية الحياة الإنسانية أو بمعنى آخر، يرمز للتعبير عن الأسرارية الشاملة التي تحدثنا عنها.
* من الخطأ أن نعطي الأهمية ذاتها لكل من الأسرار السبعة. لا يمكن أن نضع على نفس المستوى الإفخارستيا أو العماد من جهة، ومسحة المرضى أو الزواج من جهة أخرى.
* القديس واللاهوتي الكبير توما الأكويني هو أفضل من بين الانسجام والتوافق الداخلي للأسرار السبعة. يقول إنه لكل الحياة، كل النعم. على الولادة تجيب المعمودية، الولادة الجديدة. كذلك الإنسان ينمو ويتطور، فالتثبيت أو سر الميرون يقوي ويدفع باتجاه الكمال الحياة الفائقة الطبيعة.
وكما أن الحياة والقوى عليها أن تُصان من خلال الأكل والشرب، هكذا أبناء الله لهم غذائهم: الإفخارستيا. وكما أن المرض يُعالج، هكذا التوبة وسر المصالحة ومسحة المرضى يمكنهم أن يشفوا ويعيدوا حياة النعمة. سرّين آخرين يشملون الحياة الاجتماعية للإنسان؛ فالمجتمع الإنساني عليه أن يمتد وينمو وتتم أدارته. هكذا سري الزواج والكهنوت يؤمنان استمرارية الكنيسة وإدارتها.
علينا التحفيف من جاذبية هذا الشرح لكي لا ننتهي بأن نعتبر الأسرار على أنها مجرد «تقديس» لأزمنة خاصة وللأبعاد الأساسية للوجود الإنساني.
- 7 أسئلة جذرية: أحد الأسباب الكبيرة لصعوبة فهم الأسرار تعود لكوننا في أغلب الأحيان نعتبرها كوقائع بحد ذاتها، معزولة عن كل إطار. في هذه الحالة لا يمكن للأسرار إلاَّ أن تظهر كأعمال خرافية وسحرية، التي من خلالها ندعي أننا نتفوق على الله أو على النعمة التي تحولت إلى شيء.
بشكل خاص، الرابط لا يظهر بالكفاية ـــــ ولا في العقليات ولا في طرق الاحتفال ــــــ بين السر نفسه من جهة والمسيح والكنيسة من جهة أخرى. ممّا يعود بالتأكيد، إلى محو كل ما قلناه حتى الآن. نتحدث عن المعمودية على أنها تعطي الحياة الفائقة الطبية وتمحو الخطيئة الأصلية وتعطي الخلاص دون أي ذكر لا للمسيح ولا للكنيسة.
كانت ولا تزال الأسرار منفصلة عن الحياة بشكل عام: إنها أوقات بدون زمن يتناسب معها ويمكنه وحده أن يعطي معنى للحظة. فالأسرار في هذه الحالة تظهر كقطرات تغذية عرضية يسقط من العلى «بالمظلة»، ولا كعلامات مميّزة لعطاء لكل لحظة. هذا يعني النسيان بأننا مدعوين للدخول في وجود له تماسكه وتاريخه.
مفهوم الأسرار في الكنيسة الجزء الثاني
2.1 السر: كلمة سر في الكنيسة تعني ما لا يمكن إدراكه بشكل كلي ولمرة واحدة، المخفي يكشف عن ذاته، المُكتشف لكن غير ممسوك به، أو المستولى عليه. والفصل الثالث من رسالة بولس إلى أهل أفسس يُبين لنا غنى معنى كلمة السر. هكذا هو سر الوجه المحبوب الذي يسحرني ومع ذلك لا ينتهي أبداً من كشف ذاته.
بقدر ما أعرف من أحبّ، يظهر السؤال الأكثر فأكثر إلحاحاً، في قلب هذا الجواب الذي تُظهره الابتسامة: من أنت؟ كلمة أوحى تعني كشف عن، رفع الحجاب. فإذا كان من الممكن تحديد الوحي والكشف، في لحظات مميزة، في حركات، أوقات، علينا أن نعلم أن كل شيء هو «سر».
وكل شيء هو لغز، وكل شيء هو أثر، ذلك فيما إذا كانت الكلمة الأخيرة للتاريخ البشري الجماعي والفردي، تكمن في مجيء هذا الآخر، وإذا كان صحيحاُ أن هذا الآخر هو حاضر إليّ أكثر من ذاتي، فمن جهة أخرى، لا ينتهي أبداً من الكشف لي، في الحركة نفسها وجهي ووجهه.
بهذا المعنى الواسع لكلمة «سر»، ويمكننا القول المعنى الغاض كثيراً، استعملت هذه الكلمة خلال قرون. وبهذا المعنى كان يعتبر القديس أغوسطينس أن كل واقعة مخلوقة هي سر، بقدر ما تُعاش على أنها علامة، أثر للذي لا يُرى، وكشف لسر الله.
- 3 يسوع السر الأول: السر الأول، السر الأولي والقاطع، هو يسوع الناصري. من خلال إنسانيته، أعماله وحريته، من خلال موته وحياته، يكشف يسوع سر حضور الآب. إذا كان هو الحق والحياة، فهو أيضاً الطريق نحو الآخر «أنا والآب واحد.. من رآني فقد رأى الآب».
يسوع هو الكشف عن الذي يدعوه أباه. ولكن إذا كان يسوع هو الكشف الكلي للآب، فهذا لا يعني مطلقاً أنه يتماهى تماماً معه. يسوع إذن هو سر لقاء الله، علامة مميّزة وأساسية لحضور شاكل، هذا الحضور الذي «يشد» ويؤسس لكل حياة العالم والبشر «يعطي ذاته للنظر» في وجه وتاريخ مقروئين. إذا كان الله يوحي بذاته، فهذا يعني أننا لا نراه.
4.1 الكنيسة، سر المسيح والملكوت: يمكننا القول بأن الكنيسة بدورها، هي سر المسيح، وبه، سر كشف السر أي بمعنى آخر، ما نسميه الملكوت. إن فكرة الكنيسة كسر تبدو للعديد من اللاهوتيين كالفكرة الأساسية، للمجمع الفاتيكاني الثاني. وردة فعل العديد من آباء المجمع تعبّر عن مقاومتهم لهذه الفكرة من خلال عبارات من نوع: «كن أعتقد أنه هناك سبعة أسرار... علينا إذن أن نضيف سر ثامن!».
ممّا يعني أنه لا يمكننا أن نفهم الأسرار بدون أن نفهم أولاً «الأسرارية» بشكل عام، وبشكل خاص الكنيسة ــــــ سر. «المسيح الذي استقبل كل قدرة في السماء وعلى الأرض أسس كنيسته كسر للخلاص» (إلى الأمم 5).
الكنيسة هي الكشف، للبشر، عن دخول الله بيسوع، في تاريخ الخلاص. إنها علامة حدث الخلاص، الحاضر والفعال في العالم من خلال إعطاء الروح القدس. وبولس الرسول لا يتردد أن يسميها هي أيضاً، سر أي الحضور المحجوب، الكشف والسر، لله المخلص. من خلالها وفيها (وساطة)، يكشف وجه يسوع ذاته ويصدو نداء العابر.
- 5 أزمنة وأوقات: سوف تبدو لنا الأسرار كلحظات مميزة للقاء الإنسان بالله الآتي. ولكن أهمية هذه الأوقات عليها أن لا تجعلنا ننسى بأن اللقاء لا يُختزل بهذه الأوقات. إنها تتسجل في زمن هو زمن الإنسان، زمن الحياة.
وجود يسوع لم يكن أولاً وجود طقسي أو ديني. فمن خلال كل من أعماله، كل من مواقفه، أظهر يسوع وجه الآب. هذا الوجه يكشف عن ذاته بطريقة وجود يسوع أمام المرأة الزانية أو أمام زكا العشار، كما في الإعلان الاحتفالي للتطويبات.
كذلك كثافة حياتنا اليومية هي مكان اللقاء والكشف. يتم التحدث بهذا الخصوص عن «سر الأخ»، وفي الواقع بإعلان: كل ما فعلتم لأحد أخوتي هؤلاء الصغار فلي فعلتموه، يعلن يسوع أن الحب وخدمة الأخ، وخاصة الأخ الذي هو في الضيق، هو المكان، وسر، ووساطة اللقاء معه. الآخر الذي نلتقي به كل يوم، هو إذن بالنسبة لنا سر اللقاء مع يسوع وبيسوع اللقاء مع الآب.
في هذا الكشف المستمر لسر الله في قلب زمن الجماعة المؤمنة، تظهر أوقات مميّزة تحقق بطريقة محددة أكثر هذه الفكرة للأسرارية التي استعملناها حتى الآن بمعناها العام.
يسوع هنا، حاضر في كلمته، لأنه هو الذي يتكلم بينما نقرأ في الكنيسة الكتب المقدسة. أخيراً إنه حاضر عندما تصلي وترتل الكنيسة، هو الذي وعد: «حيث اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون بينهم» (المجمع الفاتيكاني الثاني. لترجيا 7).
إعلان كلمة الله، صلاة الجماعة المؤمنة، هذه الأوقات معترف عليها على أنها مميّزة، في هذا الوقت الطويل الذي خلاله تكتشف الجماعة المؤمنة، في الحركة عينها، وجه الله ووجهها هي.
كلمة الإيمان تعود، هي أيضاً بطريقة ما، إلى الأسرارية. لغتها لا يمكن إلاَّ أن تكون رمزية، حدودية. الاندماج بين الحضور والغياب الذي يميّز هذه اللغة يعود إلى كونها عبور بين المعروف والمجهول، بين المعبّر عنه وبين ما لا يمكن أن يُقال. فالكلمات ليست سوى «أيقونات شفهية»، أي شيء من شفافية الذي لا يوصف. وهذا يميّز ما نسميه بالأسرارية.
أخيراً، بين هذه الأوقات المميّزة، عدد منها تم تثبيتها تدريجياً من قبل الكنيسة على أنها طرق خاصة لا يمكن أن تتغيّر للاتصال بين الله والبشر وللدعوة إلى العبور. هذه الطرق نسميها الأسرار.
مفهوم الأسرار في الكنيسة الجزء الأول
مفهوم الأسرار في الكنيسة
مقدمة: وجه يسوع له تأثير فاتن جديد على الكثير من معاصرينا. بازوليني « Pasolini » في فيلمه الإنجيل بحسب متى، لويس بينيل « Luis Bunuel » فيلمه الطريق اللبني، ويليم رايش « Wilhelm Reich » وكتابه قتل يسوع، يشهدون من بين آخرين كثر عن إمكانية إنسان ماركسي، أو سوريالي، أو فيلسوف أن يعترفوا بيسوع الإنسان الحر بامتياز، المحرّر والنبي. ولكن هذا الاكتشاف لوجه يسوع لا يقود بالضرورة إلى الكشف في وجه هذا الإنسان وجه الله.
أن يكون الإنسان مسيحي، هذا يعني الاعتراف بيسوع الناصري ليس فقط كنموذج ومرجع، إنما الحيّ والمخلّص. باختصار، الإعلان بأنه الرّب. واعلانه بأنه الرب، يعني التأكيد بأنه ما وراء الموت، يسوع القائم من بين الأموات هو معاصر لكل لحظة من تاريخ البشر، من تاريخ كل إنسان.
هنا تكمن بالحقيقة عتبة الإيمان المسيحي. «وإِنَّما كانَ بَينَهم وبَينَه مُجادَلاتٌ في أُمورٍ تَرجعُ إِلى دِيانَتِهم وإِلى امرِئٍ اسمُه يسوع قد ماتَ، وبولُسُ يَزعُمُ أَنَّه حَيّ» ( أع 25، 19). وهذا ما يُسمى بالخبرة الفصحية.
«وأنا معكم كل الأيام حتى انقضاء الدهر» (متى 28، 20). إذا كان يسوع حيّ، فقد أصبح قادر، في إنسانيته، أن يدخل في علاقة مع البشر في كل الأزمنة. وبالتالي قادر على أن يكرر اليوم، لكل واحد وواحدة منا، ما قام به في السابق لبعض الناس في منطقة نائية من الإمبراطورية الرومانية.
كيف سيتم لقاء الجماعة المسيحية مع من تعلنه على أنه الربّ؟ على هذا السؤال كانت الجماعة المسيحية الأولى تحاول الإجابة. بنقلها لكلمات وأعمال يسوع الناصري، وبكتابتها لما نسميه بالعهد الجديد.
لنتذكر رواية تلميذي عمّاوس. في مساء الفصح، تلميذين تعيسين ومحبطين، يسيران من القدس إلى عمّاوس. يسوع يلتحق بهما ويسير معهما. «ولمَّا جَلَسَ معَهُما لِلطَّعام أَخذَ الخُبْزَ وبارَكَ ثُمَّ كسَرَهُ وناوَلَهما. فانفَتَحَت أَعيُنُهما وعرَفاه فغابَ عنهُما.
فقالَ أَحَدُهما لِلآخَر: أَما كانَ قلبُنا مُتَّقِداً في صَدرِنا، حينَ كان يُحَدِّثُنا في الطَّريق ويَشرَحُ لنا الكُتُب؟
وقاما في تِلكَ السَّاعَةِ نَفْسِها ورَجَعا إِلى أُورَشَليم، فوَجَدا الأَحَدَ عشَرَ والَّذينَ مَعَهم مُجتَمِعين، وكانوا يَقولون إِنَّ الرَّبَّ قامَ حَقاً وتَراءَى لِسِمْعان. فرَوَيا ما حَدَثَ في الطَّريق، وكَيفَ عَرَفاه عِندَ كَسْرِ الخُبْز».
رجال يسيرون على الطريق، لقاء مع المسيح في الكلمة ثم في كسر الخبز، إعلان البشرى السارّة. لا شك بأن هذه الرواية هي رواية لترجية، تسمح للجماعة المسيحية الأولى أن تفهم كيف، من خلال حركات تقوم بها بعد موت يسوع، من خلال المشاركة في الكلمة وكسر الخبز، تلتقي بالحقيقة مع المسيح.
وبدورنا، علينا أن نعيش ما نسميه بالتأوين. أي مقابل الكلمة يمكن أن تولد، بالروح القدس، عمل وكلمة الإيمان. لغاتنا هي بمثابة وساطات تسمح لنا في آنٍ معاً، أن نسمع هذه الكلمة ونقولها، ولكن هذه اللغات هي حضور وغياب. آثار، أسهم وحلقات، يمكنها أن تكون لغات رمزية.
وعندما نؤكد أن الرمز وحجه يمكنه أن يعبّر عن الخبرة الإيمانية، نبدأ بالتفكير حول ما يخص مفهوم الأسرار في الكنيسة.
I – علامات العابر : « فهو الَّذي نَجَّانا مِن سُلْطانِ الظُّلُمات ونَقَلَنا إلى مَلَكوتِ ابنِ مُحَبَّتِه، فكانَ لنا فيه الفِداءُ وغُفْرانُ الخَطايا. هو صُورَةُ اللهِ الَّذي لا يُرى وبِكْرُ كُلِّ خَليقَة» (كول 1، 13 - 15). مرموز له بفصح المسيح، الخلاص هو ذاك العبور من الظلمات إلى النور، ومن الموت إلى الحياة، من العبودية إلى الحرية. فالعابر يأتي إلينا وبطرق مختلفة يجعلنا نحن أيضاً أن نعبر.
1.1 الوساطات: ظهور الآخر، انبعاثه في تاريخ البشر، في تاريخ كل إنسان، هذا هو الحدث الذي يلد الإيمان مقابله. واللقاء مع هذا الآخر الذي يقدم ذاته للإنسان هو اليوم. فهو ليس من مجال المعرفة النظرية أو الحصول على معلومات. إنه من مجال الحدث الذي يجيب على حدث آخر.
ولكن هذه اللقاء ليس مباشر. لا يمكن أن يتم إلاَّ من خلال وساطات. عفوياً نترجم كلمة وساطة بوسيط، مشيرين بذلك إلى شخص أو واقع يقيم جسرا أو يخلق رابط. نتحدث مثلاً عن «وسيط بين متحاربين». ولكن ليس هذا المقصود بكلمة وساطة.
أقول، مثلاً، لا يمكنني التواصل مع الآخر إلاَّ من خلال جسدي، أي من خلال حركاتي ولغتي وابتسامتي ومواقفي. ولكن مع ذلك، جسدي ليس فقط مجرد قناة أو ممر، «وسيلة ستسمح لي بأن...». جسدي ليس غيري، إنه أنا في حالة إمكانية الاتصال. أنا حاضر مباشرة لما من خلاله أعبّر عن ذاتي.
إنني في الجسد الذي يعبّر عني، أنا الجسد الذي يعبّر عن ذاته. ومع ذلك أناي « mon moi » لا تُعادل جسدي. فأنا أكبر من جسدي. بهذا المعنى نقول بأن إنسانية يسوع كانت الوساطة الوحيدة التي تسمح باللقاء بين الله والإنسان، بين الإنسان والله. إذا أتى الآخر إلينا، فلا يمكنه أن يأتي بشكل مباشر.
ما من أحد يمكنه أن يرى الله إلاَّ ويموت. إنه يُزهر ذاته، وإذا هناك شيء أو أحد ما يُظهر ذاته، فلأننا لا نراه. فهو سيعطي ذاته لنراه، يُظهر ذاته. كلمة الظهور باليونانية تعني أيقونة. «إنه أيقونة الله الغير مرئي» (كول 1، 15).
الإيمان على ضوء مسيرة إبراهيم 3
مسيرة بطرس الإيمانية
إن الاختبار الأساسي لتلميذ المسيح هو اكتشافه لعمل الله في حياته، وكيف أن المسيح أتى ليخلص الإنسان وينقذه من اليأس والقنوط ويخرجه من الانغلاق والموت، ويحرره من سجن الخطيئة «إن ابن الإنسان جاء ليبحث عن الهالك فيخلصه» (لو 19، 10). وهذا ما يكتشفه بطرس في لقائه الأول مع يسوع (لو 5، 1-11). سوف نتأمل في هذا المشهد ونحاول أن نرى تطور العلاقة بين بطرس ويسوع.
في المشهد الأول نرى الجموع المحتشدة حول يسوع، التي أتت إليه لسماع الكلمة، إنها تحيط به وتزحمه، لدرجة، أنه لا يستطيع أن يرى الجميع، لذلك يطلب من أحد الصيادين أن يركب سفينته ويبتعد قليلاً عن الشاطئ حتى يراه الجميع. يمكننا تصور مشاعر بطرس: إنه فخور بأن المعلم اختار سفينته، وصعد إليها، وسوف يتحدث بذلك الصيادون والقرية كلها. وهذا ما يملأ قلبه فرحاً وسروراً، فهذا الزائر الغريب يُشعره بقيمته وأهميته.
ولكن بعد أن ينتهي المعلم من تعليمه، يُفاجئ بطرس بطلب غريب لم يكن يتوقعه: إنه يطلب منه أن يسير إلى العمق ويرمي الشباك. عند هذا الطلب يتسرب الشك إلى قلب بطرس، فالنهار في نهايته، ووقت الصيد قد انتهى، وخبرة الليلة الماضية باءت بالفشل. ويقع في حالة إحراج، فهل يستجيب لطلب المعلم، وهو صياد السمك المحترف الذي يعرف منذ نعومة أظفاره قوانين الصيد وفنونه؟ وماذا لو فشل، وهذا أمر مُتوقع؟
أفلا يصبح في هذه الحالة موضوع سخرية الناس وزملائه الصيادين؟ هل يترك نفسه تنقاد لهذا الزائر الغريب؟ تساؤلات جالت في خاطر بطرس للحظات قليلة، ولكنه قرر أن يبدي نوعاً من الاعتذار المهذب: «يا معلم قد تعبنا الليل كله ولم نصد شيئاً». إن التعب حجة يصعب ردها، فلا أحد يستطيع أن يطلب من الآخر ما هو فوق طاقته، وخاصة إذا ما رافق الفشل هذا التعب، عندها يسيطر اليأس والشعور أننا أمام طريق مسدود.
إن موقف بطرس حرِج للغاية. فهو من جهة يلمس حدود قدرته، ويعرف بالخبرة حدود الممكن، خاصة وقد باءت جهوده طوال الليل بالفشل، ومن جهة أخرى يشعر بشيء من الثقة بهذا المعلم الذي كرّمه بالصعود إلى سفينته، فهل ينغلق على فشله ويأسه أم يقامر على هذه الثقة ويتجاوز تعبه ونظرات السخرية؟
في مواقف كهذه تظهر أعماق شخصية الإنسان الحقيقية، هل تنطلق من الثقة والإيمان في الحياة أم يحركها القلق والخوف؟ لقد انتصرت الثقة لدى بطرس وراهن على كلمة يسوع، ففُتحت له آفاق جديدة: «بناءً على قولك ألقي الشباك». بيني بطرس مستقبله على كلمة يسوع، إنه موقف الإيمان، قاعدة وأنموذج لموقف الإنسان أمام الله، حيث كلمة الله تبقى الملجأ للإنسان وغذاءه ونوره في أثناء المحن والصعوبات.
إن بطرس يصبح مثالاً للإنسان الذي يجازف بمصيره، رافضاً منطق الحسابات والمصالح الشخصية، وبانياً رجاءه على كلمة الرب. هذه هي الميزة الأولى لتلميذ المسيح. فمن يسمع كلمة الله ويعمل بها، يمكنه الانتماء ليسوع، ويصبح أخاً له وأختاً وأمّاً، وعندها فقط يستطيع أن يثبت فيه ويثمر. فعندما نبحث عن النجاحات السريعة، والمصالح الخاصة، ولا نهتم إلاَّ بمكانتنا الاجتماعية، وبما يقوله الناس، معنى ذلك أننا بعيدون جداً عن روح الإنجيل.
فمن العلامات التي تميز التلميذ الحقيقي ليسوع هي قدرته على الرجاء بكلمة الله، وتركه جانباً مصلحته الشخصية وإلاَّ يكون أسيراً للمنطق البشري. إن بطرس يغامر وتأخذه روح المجازفة التي تعبّر عن الحب، ويرمي بنفسه في العمق إكراماً ليسوع، فيلقي الشباك إيماناً منه بكلام يسوع، فتمتلئ حتى تكاد تغرق. فماذا جري عندئذ؟
لقد حدث غير المتوقع، غير المُنتظر. فبعد ليل من العمل المضني غير المثمر تمتلئ فجأة الشباك حتى تكاد تتمزق، وهنا يكتشف بطرس قوة الله العاملة في يسوع، فيرتمي على قدميه ويقول له: «تباعد عنّي يارب، إنني رجل خاطئ». لقد وجد بطرس ذاته أمام حضور لم يألفه، حضور يكشف له واقعه البائس، لقد أظهرت قوة يسوع واقع بطرس الخاطئ، فأمام قوة الله وقداسته، اكتشف حياته بصورة جديدة. أمام القداسة الكلية، يكتشف الإنسان اللاقداسة فيه.
ولكن يسوع لا يسعى إلى إذلال بطرس، أو وضعه في مأزق حرج، ولا يقول له: لأنك يا بطرس تريد أن تتبعني ولكن تذكر بأنك رجل خاطئ، وعليك قبل كل شيء أن تندم على خطاياك، وأن تتطهر قبل الانضمام إليَّ، فعلى العكس من ذلك تماماً، فإن يسوع يحمل بطرس على القيام بتجديد إيمانه.
إن اكتشاف الإنسان لبؤسه وضعفه قد يقود إلى اليأس والقنوط، إذا كان هذا الاكتشاف وليد الوعي الذاتي المنفرد، ولكن هذا الوعي قد يصبح انطلاقة جديدة وتحرراً داخلياً إذا تمَّ انطلاقاً من قوة الله ورحمته. يسوع لم يعزز إذن لدى بطرس الشعور بالخطيئة، بل يقلب المواقف ويوكل إليه مهمة المساهمة في عمله ألخلاصي: «لا تخف ستكون بعد اليوم صياداً للناس». فمن هذا الإنسان الذي يعترف بشكل عفوي بضعفه وفقره الروحي، يخلق يسوع رسولاً يحمل البشارة للآخرين. فمحبة الله ليست وليدة استحقاق البشر بل هي عطية مجانية من الله.
في مشهد آخر، مشهد شفاء المخلّع في لو 5، 17-26 نجد بعض القواسم المشتركة مع لقاء يسوع وبطرس. فهناك رجالاً لا يعيرون اهتماماً لسخرية الناس، فيصعدون إلى السطح ويدلّون هذا المقعد دون أن يكونوا متأكدين من عمل يسوع وطريقة استقباله لهم، هل سيشفي هذا الرجل؟
هنا تظهر شجاعة هؤلاء الرجال وإيمانهم فهم لا يعيرون للمنطق البشري ولأقاويل الناس أي اهتمام، إنهم يتصرفون بوحي من إيمانهم. فماذا سيحصل؟ هنا ستنقلب المواقف أيضاً. فعندما يرى يسوع هذا الإيمان وتلك الشجاعة، يشفي المقعد نفساً وجسداُ، وهكذا تظهر قوة الإنجيل الخلاصيّة.
إننا مدعوون إلى مثل هذه الثقة وهذا الإيمان، وبهذا نحقق هويتنا الحقيقية. فمن هذا الموقف الأساسي موقف تجاوز الذات بالثقة والإيمان، تتحقق الأشياء الكبيرة في الحياة، فنجد الصداقة والأخوّة والمحبة، فإذا لم يأخذ أحد مبادرة المجازفة، فلن يكون هناك شيء جديد.
فمن ثقة بطرس بكلمة يسوع وثقة هؤلاء الرجال الذين يخترقون بإيمانهم الحواجز يتفجر ينبوع الخلاص. فالتلميذ بطرس يلقي شباكه نزولاً عند كلام يسوع، فتبدأ مع المعلم مسيرة طويلة من العطاء والحب، مسيرة تخرجه من ذاته وتحوله للبشر صياداً.
ولكننا نجد في الإنجيل شخصية تناقض موقف بطرس والرجال الذين حملوا المخلّع إلى يسوع، إنها شخصية سمعان الفريسي، الذي يتمتع بمكانة اجتماعية مرموقة، ولا يريد أن يخاطر بمركزه هذا، فهو يسعى إلى إرضاء الجميع، فمن جهة يستقبل يسوع في بيته ولكن في نفس الوقت لا يحيطه بالحفاوة المطلوبةـ إرضاءً، لأعداء يسوع.
إنه موقف سياسي مبني على التوازنات والحسابات الدقيقة، لذلك يبقى لقاؤه مع يسوع مصطنعا وسطحياً. وفجأة تدخل امرأة تبدل الأجواء الرسمية، وتسبب الإحراج لسمعان، وتحيط يسوع بمودة ومحبة واحترام، لم يلقه من مضيفه. هذه المرأة تجازف بكل شيء. أمّا يسوع فإنه يحاول أولاً أن يعلن البشرى بالخلاص دون أن يجرح أحداً.
فيبين لسمعان من خلال المثل، أن مفهومه عن الله الرافض للخطأة وللضعفاء، يتنافى مع رحمة الله ومحبته، وأننا كلنا في النهاية مُدانون أمامه، بينما يبث الرجاء والأمل في قلب المرأة التي أدركت سعة رحمة الله ومحبته من خلال حضور يسوع فيما بيننا. ونجد في هذا المشهد أن يسوع لا يخاطب الإنسان الخاطئ بالتأنيب والترهيب. بل يدعوه إلى الثقة بالله، ويبين له أن بإمكانه التحرر من خطاياه وتغيير حياته بالاعتماد على نعمة الله. إن المرأة ترمز للإنسان الذي يخرج من الضياع واليأس، فتتغير حياته ويتحرر قلبه لأعمال المحبة. إن الإنسان الذي يعترف بخطاياه بعفوية كما فعل كل من بطرس والمرأة الخاطئة، يقلب يسوع حياته، فيمتلأ قلبه حباً وثقة به.
تلك هي ثمرة البشارة الإنجيلية. إنها تقلب المعطيات البشرية، فتحطّ المتكبرين الذين يظنون أنفسهم صالحين، ممتلكين الفضيلة، وترفع الذين تصرفوا بتواضع وببساطة وصدق وجازفوا مراهنين على الثقة بيسوع. فيستعيد قلبهم هكذا القدرة على المحبة. «لقد غُفرت لها خطاياها الكثيرة لأنها أظهرت حباً كثيراً» (لو 7، 47). عندما يلتقي يسوع بالإنسان يعيد له حقيقته العميقة، وعفويته الطبيعية، وقدرته على المحبة، فيصبح مؤمناً مستعداً للالتزام مع يسوع والمجازفة في سبيله.
هذه هي الخطوة الأولى على طريق التتلمذ ليسوع، ألا وهي اكتشافه واختباره للمغفرة الإلهية. ولكن بعد هذا الاختبار الأولي لا بد لتلميذ يسوع أن يمر باختبارات أساسية كي يمتثل منطق الإنجيل. فما هي هذه الاختبارات كي يصبح صياداً للبشر؟ يركز الإنجيلي لوقا في الجزء الثاني من إنجيله (9-18) على الصفات والشروط التي يجب أن يتحلى بها تلميذ يسوع كي يستطيع اتبّاعه، وكي تدخل البشارة الإنجيلية إلى قلبه. يمكن أن نلخص جوهر هذا الاختبار في النقاط التالية:
الثقة بالله وتسليم الذات له:
إن القاعدة الأساسية لكل علاقة هي الثقة، فكم بالحري علاقتنا مع الله، مصدر وجودنا وحياتنا، والخطيئة الأولى لآدم وحواء كانت أساساً عدم وجود هذه الثقة، هذه هي الخطيئة الأصلية القابعة في قلب كل إنسان، إذ تهدد علاقته الحيوية مع أصل وجوده وحياته، وبدون هذه الثقة الأصلية، لا يستطيع الإنسان أن ينمو بشخصيته ويتكور بإيمانه.
وأول مثال يعطينا إياه يسوع (آدم الجديد) هو هذه الثقة المطلقة بالله، إنه يسلم نفسه لله بملء الثقة في أشد ساعاته هولاً وألماً، ساعة الصليب، التي لم تزعزع ثقته المطلقة بالله، فكانت كلماته الأخيرة: «بين يديك أستودع روحي». بهذه الثقة عبر الموت وانتصر عليه. لذلك فإن الموقف الأول للتلميذ الذي يتبع يسوع هو التشبه به، بثقته المطلقة بالآب والاستسلام له، هذه الثقة التي تنزع من قلبه كل خوف وقلق، وتجعله يتحرر من ذاته، وينطلق في خدمة الله ومحبته. فالله لا يسمح بأن تقع شعرة من روؤسنا دون إرادته. فالآب لا يتركنا، فعلينا أن نثق به. وهذا ما يطلبه يسوع من الذين يريدون إتباعه. (لو 12، 22-32. 11، 11-13).
إعطاء الأولوية لله بتحرر القلب وتجرده:
إن الإنسان لا يستطيع أن يعمل لسيدين، لأنه إمّا أن يُبغض أحدهما ويحب الآخر، وإمّا أن يلزم أحدهما ويزدري الآخر (لو 16، 13). فمن يريد إتباع المسيح عليه أن يعطيه المكانة الأولى في قلبه، وبذلك تأخذ بقية الأشياء مكانها الصحيح. وإلاّ فإن كثيراً من الأشياء تأخذ في حياتنا مكانة أكبر من حجمها الحقيقي. فأن أمشي مع يسوع معناه ألاَّ أتعلق بأي شيء يمكن أن يُضعف علاقتي به.
فإذا كان الإنسان مأخوذاً ومشغولاً بالربح المادي، بالمصلحة الشخصية، والسعي وراء المكانة الاجتماعية، فإن هذه تقيد قلبه، وتمنعه من إتباع يسوع بالحقيقة، كما حصل للشاب الغني. لذلك يؤكد لنا يسوع مرّات عديدة على ضرورة التحرر من كل قيد يمنعنا من إتباعه، وهذا يتطلب تحول للقلب وتبدله إلى قلب حر ومتجرد (لو 11،11-13).
إدراك معنى الصليب:
إن إتباع يسوع عندما كانت الأمور تجري على ما يرام، والجماهير تتبعه، وتأتي إليه بالمرضى والمتألمين كي يشفيهم، كان أمراً سهلاً ومثار إعجاب للتلاميذ. ولكن عندما بدأت الأمور تسوء وحين قرر رؤساء الكهنة قتله، أُصيب التلاميذ بالصدمة، وكان أولهم بطرس الذي رفض فكرة الصليب تماماً عندما أخبرهم يسوع بذلك قائلاً: «يجب على ابن الإنسان أن يعاني آلاماً شديدة، وأن يرذله الشيوخ وعظماء الكهنة والكتبة، وأن يُقتل وأن يقوم في اليوم الثالث» (لو 9، 22).
هذا الإعلان يكرره يسوع ثلاث مرّات؟ المهم هو أن يسوع ذاته الذي يعلن عن آلامه وموته على الصليب يريد أن يُشير بذلك إلى التلاميذ، أن الصليب ليس مجرد حادثٍ طارئ على رسالته، ومفروضاً عليه، إنما يقع في صلب رسالته، وقد اختار آلامه طوعاً. إنه يبدل معنى الصليب، فيحوله إلى طريق محبة وعطاء: «ما من حب أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبائه». لقد فعل كل ذلك كي يوجه تلاميذه نحو إدراك معنى الصليب: ونحن يمكننا أن نتساءل اليوم عن موقفنا من ألالآم والمحن في حياتنا: هل نقبلها أو تكون سبباً لفقدان الثقة بالله.
ولكن يمكننا أن تساءل عن نتيجة هذا التكوين وأثره على التلاميذ. إن موقف بطرس الرافض يذكره جميع الإنجيليين. لقد أراد أن يُبعد هذا المصير عن يسوع، ولكن موقف بطرس هذا يمثل الموقف البشري، والإنجيل يذكر لنا أيضاً بأن التلاميذ لم يفهموا كلام يسوع عن الصليب: «اجعلوا هذا الكلام في مسامعكم: إن ابن الإنسان سيسلم إلى أيدي الناس. فلم يفهموا هذا الكلام وكان مُغلقاً عليهم. فما أدركوا معناه وخافوا أن يسألونه عن ذلك الأمر» (لو 9، 43-45).
لم يتوصل التلاميذ إلى إدراك معنى الصليب لأول وهلة ولسيطرة الخوف عليهم، وكان يجب انتظار القيامة حتى يروا في الصليب مصر خلاص، فقبل أن يلتقي تلميذا عمّاوس يسوع القائم من بين الأموات، كانا قد سمعا البشارة دون أن يعيّر ذلك شيئاً في نظرتهم إلى آلام المسيح، وبقيا أسيري الحزن واليأس. فأرجعهما يسوع إلى الكتب المقدسة كي يكتشفا أن ألالآم والمحن والصعوبات تدخل في مخطط الله الخلاصي. وبالتالي على التلميذ أن يقبلها ويحتملها حبّاً بيسوع.
في الواقع يصعب على كل إنسان أن يفهم معنى الصليب، فالمنطق البشري لا يستطيع فهم لغة الصليب، تلك اللغة التي تُعتبر حماقة في منظور العالم، ولكنها تصبح في نظر المؤمن، تعبيراً عن قدرة الله وحكمته، وهنا المفارقة الكبرى، كيف يمكن أن تتجلى قدرة الله في ضعف الصليب؟
وتزداد حيرة العقل وارتباكه، عندما يكون منطق البشارة المسيحية إلهاً مصلوباً :«إننا نبشر بمسيح مصلوب عثار لليهود وحماقة للوثنيين». فكيف نستطيع أن نفهم الصليب كتعبير عن قدرة الله وحكمته؟ هذا هو السر الكبير الذي يعجز المنطق البشري عن الإحاطة به، ولكن من تحرر من معايير العالم ومقاييسه يمكنه أن يدرك لغة الصليب. فدعونا نفتح قلوبنا على هذا السر، ونطلب نعمة الله علّنا نتلمس نوراً يفتح أذهاننا على الحقيقة التي تأتينا من الجلجلة.
إن يسوع سكن عالمنا البشري، واختبر أوضاعنا الإنسانية في كل شيء ما عدا الخطيئة، وأصابه من نزوات البشر وأحقادهم وكراهيتهم الشيء الكثير. وتجلى ذلك بشكل خاص في محاكمة يسوع وصلبه، حيث تعرض للاحتقار والإهانات والشتائم، من الحرّاس والخدم الذي وجدوا في تعذيب يسوع فرصة للترويح عن أنفسهم.
هؤلاء لم يكونوا أسوأ من غيرهم، بل هم أناس عاديين، يخضعون لأوامر رؤسائهم، وهم أيضاً معرضون للاهانة والاحتقار من قبل أسيادهم، فالعالم بنظرهم مقسم إلى قوي وضعيف، والحق بالنسبة إليهم هو دائماً إلى جانب الأقوى، والآن يجدون أنفسهم أمام من هو أضعف منهم، فيصبون عليه غرائزهم المكبوتة، ويمارسون معه ما يمارسه أسيادهم معهم.
إنهم يكتشفون عمق حالة البؤس الإنساني، حيث كل إنسان يفرّغ أحقاده في من هو أضعف منه. ولكن ماذا يفعل يسوع؟ يغلب على موقف يسوع الصمت، وأحياناً يحاول أن يوقظ فيهم ما هو إنساني: «إن كنت أسأت في الكلام فبين الإساءة وإن أحسنت الكلام فلماذا تضربني؟» (يو 18، 23). أي يسأل يسوع معذبه: لماذا تتصرف بهذه الطريقة؟ ألانك تشعر في نفسك أنك مُحتقر، وغير محترم، ومسحوق ممن هو أقوى منك؟ هذا ما يدل عليه صمت يسوع، لذلك يصفح عنهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون، لأنهم بدورهم ضحية القهر والعنف. من الصعب أن نفهم لماذا يظهر الله بهذا المظهر من الضعف ولماذا يسلم نفسه إلى مثل هذه الوحشية والقساوة، ولماذا لا يقبل التحدي عندما يهزؤون به قائلين: «خلّص غيره فليخلّص نفسه... إن كنت ملك اليهود فخلّص نفسك» (لو 22، 35-36).
يظهر هنا سر الله المستسلم للضعف، فقوة الرب تظهر فقط في المعجزات والأعمال الخارقة، ولكن في الآلام أيضاً التي يتحملها بتواضع ووداعة، موقظاً في جلاّديه كرامتهم المفقودة، وإنسانيتهم الحقيقية، لأنهم يكتشفون في يسوع منطقاً آخر غير منطق القوة والعنف، يكتشفون فيه منطق الوجود الحقيقي، أي منطق المحبة.
إن تحدي الجنود ليسوع كي يُظهر قوته وينزل عن الصليب، يضع يسوع في موقف حرج. فإن استجاب لمعيّريه ونزل عن الصليب، لآمن به الناس، وعندها سيظهر بمظهر القوي، الإله الذي ينجد دائماً، الإله الذي يحقق طموحات الإنسان في العظمة، ولكن طيف يكون عندئذ الإله الذي يقبل الموت حباً بالناس؟
ولكن بعدم نزوله عن الصليب، يكشف يسوع للأول مرّة في التاريخ، صورة جديدة هم الله، لم يعرفها الإنسان حتى الآن، هي صورة الإله الذي يخدم، والذي يعطي حياته حباً بالبشر، إنه منطق الجب الذي يذهب إلى أقصى حدوده، منطق العطاء الكلي، الذي يُترجم بالفناء المطلق.
لقد أتى يسوع ليغيّر فكرة الإله المسيطر، والقاضي الجبار الذي يستغل ضعف الإنسان وبؤسه، وليكشف لنا وجه الإله الرحيم، الذي يتجرد عن إلوهيته حباً بالبشر. إن صورتنا عن الله شبيهة إلى حد بعيد بموقف الساخرين من يسوع: إلا نتساءل غالباً، لماذا لا يستعمل القوة؟ لماذا لا ينتصر لي على أعدائي؟ أمّا يسوع فعلى العكس من ذلك، لقد أتى ليظهر لنا وجه إله يهب حياته في سبيل الآخرين، حتى الموت على الصليب.
إن هذا المشهد يضعنا في قلب الإنجيل والذي يتجلى خاصة في الافخارستيا حيث يصبح المسيح خبزنا اليومي، «هذا هو جسدي، هذا هو دمي، الذي يُراق من أجلكم، اصنعوا هذا لذكري». إن هذا الموقف يفترض منّا نظرة لله وللحياة، أي علينا نحن أيضاً أن نعيش التجرد والنسيان لذاتنا في سبيل الآخرين، فإن كنّا نتردد في قبول صورة الله كما يظهرها لنا المسيح، معنى ذلك أننا نتردد أيضاً ونرفض أن نغير تصرفاتنا وطريقة حياتنا. إن الإنسان يحقق ذاته بشكل كامل عندما يضع حياته في خدمة الآخرين وفي خدمة إخوته البشر.
إن كلمة المحبة تلخص كل مضامين الإيمان، ونحن مدعوون للتأمل في المسيح المصلوب لنكتشف كيف يحبنا الله، وكيف يضع حياته في خدمتنا، وإلى أيّ مدى يتخلى عن حقوق القوة: «فمع أنه في صورة الله لم يعد مساواته لله غنيمة بل تجرد من ذاته واتخذ صورة العبد» (فل 2، 5). هذا الاختبار لم يتوصل إليه بطرس بسهولة ومرّ بمراحل مختلفة قبل أن يتوصل إلى إدراك جوهر الرسالة الإنجيلية. فما هي هذه المراحل؟
لقد بدأت مسيرة بطرس الروحية بلقائه الأول مع يسوع على بحيرة جناسرت، حيث اكتشف نفسه على حقيقتها أمام قوة الله وقداسته، وكانت صرخته الأولى: «يارب تباعد عنّي إني رجل خاطئ»، بينما لقاؤه الأخير به قبل الموت على الصليب، فقد تم في ظروف درامية ومؤلمة، وكان لقاء نظرات، إذ التقى به نظر يسوع بعد أن أنكره ثلاث مرّات: فالتفت الرب ونظر إلى بطرس. هذه النظرة كشفت لبطرس حقيقته وحملت له المغفرة، وولدت فيه الندامة، ويقول لنا الإنجيل بأنه خرج من الدار وبكى بكاءً مراً. (لو 22، 62).
وإذا أدركنا الفارق بين اللقاءين، أي الفارق بين اعتراف بطرس الأول واعترافه الثاني يمكننا أن نفهم مسيرة بطرس الروحية. لقد لبّى بطرس دعوة يسوع ليكون صياد بشر، ولكن رسالة الإنجيل بقيت غامضة عليه ولم يستوعب سرها تماماً، فكان رفضه لفكرة الصليب، ولكنه في النهاية كان مستعداً لأن يبذل حياته في سبيل البشارة، فما هي المراحل التي عبر بها ليصل إلى ذلك؟
إن إدراكنا لتجربة بطرس الإيمانية تفيدنا في تعميق مسيرة إيماننا الشخصية، فلنحاول أن نفهم لماذا أنكر بطرس يسوع؟ ولماذا لم يفهم جوهر البشارة منذ البدء؟ وكيف تحول نكرانه ليسوع إلى اختبار اكتشف من خلاله معنى الإنجيل وسره.
الشهادة ليسوع ورفض الصليب:
عندما يسأل يسوع تلاميذه: من أنا على حدّ قول الناس؟ نجد في رد بطرس هوية يسوع الحقيقية، وبهذه الشهادة يبلغ بطرس قمة الوحي الإلهي وذرة البشارة المسيحية. بالتأكيد شعر بطرس آنذاك بفرح كبير، لقد برهن على كونه أهلاً للثقة التي أولاه إياها يسوع، ولكن هذه الفرحة لم تدم طويلاً إذ يُصاب بالصدمة عندما يُخبره يسوع عن آلامه المقبلة، ويتلقى مثل هذا الجواب من يسوع: «فزجر بطرس قال: ابتعد عني يا شيطان، لأن أفكارك ليست أفكار الله، بل أفكار البشر» (مر 8، 31-33).
إن بطرس لا يفهم سبب هذا الكلام القاسي من يسوع، فما الشر الذي تكلم به، ولماذا يعامله يسوع مثل هذه المعاملة؟ ويمكن القول بأن بطرس يسعى لخير يسوع، ويريد أن يمنعه من الوصول إلى مثل هذه النهاية المؤلمة. ولسان حله يقول: إنني أريده أن يكون مكرما ومحترما من الجميع، إنني لا أفهم هذا المعلم، ولا أفهم منطقه وأفكاره وأنا لا أريد له إلاَّ الخير.
ولكن مرحلة سوء الفهم هذه تتبدد بسرعة، عندما يعيش بطرس مع يسوع حدثاً غريباً يملاؤه فرحاً ونشوة: «وبعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام، مضى ببطرس ويوحنا ويعقوب وصعد الجبل ليصلي» (لو 9، 28). في مشهد التجلي، نجد بطرس يتجاوب مع الأحداث بحماس، ويشعر بمسؤولية: «يا معلم حسن أن نكون ههنا، فلو نصبنا ثلاث خيم، واحدة لك، وواحدة لموسى، وواحدة لإيليا ولم يكن يدري ما يقول».
يعبر بطرس في هذا المشهد عن شعوره بالمسؤولية، فهو مستعد لأخذ المبادرة وتنظيم الأمور وبذات الوقت يعبر عن سخائه وتجرده، فهو لا يقول لننصب خيمة لي أيضاً. إنه يفكر بيسوع وموسى وإيليا. بعد ذلك يمر بطرس بتجربة أخرى يظهر من خلالها إيمانه الهش أمام الصعوبات، إنها تجربة السير على الماء مع يسوع (متى 14، 22-32).
وهذا يبين أن اختباره الروحي يبقى ناقصاً، إذ يفاجئه يسوع مرة ثانية قبل دخوله في آلامه ويبين له أن حماسه لأجله واستعداده للموت في سبيله لن يصمدا أمام المحنة الكبرى، بل سيقوده خوفه وتخاذله إلى نكران معلمه، ولكن صلاة يسوع ستنقذه: «سمعان، سمعان، هوذا الشيكان قد طلبكم ليغربلكم كما تغربل الحنطة، ولكن دعوت لك ألاَّ تفقد إيمانك، وأنت ثبت إخوتك متى رجعت» (لو 22، 31-34). ولكن بطرس لا يفهم هذا التحذير ويظن أن يسوع يمتحنه فيقول له: «إني لعازم أن أمضي معك إلى السجن وإلى الموت» (لو 22، 33).
مما لاشك فيه أن كلام بطرس ليس إدعاءٌ كاذب، بل يعبر بإخلاص عمّا يشعر به، ولكنه لم يستوعب بما فيه الكفاية كلام يسوع «سمعان، سمعان، هوذا الشيكان قد طلبكم ليغربلكم كما تغربل الحنطة، ولكن دعوت لك ألاَّ تفقد إيمانك، وأنت ثبت إخوتك متى رجعت».
إنه واثق بنفسه إلى أبعد الحدود، ولا أحد يمكن أن يزعزعه عن تصميمه، ولا يتصور أنه سوف يسقط وينكر المسيح. ولكنه لو أصغى جيداً لما قاله يسوع وكانت عنده المعرفة الكافية بنفسه لكان قال: أشكرك يا رب لأنك صليت لأجلي، إني أشعر بضعفي، وإنني معرض للسقوط في أية لحظة فاسهر عليَّ وثبتني. بل بالعكس يؤكد ليسوع أنه مستعد للموت من أجله، إنه يتصور أنه كتلميذ ليسوع يمتلك السلطة والقدرة الكافيتين، ويمكن الاستناد إليه عند الأزمات والملمات، أو بتعبير آخر يعتقد أنه يمكن ليسوع الاعتماد عليه، بدل أن يعتمد هو على نعمة يسوع.
هنا تكمن أسباب السقوط عند بطرس، فالبشارة الحسنة هي عطاء الله الذي لا حدود له، وهي الخلاص الذي يهبه الله مجاناً للخاطئ، وطالما نتقبل هذا العطاء وقلبنا مفعم بالشكر والحمد، فنحن على طريق الإنجيل.
ولكن عندما، تبدأ نزعة الإدعاء والتملك بالسيطرة علينا، ونظن أنفسنا مصدراً للعطاء، معتمدين على قوتنا وجهودنا فإننا نحيد عن الطريق، كأننا نحن أسياد البشرى، أسياد الكنيسة، أسياد النشاطات المختلفة التي نقوم بها، وننسى أن الله مصدرها، ودورنا هو تقبّل النعمة ونقلها إلى الآخرين، نصبح أشخاصاً يستخدمون الإنجيل والنشاطات الرسولية في سبيل غايات ومنافع شخصية.
لم يفهم بطرس كلام يسوع فلذلك يؤكد: سأكون مستعداً للدفاع عنك بالسيف، سوف أقاتل من أجلك، وامنع أعداءك من الاقتراب منك، وإن خذلك الجميع فلن أخذلك أنا. بالتأكيد ليس بطرس بالإنسان الجبان، ولكن خطأه هو اعتقاده أنه هو الذي سيخلص يسوع بدل أن يشعر أنه بحاجة إلى خلاص الرب.
في بستان الزيتون تتعمق أزمة بطرس، إذ يرى يسوع عرضة للخوف والضعف، وهو الذي اعتاد، على طريقة العهد القديم، أن يتصور الله إلهاً جباراً ينتصر في كل الحروب ويهزم أعداءه ويشتتهم. فلا يجد بطرس مخرجاً أو مهرباً من هذا المأزق سوى النوم. إنه لا يريد أن يرى الواقع المؤلم، إنه لا يفهم ماذا يجري.
إن ضعف يسوع يهدم عالم بطرس الخيالي وتصوره عن الله، لقد كان يتصور ملكوت الله انتقالاً من نصر إلى نصر، لذلك يقول ليسوع عند إعلانه عن آلامه للمرة الأولى: «لا يا رب إنه من غير الممكن أن يحصل لك ذلك، لأنك تمتلك قوة الله» (مر 8، 31-32). والآن يرى يسوع في ذروة الضعف البشري، فهل ترك الله يسوع؟
وبدأ بطرس أمام هذا الاكتشاف يستجمع قواه، فعندما جاء الجنود للقبض على يسوع راح يسأل: «يارب أنضرب بالسيف؟ وضرب أحدهم خادم عظيم الكهنة فقطه أذهن اليمنى.». بطرس يحاول للمرة الأخيرة أن يظهر بمظهر الإنسان البطل، الذي يريد أن يموت من أجل معلمه، ويهب حياته من أجله، ولكن مرة أخرى يتدخل يسوع ويطلب منهم عدم المقاومة، إنه يترك قوى الظلام تعمل وتقبض عليه: «ولكن هذه هي ساعتكم وهذا هو سلطان الظلام» (لو 22، 53).
لقد كان بطرس راغباً في القتال في سبيل المعلم، ولكنه يصاب بالإحباط عندما يرى معلمه مجرداً من السلاح، قابلاً أن تنتصر عليه قوى الظلام، ومن الممكن تصور درجة اليأس والانهيار التي أصابت بطرس، فإذا كان الله لا يظهر قوته ويتدخل لإنقاذ يسوع، فهل هو الصلاح والعدل والقوة؟ ومن هو هذا المعلم الذي آمن به؟
يستسلم بطرس ليأس عميق، يجعلنا نفهم الأسباب التي أدّت إلى نكران معلمه، فلقد كان مستعداً للدفاع عنه، ولكن يسوع يمنعه عن ذلك، تاركاً الغلبة إلى قوى الظلام، وفي النهاية، بطرس ضائع ولا يعلم ما هو الموقف الذي عليه اتخاذه، ولا يفهم ما ذا يريد المعلم. فإن كان يريد عملاً شجاعاً فها نحن على استعداد، وإن كان يريد شيئاً آخر، فما له إلاَّ أن يُفهمنا؟
يستمر بطرس في إتباع المعلم، لأنه يحبه، ولكن عن بعد، وعندما يُطرح السؤال عن صحبته ليسوع ينكر: «وهذا أيضاً كان معه، فأنكر قال: يا امرأة إني لا أعرفه » (لو 22، 56-57). لنلاحظ التعبير معه، كان قد استعمله بطرس منذ قليل، يارب إني لعازم أن أمضي معك إلى السجن وإلى الموت. بطرس ينفي معرفة المسيح، لأن يسوع لم يعد ذاك الشخص الذي ظن أنه يعرفه، معلماً، قائداً، منتصراً، وصانعاً للمعجزات. يسوع الذي أسلم نفسه للآلام يختلف عن يسوع الذي عرفه.
وفي المرّة الثانية يُسأل إذا كان ينتمي إلى جماعة يسوع: «أنت أيضاً منهم». ينكر بطرس ذلك. ينفي بطرس إذن معرفته ليسوع كما ينفي انتماءه لجماعة التلاميذ. وبعد ساعة يُطرح عليه السؤال للمرّة الثالثة: «ومضى نحو ساعة فقال آخر مؤكداً: حقاً، هذا أيضاً كان معه فهو جليليّ.» نلاحظ الإشارة إلى الفترة الزمنية، إشارة إلى المأساة الداخلية التي يمر بها بطرس، فعند الصعوبات نشعر ببطء الزمن ونحسبه بدقة، ويمكن أن نتصور مأساة بطرس على النحو التالي: فهو يتساءل في داخله: من أنا؟ وماذا أريد؟ ما هو معنى حياتي؟
لم فكرت في إتباع هذا الرجل، وما الذي دفعني إلى ذلك؟ لقد كنت أؤمن به وأريد الخير له، وكان عليه أن يقبل اقتراحي. يشعر بطرس بضياع شديد، مثلما يشعر كل إنسان. بذل الكثير في سبيل قضية فتحولت في النهاية إلى قضية خاسرة. وإجابة بطرس الثالثة، تعبر عن هذا الضياع: «يا رجل لا أدري ما تقول». هذه الجملة نراها أيضاً في رواية التجلي: «ولم يكن يدري ما يقول». كان يظن أن مفاتيح الملكوت بين يديه ويستطيع التصرف بها كما يشاء، أمّا الآن فهو لا يدري إن كان جليليّ أم لا.
إن المحنة التي سمح يسوع أن يمر بها بطرس هي من أقصى المحن التي يتجاوزها الإنسان عندما بشك بكل ما يشكل معتقداته وتكوينه الديني: هل هذا هو الإله الذي آمنت به؟ هل تلك هي إرادة الله في حياتي أم أني أخطأت تماماً الطريق؟
وإن مرّ بطرس عبر هذه المحنة، فذلك من أجل الكنيسة كلها، لأجلنا جميعاً لأجل أن يثبتنا في الإيمان. لقد عاش هذه المحنة بصفته رأس الكنيسة، بصفته المبشّر الأول، وهو يعلم جيداً أن الإنسان لا يستطيع أن يصبح مبشراً ما لم يقبل مشروع الله الخلاصي، ويتخلى عن مشروعه الخاص به، «فإن أفكار الله غير أفكار البشر.»
يمكننا أن نلخص ضياع بطرس بالطريقة التالية: كان يريد أن يُخلص يسوع ، ولكن يسوع هو الذي يُخلصه. كان عليه بالتالي أن يفهم أنه مدعو إلى الخلاص، مدعو إلى تقبل الغفران من يسوع، الذي يحمل في قلبه وديعة المصالحة والرحمة والرأفة.
وهذا أمر صعب على بطرس لأنه غالباً ما كان يريد أن يُظهر أمانته وإخلاصه وشجاعته وشهامته. لقد كان يريد أن يعمل أشياء كثيرة ليسوع، فعلى العكس من ذلك يفهمه الرب، بأنه يستطيع هو أيضاً أن يعرف الضياع التام، وإن أراد أن يكون تلميذاً مبشراً بيسوع، عليه أن يختبر أولاً رحمة الله اللامتناهية في حياته وفي حياة أخوته في الكنيسة.
وبعد ذلك يذكر الإنجيل: «وبينما هو يتكلم إذا بديك يصيح». صياح الديك هو إصبع الاتهام الذي يقول له: انظر إلى أين وصلت، أنت الذي كان يظن أنه يمتلك الملكوت والإنجيل، أنت الذي حاول الدفاع عن المعلم. ويصعب تحمل مثل هذا الاتهام ما لم تلتقي نظرة يسوع المحبة بنظر بطرس.
فبعد هذه التجربة المرة، يمكنه الآن اكتشاف محبة الله، ويمكن القول أن الاختبار الإيماني الأساسي هو اكتشاف تلك المحبة المجانية اللامشروطة. ولكن ما هو الفارق بين خبرة بطرس عند لقائه الأول ليسوع، عندما اكتشف نفسه كإنسان خاطئ «تباعد عنّي يارب فإني رجل خاطئ» وبين اختباره الآن؟
محبة الله جوهر الاختبار المسيحي:
إن بطرس في كلا الحالتين يكتشف كونه خاطئاً، ولكن هناك فارق بين الموقفين، فعلى المركب أدرك الفرق الشاسع بين قدرة الله وبؤسه، واعترف بقداسة الله اللامتناهية، وكان يبدو له أنه بإمكانه أن يصبح شريكاُ لله في غفرانه وأن يتبع المسيح ويخدم الآخرين. ولكنه لم يكن يدرك أنه هو الذي يحتاج أولاً إلى رحمة الله وكلمته الخلاصية في حياته. لكن الرب يقوده إلى الموقف الذي يكتشف فيه حقيقته العميقة، وعندما تنهمر دموعه فلسان حاله يقول: «نعم يا رب، أنا أيضاً مسكين مثل باقي الناس، لم أكن أظن أنني قد أصل إلى ما وصلت إليه، إرحمني يا رب، فإنك سوف تموت من أجلي، وأنا يا رب قد خنتك، إنك تعطي حياتك لأجلي، وأنا لم أكن قادراً على السهر معك، وأنكرتك في ساعة المحنة».
وأخيراً يفهم بطرس أن الإنجيل، البشرى الحسنة، هو الخلاص الذي يمنحه الله للإنسان الخاطئ، ويفهم بالتالي جوهر الله الحقيقي، فالله ليس القوة الجبّارة، والقاضي الذي يسجل هفوات الناس بكل دقة، فهو قبل كل شيء المحبة المعطاة، دون حواجز، إنه المحبة المجانية الصافية، التي لا تحكم ولا تدين، ولا تلوم بل تخلص. فنظرة يسوع لبطرس ليست نظرة ديّانة قاسية، إنها نظرة ملؤها المحبة، وكأن يسوع يقول له من خلال هذه النظرة: «يا بطرس إني احبك على الرغم من كل شيء، كنت عالماً بما أنت عليه، وكنت أحبك مع ذلك كله».
ويمكن تلخيص ما سبق، أن بطرس يختبر في نهاية المطاف أمراً يبدو من أسهل الأمور وأصعبها على السواء. ألا وهو أن نستسلم لمحبة الله وندعه يحبنا. لقد كان بطرس يعتقد حتى الآن أن المبادرة بيده وأنه يسيطر على الأمور ويديرها، وأنه بإمكانه أن يقوم بأشياء كثيرة من أجل الله.
ولكنه يفهم الآن العكس من ذلك، فالموقف الصحيح للإنسان أمام الله هو أن ندعه يخلصنا، أن ندعه يسامحنا، وهذا ما يظهر في إنجيل يوحنا في مشهد غسيل الأرجل: لن تغسل قدمي أبداً، أنا سوف أغسل لك رجليك وليس العكس. ما أصعب علينا أن نقول للآخرين شكراً على إحساناتهم لنا، أن نعيش وفق الإنجيل الذي يقتضي منا الشكر لله باستمرار على كل شيء ودون تردد، ونحن نعلم أنه يقبلنا بقوة رحمته وخلاصه.
يختبر بطرس هذه الحقيقة الأساسية، وهذا ما يخوله أن يكون المبشر الأول، الذي يثبت أخوته بالإيمان. فبعد أن مر هو ذاته في محنة الإيمان الكبرى، إذ كان يريد أن يموت لأجل المسيح، أما الآن فإنه يفهم أن يسوع هو الذي يموت من أجله، وأن هذا الصليب الذي كان يريد أن يبعده عن الرب، هو علامة حب وخلاص، علامة بذل الذات من أجل أحبائه.
بهذا يقلب المسيح مفاهيمنا الدينية عن الله، فكل واحد منا يعتقد دائماً أن الله يتطلب منا أموراً كثيرة وأنه يلاحقنا ويحاسبنا. إنه يصعب على الإنسان تصور صورة الله الإنجيلية، الإله الخادم: فأنا بينكم كالذي يخدم. الله الذي يهب حياته، هذه الصورة التي تذكرنا بها كل يوم الافخارستيا: هذا هو جسدي، هذا هو دمي الذي يبذل من أجلكم. يسوع يقول لنا من خلال تجسده، أنني قبل أن أطلب منكم شيئاً، أسألكم أن تدعوا الله يحبكم حتى النهاية.
هكذا توصل بطرس بعد مسيرة طويلة إلى اكتشاف البشرى الحقيقية. ألا وهي محبة الله وقوة رحمته ومغفرته، عندها فقط يمكنه أن يتحول إلى شاهد للمسيح. بطرس كان يدعي أنه التلميذ المخلص الذي لن يسقط أبداً: ولو عثروا بأجمعهم، فأنا لن أعثر، وأنه مستعد للتضحية بحياته في سبيل يسوع: فقال له بطرس: لماذا لا أستطيع أن أتبعك الآن؟
لأبذل نفسي في سبيلك (يو 12، 27). ولكنه يكتشف في النهاية أنه بحاجة على صلاة يسوع كي لا يفقد إيمانه: ولكني دعوت لك ألا تفقد إيمانك. وبعد هذه المحنة يستطيع أن يثبت إيمان إخوته، ويرعى خراف يسوع بعد اختباره لسقوطه ولمدى محبة يسوع ومغفرته: وأنت ثبت إخوانك متى رجعت.
لقد أصبح بطرس يدرك الآن جوهر رسالة الإنجيل، ويمكنه بعد هذا الإعداد والتهيئة الطويلة، أن يصبح مبشراً بيسوع. والشيء الوحيد الذي يسأل عنه هو محبته ليسوع، فالرسالة الحقيقة لا تقوم على كثرة الأعمال والنشاطات بل تنبع من المحبة. فكل ما يطلبه يسوع من بطرس قبل أن يسلمه خرافه هو يا سمعان بن يونا أتحبني؟
سؤال يكرره يسوع ثلاث مرات لكي يمحو أثار النكران الثلاثي، إنه لا يجرؤ بعد الآن أن يقول إنه يحب يسوع أكثر من بقية التلاميذ، ولكن من أدرك عمق خطيئته وعمق المسامحة والمغفرة يستطيع أن يحب كثيراً، مسلماً حياته للمحبوب ليمضي به حيث يشاء، عندها يصبح العطاء والتضحية تعبيرين عن هذا الحب.
فبين اللقاء الأول على ضفاف بحيرة جناسرت واللقاء الأخير بين يسوع القائم من بين الأموات وبطرس، تتجلى مراحل المسيرة الإيمانية، فقد تخلى بطرس عن كثير من الأوهام عن نفسه، وأدرك إلى أي مدى يمكنه السقوط، وبذات الوقت اختبر أقصى مجانية الحب الإلهي الذي لا يعرف الحدود. أما يسوع فقد كشف عن مدى قوة مغفرته، وعما يمكنه أن يصنع من خاطئ مُسامح. فرعية المسيح تستطيع أن تنمو وتتغذى من هذا الاختبار الإيماني المزدوج.
إن جوهر الإنجيل هو اكتشاف حب الله لنا، ويأتي إلى لقائنا برحمته بالرغم من كل ضعفنا ونقصنا وخطايانا. هذه المحبة اللامتناهية تحرر فينا كل طاقات الحب، وتولد فينا القوة العزيمة للالتزام والخدمة في حقل الرب. فإذا كان الله قد افتدانا بدم ابنه الثمين فمن ذا الذي يفصلنا عن حبه. ولكن ما هو جواب بطرس وكل إنسان على تلك المحبة؟ أليس الجواب على الحب هو الحب الذي يرسلنا إلى إخوتنا البشر؟ فبطرس لم يكن يستطيع الإجابة على سؤال المسيح: يا سمعان ابن يونا أتحبني؟ ما لم يكن قد اختبر هذا الحب القادر على الانتصار على كل أشكال الموت بما فيه نكران بطرس، ولكن المحبة الحقيقية ليسوع يجب أن تُترجم بالرسالة نحو إخوتنا البشر: إرع خرافي.
ولكن المحبة الناضجة التي مرت عبر اختبارات المختلفة تكون قد تحررت من نزعة التملك للآخر وتصبح على العكس من ذلك: التوقف عن امتلاك الذات وتسليمها إلى المحبوب. فالحب لا يبقى سيد ذاته بل يصبح ملكاً للآخر: الحق الحق أقول لك لما كنت شاباً، كنت تشد الزنار بنفسك وتسير إلى حيث تشاء، فإذا صرت شيخاً بسطت يريد وشد غيرك الزنار لك ومضى بك إلى حيث لا تشاء. هذا هو مصير الحب. فلنسأل الله أن يهبنا النعمة لنفهم ذلك ونختبره ونبشر به بحياتنا وأقوالنا.
الإيمان على ضوء مسيرة إبراهيم 2
مخاوف إبراهيم
من بين نصوص سفر التكوين التي تتحدث عن إبراهيم، هناك 15 رواية يمكن التوقف على خمسة منها: إنها أساسية لتحديد علاقاته مع الله. دعوة إبراهيم الفصل 12؛ الوعد والعهد الفصل 15؛ العهد الجديد والختن بعمر ال 99 سنة الفصل 17؛ رواية سدوم وقدرة صلاة إبراهيمالفصل 18؛ وأخيراً ذبيحة اسحق الفصل 22. يبدو لي أن هذه الروايات الخمس مهمة جداً، بالرغم من أهمية الروايات الأخرى.
سوف أبدأ بثلاثة روايات يمكن أن نصفها بالصغيرة، إن صح التعبير. إبراهيم والمصريين الفصل 12، 10 – 20. ثم إبراهيم في جرار 20، 1 - 18 (هذه الرواية تعتبر نسخة لسابقتها فنعتبرهما رواية واحدة). مشكلة عائلية: إبراهيم، سارة وهاجر الفصل 16، 1 – 16. ثلاثة رواية يمكن تلخيصها باثنتين: أولاً مخاوف إبراهيم أمام المحيط، ثم مخاوف إبراهيم للحفاظ على حياة عائلته.
ضعف إبراهيم:
إبراهيم في موقف الإصغاء للوعود، وبالتالي، منفتح على الإيمان ومختلف أشكال الوحي المتتابعة لكلمة الله. لكنه يستقبلها جزئياً، وبالتالي يستنتج بطريقة جزئية فقط ثمار هذه المعرفة المتزايدة لله. لا يعرف بعد بالكفاية أن ينقل الكلمة، وأحياناً نراها كما لو أنها مجمّدة، فينبعث فيه الخوف.
هشاشة خفية تلعب في الغموض. ولهذا السبب هي مفيدة بالنسبة لنا. لأنه، عادة، ضعف الإنسان في خطاياه الكبيرة ــــ القتل، السرقة ــــ من السهل الاعتراف به ويقبله الإنسان. لكن إن كان الموضوع هشاشة خفية، تلعب في الغموض، فمن الصعب تحديدها.
(هذا تماماً ما يطلب القديس اغناطيوس التعمق فيه، في تمارينه الروحية، يدعو المتريض إلى طلب النعمة لمعرفة كل ما هو فوضوي في أعماله، «لكي، لدى رؤيتي لفظاعتها، أعدل ذاتي وأنظمها». وأن يعرف غرور العالم «لكي، لدى رؤيتي لفظاعتها، أبعد عن ذاتي الأشياء الدنيوية والعبثية».
النعم المطلوبة تتجاوز معرفة الخطيئة، إنها تهدف إلى ما هو أقل تنظيماً، في طريقة عيشنا، وهو خاضع لضغوطات وتواطئات وحيل تكاد أن تكون مرئية. كل ذلك يجعل جزء من الوجود غير خاضع لنور كلمة الله، ولم يلتزم كلية بحسب وعد هذه الكلمة.)
عبيد للغموض:
لتوضيح أكبر لما قيل، يمكننا التأمل في مقطعين، على ضوء التمارين الروحية عب 2، 14 – 15: إنه أيضاً نص أساسي لتحديد هشاشة الإنسان. «فلَمَّا كانَ الأَبناءُ شُرَكاءَ في الدَّمِ واللَّحْم، شارَكَهُم هو أَيضًا فيهِما مُشاركةً تامّة لِيَكسِرَ بِمَوتِه شَوكَةَ ذاكَ الَّذي لَه القُدرَةُ على المَوت، أَي إِبليس، ويُحَرِّرَ الَّذينَ ظَلُّوا طَوالَ حَياتِهِم في العُبودِيَّةِ مَخافَةَ المَوت».
إنه شرح مهم لوضع الإنسان، لوضعنا نحن، عبيد للغموض، ضحايا سلطات العالم، للمحيط، للرأي العام، لكل ما ينتظره الآخرون منّا، لكل الأمور التي نخاف انتقاد الآخرين لنا عليها، النظرة السيئة لنا، عدم تقديرنا ورفضنا. عبودية تجد جذرها، يقول لنا بولس الرسول، في الخوف الأساسي، الخوف من الموت، بمعناه الشامل: خوف من الاحتقار، من الانفصال، من الخسارة، من فقدان ماء الوجه، من الإقصاء، الخ.
هذا الخوف من الموت هو وراء كل أنواع القلق الذي نواجهه في صراعاتنا اليومية. إنه أساس ونبع كل الصراعات التي يسعى الإنسان للانتصار عليها، لمقاومتها، لكي لا يتم إقصاءه، أن يصارع الآخرين، أن يحلّ مكانهم، أن لا يُفاجئ، وأن يصل للحصول على حياة هادئة. كل هذه الأمور هي الواقع الذي تصفه الرسالة إلى العبرانيين، والذي ببساطة يمكننا اكتشافه في روايتي إبراهيم.
1 – خوف إبراهيم أمام ما يحيط به:
الرواية الأولى مزدوجة كما قلت. في مصر كما في جرار، إبراهيم يخفي حقيقة هوية زوجته. في مصر، يُقدمها على أنها أخته، ويعمل جاهداً لتُستقبل على أنها كذلك. وبالمناسبة في الفصل 26 من سفر التكوين نرى، في جرار، اسحق يتصرف بنفس الطريقة. كيف يمكننا فهم الأهمية المُعطاة لهذا الأمر «التافه»، والمكرر ثلاث مرّات؟ عندما يكرر الكتاب المقدس حدث ما ثلاث مرّات، فهذا يعني أن لديه سبب ما. دعوة بولس مروية ثلاث مرّات، ويسوع يعلن عن آلامه وموته في ثلاثة ظروف. في إطار الفصل 12 من سفر التكوين، يبدو لي أن هذه الرواية تكشف لنا في إبراهيم، رجلاً لا يعرف الاستفادة من معرفته المتصاعدة لله. إنه مأخوذ بالمخاوف القديمة، الهلع القديم، من ادعاء العالم القديم الذي يريد أن يُخلّص ذاته من خلال قلب الوضع.
ماذا يمكننا أن نقول بخصوص هاتين الروايتين؟ أولاً علينا التوقف على إطار النص، بنية النص، من خلال تحليل سريع للنص. ثم نطرح بعض التساؤلات: ما الذي يخافه إبراهيم؟ ماذا يعمل بدافع هذا الخوف؟ ماذا يعمل الله؟ ثم نطرح على أنفسنا سؤالين: ما الذي يخافه الإنسان ــــ إبراهيم كنموذج للإنسان الذي يجد نفسه في حالة صعبة، مقلقة إلى حد ما، خطيرة إلى حد ما؟ ما الذي يختبره، وماذا يعمل؟ كيف يحكم الله على هذا الإنسان؟ هذه النقاط الثلاثة هي التي، برأي، تسمح لنا بفهم النص.
ما الذي يخافه إبراهيم؟
الإطار غني بالمعنى بما أنه يأتي مباشرة بعد الوعد: «أُبارِكُ مُبارِكيكَ، وأَلعَنُ لاعِنيكَ وَيتَبَارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض». هذا يعني أنه بإمكان إبراهيم أن يكون مطمئننا، فالله يهتم بحمايته.
إبراهيم يطيع ويذهب غني برؤية جديدة للمستقبل. في الآيات اللاحقة نرى إبراهيم يتضرع لله ويبني له مذبحاً. كل شيء كامل. ولكن، في الآية 10، يجد إبراهيم نفسه في مصر، وحيد، مع ذاته، فريسة مخاوفه، ومشاكله، باحثاً، قدر ما يستطيع، عن تصرف يقوم به. هذا هو إطار النص.
والآن، كيف يمكننا أن نبني نص 12، 10 – 20
العنصر الأول: المجاعة سبب هذه الحالة. ينزل إبراهيم إلى مصر بسبب المجاعة التي اشتددت في البلد، وهذا الأمر يتكرر مع اسحق ومع يوسف.
العنصر الثاني: الآيات 11 – 13. الخوف. يقول إبراهيم لسارة: «أَنا أَعلَمُ أَنَّكِ اَمرَأَةٌ جَميلَةُ المَنظَر، فيَكونُ، إِذا رآكِ المِصرُّيون، أَنَّهم يَقولون: هذِه امرَأَتُه، فيَقتُلوَنني». إبراهيم يخاف الموت، ويختلق حيلة: «فَقولي إِنَّكِ أُخْتي، حَتَّى يُحسَنَ إِلَيَّ بِسَبَبِكِ وتَحْيا نَفْسي بِفَضْلِكِ». في الواقع إبراهيم يأمل أكثر من ذلك: أن يحصل على مكافآت عديدة بسبب هذه المبارزة حول الحياة: ليس فقط حفظ الحياة، إنما أيضاً نمو في الخيرات والغنى.
هذا الخوف وهذه الحيلة، نراهما إلى حد ما في الفصل 20، 1 – 18. يقول إبراهيم لأبيملك: «إِنِّي قُلتُ في نَفْسي: لاشَكَّ أنْ لَيسَ في هذا المكانِ خَوفُ الله، فيَقتُلوَنني بِسَبَبِ امرَأَتي». فالدافع هنا ديني: لا يخافون الله، لذلك عليَّ أن أفكر بذاتي، عليّ أن أحمي ذاتي. كما أن إبراهيم يريد إنقاذ ماء الوجه عندما يقول: «في الحَقيقةِ هي أُخْتي، ابنَةُ أَبي. لكِنَّها لَيسَتِ ابنَةَ أُمِّي، فصارتِ امرَأَةً لي». هذا التقليد يهدف لتسليط ضوء إيجابي على شخصية إبراهيم: في الحقيقة، هي أخته، وبالتالي فهو على حق.
حيلة غامضة:
العنصر الثالث: ما هي النتائج؟ يأخذ فرعون سارة، وإبراهيم يلقى معاملة حسنة، ويُعطى له قطيع وماشية وعبيد، حمير وجمال. إنه نجاح حقيقي لإبراهيم، إنه في ازدهار كبير. بالمقابل فرعون هو من أُصيب بضربات خطيرة، مع أنه بريء بخصوص سارة زوجة إبراهيم. هذه هي النتائج التي لا تخلو من الفكاهة.
الآيات الأخيرة تعطينا أخلاقية النص: «فاستَدْعى فِرْعَونُ أَبرامَ وقالَ له: ماذا صَنَعتَ بي؟ لِمَ لَم تُعلِمْني أَنَّها امرأَتُكَ؟ لِمَ قُلتَ: هي أُخْتي، حتَّى أَخَذتُها لِتَكونَ لِيَ امرأَةً؟». يلعب فرعون هنا دور الرجل النزيه: لماذا تصرفت هكذا؟ لماذا الخوف؟ لماذا استسلمت، مرعوباً، لقلقك الداخلي؟ ثم صرفه فرعون بعد أن غمره بالعطايا.
هذا الحديث بين فرعون وإبراهيم يعبر عن ذاته بشكل قاطع أخلاقياً في الفصل 20. هنا الموضوع هو لقاء إبراهيم مع أبيملك، ملك جرار الذي، يستيقظ ذات صباح، بعد حوار مع الله خلال الليل حيث يكتشف ما حدث. يقول لإبراهيم: «ماذا صَنَعتَ بنا؟ وبِمَاذا خَطِئت إِلَيكَ حتَّى جَلَبتَ علَيَّ وعلى مَمْلَكتي هذه الخَطيئةَ العظيمة؟ إِنَّكَ صَنَعتَ بي ما لا يُصنَع». لدينا هنا حكم سلبي واضح، بخصوص كذب إبراهيم الذي اختلق حالة كاذبة، صانعاً ما لا يُصنع. هذا هو إطار النص.
قوة غريزة الدفاع:
مما يخاف إبراهيم؟ ماذا يعمل؟ النص واضح: يخاف إبراهيم من الإساءة له، لأنه صغير، لا يملك شيئاً، إنه قائد مجموعة من الرعاة، دون أية حماية من قبل أصدقاء أقوياء، بعيد عن بلده، بدون دفاع في عالم عدائي. وبالتالي نفهم قلق إبراهيم. من الذي لا يقف، متفهماً، إلى جانب إبراهيم الذي يرى ذاته ملزماً بحماية نفسه من كل شيء، من الجميع، لأن ما من أحد يفكر به؟ إن لم أفكر بذاتي، فمن يقوم بذلك؟
إنني بدون أهل أو أقارب، بدون أصدقاء، لا أنتمي إلى قبيلة يمكنها أن تدافع أو تنتقم. يخاف إبراهيم، بالفعل، من أن حياته ــــ التي أُعطي لها وعد كبير ومستقبل كبير ـــ تنطفئ، تتلاشى. فالموضوع هو الحماية الذاتية. إنها غريزة البقاء، الدفاع المباشر عن الذات. ماذا يعمل إذن؟ يحمي ذاته على قدر ما يستطيع، ويختار الوسيلة التي، في هذه اللحظة، تبدو له الأفضل. بدون شك، لا يمكننا أن نبقى لا مباليين أمام عطاءه زوجته لرجل آخر.
علينا أن نفهم بأن إبراهيم، لم يجد مخرجاً آخر. لقد دخل في عالم الغموض. لم يقم بذلك بإرادته. لقد شعر بأنه دخل في حلقة لا يمكنه الخروج منها: الحفاظ على زوجته، كان يعني ذلك وضع حياته عرضة للخطر. إعطاء زوجته، كان يعني الدخول في الغموض. محاط، مضغوط من كل النواحي، وجد الطريق الأسهل. وبما أن الموضوع هو قانوني، سعى للعب مع الحق، مع بعض الإمكانيات القانونية، مغلقاً عينيه على النواحي الأخلاقية، لأنه لم يكن يعلم كيف يمكنه أن يتصرف بطريقة أخرى.
الله يرحم الإنسان المسكين:
ماذا يعمل الله؟ لم يعمل له شيئاً، إنه يتفهمه. لإبراهيم أهمية أكبر بنظر الله فيعاقب فرعون. لم يعمل شيئاً لإبراهيم لأنه ــــ والنص لا يقول شيئاً، لكن من المؤكد ــــ أن إبراهيم في حالة صعبة. ضعفه ظاهر ولا يستطيع أن يعمل شيئاً ضد هذا الضعف. يشعر بالاختناق، والخوف مستولى عليه. الله لا يوجه له أي لوم، ولم يتصرف ضده. والآخرون ـــ فرعون وبما فيهم أصحاب السلطة ـــ هم الذين يُعاقبون، من أجل أن يخلص إبراهيم ويستعيد شجاعته. لدينا من جهة عمل إبراهيم الغامض، ومن جهة أُخرى تسامح الله الذي سيستعمل وسائل أُخرى: العطاء المتجدد، في قلب إبراهيم للإيمان، هو الذي سيوضح الحالة ويسمح له بالذهاب إلى الأمام.
هذا الموقف الغامض لم يلوثه بالجبن. ولم يجعله حذراً أمام الوعد، ولم يجعله غريباً عن التصرف الأخلاقي. لقد تم وضعه مجدداً على الطريق السليم، بصبر وهدوء. فالله قاده محترماً، محلقاً، إن صح التعبير ــــ كما يقول الكتاب المقدس ـــ فوق ضعفه، مغلقاً عينيه على ضعف إبراهيم وازدواجيته. فالله لديه طرق أخرى غير النقد العنيف، لكي يشفي هذا الضعف.
ماذا نستخلص من كل ذلك بخصوص الواقع العميق لكل من الله وإبراهيم؟ سؤالين يمسون حقيقة الإنسان ـــ إبراهيم. ما الذي يخاف منه، ومن الذي يهدده؟ الإنسان يخاف كل ما يمكن أن يضعفه، ينقصه، أن يسيء إلى حياته، إلى خيراته، إلى شرفه، إلى أمانه، كل ما يمكن أن يقوده إلى حالات محرجة وغير سارة، حيث يشعر بأنه مرفوض. هذا ما نبحث عن تفاديه بشتى الطرق، البعض منها شريف، والبعض الآخر غامض، خاصة عندما نجد أنفسنا في حالات صعبة، أمام قوى عديدة معادية. يمكننا وضع مخططات بكل هدوء، عندما نكون وحدنا، في غرفتنا. ولكن في اليوم الذي تتضاعف فيه التوترات، والمعارضات، آنذاك تنبعث عفوياً غريزة البقاء: نبحث عن كل وسائل الخروج في هذه الحالات، وغالباً نقع في النفاق. أنا لا أقتل، ولست بإنسان مخادع، لا أسيء لأحد أبداً، ومع ذلك أبحث، بأية طريقة، عن مخرج.
ردة فعل الإنسان وردة فعل الله:
غموض الوجود، هذا القلق، هذا الخوف من أن ننقص، وأن نُذل، وأن نفقد كل شيء، يمكنه أن يمس أمور كثيرة. ليس فقط الخيرات أو الممتلكات المادية، الغنى، إنما بنفس القدر بعض الشرف، والعدل، الذين هم من حقنا. عليّ الحفاظ على شرفي: وأيضاً عليَّ أن أمنع هذا أو ذاك، وأستعمل الوسائل التي تقدم ذاتها لي. ماذا يفعل الإنسان؟ يستسلم للقلق، ويبدأ بالتكلم كالوكيل الخائن في إنجيل لوقا الفصل 16: ما العمل؟ كيف يمكن الاستمرارية؟ كيف يمكن الخروج من هذه الحالة. آنذاك يختلق الإنسان الذرائع.
ولكن ماذا يفعل الله؟ لدي الشعور بأنه يتصرف كما فعل مع إبراهيم. إنه يختبر شعور بالشفقة هائل أمام هذه الحالات من الكذب والضعف، حيث الإنسان يلتزم «غريزياً». يبذل جهداً لكي لا يقع؛ ويمكنه أن لا يقع، يرغب في أن لا يقع، ولكن في أغلب الأحيان، ها هو يقع. فالضغوطات الخارجية قوية لدرجة، ورغبته في عدم الموت قوية جداً، في أن لا يُذل، أن لا يُنقص من كيانه، وأن لا يفقد، وأن لا يخيب آمال الآخرين بفشله، وأن لا يتغلغل الكذب في أنسجة حياته.
سؤال أخير بخصوص هذه النص. حاول إبراهيم أن يقوم بما يستطيع. لقد مضى قدماً، بغموض، أخذ الطريق الأول الذي وجده، حتى ولو كان واعياً بشكل خفي أنه ليس الطريق الأفضل، لكن لم يكن بإمكانه التصرف بطريقة أُخرى؛ وأن الله لم ينتقده أو يلومه؛ أشفق عليه. السؤال، هل كان بإمكان إبراهيم أن يصل إلى معرفة حقيقية عن الله في هذه الظروف؟ هل يمكن أن تكون له معرفة حقيقية عن الله الذي يكشف عن ذاته، ويثق به في كل شيء؟ حتماً لا! بسبب تآكل هذا النفاق وهذه المخاوف. نفاق، مخاوف، رعب ــــ حتى ولو لم يكونوا دائماً سلبيين ـــ فهم يمنعون الإنسان مع ملء المعرفة الله الذي يكشف عن ذاته فقط في قلب الثقة المطلقة التي يعطيه إياها الإنسان، من خلال الانتماء المطلق، والتخلي الكلي عن الخوف والقلق. إبراهيم يبقى هنا، لا يتقدم، ومعرفته لله تتجمد فما الذي يحدث؟ يحدث ما نراه في الفصل 16، 1 – 6.
2. خوف إبراهيم داخل عائلته:
لنتوقف الآن باختصار على الرواية الثالثة: خوف إبراهيم داخل عائلته، حيله، ذرائعه. سنتوقف على الآيات 1 – 6، حيث يروى لنا ولادة إسماعيل.
ما هو إطار هذا النص؟ هنا أيضاً نحن أمام أمر غامض، كما في الفصل 12 حيث يستقبل إبراهيم وعد الله الكبير: سأباركك، وأكون معك، لا تخاف من أي شيء، وسأعطيك الكثير. مباشرة يعبد إبراهيم ويشكر، ولكن سرعان ما يستسلم للخوف. الفصل 16 يتبع مباشرة الوعد الكبير والعهد في الفصل 15 حيث يقول الله لإبراهيم: «لن يَرِثَكَ اليعازَرُ الدِّمَشْقيّ، بل من يَخرُجُ مِن أَحْشائِكَ هو يَرِثُكَ. ثُمَّ أَخرَجَه إِلى خارِجٍ وقال: اُنْظُرْ إِلى السَّماء وأَحْصِ الكَواكِبَ إِنِ استَطَعتَ أَن تُحصِيَها، وقالَ له: هكذا يَكونُ نَسْلُك. فآمَنَ بِالرَّبّ، فحَسَبَ لَه ذلك بِرّاً». قام إبراهيم إذن بعمل إيمان كامل، سلّم نفسه كلية لله، لإله الوعد. لدينا رواية مضيئة تشهد لهذا الاستسلام: الحيوانات التي شطرها إلى اثنين ثم يقول الله لإبراهيم «سوف أعطي لنسلك هذه الأرض».
هكذا يمكن لإبراهيم أن يستمتع بضمان كلي وعلى كل الأصعدة: التصوفي، والرمزي، والتجريبي. لكن الفصل 16 يتابع: «فقالَت سارايُ لأَبْرام: هُوَذا قد حَبَسَني الرَّبُّ عنِ الوِلادة، فاَدخُلْ على خادِمَتي، لَعَلَّ بَيتي يُبْنى مِنْها. فسَمِعَ أَبْرامُ لِقَولِ ساراي». أمر غريب! في الفصل 15: «سمع إبراهيم صوت الله، فآمَنَ بِالرَّبّ، فحَسَبَ لَه ذلك بِرّاً»؛ وفي الفصل 16: «فسَمِعَ أَبْرامُ لِقَولِ ساراي». هذا هو ضعف وخوف أبينا في الإيمان: لم يستقبل فقط الوعد في الفصل 12، معلناً له بوضوح ولادة ابن: «سأجعلك أمة كبيرة وأباركك»؛ لم يستقبل فقط الوعد في الفصل 13: «إنَّ كُلَّ الأَرضِ الَّتي تَراها لَكَ أُعْطيها ولِنَسلِكَ للأَبَد»، لكن أيضاً العهد الكبير في الفصل 15. وها هو الآن مأخوذ كلية بالخوف.
هذا هو إطار روايتنا. يمكننا أن نقسّم ما يقوله لنا النص إلى 3 أقسام. الأول يخص خوف سارة: «هُوَذا قد حَبَسَني الرَّبُّ عنِ الوِلادة، فاَدخُلْ على خادِمَتي، لَعَلَّ بَيتي يُبْنى مِنْها». القسم الثاني يخص إبراهيم الذي يستسلم لخوف سارة الذي يجتاحه. والقسم الثالث يبين لنا إبراهيم الذي، بسبب سارة التي تشكو من هاجر وموقفها المتكبر، يعيد لها باحتقار، خادمتها: «هذِه خادِمَتُكِ في يَدِكِ، فاَصنَعي بِها ما يَحسُنُ في عَينَيكِ». إبراهيم المستفيد من الوعد، مشلول: معرفته لله تتلاشى، تميل للإمحاء. لم يصل لعيش الواقع بالفعل، وليقود حياته مع الله، إله الوعد.
علاقاتنا: جذور بعض عدم النظام:
بعد أن اكتشفنا في إبراهيم رجل حر وسجين في آنٍ معاً، يمكننا متابعة التفكير مستندين على ما يقدمه لنا القديس اغناطيوس في المناجاة الثلاثية: أن نركز أقل على الخطيئة من عدم التنظيم في حياتنا، أي ما هو ليس بمنظم، ما لا يتبع بشكل مستقيم الخط الذي علينا اتباعه. جذور عدم التنظيم هذا هو بالتحديد روابطنا. ليس الموضوع دائماً خطايا خطيرة، مخالفات أخلاقية، إنما بالأحرى اختيارات غير منظمة، طرق العيش؛ روابط إلى حد ما واعية، عفوية، ومن المستحسن إدراكها على ضوء كلمة الله. لو كنت مكان إبراهيم ماذا كنت سأفعل؟ بالنظر إلى ردة فعله، أي تواطئ أشعر بداخلي؟ هل كنت تصرفت على مثاله؟ هل كنت هربت؟ هل كنت واجهت الموت؟ هل كان لدي هذه الشجاعة؟
هذه هي الأصداء التي تحثها فينا رواية إبراهيم، وتسمح لنا بأن نكتشف ما الذي، في الواقع، يكبلنا، الحالات الغامضة التي تبقى كامنة والتي، طالما أنها باقية، تتركنا أخلاقيا أحرار ولكن في الوقت عينه بإمكانها أن تحني بشكل غامض، أوتوماتيكيا طريقة عيشنا وتصرفنا. لنتأمل هذا الأمر. إبراهيم لم يستطع أن يهدم روابطه الكامنة وبالتالي لم يستطع أن يتحرر من الغموض الذي كان فيه. ونحن لا يمكننا القيام بأكثر من إبراهيم. علينا أن نكون متأكدين: الله لا يلومنا، لا يعلّل ضد ضعفنا، لكنه يطلب منّا الاعتراف به، لكي نستطيع، في النهاية، بثقة متجددة، الاستسلام لقدرة كلمة الله ونطلب منه: «ماذا فعلت يا رب بإبراهيم؟ ماذا تريد أن تفعل بنا؟»
مثالين آخرين على النفاق:
نصين من العهد الجديد يمكنهما مساعدتنا على التعمق بموضوع تأملنا. الأول (مر 10، 17 - 22) الشاب الغني. لديه رغبات كبيرة، لكنه سجين، منقسم، كما كان إبراهيم. يا معلم ماذا عليَّ أن أفعل، أريد أن أدرك كلمتك في أعماقها، لكن هذا مستحيل. مستحيل لأنه لم يستطيع التحرر من روتين العادات اليومية، من موقعه، من حالته الاجتماعية. مليء بإرادته الجيدة، يصغي إلى كلمة الله، يرمي بنفسه على أقدام يسوع أمام الناس، يعلن إيمانه، لكن سرعان ما يقول: مستحيل. هذا النص يذكرنا بالانقسام الداخلي لإبراهيم.
مثل آخر قد يكون أقرب من نص إبراهيم (لو 19، 11 -27): مثل الوزنات. ما يهمنا، هو الإنسان الذي دفن الوزنة في الأرض. لماذا تصرف بهذه الطريقة؟ لأنه يخاف المعلم، يخاف من ذاته. لكونه لم يبحث بالكفاية لمعرفة الله، لم يترك وزنته تثمر، إنه مشلول تماماً. هنا، قليل من معرفة الله قد تحجم من يستسلم للخوف. قد أغلق على ذاته في نوع من الهلع الديني المُستّعبِد. تجمدت الكلمة فيه فلم تُثمر. الخوف، الخوف الديني من الله المنظور إليه بطريقة ما، لا يمكنه إلاَّ أن يجمد فينا كلمة الله.
فمن يشعر بنفسه مقيداً ويريد أن يقدم لله هذه الروابط، يمكنه أن يصلي مع المزمور 31
«بِكِ اْعتصَمت يا رَب فلا أَخز لِلأبَد بِبِرَكَ نَجَني. أَمِلْ إِلَيَّ أُذُنَكَ وأَسْرعْ إلى إِنْقاذي كنْ لي صَخرَةَ حِصْنٍ وبَيْتًا مَنيعًا لِخلاصي. فإِنَّكَ أَنتَ صَخرَتي وحِصْني».
الإيمان على ضوء مسيرة إبراهيم 1
من هو إبراهيم؟
- إبراهيم أبونا في الإيمان:
إبراهيم «نموذج» لنا: من هو إبراهيم؟ هل وجد بالفعل أم لا؟ المختصين بالكتاب المقدس يقولون بأنه من المرجح أن إبراهيم لم يوجد كشخص تاريخي. ما يهمنا لدى إبراهيم هو وجه إبراهيم، ما حققه الله معه، ما تركه لنا الله من خلاله. باختصار، ما يمثل إبراهيم بنظر كل الذين ينتمون إليه إن صح التعبير.
لأن إبراهيم ليس فقط وجه فردي، إنه أيضاً «نموذج». إنه يمثل إسرائيل في بحثه عن الله. إنه الإنسان الذي يبحث عن الله. إنه جمع، إنه كل الذين يبحثون عن الله، إنه كل واحد وواحدة منّا الذين يسيرون باتجاه الله ليتمثلوا بكلمته. لهذا السبب لن نتوقف على الشخصية الفردية التاريخية لإبراهيم.
إبراهيم هو أب كل الذين يبحثون عن الله:
إبراهيم أبونا. ماذا تعني نون الجمع «أبونا»؟ عن أية جماعة نتكلم عندما نقول «أبونا»؟ بالتأكيد الجماعة المسيحية. ولكن هذا الجمع ينتهي بأن يمس كل البشرية.
إبراهيم أب يعلمنا طريق الحياة:
بأي معنى يمكننا القول بأن إبراهيم هو أبونا؟ بالتأكيد، إنه أبونا بمعنى الفصل الأول من إنجيل متى الذي يقول: «إبْراهيم وَلَدَ إِسْحق وإِسْحق وَلَدَ يَعْقوب» وهكذا على مسار النسب لغاية «ويَعْقوب ولَدَ يوسُف زَوجَ مَريمَ الَّتي وُلِدَ مِنها يسوع وهو الَّذي يُقالُ له المسيح». هذه هي تبعيتنا البنوية بالنسبة لإبراهيم. إنه أب يسوع المسيح، الذي به ولدنا أجمعين. بهذا المعنى، هو أبانا في الإيمان. في الواقع بقدر ما نعيش وجودنا المسيحي، بقدر ما نكون فعلياً منتسبين لجسد المسيح، نحن أبناء إبراهيم. وبولس الرسول يقول: أبناء الله الحقيقين هم الذين تُمم فيهم الوعد.
ما يربطنا بإبراهيم ليس فقط من مجال النسب، إنما أيضاً رابط المثال. وعندما تقول اللترجيا بأن إبراهيم هو أبونا، فهي تقول بأن إبراهيم يعلمنا طريق الحياة، ينقل لنا التقليد، يحدد لنا طرق العيش والتصرف. وبالتالي، تقلبات ومخاوف ووحدة ونِعَم إبراهيم تعني، ترمز إلى تقلبات ومخاوف ووحدة ونِعَم كل واحد وواحدة منّا تحت نظر الله.
إبراهيم هو أيضاً أب في حج الإيمان:
قلنا إنه أبونا في الإيمان. هذا الإيمان له معاني متعددة. له أيضاً معنى موضوعي يلمس المحتوى. إنه أبونا لكونه جدّ، سلف هذا الشكل من العبادة، لهذه الطريقة في التعبير عن حياة إيماننا. عبادتنا هي إبراهيمية، أي أنها شكل خاص للعلاقة مع إبراهيم. أبونا في الإيمان بمعنى الإيمان الحياتي المُعاش، بمعنى الخبرة الشاملة. إنه أبونا خاصة من خلال عمل إيمانه، وموقفه الجذري للإيمان. إنه نموذج ومثال الإنسان الذي يجعل من ذاته استقبال واستعداد. بهذا المعنى، هو أبونا في استعداد وانفتاح الإيمان على الرجاء.
إنه يقدم ذاته لنا كأب في «اللامبالاة، عدم الانحياز» وفي الاستعداد، الأب الذي يقف أمام كلمة الله (عدم الانحياز يعني الوقوف أمام الله بحيادية كاملة لكي يكتشف الإنسان إرادة الله له ليختار ويعيش انطلاقاً منها). الوقوف أمام كلمة الله أمر صعب، تدريجي ـــ وسوف نرى ـــ موجع. ولكن هذا الاستقبال للكلمة، هذا الإيمان، هذا «الرجاء على غير رجاء»، هذا هو، برأي بولس، ما يُبرّر إبراهيم: «أمن إبراهيم فحسب له ذلك برّاً».
إنه إذن أبونا بهذا العمل الجذري، الأساسي لحياتنا المسيحية «عهد من خلاله يضع الإنسان نفسه كلية وبحرية بين يدي الله». كما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني في دستور حول الوحي الإلهي (رقم 5). إبراهيم هو أيضاً أبونا في مسيرة الإيمان على مثال مريم التي كانت «تتقدم في مسيرة الإيمان». وإبراهيم أيضاً تقدم في مسيرة الإيمان ويمكننا التأمل في حياته كحج إيمان. حياة إبراهيم هي حج إيمان. ينطلق من نقطة، يعبر بعدة مراحل، ويصل إلى نقطة الوصول. (وهذا هو دور الرياضة الروحية لكونها تشكل هذه المسيرة)
2. المصادر: ماذا نعرف عن إبراهيم؟
بداية لدينا الفصول 12 – 25 من سفر التكوين. وفي العهد الجديد رو 4، غلا 3، عب 11. لكن هناك مصادر أخرى غنية نلجأ إليها عند الضرورة.
ماذا يقول العهد القديم عن إبراهيم؟
في العهد القديم يُذكر اسم أبرام 60 مرة، واسم إبراهيم 174 مرة أي 234 مرة. في العهد الجديد، يذكر اسم إبراهيم 72 مرة. ولكن خلافاً لما نعتقد، الأسفار التي تتحدث عن إبراهيم أقلّ من المتوقع، فشخصية إبراهيم ليست شخصية شعبية في العهد القديم إن صح التعبير. يذكر في سفر الحكمة وسفر يشوع ابن سيراخ والمزمورين 47 و 105. يمكننا القول أنه بعد السبي يأخذ إبراهيم أهمية أكبر.
ماذا يقول العهد الجديد عن إبراهيم؟
مرجعين مهمين في العهد الجديد. نشيد مريم: «كما قالَ لآبائِنا، رَحمَتَه لإِبراهيمَ ونَسْلِه لِلأَبد» ثم نشيد زكريا: «ذاكَ القَسَمَ الَّذي أَقسَمَه لأَبينا إِبراهيم». ولدى يوحنا: « الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: قَبلَ أَن يَكونَ إِبراهيم، أَنا هو» كما أن يوحنا يذكر إبراهيم في أماكن أُخرى. هذه هي المراجع الكتابية التي يمكننا التأمل فيها.
بالطبع هناك مراجع يهودية واسلامية.
ماذا تقول المصادر المسيحية؟
تبقى المصادر المسيحية، أي مجمل التفكير المسيحي بخصوص إبراهيم. هناك أولاً آباء الكنيسة. الآباء يتحدثون كثيراً عن إبراهيم، حتى ولو لم يتركوا لنا دراسة كاملة، كما هي الحال بالنسبة لموسى ـــ حياة موسى، غريغوريوس النيصي.
بعد الآباء، لدينا تفكير روحي حول إبراهيم. في اللترجيا، والفن المسيحي، والأيقونات. في الرواية أو الرسومات الحديثة. كل ذلك يُظهر التيار المسيحي للفكر، محاولاً فهم ذاته على ضوء إبراهيم. مثل واحد قد يكفي، الرسومات الشهيرة للفنان رامبرانت ــــ أعتقد هناك 4 ــــ حيث يقدم لنا إبراهيم في مختلف لحظات حياته. بطرق مختلفة، بحث رامبرانت لتأويل ما حدث آنذاك، ما يقوله إبراهيم للضمير الديني.
هناك آخر مصدر شخصي. أنا هو إبراهيم. كيف أقرأ بداخلي مسيرة إبراهيم؟ بالطبع، هذه القراءة ليس لها قيمة تاريخية وتفسيرية للكتاب المقدس، لكن من الممكن لكل واحد وواحدة أنه قام أو سيقوم، أو في صدد القيام بخبرة إبراهيم. وبالتالي يمكنه قراءة ما يقوله الكتاب المقدس عن إبراهيم على ضوء خبرته الشخصية.
- من أين؟ من أية معرفة عن الله انطلق إبراهيم؟
من أية معرفة عن الله انطلق إبراهيم؟ من الصعب الإجابة على هذا السؤال. فالكتاب المقدس لا يقول لنا شيء عن هذا الأمر. لكن يمكننا الاستناد إلى سفر الحكمة الذي يتحدث عن إبراهيم دون تسميته: «ولَمَّا أَجمَعَتِ الأمَمُ على الشرّ فأُخزِيَت مَعًا فهِي الَّتي عَرَفَتِ البارَّ وصانَته بِلا عَيبٍ أَمامَ اللّه وحَفِظَته أَقْوى مِن حَنانِه لِوَلَدِه» (10، 5). لا شك أن بعض الملامح تعود لحياة إبراهيم بعد دعوته، لكن يمكننا الاستنتاج بأن حياته الدينية ولدت من خبرة من الفوضى والشر.
رؤية الله في النجوم أو الكواكب:
«رَفَعتُ يَدي إِلى الرَّبِّ الإِلهِ العَلِيّ، خالِقِ السَّمَواتِ والأَرض» يقول إبراهيم (تك 14، 22). هذا يعني أن إبراهيم تأمل بالله انطلاقاً من جمال الخليقة. أي أن إبراهيم كان له خبرة دينية قبل دعوة الله له. خصوصاً عندما نعلم أنه أتى من منطقة يمارس الناس فيها كثيراً علم الفلك. وعندما يدعوه الله يستعمل صور الكواكب والنجوم: «اُنْظُرْ إِلى السَّماء وأَحْصِ الكَواكِبَ إِنِ استَطَعتَ أَن تُحصِيَه هكذا يكون نسلك» (تك 15، 5). فتضرع إبراهيم لله خالق السموات والأرض يدل على وجود خبرة دينية سابقة.
متى عرف الله؟ ثلاثة فرضيات. البعض يقول بعمر السنة. والبعض الآخر يقول بعمر 3 سنوات وآخرون 48 سنة.
متى عرف الله؟
المرجح هو بما أن إبراهيم كلداني، عاش في جو يهتم بعلم الفلك، وانطلاقاً من هذا الأمر، كوّن إبراهيم فكرته عن الوحيد الذي هو مصدر كل شيء، لا يتبع لأحد، خالق الكون. وتدريجياً وصل إبراهيم إلى فكرة الله الواحد.
بحسب كتاب «اليوبيلات»، في سن ال 14 اكتشف إبراهيم فساد البشر وانفصل عن أبيه لكي لا يعبد آلهات مزيفة. حاول عبثاً إقناع أبيه بالتخلي عن عبادة الأصنام التي قرر حرقها. أخ إبراهيم احترق في وسط النيران وهو يحاول إنقاذ الأصنام. فكرة النيران أتت من الكتاب المقدس في لحظة حيث يقول الله لإبراهيم: «أنا الله الذي خلصك من نيران الكلدانيين».
يتساءل المختصون في الكتاب المقدس عن هذه النيران. هل هي مجرد حريق كاد إبراهيم أن يهلك بسببها؟ أم هي فساد الكلدانيين الذي منهم أنقذه الله؟ إبراهيم يصلي إلى الله ليأتي لنجدته لكي لا يقع في الخطأ وليساعده ليرى كل ما عليه القيام به. وهنا يأتي جواب الله. كان لإبراهيم علاقة مع الله، صورة ومعنى عن الله سمح له بالعودة إلى الله وسماع صوته. هذه الصورة وهذا المعنى عن الله استقبله إبراهيم من عائلته وتربيته. والبعض يعتقد أنه نتيجة ثورة إبراهيم على أبيه العالم بعلم الفلك. والبعض الآخر يقول أن إبراهيم عاش خبرة دينية عميقة بتأمله بالسماء المليئة بالكواكب.
تأمله بالسماء وكواكبها سمح لإبراهيم بالوصول إلى الخلاصة أنه بدلاً من عبادة الكواكب، عليه أن يعبد سيد الكواكب، من خلقها. إنها خبرة دينية طبيعية. إنه حدس المتعالي، حدس السببية هو الذي فتح إبراهيم على معنى الله.
هناك فرضية أُخرى، الأرجح من قبل الذين يتحدثون عن 48 سنة، تقول بأن إبراهيم عاش عبادة هادئة للأصنام، معنى غامض لله، لكن كلمة الله هي التي أهدته. وبالتالي، معرفة الله، المعرفة الحقيقية لله ولدت في لحظة دعوته. بمعنى آخر، تم تحديد كل من الاهتداء والدعوة.
خبراتنا الدينية الأولى:
هؤلاء المختصين قدموا لنا إبراهيم بحسب الإمكانيات الإنسانية المختلفة للوجود. وبالتالي السؤال: ونحن متى: بعمر السنة، ثلاث سنوات، ثمانية وأربعون عرفنا الله؟ وكيف: في العائلة؟ بمعارضة مع العائلة والعالم المحيط؟ بخبرة دينية حميمة؟ بفضل كلمة الله المُعلنة؟
هذه الإمكانيات مهمة، وكل واحدة منها لها قيمها وحدودها. وبالتالي من المهم أن نتأمل بالقيم والحدود التي نحملها فينا، من خلال الحياة، قيم وحدود خبراتنا الدينية الأولى، طريقتنا الأولى التي من خلالها اقتربنا من الله، التي بإمكانها أن تستمر على مدار سنين. من الضروري مواجهة هذه الطريقة مع الطريقة التي تعطي الأولوية للكلمة، للعالم الإنجيلي الذي يحتفظ بداخلنا بأثار، غالباً بأثقال خبراتنا الأولى.
الإمكانيات الثلاثة:
لنعود إلى الأعمار الثلاثة (سنة، ثلاثة، ثمانية وأربعون) المطروحة من قبل المختصين لنرى معناها الرمزي. ماذا تعني سنة؟ إنها الزمن الأول. الله يكشف عن ذاته بشكل مباشر للنفس، بوضوح وبملئه، منذ البدء: هذه هي حالة العذراء مريم، وبعض الشخصيات، وقد يكون لأحد منّا، لما لا! هذه المعرفة، يمكن وصفها بأنها ولادية، عميقة، متجذرة في عمق الكيان: نعمة هائلة، نادرة وصافية.
ماذا تعني ثلاثة سنوات؟ إنه الزمن حيث العائلة تبدأ بتعليم الصلاة، واسم الله. تعلمنا بأن نعتاد على الرموز الدينية، إشارة الصليب، والمصلوب. هنا، تربية العائلة الطبيعية إن صح التعبير، إنها تربية أغلبية المسيحيين. ولدنا في عائلة تدفعنا على أخذ هذه العلامات على عاتقنا ونتبناها. العائلة أدخلتنا في عالم الصلاة، عالم الكنيسة، إلى جانب أهلنا الذين كنا نراهم يصلون ويشتركون في المناولة. هكذا تبدأ خطوة دينية عميقة.
والثمانية والأربعون؟ إنها تعني مسيرة صعبة، غالباً غريبة، تعبر من خلال العديد من غرابة أو انحرافات الفكر، تائهة من هنا وهناك، كالقديس أغوسطينوس، الذي كان يبحث شمالاً ويميناً. السؤال: هل من المعقول الانتظار 48 سنة لنلتقي بالله الحقيقي؟ طبعاً هذا ممكن، حتى في العالم المسيحي، على الأقل، بدرجات معينة.
من الممكن جداً أن نعيش لسنوات طوال خبرة دينية غامضة، خبرة دينية لا تمس عمق كياننا. مثلاً: كاهن يقول للأسقف بعد مشاركته في تحضير مجموعة بالغين للعماد: «أخيراً فهمت قانون الإيمان!». والأسقف يجيب: «فعلاً؟ ألم تكن تعظ في الكنيسة خلال سنوات، وعلّمت في كلية اللاهوت؟». في الواقع من الممكن أن نعيش طويلاً خبرة دينية غامضة، دون أن ندرك عمق المعنى، ونبقى على هامش الحقيقة، إلى حد ما كالإنسان الملحد. وهناك الكثير من الناس الذين يعيشون خبرة دينية دون أن تلمس أعماقهم.
بالطيع هذا ليس بسيء. ومع ذلك، بالواقع، يدعونا الله وينتظرنا بعد هذه الخبرة. نعم، كثيرة وغير متوقعة طرق الوصول إلى خبرة حقيقية دينية، إلى تطهير خبرة سابقة. قد تدوم سنوات، فلا زمن لها. من هنا أهمية السؤال: ما هي أولى خطواتي، متى؟ من المهم تحديد اللحظات، السنوات، مع الأخذ بعين الاعتبار الصعوبات التي دامت، نقاط الظلمة ونقاط النور التي تتابعت كمحن، كانقباض، غيابات الله.
الكيفية مهمة بالنسبة لنا:
أكثر من ال «متى»، «الكيفية» أهم بالنسبة لنا. أولاً، نحن مدفوعين من قبل القيم ومكبوحين من قبل حدود «كيفية» خبراتنا الدينية، الأولى منها واللاحقة. ولكن خصوصاً لأن خبرات مسيرتنا تحتاج إلى التطهير. لننظر إلى هذه «الكيفية» على ضوء أربع إمكانيات أو احتمالات:
- التربية العائلية في تقليد شيت (الولد الثالث لأدم وحواء ولد بعد مقتل هابيل وهو سلف نوح) ونوح.
- الحاجة لأخذ البعد عن العائلة الوثنية.
- التأمل بسماء الكواكب.
- الإصغاء إلى كلمة الله.
الخبرة الأولى هي خبرة العائلة، التي تنقل تقليد قديم جداً. كلنا نعلم جيداً القيم الهائلة لهذا النوع من التربية الدينية. فالمسيحية هي تقليد، لا وجود لها بدون التقليد، ونحن مسجلين في تقليد حي. إنها نعمة أن نولد ونتربى تربية مسيحية. بالمقابل، حدود أو حدودية مسيحية التقليد نعرفها. كثير من الأمور التي تلقيناها أصبحت مألوفة وإلى حد ما تافهة، أكيدة، تلقائية وفاقدة لكل تباين. مثل هذا الكاهن الذي تحدثت عنه.
فالمهم هنا هو اكتشاف الأهمية الأساسية لقوة كلمة الإنجيل التي تعلن الموت والقيامة، لكي تسيطر وتغّير (تجلّي) مجمل التقليد الديني. هذا الأخير يأتي إلينا بشكل موحد دون أي بروز، دون أن يبين بوضوح ما هو جوهري وما هو هامشي.
هذه هي الصعوبة التي تنتج عن التقليد الديني المُستقبل ككنز كبير حيث نعتبر أنه علينا ممارسة كل شيء، وكل شيء فيه هو جيّد، مهم، بالإضافة إلى أخلاقيات المسموح والممنوع. إنه كنز، لا شك، لكن في لحظة معينة، يصبح عبئاً. إنه غامض، ويمنع من معرفة الله. إنه يجعل من الممكن القيام خلال 48 سنة بهذه الممارسات دون الوصول إلى معرفة حقيقية لله، لأننا نعيش مع هذا الحمل المهلك، الذي علينا حمله في كل الظروف، لأن مخالفة نقطة واحدة منه تعني هلاك الكل. وبالتالي نحرم أنفسنا من إمكانية الحصول على معرفة واضحة للسر المركزي.
هذا هو إذن غموض مسيحية التقليد. لا شك، لا ننكر أن التقليد أساسي، لكن هل هو واحد؟ التقليد الموجود وراء المسيحية يمكنه في الوقت نفسه أن يشوهها، لأنه «يسطحها»، إنه يمنعنا، نفسياً، من أن نعي قدرة الإنجيل. والإنجيل، في هذه الحالة، يصبح كلمة لكل ما نقوم به ونقوله. هكذا أحدد الخبرة الأولى.
قيم وحدود الاهتداء:
الخبرة الثانية، تكمن في أخذ البعد بالنسبة للعائلة، والحاجة للخروج بدون تأخير من جو ديني ذو نوعية سيئة، رمادي اللون، غير مؤاتي، سلبي، ملحد، لا مبالي، لا يحمل لنا أية مساعدة. هذه الخبرة لها إيجابية.
إنها تسمح لظهور أكبر وأوضح للشخصية. لكن هناك حد، هناك عيب أو سيئة. حد وسيئة لبعض الاهتداءات: نتخيل أن الاهتداء هو ثمرة عملنا، إنه مثالنا الشخصي الذي حققناه. من هنا عناد بعض المهتدين المتعصبين قليلاً، الذين اضطروا لقطع علاقتهم مع محيطهم، مكونين هكذا فكرتهم الشخصية عن الدين. فهم يحتفظون بها، يدافعون عنها ويعارضون، باسمها، كل الذين يعتبرونها بطريقة مختلفة.
هنا، نجد الظاهرة عينها كسابقتها. ما هو إيجابي هو أيضاً مصدر غموض. إنها طريقة أنانية في وضع اليد على الدين. دين قوي لكنه محدود. هؤلاء الناس فهموا فكرة، لكن هذه الفكرة أصبحت شمولية، تحولت إلى عقيدة، تريد أن تشمل كل شيء. كم من الصبر أُنفق، من الألم تم تحمله بحضور هؤلاء الأشخاص، الذين يدّعون فرض رؤيتهم على الآخرين. كل واحد يريد أن يُقنع الآخرين بعقيدته، لأنها ثمرته أو انتصاره، خيره، كنزه الثمين الذي يريد فرضه على كل الناس.
هذا هو العائق الذي يحدّ من إيجابية إثبات شخصية وغنى الحماس الديني. هذه الحدود تظهر ليس فقط كأمر بغيض يولده هذا الموقف لدى الآخرين، إنها تبدو أيضاً في الانحرافات التي تنبع منها غالباً: مثل نجاح كبير ينتهي بهزيمة غريبة.
الخبرة الثالثة:
إنها المشهد الرومانسي لإبراهيم المتأـمل بسماء الكواكب. إنه رجل بسيط، عاش في جو مريح، في محيط يهتم بالفضاء كأمر طبيعي. وفجأة، أثناء تأمله بالنجوم، يشعر بوجود شيء أكثر، لا يجيب عليه علم الفضاء. لا بد من وجود أحد يوجه ويتحكم بهذه النجوم، أحد يمسك بها بيده. هكذا يشعر، بقلبه، بحركة عبادة أعمق، مشعة، مقابل هذا السر، مقابل هذا الآخر كلية، المطلق، الذي يفتنه ويخيفه. شيئاً فشيئاً، يصل إلى خبرة دينية طبيعية، عميقة وغنية جداً، لها إيجابيات كثيرة، لكونها شخصية، مُعاشة بحميمية، متربطة بخبرة الفلك، قادرة على توجيه حياته.
هل هذا النوع من الخبرة غامض؟ حتماً. لأنها خبرة دينية مبنية على التعمق بالذات. ومحدودة بالعلاقة بين الله والكون، أو الله والفلك، مولودة من هذا الإدراك. بدون شك من وصل إلى هذا الإدراك الميتافيزيقي يمكنه أيضاً أخذ البعد عنه وتصور حرية الله. لكن، الموضوع هو، برأي، طريقة لرؤية الله تابعة لخبرة شخصية بحتة. خيرة دينية، في لحظة معينة، قد تبسط حجاباً، وتقيم حاجزاً أو عقبة، فتمنع مباشرة مجيء كلمة الله بسبب الرضى الذي وجدته. هذه الخبرة تبدو كافية.
دين غامض، مجرد، إيمان عقلاني، مليء بالثقة، قادر على أن يصبح، لهذا السبب، صورة عن كلمة الله. كل واحد وواحدة منّا يمكنه أن يجد ذاته في هذه أو تلك الحالة من هذه الحالات، لأن ديننا هو خليط، معقد لا يمكن فكه أو فصله، لهذه الخبرات العميقة والشخصية لكنها تحتاج إلى الاهتداء والتطهير، والخروج من الغموض بفضل كلمة الله.
كلمة الله:
الخبرة الرابعة:
إنها القيمة الوحيدة الحقيقية، النهائية. إبراهيم اهتدى بفضل خبرة الكلمة. خبرة تتم عندما يفهم بأن الله هو المطلق، كلياً الآخر، يتصرف بحرية، ويظهر فجأة في حياته وعندما يشاء. لم يعد الله كما يتخيله إبراهيم، الذي هو على مقياس الكون، بل الله الذي يُظهر ذاته بطريقة غير متوقعة، غير معروفة، لأنه لا يمكن إدراكه. آنذاك، كما سنرى لاحقاً، يولد غليان في قلب إبراهيم.
أعتقد أن هذه الخبرة الأخيرة، يمكننا أن نلمحها، مستوحيين من علم الآثار وتفسير النصوص القديمة، عندما يعبر إبراهيم من الاله «أيل» إلى الله. وبالتالي إله السماء، الله المسالم هو الذي يتسلط على كل شيء، ينظم مسار الأشياء، والفصول، والنجوم، ونحن نتثمل به وهو يلتزم بنا، يتمثل بإيقاع الرعاة والمزارعين. إذن دين بسيط وطبيعي.
هذا العبور من «أيل» إلى الله سيؤثر على مجمل حياة إبراهيم، وسيصطدم به باستمرار، كما سنرى لاحقاً. لكنه يتميز بالانفتاح على الكلمة، الكلمة الغير متوقعة، الغير معروفة بأصلها، لأننا لا نعرف الله، لم نراه قط، ونجهل من هو. لكننا نعرف بأنه يعمل فينا، ونحن نثق به، دون معرفته كلية، ملتزمين بهذه المغامرة.
إنها خبرة الاهتداء ــ الدعوة التي عرفها إبراهيم، في ساعة ما من حياته، لكن كان دائماً يعيشها مجدداً، يعمّقها. ونحن؟ هل قمنا بهذه الخبرة؟ متى؟ متى تجددت؟ ماذا أصبحت؟ ما هو وضعي اليوم مقابل سر الله؟ الاحتمالات لا تُحصى: معرفة، رفض، إهمال، انتساب غامض أو دائماً واضح.
كل هذه الطرق الممكنة، نجدها أيضاً في الحياة الرهبانية، حيث يظهر بشكل واضح كل ما يفصل الإنسان عن الله. الحقد على الله، الاحتقار، الرفض، استحالة معرفته. كل هذه التصرفات تنبعث بقوة أكبر، لأن الله يصبح شريكاً في الوجود حيث، بالنتيجة، يتم تحديث الصراع مع الله. من المهم الاعتراف بهذا الصراع فينا، صراع إبراهيم وندعه يظهر على الساحة أمام سر الكلمة.
الإيمان على ضوء مسيرة إبراهيم
المنشأ النفسي للدين
مقدمة
موضوع الإيمان أساسي في الحياة بشكل عام وفي المسيحية بشكل خاص. اخترنا أن معالجة الموضوع على ضوء مسيرة إبراهيم الإيمانية لكونه معتبراً على أنه أبونا في الإيمان.
نحن نقول بأن إبراهيم هو أبونا في الإيمان. وبولس الرسول يقول في رسالته إلى أهل غلاطية: «آمَنَ إِبراهيمُ بِالله، فحُسِبَ لَه ذلِكَ بِرًّا. فاعلَموا إِذًا أًنَّ أَبْناءَ إِبراهيمَ إِنَّما هم أَهْلُ الإِيمان. ورأَى الكِتابُ مِن قَبلُ أَنَّ اللّهَ سيُبَرِّرُ الوَثنِيَيِّنَ بِالإِيمان فبَشَّرَ إِبراهيمَ مِن قَبْلُ قالَ لَه: تُبارَكُ فيكَ جَميعُ الأَمَم. لِذلِك فالمُبارَكونَ مع إِبراهيمَ المُؤمِنِ إِنَّما هم أَهْلُ الإيمان» (3، 6 – 7. 9).
فالإيمان إذن مسيرة شخصية ومن يقول مسيرة
يقول تطور وتغيير. وهذا ما اختبره إبراهيم في حياته قبل الوصول إلى الإيمان الصحيح إن صح التعبير حيث انتقل من عبادة الإله «أيل» إلى إله الكتاب المقدس. بالمقابل، الإيمان موضوع معقد وتتداخل به العديد من الأمور اللاواعية التي، إن لم ندركها تعيق مسيرتنا الإيمانية.
وبالتالي علينا أن نعي هذه الأمور لنتحرر منها. والقديس اغناطيوس دي لويولا، المعروف بتمارينه الروحية، عنونها: «رياضات روحية ليتغلب الإنسان على نفسه وينظم حياته بمعزل عن ميل منحرف».
في الواقع، وللأسف، في الكثير من الأحيان مفهومنا وعيشنا لإيماننا يشكلان بطريقة أو بأخرى نوع من الميل المنحرف الذي علينا أن ندركه لنتخلص منه ونتقدم باتجاه إيمان أكثر صفاءً وأكثر قرباً إلى الإيمان كما يقدمه لنا الكتاب المقدس.
يقسم الموضوع على الشكل التالي:
1- المنشأ النفسي للدين.
2- من هو إبراهيم.
3- مخاوف إبراهيم.
4- الصلاة.
المنشأ النفسي للدين
«كل دين هو وثني، لكن الإيمان المسيحي ليس بدين... فقط الله هو من يتحدث جيداً عن الله» (كارل بارت Karl Barth).
رودولف أتّو (Rudolf Otto)، فيلسوف ومؤرخ للأديان يتحدث في كتابه: «المقدس» عام 1917 عن الألوهة بالمعنى الواسع للكلمة على أنها تولِّد ميلين متناقضين من الشعور الديني: شعور فاتن، ساحر وشعور بالخوف، والرعب. ممّا يعني أن الدين له طابع لاعقلاني ومتضارب.
تحليل فرويد للدين: في اللاوعي الإنساني هناك ما يكفي من الضغوطات والصراعات الكفيلة بتطوير، جماعياً وعلى مدار القرون، العملية التي تحيي كل الأديان الكبيرة بمختلف الثقافات والحضارات، بما فيها الدين المسيحي، أقلّه على الصعيد الشعبي.
الدين هو إحدى أجمل منتجات طفولة ومراهقة الإنسانية، مصدر أعلى أنواع مكتسبات البشرية، كالثقافة والحضارة، والفن. بالنسبة لفرويد ـــ قبله يقول المؤرخ والفيلسوف الفرنسي فولتير: «خلق الله الإنسان على صورته، والإنسان ردها له جيداً» ــــــ فالدين ينبع من الإسقاط على إله مصنوع من قبل الإنسان ليحل خمس مشاكل الحياة.
1. يد ممدودة للتعاسة الطفولية ــــ تبعية مفرطة للرضيع لأهله ــــ وآثارها على مسار الحياة البالغة. هذه التعاسة الأصلية هي مصدر كل أشكال قلقنا الأعمق والشعور بالفراغ والوحدة.
2. الله يعطينا الأجوبة على كل ما هو غير مفهوم في طبيعة الحياة، وبالتالي، يخفف القلق النابع من قوانين الطبيعة المتصلبة، الصدفة والشعور بالقدرية.
3. الإيمان بالله يسمح بالأمل بتعزيات وتعويضات (حاضرة أو لاحقة) عن جروحات وإحباطات الوجود وقساوة الواقع.
الفوائد التي يتم البحث عنها في الدين من قبل اللاوعي الفردي والجماعي، بحسب هذه المحاور الثلاثة، تحيها الرغبة في الملء ورفض حدود الواقع. فالرغبة تصنع إذن، عن طريق الإسقاط، وهم الله المرضي الذي يمكننا تسميته «بإله اللاوعي».
4. جماعياً، الرجوع إلى الله سمح للبشر بتأسيس نظام اجتماعي وأخلاقي، ضروري لبقائهم ولعمل المجتمعات والابتعاد عن قانون الغابة.
5. أخيراً، الدين يعطي مخرجاً للمشاكل الخطيرة الشاملة وللشعور بالذنب والوسيلة اللازمة لإدارتها.
فالإرضاءات التي يتم البحث عنها من قبل اللاوعي الفردي والجماعي، بحسب المحورين الأخيرين، هي من مجال «الأنا العليا» وترجع إلى ما يمكن تسميته «بإله الأنا العليا».
واليوم إذا ألقينا نظرة نقدية لعمل الدين يمكننا أن نلمس ما قلناه حتى الآن. فالإنسان، مأخوذ بقدرة رغبته المفرطة ــــ وأمام مواجهته لواقع هو مصدر ارضاءات بدون شك ولكن، في الوقت عينه، مصدر إحباطات كثيرة، وخيبات أمل ونزع الوهم أيضاً ــــــ يبحث في الدين عن مخرج وتعويض، يبحث أيضاً عن تنظيم المتطلبات التي تفرضها عليه الحياة الحضارية والجماعية.
فالله المعبود أو المرفوض هو، في البداية، خاضع لصور الأبوة والأمومة. فلا يمكننا تمثيل الألوهة، في بداية الإيمان، أو في بداية الإلحاد، خارجاً عن الوسائل الموجودة بين أيدينا، أي الصور التي تكونت فينا من خلال الخبرات الرائعة أو اللاذعة التي عشناها مع أهلنا.
كان فرويد يعتبر أنه على البشرية أن تصل إلى مرحلة البلوغ وتعيش حزنها الصعب على الآمال الوهمية للدين بقبولها للواقع القاسي ومواجهته بوسائل أكثر عقلانية وعلمية. ولكن هناك أمرين لا يمكن للإنسان أن يتخلص منهما كلية، حتى ولو كانوا أساس حياته، وهي كونه كان لديه أم وأب.
إله كلية قدرة الرغبة: لا يمكن أن ننتهي من وجود أم في حياتنا، لأنه قبل أن نعرفها كشخص فردي، مع عطاءاتها، مؤهلاتها وعيوبها، نحن وهي واحد، في علاقة اندماجية تعطينا الوهم بأننا كل شيء، لانهائيين، وغير محدودين، وبدون حاجات.
من هذا الأمر نحتفظ في اللاوعي بالرغبة في الملء، بالمطلق، بالكلية. لكن الحياة الواقعية تعاكس ذلك وبالتالي تجرحنا وتحبطنا، وتجعلنا نثور. فالرغبة، في هذه الحالة، تشكل فينا الحنين إلى «الجنة المفقودة» وكل شيء نعيشه يُقاس بهذه القاعدة الوهمية للملء والكلية والمطلق، الذين لا يمكن الوصول إليهم أبداً.
ومصنعي الدعايات يعرفون ذلك جيداً وبالتالي كل ما يعرضوه علينا هو فعّال ونوعيته جيدة، لكن خليفة الأمر، سواء بالكلمات أو بالصور، هي مطلق الصحة والنقاوة والشباب الدائم والجمال أو الحقيقة العلمية.
على الصعيد الديني، يُنتج اللاوعي، إله رائع، مكان رائع، وسحري، يمكنه أن يشفي كل شقاءاتنا، ويُصلح عجائبياً عدم العدالة، والألم، ومنغصات الحياة ويؤمن لنا سعادة مطلقة من نوع النيرفانا.
إله القانون: هناك شيء آخر لدينا صعوبة بالتخلص منه، وله تتبع إمكانيتنا وصعوباتنا في عيش الحب. قبل الوصول إلى الحب، ندخل في العلاقة انطلاقاً من الحاجة. حاجة إلى الطعام، للاهتمام والحماية. يلاحظ الطفل، منذ الطفولة الأولى، بأن أهله، المثاليين برأيه، يقومون بردة فعل على تصرفاته ويبدوا أنهم يعطوه إلى حد ما الشعور بالإرضاء وبالحب بحسب ما يقوم به ويختبره ويعيشه.
هذا الأمر يزرع في الإنسان، بسبب تبعيته المطلقة للأهل، الشعور بأن الحب هو موضوع مساومة دائمة: كل ما يبدو أنه منسجم مع مثال الأهل يولِّد لديهم حب أكبر، وكل ما لا يعجبهم يولِّد من قبلهم شعور مؤلم بالرفض لدى الطفل. هكذا تكونت لدينا الأنا العليا.
ما يبقى دائم في الأنا العليا، في اللاوعي، يدفعنا في كل لحظة لنعجب الآخرين ونتفادى، مهما كان السبب، ما يثير استيائهم، تحت خطر فقدان هذا الجزء من الحب الأساسي الذي لا يمكننا التخلي عنه، وإلاَّ لا يمكننا الوصول إلى حب ذاتنا المبني على استقبال حب الأهل والآخرين. من هنا وجود الشعور العميق فينا بضرورة الانسجام مع ما نرغبه بأن مثالي وما نعتبره على أنه ما ينتظره الآخرون منّا.
على الصعيد الديني، هذا الأمر يشارك في تكوين صورة عن الله الذي يعطي حبه أو يمارس عقوباته بحسب تصرفنا الجيد أو السيء. هكذا يبدو الله على أنه خليفة الأهل والعلاقة معه تصبح تفاوض دائم يهدف لتأمين حبه وتجنب صواعقه.
هنا، من خلال الرمزية والتسامي، وغالباً من خلال الكبت وعودة المكبوت، تتمفصل أو تتمحور النزوات حول صورة الأب الذي يمنع من العودة إلى الأم. هذا هو أساس القانونية ودين الاستحقاقات. هذه هي الازدواجية التي تميز الدين الناتج عن الدينامية المشتركة بين اللاوعي و الأنا العليا. وهذا ما وصفه رودولف أتّو عندما قال بأن الدين يفتن ويخيف في أنٍ معاً.
يبقى السؤال، هل من الممكن أن يوجد شكل للدين، علاقة بين الأنا الواعية والقادرة على التطور بحسب مبدأ الواقع، والله المعروف بطريقة أُخرى غير طريقة اللاوعي؟
هل هناك إله يتوجه إلى الأنا؟
كتَّاب الكتاب المقدس وشهود على تاريخ الله مع الإنسان، وما يقدموه عن تجسد يسوع المسيح، لا يفلتون من ألعاب الرغبة والأنا العليا الغير واعيين. لهذا السبب لابد من التفسير والتأويل.
ما يلفت الانتباه حتى عندما نقرأ الكتاب المقدس بعيون التحليل النفسي هو أنه على مسار الكتاب المقدس، الإنسان مدعو ليولد لذاته وينفتح على العلاقات الغيرية، مع كل ما يولِّد الاختلاف ــــ على صعيد الأفراد، أو المجموعة، أو الشعوب ـــ من إمكانيات ليبيدية وعدوانية.
إذا تمعنا في النصوص الأولى من سفر التكوين: الخلق والسقوط، قاين وهابيل، برج بابل (1 - 11)، والدخول في تاريخ البشرية، مع رواية إبراهيم (12 -25)، في اللحظات البارزة من تاريخ شعب العهد القديم، مستهدف أو في عهد مع الله... في كل مرة نرى عمل الرغبة في بحثها عن الكلية، عن الاندماجية أو الغموض مع المقدس، هذه الرغبة نراها مخصيّة رمزياً لكي يولد الفاعل، فردي أو جماعي، ويمزق الأغلفة البدائية مع منع العودة إليها، ينفتح على العلاقات من خلال الغيرية، الصعبة لكنها الوحيدة الخلاقة.
غيرية الله والإنسان: الله لا يكشف عن ذاته كما يريده الإنسان أن يكون، ولا كما يريد الإنسان أن يكون هو نفسه الله. فالإنسان مرسل إلى دعوته ككائن إنساني، مدعو ليدخل في لعبة علاقات الحقد والحب الذين يشكلون جزءً من فرديته الخاصة، وليعيش نقصه وطلباته، مصدر ارضاءات أو إحباطات. والكتاب المقدس، على مساره، يقول لنا بأن الخطيئة تكمن في اعتبار الله لما هو ليس عليه، أي عبادة صنم الرغبة أو صنم الأنا العليا المقدس.
ذروة هذا الأمر، بالنسبة للمسيحي، تظهر في الرسالة المركزية للإنجيل. هنا، الله الذي يتخيله الإنسان ككلية القدرة بحسب هواماته ورغبته، يصبح إنسان بشخص يسوع المسيح، يضع حدود لذاته، ليُظهر بأقواله وأعماله ما يمكن أن تكون عليه العلاقات الإنسانية الحقيقية.
بينما، في العهد القديم، لا يمكن لأحد أن يرى الله إلاَّ ويموت، تجسد المسيح يقدم لنا الله الذي يأكل ويشرب، يبكي ويفرح، يعيش ويموت وبحوار مميز جداً مع معاصريه. هذا ما تشهد له الأناجيل، كل بحسب أسلوبه.
هكذا، بالنسبة للمسيحي، كلمة الله تدخل في كلام البشر. الكلمة، التي لا يمكن تملك حقيقتها لكنها خصبة دائماً: «في البدء كان الكلمة.... به كل شيء كان.. والكلمة صار بشراً». فهل من الممكن، هنا، التحدث عن نزع صفة القداسة عن الدين؟
كلمتين تلخصان مجمل أعمال وتعاليم يسوع: «أحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ وأَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ». هاتين الدعوتين نراهما في العهد القديم. وهما مركزيتين في العهد القديم، لكن يسوع هو أول من جمعهما وأعطاهما معنى جوهري متبادل.
ما هو مهم هنا هو الانفتاح على الحب من خلال الغيرية. ولكي نميز بين حب الآخر والحب النرجسي واسقاطه، لدينا ثلاثة اختبارات إن صح التعبير، تشير لنا بأننا بالفعل نلتقي مع شخص آخر غيرنا، فاعل آخر لا يختلط مع تخيلاتنا:
- أولاً، الشعور بوجود مساحة، بعض البعد بين الآخر ونحن يحدد الشخصيات المختلفة لكل واحد ويمنع من الاندماج السريع والوهمي.
- الإدراك الحسي بأن كيان ورغبة الآخر يعبّرون عن ذاتهم بالكلمة ـــ الملفوظة أو المعبر عنها بالحركات أو جسدياً ـــ وأنه ليس هناك دائماً توافق بين لغته ولغتي.
- هذه المسافة أو البعد وعدم توافق اللغات هم مصدر توتر إلى حد ما كبير، ومصدر مقاومة، هذا التوتر وتلك المقاومة يعطون للعلاقة ديناميتها ويسمحوا لكل واحد بأن ينمو ويتطور ويؤكد معرفته للآخر ولذاته.
هذه المقاييس التي تشير إلى اللقاء في الغيرية تبدو لي أنها تنطبق على العلاقة مع الله الآخر. آخر غير الله بحسب الهوامات والرغبة والأنا العليا لدرجة أن ظهوره في المسيح يشكك الأكثر تديناً من بين معاصريه الذين ينتهوا بالحكم عليه وقتله.
الله في الإنجيل هو الله الذي يسأل أكثر ممّا يجيب: «من أنا في نظركم؟»، يعطي الشعور بعدم الأمان بسبب تحريضه على الكيان والصيرورة بدلاً من التراجع نحو الخضوع والطاعة الدينية والقانونية.
عملية التماهي والتماهي مع يسوع: بداية أقول، عندما يتم الخروج من مرحلة الأوديب بطريقة إيجابية قدر المستطاع ــــــ ما من أحد يخرج منها بإيجابية مطلقة، وبالتالي ممكن التراجع إليها في الحالات الصعبة؛ يتم الخروج الإيجابي من هذه المرحلة عندما يتم القبول بقانون الأوديب الذي من جهة يفرض الخصي الرمزي، أي قبول الحدود والتمييز بين الأشخاص، ومن جهة أخرى يمنع الإنسان من تلبية رغباته، أيّاً كانت، بطريقة مباشرة، مع من يريد وبالطريقة التي يريد، وفي المكان الذي يريد. بمعنى آخر يدخل الإنسان بعالم الرمزية. ويحلّ مبدأ الواقع مكان مبدأ اللذة. مبدأ اللذة هو مبدأ الطفولة حيث لا يقبل الطفل تأجيل تلبية رغباته. مبدأ الواقع هو مبدأ البلوغ حيث لا مشكلة في تأجيل تلبية الرغبة.
فعبارة أحبب قريبك حبك لنفسك، عبارة مركزية في رسالة وعمل يسوع، ليست وصية بمعنى الأمر الصادر عن الأنا العليا، إنما تحريض وجودي يقترح بأن النضج النفسي يمكنه أن يسمح بالوصول إلى إمكانية احترام الفاعل والموضوع كمختلف: القريب، أي من نقترب منه، والذي نكتشفه على أنه آخر. كمية الحب عينها للذات وللآخر دون أن يكون بالضرورة متناقض أو إسقاطي. خصوصاً أن سفر اللاويين يأخذ بعين الاعتبار، قبل الدعوة إلى هذا الحب، العدوانية التي لا يمكن تفاديها والمرتبطة بحب الآخر كحب الذات: «لا تُبغِضْ أَخاكَ في قَلبِكَ، بل عاتِبْ قَريبَكَ عِتاباً، فلا تَحمِلَ خَطيئَةً بِسَبَبِه» (19، 17).
رواية إبراهيم (12 - 25):
«وأَخَذَ تارَحُ أَبرامَ أبنَه، ولوطَ بْنَ هارانَ ابنَ ابنِه، وساراي كَنّتَه، اَمْرَأَةَ أَبْرامَ ابِنه، فَخَرَجَ بِهِم مِن أُورِ الكَلْدانِيِّين، لِيَذْهَبوا إِلى أَرضِ كَنْعان. فجاءُوا إِلى حاران وأَقاموا هُناك» (11، 31). نرى هنا تارح أبو إبراهيم يفصل أبنائه عن «رحم الأم الأصلية»، ممّا يدفعهم باتجاه تاريخهم الفردي وتاريخ السلالات التي ستولد منهما: اليهودية والمسيحية والإسلام.
ثم، في الفصل 12، لدينا مباشرة دعوة من أب آخر (الله) يقول لإبراهيم: «اِنطَلِقْ مِن أَرضِكَ وعَشيرَتكَ وبَيتِ أَبيكَ، إِلى الأَرضِ الَّتي أُريكَ.وأنا أَجعَلُكَ أُمَّةً كَبيرة». بداية تاريخ إبراهيم تُبين لنا كيف أن إبراهيم أستُأصل من أصوله، ليبدأ مسيرته الشخصية، بعيداً عن مكان الأم ولاحقاً عن مكان الأب. هل لكي يعبر إبراهيم من تبعية ــ وطاعة ــ وخضوع عقيم لأبيه تارح، إلى ما هو أكثر جذرية، أي لله ــ الأب المتسلط؟ قد نعتقد ذلك. لكننا سوف نرى المراحل التي يعبر بها إبراهيم لكي يتحرر من هذه الصور عن الأب، وبالتالي عن الله.
لكن الله لا يتناسب مع هذه الصور، والبرهان على ذلك هو أن وعد الله له هو دعوة لكي يصبح إبراهيم سلالة يكون فيها الشخص الفاعل، وبدوره أصل لكثير من الناس. لذلك برأي، لا داعي للتركيز كثيراً على طاعة إبراهيم التي، غالباً، ما نفهما على أنها خضوع. علينا استقبال هذه الدعوة، الذهاب باتجاه تحقيق كل هذه الأمور (سلالة، نسل، الخ)، على أنها تحرر وفي عمقها رغبة حقيقية بذلك. هذه الرغبة ستعبر عن ذاتها من خلال الحوارات بين إبراهيم الذي أصبح فاعل والله، كذلك من خلال علاقات أخرى.
حتى الآن، أبرام وسارة، مع أنهم كبيرين في السن، يشكلان زوج عقيم. ملاحظة مهمة: بشكل عام لدينا عدد من النساء العقيمات، اللواتي مع أزواجهن الخصيبين، لا تصبح خصيبة إلاَّ بعد علاقة خارج الزواج أو بعد عملية تبني. المهم في هذه الملاحظة هو دور العنصر الثالث الذي يفصل بين الزوج السجين بداخله وفي ماضيه ليفتحهم على المستقبل والسلالة.
من باب المفارقة مع هذه الأشكال من الغموض، يمكننا العودة إلى الوراء في هذه الفصول ونتوقف على حدثين قاطعين نرى الله، من خلالهما مجدداً، كما يكشف عن ذاته في بداية سفر التكوين، على أنه من يدعو إلى الولادة، يدعو للعيش وللحب من خلال اختلاف الهويات الفردية. هنا أريد التحدث عن أهمية تغيير الأسماء إبرام يصبح إبراهيم (17، 5)، وساراي تصبح سارة (17، 15)، وبين هذين الحدثين هناك الختن علامة العهد (17، 10).
تغيير الأسماء (أنظر محاضرة إبراهيم وسارة من العبودية إلى الحرية ومن العقم إلى الخصوبة ).
بين تغيير اسم كل من إبراهيم وسارة لدينا موضوع ختن إبراهيم علامة، في الجسد، للعهد بين الله وبينه وكل بيته. من وجهة نظر التحليل النفسي، الختن يمكن ربطه بهوامات الخصاء. لا الخصاء الذي يجعل الإنسان عقيماً، إنما الخصاء الرمزي والذي يلخص، على صعيد الهوية الجنسية كل الإخصاءات التي نعبر منها للوصول إلى النضج وبالتالي الخروج من سحر رغبة كلية القدرة. هذا الخروج هو الذي يبني هويتنا الفردية ويجعلنا أهل لإقامة علاقات غيرية سليمة.
إذا خرج كل من إبراهيم وسارة من عالم الملكية والاكتفاء الذاتي، من خلال المراحل التي تحدثت عنها، هذا لا يعني أن الرغبة اللاواعية في التملك انتهت، كما هي حل كل إنسان.
عندما حملت هاجر، اعتقدت أنها أصبحت مكتفية وبالتالي تحولت إلى لامبالية اتجاه سيدتها سارة التي أصبحت تسيء معاملتها لدرجة أنها هربت من منزل إبراهيم وسارة.
عندما ولدت سارة ابنها اسحق، وكبر اسحق وتم فطمه، احتفل إبراهيم بهذا الفصل، فصل الفطام. ولكن مباشرة لم تتحمل سارة وجود هاجر وابنها إسماعيل فطردتهم لكي تحتفظ بإرث ابنها اسحق.
عندما تاهت هاجر في الصحراء وقد استهلكت هي وابنها إسماعيل الماء والخبز الذي أعاطاها إياهم إبراهيم، لم تستطع أن تشاهد موت ابنها وعاشت حزنا بابتعادها عنه. (لدينا هنا توازي مهم بين ذبيحة إسماعيل من قبل أمه وذبيحة إبراهيم لابنه أسحق).
ولكن في كل مرة الله، مصدر الحياة والتحرر، مصدر ترميم العلاقات الحقيقية، يتدخل كعنصر ثالث ومخلص:
يعيد هاجر إلى منزل إبراهيم حيث تستعيد خدماتها.
وعندما طردت سارة هاجر وإسماعيل، وهذا الأخير تم إبعاده وحرمانه من الطعام وأصبح في خطر الموت، يعلن الله لهاجر نبع ماء وأنه سيجعل من إسماعيل أمة كبيرة.
بعد مولد اسحق، تأتي ذبيحة اسحق، الحزن الحقيقي لإبراهيم لكي يولد اسحق بالفعل وبالحقيقة.
ملاحظتين بخصوص ذبيحة اسحق:
الأولى: في هذه الرواية، إبراهيم هو من يضحي بذاته فعلياً: عليه أن يعيش حزنه على الناحية التملكية لأبوته. في الواقع، لو مات اسحق على المحرقة، لكان على إبراهيم وسارة البكاء على ابنهم وليس اسحق الغير موجود يمكنه القيام بذلك.
الثانية: هذه الرواية تكشف لنا مرة أخرى الله الذي ليس الله بحسب تصوراتنا الأبوية. بحسب الآثار الأوديبية المعروفة، كان على إبراهيم الخضوع للقانون الساحق لله (للأب السوبرمان إن صح التعبير بحسب هواماتنا) ويسلمه ابنه، يذبحه. بينما، كما نعلم، ليس هذا مخرج ونهاية رواية ذبيحة اسحق.
ما يعطي المعنى هنا، هو أن إبراهيم قاد ابنه، وحيده، بعيداً (3 أيام سير على الأقدام من المنزل العائلي)، واضطر للقبول بأنه أعطى اسحق الحياة لكي، من الآن فصاعداً، يصنع اسحق حياته بنفسه. هذا التخلي، عطاء الله هذا لإبراهيم ككل الأهل، هو الذي أخرج اسحق من أصوله ليذهب باتجاه مستقبله، ويصبح بدوره خلاق وخصب. هذه هي إرادة الله المُحرّرة الذي يحب اسحق كحبه لإبراهيم وسارة، هاجر وإسماعيل. وكما تقول ماري بالماري بشيء من الابتسامة والمزح، لو أنه، أثناء الطريق سأل اسحق أباه أين الذبيحة، لأعطي لإبراهيم كبش، أي أب، كذبيحة.
لهذا السبب لدى عودة إبراهيم من الذبيحة، يقول النص بأنه عاد مع خادميه بدون اسحق والنص لا يتحدث عن اسحق. منذ الآن يعيش اسحق الحياة التي أُعطيت له، حياته. ولن نجد اسحق إلاَّ بعد فصلين، بعد رواية موت ودفن امه حيث إبراهيم هو من اهتم بالمراسم بدون اسحق على ما يبدو.
وعندما يحدثنا النص من جديد عن اسحق، يحدثنا بخصوص زواجه المنظم من قبل أبيه. خادمه الأقدم عليه أن يذهب إلى بلد المنشأ، ليبحث عن امرأة له، لكن بدون اسحق. وبدورها ربيكا سوت تُنتَزَع من أمها التي تبحث أولاً على الاحتفاظ بها، لكن أخيها لابان هو الذي يقودها إلى زوجها المستقبلي اسحق.
يمكننا الاستمرار طويلاً بتدخلات الله المحررة والمخصبة ـــــ بدأً بتدخله بالقرب من ريبيكا العقيمة أيضاً والتي ولدت توأم. فنخرج من حلقة إبراهيم ويمكننا المتابعة لغاية يسوع المسيح لنبين ما الذي يجعل كل من بنوته وأبوة الله وأمومة مريم مميزين وذات معنى عميق بالنسبة لصورنا البدائية للعلاقات الأب ـــ الأم ـــ الابن.
ما هي الخلاصة التي يمكننا استنتاجها بخصوص العلاقة بين التحليل النفسي واللاهوت؟ إذا كان الخمسة عشر فصل من سفر التكوين وغيرها تحث الإصغاء التحليلي النفسي، فذلك لأن ما يقال في عمق هذه لرواية، وراء مغامرات الظاهرة على السطح، يتناسب بشكل مذهل مع ما يصفه التحليلي النفسي بالشروط الضرورية لكي يستطيع الإنسان، بعد أن يولد، يولد بالفعل لذاته ويصبح مستقلاً، حراً وخلاّق من خلال علاقة حب ناضجة مع الأم والأب، والزوج والزوجة، ما الأبناء والآخرين.
هل هذا يعني أن الصحة النفسية تعادل الخلاص بالإيمان الذي نموذجه إبراهيم الذي يجعلنا ورثة محتملين؟ هذا يعادل اعتبار الله كأول محلل كامل! لكن علينا أن لا نخلط الصحة النفسية، البعد النفسي والخلاص بالمعنى المسيحي. ومع ذلك، لدينا ما يكفي من المؤشرات الكتابية لنميز الرابط بين الاثنين. سوف أذكر اثنين منها.
أولاً، الأنثروبولوجيا الكتابية تعتبر، في أغلب الأحيان، الكائن الإنساني كوحدة واحدة لا تنفصل جسدي ـــ نفسي ـــ روحي، وهذا ما أكده التحليلي النفسي بعد قرون حيث العديد من التيارات الفلسفية تفصل، أو بالأحرى تعارض النفس والجسد.
كتوضيح لهذه الوحدة، يمكننا التفكير بمعجزات يسوع. فالمؤمن كغير المؤمن يعيشون في الغموض بسبب البعد الجسدي للمعجزة بينما ما يعطيها في كل مرة معناها الحقيقي هو الكلمة التي ترافقها وتشير إلى كون كلية الإنسان هي التي تم تعافيها في علاقاتها السليمة مع الله، مع ذاتها ومع الآخرين الموجودين معه. فالتغيرات الجسدية العرضية تصبح كعلامة إضافية.
ثانياً، رأينا أن قانون الأب يبين هذه الوظيفة التي من خلالها يجد الطفل ذاته مُنتزع من الغلاف الأمومي البدائي ومدعو ليكتشف هويته الفردية والمجنسة. ولكن، هذا القانون قد يكون له تأثيرات شاذة، بشكل عصابي، وبالتالي يثبت الإنسان على الأب الرغبات الطفولية لكلية القدرة التي كان قد ربطها بالأم في البداية.
فتتم عمليات الخضوع لهذه الصورة الأبوية حيث ستعطي هذه العمليات مكان لتنمية وتطوير دين مستًعبِد، لإيديولوجيات شمولية، ديكتاتورية، حتى التعصب، في مختلف المجالات، في حال لم تكن إضفاء المثالية على العقل والعلوم. فالانفتاح على الآخر المختلف، الذي هو إحدى التأثيرات الإيجابية، قد فشل.
كل إنسان يحتفظ بداخله وبدرجات مختلفة، هذا النوع من الآثار العصابية للأوديب الذي منه ستنبع مواقف طاعة لله ذليلة و ضامرة، مثلاً، أو قتلها في ثورة الإلحاد. بينما ما هو استثنائي مع «إله إبراهيم، اسحق ويعقوب»، كما اكتشفوه، أحياناً بصعوبة، هو أن هذا الأب، يأخذنا دائما بالعكس بالنسبة لصورنا العصابية للأمومة، وللأبوة وللبنوة.
هكذا مثلاً، في الإيمان، يحررنا الله من الطاعة الخانقة بحرفية القانون ومشاعر الذنب ليجعلنا نتذوق من ثمار الطاعة ـــ الثقة التي تفتح على الرغبة والحياة والخلق. يعتقنا من انغلاقاتنا المتكررة والقاتلة ليطلقنا مجدداً بدون توقف نحو الجديد في جرأة الولادة لذاتنا ومواجهة غيرية الله نفسه وغيرية الآخرين.
فهل هذا هو الخلاص؟ إن كان كذلك، فالموضوع مختلف تماماً عن ما تدفعنا إليه ميولنا الهوسية وهو اختزال الإيمان بدين إدارة الشعور بالذنب واستحقاقاته. هذا ما يبدو لي ولكل من يعشق الكتاب المقدس ويضطلع على التحليل النفسي، الخلاصة المركزية، وبالمعنى الإنجيلي، لمسيرة إبراهيم.
الظهورات بين الحقيقة والوهم (3)
محاولة تفسير سر فاطمة:
هكذا نصل أخيراً إلى الجزء الثالث من سر فاطمة. قالت الأخت لوسي بأنه أُعطيت لها الرؤية لا تفسيرها. فالتفسير، برأيها، لا يعود للرائي، إنما للكنيسة. لكن، بعد قراءة النص، قالت بأن هذا التفسير يتناسب مع ما اختبرته وأنه، بالنسبة لها، تعترف بهذا التفسير على أنه صحيح.
كلمة المفتاح للجزء الأول والثاني من سر فاطمة، اكتشفنا
كلمة خلاص النفوس. كذلك الكلمة المفتاح لهذا السر، الثالث، هي صرخة ثلاثية للملاك: «التوبة، التوبة، التوبة». والأخت لوسي أكدت بأنه يبدو لها دائماً بوضوح أكبر بأن الهدف من كل الظهورات كان التنمية في الإيمان، والرجاء والمحبة، وكل ما تبقى يسعى فقط لبلوغ ذلك.
لنرى الآن عن كثب مختلف الصور. على شمال سيدتنا، وفي العلى قليلاً، ملاك مع سيف من نار في اليد اليسرى. كان السيف يلمع ويطلق ناراً كانت على ما يبدو، أن عليها أن تحرق العالم، لكنها كانت تنطفئ على تماس بريق كان يخرج من اليد اليمنى لسيدتنا باتجاهه. الملاك يشير للأرض بيده اليمنى، وصوت قوي يقول: التوبة، التوبة، التوبة!
السيف يمثل تهديد الحكم على العالم. الرؤية تُبين لاحقاً القوة التي تعترض قدرة الخراب ــــ تألق أم الله، والدعوة إلى التوبة الآتية من مريم عبر الملاك. بهذه الطريقة تتضح أهمية حرية الإنسان: المستقبل، أبداً، ليس محدداً بطريقة جامدة، والصور التي رآها الأطفال ليست بفيلم يستبق المستقبل، الذي لا يمكن أن يتغير منه شيء.
كل هذه الرؤية تتم في الواقع فقط لتظهر الحرية ولتوجهها بالاتجاه الإيجابي. فمعنى الرؤية ليس بعرض فيلم عن المستقبل الجامد، الثابت. معنى الرؤية هو بالضبط معاكس، أي تحريك القوى لتغير كل شيء إلى الخير. هكذا يمكننا القول بأن التفسيرات القدرية للسر التي تؤكد مثلاً أن من قام بمحاولة اغتيال البابا في 13 أيار 1981، كان في النهاية مجرد وسيلة للمخطط الإلهي، موجه من قبل العناية الإلهية، وأنه لم يتصرف بحرية، أو أيضاً أفكار أخرى مشابهة، هذه التفسيرات مضللة. فالرؤية تتحدث بالأحرى عن أخطار وعن الطريق الذي يحمي منها.
لنأخذ الآن بعين الاعتبار مختلف الصور التي تتبع في نص السر. مكان العمل موصوف بثلاث رموز: جبل شديد الانحدار، مدينة كبيرة نصف مهدمة وأخيراً صليب كبير بجذوع خشنة.
الجبل والمدينة يرمزون لمكان تاريخ الإنسانية: التاريخ كصعود صعب نحو المرتفعات، التاريخ كمكان الأبداع والصداقة الإنسانية، لكن في الوقت عينه، كمكان خراب، من خلاله يقضي الإنسان على عمله الشخصي. المدينة يمكنها أن تكون مكان الاتحاد والتقدم، لكن أيضاً مكان المخاطر والتهديدات الأكثر تطرفاً. على الجبل يوجد الصليب ــــ نهاية ومرجع التاريخ. بالصليب، تحول الخراب إلى خلاص. إنه منتصب كعلامة على شقاء التاريخ وكوعد له.
بعد ذلك يظهر هنا شخصين: الأسقف بلباس أبيض، وأساقفة آخرين، كهنة رهبان وراهبات، وأخيراً رجال ونساء من كل بيئة اجتماعية. يبدو البابا يسبق الآخرين، مرتجفاً ومتألما بسبب كل الفظاعات التي تحيط به. ليس فقط المنازل نصف مهدمة إنما طريق البابا يعبر من بين جثث الموتى. هكذا توصف مسيرة الكنيسة كطريق صليب، كطريق في زمن العنف والخراب والاضطهادات.
بحسب الرؤيا يُقتل البابا. والبابا لم يقتل، بل وقف على أبواب الموت وشرح بأنه نجى من الموت بفضل «يد أم وجهت القذيفة والبابا المنازع وقف على أبواب الموت». هذا يعني عدم وجود مستقبل جامد مُقرّر مسبقاً، وأن الإيمان والصلاة قادرة تؤثر في التاريخ وأنه، في النهاية، الصلاة أقوى من القذائف، الإيمان أكثر قدرة من الانقسامات.
بالخلاصة ظهورات فاطمة هي رؤية معزية، تريد أن تقول لنا بأنه، إذا كان التاريخ مليء بالدم والدموع، يمكن لقدرة الله على الشفاء أن تنفذ إليه. فالرؤية تتحدث عن ملائكة تستقبل تحت أذرع الصليب دماء الشهداء وتغذي النفوس التي تقترب من الله.
الشهداء يتممون من أجل جسد المسيح ما نقص من آلامه (كول 1، 24). حياتهم أصبحت إفخارستيا، مدموجة مع سر حبة الحنطة التي تموت وتصبح خصبة. دم الشهداء هو بذرة مسيحيين، يقول القديس ترتليانوس.
وكما أنه من موت المسيح، من جنبه المفتوح، ولدت الكنيسة، كذلك موت الشهداء خصب لحياة مستقبل الكنيسة. رؤية الجزء الثالث للسر، مقلقة لدرجة في البداية، تنتهي بالتالي بصورة رجاء: لا وجود لألم سخيف بدون جدوى، وبالتحديد كنيسة متألمة، كنيسة الشهداء، تصبح علامة موجهة للإنسان الذي يبحث عن الله.
هنا وصلنا إلى تساؤل نهائي: ماذا يعني سر فاطمة بأجزائه الثلاثة؟ ماذا يقول لنا؟ الكاردينال سودانو: «الحالات التي يتحدث عنها الجزء الثالث من سر فاطمة يبدو منذ الآن أنها تعود للماضي». والذين ينتظرون وحي رؤيوي، من سفر الرؤية، مثير حول نهاية العالم وحول المستقبل القريب سوف يحبطون.
معنى أسرار فاطمة إذن: الحث على الصلاة كطريق من أجل خلاص النفوس وفي نفس المعنى دعوة إلى التوبة والاهتداء.
أريد في النهاية العودة إلى الكلمة المفتاح للسر الذي أصبح مشهوراً بحق: «قلب مريم الطاهر سينتصر». ماذا يعني ذلك؟ القلب المفتوح على الله، المُطّهر بتأمله لله، هو أقوى من البنادق والأسلحة من كل نوع. كلمة نعم التي قالتها مريم، غيرت تاريخ العالم، لأنها أدخلت المخلص في العالم.
الشر لديه القدرة على العالم، ونحن نراه ونختبره باستمرار. لديه القدرة لأن حريتنا تترك ذاتها تبتعد عن الله. ولكن، منذ أن أصبح لله قلب إنسان وبالتالي وجه حرية الإنسان نحو الخير، نحو الله، الحرية من أجل الشر لم يعد لها الكلمة الأخيرة. فتفرض ذاتها الكلمات التالية: «تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم» (يو 16، 33). رسالة فاطمة تدعونا لنثق بهذا الوعد.
الكاردينال جوزف راتسينغر
أمين سر مجمع العقيدة والإيمان
ما هو إذن دور الظهورات؟
لكي نفهم عمق معنى الظهورات بشكل عام علينا التوقف على ظهورات القائم من بين الأموات.
المسيح قام من خلال تلميذه، من خلال الكنيسة، ولهذا السبب تسمى الكنيسة جسد المسيح. ما نقله لنا الرسل هو شهادتهم وخبرتهم مع القائم من بين الأموات: نساء ورجال عاشوا مع يسوع واعتبروه المسيح، يشهدوا بأنهم رأوه بعد موته على الصليب. وقالوه بقوة وهم مستعدون للموت بدلاً من أن ينكروا إيمانهم بالمسيح الحي.
في روايات القيامة، معرفة يسوع القائم والاعتراف به على أنه هو ليس بالأمر البديهي، ولا المباشر. لماذا؟ لأن معرفتنا له تتم بعيون الإيمان. وهذا حتى ما قبل القيامة، كثيرون رأوا أعماله ولم يؤمنوا به.
بالإضافة إلى أن المعرفة في الكتاب المقدس لا تعني مطلقاً معرفة عقلية، إنما علاقة وخبرة حياتية حميمة: «فعرف الإنسان حواء امرأته فحملت وولدت قاين» (تك 4، 1) «كيف يكون لي هذا وأنا لا أعرف رجلاً» تجيب مريم الملاك جبرائيل.
وظيفة الظهورات: هناك شيء من الضرورة للظهورات، حتى ولو كان زمنها محدود جداً.
الهدف من الظهورات هو السماح لهؤلاء الناس بأن يشهدوا لحدث القيامة. فالموضوع هو أن نفهم بأن القائم في يوم الفصح هو نفسه المصلوب في يوم الجمعة العظيمة. فالظهورات تلعب دور الجسر، همزة الوصل، استمرارية الهوية، بين الموت والقيامة للإنسان نفسه: يسوع الناصري.
إذن لا بد ليسوع من أن يظهر ذاته، وأن يسمعونه، ويلمسونه، هو الذي لم يعد تحت سيطرة التاريخ والعالم، يظهر ذاته لرجال ونساء لا يزالون هم في العالم. من هنا يأتي هذا الأسلوب الغريب للظهورات كما يرويه لنا الإنجيل.
فالقائم من الموت هو نفسه المصلوب، لكنه لا يخضع لعوامل المكان والزمان: موجود حيث يريد وعندما يريد. لا تقول لنا الروايات بأنه كان يدخل ويخرج، بل كان يظهر ويختفي. يظهر والأبواب مغلقة.
لهذه الروايات ناحية أخرى: هناك غموض حول هوية القائم من بين الأموات. من المركبة يعتقد التلاميذ أنه أحد سكان المنطقة الغير معروف، ومريم المجدلية تعتقد أنه البستاني، وتلميذي عمَّاوس لم يعرفاه وهو معهم في الطريق.
بعد القيامة، أصبح الوقت هو وقت للشهادة. الشهادة على أنه حيّ بيننا. هذا يبين لنا بأن الإيمان بيسوع يتطلب اهتداء، تحول في النظر: لا يمكن معرفته كما هو إلاَّ بعيون الإيمان، ولهذا السبب مريم أمه لم تشعر بالضرورة للذهاب إلى القبر.
هذا الغموض في الهوية يقول لنا أمراً آخر: أن يظهر بمظهر أحد السكان، بمظهر البستاني، هذا يعني أننا مدعوون لمعرفته في كل إنسان. علينا أن نكتشفه في الآخرين وأن نكتشف الآخرين به.
وبولس الرسول يتحدث عن الجسد الروحاني. جسد حقق الوحدة المطلقة بين الجسد والروح وبالتالي يعيش كلية انطلاقاً من الروح. بهذا المعنى هو جسد روحاني. هذه الوحدة هي وحدة القائم من بين الأموات. هذه هي دعوة أجسادنا: أن تصبح أجساداً روحانية، تعيش كلية انطلاقاً من الروح القدس.
فالظهورات، تقول لنا من جهة، بأن المسيح حيّ بيننا ويعمل، ومن جهة أخرى، من خلال دعوتها لنا إلى الاهتداء والتوبة، تساعدنا للتقدم في وحدة جسدنا ليصبح أكثر جسد روحاني يعيش انطلاقا من الروح القدس فنكون آنذاك قادرين على أن نرى الله في كل شيء. آنذاك لا داع ولا مكان للظهورات!!
الظهورات بين الحقيقة والوهم (2)
الروح النبوي لا يعني روح التنبؤ بالمستقبل
1 – تنبؤات بعض الظهورات المريمية تظهر أحياناً كتنبؤ بمستقبل يتحقق. ظهور باريس عام 1930، أعلنت العذراء بأن العرش سينقلب وتحقق ذلك بعد عشرة أيام. وهناك تنبؤات أخرى بهذا الاتجاه. إذن، نرى هنا بعد نبوي، بمعنى التنبؤ بالمستقبل، فعّال يهدف لتشجع المؤمنين على الاهتداء والصلاة لأن «الأزمنة سيئة جداً».
ظهور فاطمة، في السر الثالث، يعلن بأن اضطهادات
الشيوعيين ستنتهي وتبين خصوبة الشهداء. بمعنى آخر، الظهور يحدث ويفعّل الرسالة الكتابية ويشكل صدى للنبي دانيال وسفر الرؤيا حيث زمن عمل قوى الشر لا يدوم سوى 1260 يوم.
2 – الكتاب المقدس يعلمنا احترام التاريخ حيث يتجسد الله: من جهة، علينا بشكل عام أن نقرأ الأنبياء في إطارهم التاريخي قبل أن نعطيهم تفسير مسيحي. حتى المزمور 22 الذي يبدو أنه يرى مسبقاً آلام المسيح: لقد ثقبوا يدي. وتقاسموا ثيابي. هذا الإنسان المضطهد يفكر بأمه. هذا الإنسان يفكر بالشعب الذي سيولد، لم يكن يتنبأ بالمستقبل والدليل أن التلاميذ لم يفهموا إعلانات يسوع عن آلامه.
فالكنيسة هي التي اعترفت فيها على أنها إعلان أحداث الآلام لاحقاً. ولكن من جهة أخرى، أحياناً علينا القبول بأن كلام الأنبياء ليس له مقابل في زمنهم وأنها تفتح بالتالي على إتمام مستقبلي يتحقق فقط بيسوع. البابا بنديكتوس السادس عشر يقترح كمثل الآية التي تقول: «ها إِنَّ الصَّبِيَّةَ تَحمِلُ فتَلِدُ ابناً وتَدْعو اسمَه عِمَّانوئيل» (أش 7، 14).
3 – الكتاب المقدس يعلمنا احترام العهد. منطق العهد يدعونا للكثير من الحذر بالنسبة لما يبدو كثيراً إيمان وثني بالقدر، الإيمان بالقدرية التي تلغي الحرية والمسؤولية اللتين تميزان العهد الكتابي. بعض الملاحظات ضرورية حول التنبؤ بالمستقبل في الكتاب المقدس.
العهد الكتابي يترك مكاناً لحكمة النبي الإنسانية. غالباً، التنبؤ بالمستقبل مرتبط بمعرفة إنسانية. مثلاً، النبي عاموس يرى الخطر الآتي من الإمبراطورية الآشورية والنبي إرميا يرى الخطر الآتي من الملك نبوخذ نصر.
4 – مقياس إتمام النبوءة غير كامل: سفر تثنية الاشتراع يقدم لنا مقياسين للتميز أحدهما هو إتمام النبوءة: «فإِن تَكَلَّمَ النَّبِيُّ بِاَسمِ الرَّبِّ ولم يَتمَّ كَلامُه ولم يَحدُثْ، فذلك الكَلامُ لم يَتَكلَمْ بِه الرَّبّ، بل لِلاَعتِدادِ بِنَفْسِه تكلَمَ بِه النَّبِيّ، فلا تَهَبْه» (تث 18، 22).
على العكس، إرميا، نبي حقيقي، قال آية حول عودة المسبيين من الشمال، آية لم تتحقق أبداً (31). يونان يعلن بأن مدينة نينوى ستهدم. لكن المدينة اهتدت ولن تُهدم. ومع ذلك، يونان هو نبي حقيقي، معتبر كنموذج من قبل يسوع: «رِجالُ نِينَوى يَقومونَ يَومَ الدَّينونةِ معَ هذا الجيلِ ويَحكُمونَ عليه، لأَنَّهم تابوا بِإِنذارِ يُونان، وههُنا أَعظَمُ مِن يُونان» (متى 12، 41).
5 – إعلانات عن المستقبل موجودة في العهد الجديد: مريم ويوسف، قلقين، يبحثون عن يسوع خلال ثلاثة أيام، بعيد الفصح. لم يفهموا شرح يسوع لهم. الحدث واقعي، يبدو أنه يذهب إلى أبعد من معناه المباشر، ومريم تتأمل في قلبها، المفتوح على شرح مستقبلي.
يسوع يعلن عن آلامه، على ضوء معرفته بموقف أعدائه خلال الجدالات التي كانت تحدث بينه وبين اليهود. هذا الأمر مختلف كلية عن القدرية التي كان عليها أن تجبر يهوذا الإسخريوطي أو بيلاطس بالتصرف كما تصرفوا.
في كتاب أعمال الرسل، أغابس أعلن مجاعة كبيرة، مما سمح بتهيئة المساعدات للأخوة الذين في اليهودية (أع 11، 17 – 28). أغابس أعلن مصير بولس (أع 21، 10 - 13)، نبوءة تحققت في (أع 21، 27 وتابع). لكن هذه التنبؤات لا تضعف ولا تلغي الحرية الإنسانية، على العكس، إنها تثير وتشيد مسؤولية كل إنسان.
مجمع العقيدة والإيمان
رسالة فاطمة
ظهورات وعلامات فائقة الطبيعة، هذه الأحداث، التي لا يمكنها أن تتناقد مع محتوى الإيمان، عليها أن توجه باتجاه الموضوع المركزي لإعلان المسيح: حب الآب الذي يحث البشر على الاهتداء ويعطي النعمة للاستسلام له مع عبادة بنوية. هذه هي أيضاً رسالة فاطمة التي تقود في الواقع إلى قلب الإنجيل.
أسرار فاطمة
13 تموز 1917، لدى الظهور الثالث لكل من جاسينت، فرنسوا ولوسي ـــ الرعاة الثلاثة في فاطمة ـــ أعطت العذراء مريم رسالة جوهرية تحتوي على ثلاثة أسرار. طُلب من الأطفال عدم إعلانها مباشرة. فرنسوا وجاسينت ماتوا بعد فترة قصيرة من الظهورات، عام 1919 و1920. لوسي، أصبحت راهية كرملية، بقيت الوحيدة التي تمتلك الظهورات وأسرارها الثلاثة التي كتبتها لاحقاً. في عام 1941 كُشف السرين الأولين ــــ بموافقة العذراء ــــ بينما السر الثالث كان لا بد من انتظار عام 2000 ليُكشف محتواه بطلب من البابا يوحنا بولس الثاني.
السر الأول: رؤية جهنم.
العذراء مريم جعلت الرعاة يروا رؤية واضحة لجهنم. الأخت لوسي تتحدث عن بحر من النار تحت الأرض، وشياطين ونفوس تأكلهم النيران، صرخات من الرعب والألم. في ظهورها الأول، أعلنت مريم للأطفال بأنها ستأخذهم إلى السماء. «وإلاَّ، كنّا متنا من الرعب والخوف»، تقول الأخت لوسي. لكي يتم خلاص النفوس الذاهبة إلى جهنم، تقترح العذراء مريم بأن «يكون في العالم تقوى وعبادة لقلبها الطاهر».
السر الثاني: تكريس روسيا.
الجزء الثاني من الرسالة في 17 تموز تُبين اهتمام العذراء بالمآسي المآسي الزمنية للإنسانية. في الوقت الذي تُغرق فيه الحرب العالمية الأولى أوروبا في النار والدم، تُعلن العذراء «حرباً أسواء». تتحدث عن الأضرار التي ستمس البشرية بسبب تخلي روسيا عن الإيمان المسيحي والانتماء للشيوعية: ستنشر روسيا أخطائها عبر العالم، مشجعة الحروب والاضطهادات ضد الكنيسة. فالأخيار سيستشهدون، وقداسة البابا سيتألم كثيراً، عدة أمم سوف تُهدم " (31 حزيران 1917).
لتفادي هذه الحرب المُعلنة، طلبت مريم «تكريس روسيا لقلبها الطاهر والاتحاد الإصلاحي لأيام السبت الأولى». وتُنهي مريم هذا الجزء بكلمة رجاء إذ تقول: «سوق تهتدي روسيا وتُكرّس لي وسيعرف العالم فترة من السلام».
السر الثالث: رؤية رؤيوية.
الجزء الأخير من رسالة فاطمة هو الأكثر تعقيداً والأكثر إثارة للجدل. تصف الأخت لوسي «جبل منحدر» يصعد عليه أسقف بلباس أبيض يُقتل في القمة، حيث يوجد صليب من الخشب الخام. لاحقاً، يتم قتل أساقفة آخرين، كهنة، رهبان وراهبات وعلمانيين، على هذا الجبل.
اعتبر البابا يوحنا بولس الثاني بأن هذه الرؤية تُعلن محاولة قتله التي تمت عام 1981 في ساحة بطرس في الفاتيكان. وفي عام 2000، أرسل الكردينال بيرتونه إلى الأخت لوسي للتعمق أيضاً في تفسير الرؤية. الكاردينال راتسينغر، الذي أصبح فيما بعد البابا بنديكتوس السادس عشر، الذي درس أيضاً السر، رأى فيه جوهرياً دعوة إلى الاهتداء والوعد بالانتصار النهائي لقلب مريم الطاهر.
تفسير لاهوتي:
من يقرأ بتمعن الجزء الثالث من سر فاطمة، سيصاب حتماً بالإحباط أو سيندهش بعد كل التكهنات التي قيلت. لم يكشف أي سر كبير. حجاب المستقبل لم يًمزّق. نرى كنيسة شهداء القرن الذي ينتهي ممثلة من خلال مشهد موصوف بلغة رمزية من الصعب قرأتها. كيف يمكننا أن نفهم الرؤية؟
وحي كتابي ووحي خاص ـــ مكانهم اللاهوتي:
قبل البدء بمحاولة التفسير، من المفضل أن نقوم ببعض التوضيحات بالعمق بخصوص الطريقة التي، بحسب عقيدة الكنيسة، يجب أن تُفهم الظواهر مثل ظاهرة فاطمة، ضمن حياة الإيمان.
تعليم الكنيسة يُميّز بين «الوحي العام» وحالات «الوحي الخاص». بين هاتين الواقعتين، هناك اختلاف ليس فقط بالدرجة، إنما بالطبيعة. عبارة «الوحي العام» تشير إلى عمل وحي الله، الموجه للإنسانية جمعاء والذي وجد تعبيره الأدبي في جزئي الكتاب المقدس: العهد القديم والعهد الجديد. نسميه «وحي» لأنه من خلاله، عرفّ الله عن ذاته للبشر تدريجياً، لدرجة أنه أصبح نفسه إنسان. عرّف عن ذاته، أعطى ذاته، وبالتالي، الوحي انتهى مع تحقيق سر المسيح، الذي وجد تعبيره في العهد الجديد.
التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية يقول بهذا الخصوص: «حتى ولو انتهى الوحي، لكنه لم يتم شرحه كلية. يبقى على الإيمان المسيحي أن يستوعب تدريجياً كلية المعنى على مدار القرون» (رقم 66). في خطابه الأخير، خاطب وداعه لتلاميذه، يقول يسوع: «لايَزالُ عِنْدي أَشْياءُ كثيرةٌ أَقولُها لَكم ولكِنَّكُم لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها. فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إِلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث. سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه» (يو 16، 12 - 14).
المجمع الفاتيكاني الثاني يشير إلى ثلاثة طرق جوهرية، من خلالها يتم عمل إرشاد الروح القدس في الكنيسة وبالتالي نمو الكلمة. هذا العمل يتم بواسطة التأمل ودراسة المؤمنين، ووعظ «الذين، مع التعاقب في الأسقفية، استقبلوا موهبة أكيدة للحقيقة».
الوحي الخاص: تدخل في هذه الفئة ظهورات فاطمة. بهذا الخصوص، نبدأ بقراءة التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية: «شهدت الأجيال حالات وحي دُعيت «خاصّة»، واعترفت سلطة الكنيسة ببعض منها، إلاَّ أن هذا البعض لا يُعدّ من وديعة الإيمان. وليس من شأنه أن «يُحسّن» أو «يُكمّل» وحي المسيح النهائي، بل أن يساعد على الحياة فيه بطريقة أوفى في مرحلة من مراحل التاريخ» (رقم 67). لدينا هنا عنصرين تم توضيحهم:
1 – سلطة حالات الوحي الفردية تختلف جوهرياً عن الوحي الوحيد العام: الوحي العام يتطلب الإيمان. في الوحي العام، الله نفسه يتكلم، بواسطة الكلمات الإنسانية ووساطة الجماعة الحية للكنيسة.
2 – الوحي الخاصّ، ظهورات فاطمة تجد نفسها فيه، هو مساعد للإيمان، ويظهر أنه يستحق المصداقية لأنه يُرسل إلى الوحي العام. الكردينال بوسبيرو لمبيرتيني، الذي أصبح البابا بنديكتوس الرابع عشر، يقول بهذا الخصوص: «الموافقة أو إقرار الإيمان الكاثوليكي لا يعود إلى الظهورات المُثبتة بهذه الطريقة. لا بل هذا أمر مستحيل. هذه الظهورات تتطلب بالأحرى موافقة إيمان إنساني يتطابق مع قواعد الحذر، التي يقدمها لنا كاحتمال وأهل للإيمان في روح تقوى».
مقياس ومصداقية الوحي الخاص هو توجهه نحو المسيح نفسه. عندما يُبعدنا عنه، عندما يصبح مستقل أو حتى عندما يقدم ذاته كمخطط آخر وأفضل للخلاص، أكثر أهمية من الإنجيل، فهو حتماً لا يأتي من الروح القدس. هذا لا يمنع أن يضع الوحي الخاص نبرات جديدة، ويُظهر أشكالاً جديدة من التقوى، وأن يعمقها. ولكن في كل الأحوال، في كل ذلك، عليه أن يشكل غذاء للإيمان، والرجاء والمحبة، الذين هم بالنسبة لنا الطريق المستمرة للخلاص.
كيف يمكننا تصنيف حالات الوحي الخاص، بطريقة صحيحة انطلاقاً من الكتاب المقدس؟ ما هي فئاتها اللاهوتية؟ الرسالة الأقدم لبولس الرسول التي نقلت لنا، النص الذي، بالمطلق، قد يكون الأقدم في العهد الجديد، الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي، تبدو لي أنها تعطي دلالة. يقول بولس: «لا تُخمدوا الروح، لا تزدروا النبوءات بل اختبروا كل شيء وتمسكوا بالحسن» (5، 19 - 21).
في كل الأزمنة أُعطيت للكنيسة موهبة النبوءة، لكن علينا الأخذ بعين الاعتبار بأن النبوءة، بالمعنى الكتابي، لا تعني التنبؤ بالمستقبل، إنما شرح إرادة الله للوقت الحاضر، وبالتالي تُبين الطريق نحو المستقبل. التنبؤ بالمستقبل هو أمر ثانوي. والكلمة النبوية هي تحذير أو أيضاً تعزية، أو الاثنين معاً.
بهذا المعنى، يمكننا أن نضم موهبة التنبؤ مع فئة «علامات الأزمنة»، التي وضحها المجمع الفاتيكاني الثاني: «إِذا رَأَيتُم غَمامَةً تَرتَفِعُ في المَغرِب، قُلتُم مِن وَقتِكم: سَيَنزِلُ المَطَر، فيكونُ كَذلك. وإِذا هَبَّتِ رياح الجَنوب قُلتُم: سيَكونُ الجَوُّ حارّاً، فيَكونُ ذلك. تُحسِنونَ تَفَهُّمَ مَنظَرِ الأَرضِ والسَّماء، فكَيفَ لا تُحسِنونَ تَفَهُّمَ الوَقْتِ الحاضِر؟» (لو 12، 56).
«علامات الأزمنة» في كلمات يسوع، تعني طريقه الشخصي. وتفسير «علامات الأزمنة» على ضوء الإيمان يعني الاعتراف بحضور المسيح في كل زمن. في حالات الوحي الخاص المُعترف عليها في الكنيسة ـــ وبالتالي رؤى فاطمة ـــ فالموضوع هو مساعدتنا لفهم «علامات الأزمنة» وإيجاد الجواب الصحيح لها في الإيمان.
الظهورات بين الحقيقة والوهم (1)
ثلاثة أحاديث عن معنى الظهورات بشكل عام وظهورات فاطمة بشكل خاص بمناسبة اليوبيل المئوي لظهورات فاطمة في البرتغال.
حديثي اليوم سيكون بمثابة مقدمة لليومين اللاحقين حول ظهورات فاطمة وأسرارها الثلاثة. مقدمتي اليوم ستتمحور بشكل خاص حول الإجابة على الأسئلة التي نتساءلها جميعاً وليس لدينا أجوبة دقيقة موثوقة، ممّا يجعلنا نسرح في الخيال ونتناقل الأخبار من إلى انطلاقاً ممّا نسمع دون إمكانية التدقيق بصحة ما نسمعه وننقله.
أولاً الكنيسة الكاثوليكية بسلطتها كحارسة للإيمان هي التي تقرر مصداقية أو عدم مصداقية ظهور ما. هذا الأمر يتم من خلال
الأسقف المحلي، أو بتدخل مباشر من روما من خلال مجمع العقيدة والإيمان. تقوم بذلك بعد تحقيقات طويلة ودقيقة جداً.
ما هي المقاييس التي تعتمد عليها الكنيسة لتأخذ قرارها؟ هناك أربع مقاييس مهمة وأساسية:
1- تطابق الرسالة مع الكتاب المقدس.
2- الاتحاد مع الكنيسة.
3- الانسجام بين الرائي والرسالة
4- الثمار الروحية للاهتداء.
مقاييس إيجابية ومقاييس سلبية للتميز بين الظهورات
مقاييس إيجابية: يقين أخلاقي، أو على الأقل احتمال كبير، بما يخص الظواهر، المكتسبة في نهاية التحقيق الجدي. ظروف خاصة على علاقة بوجود وطبيعة الظاهرة: النوعيات الشخصية للرائي أو للرائيين، وخاصة الاتزان النفسي، نزاهة واستقامة الحياة الأخلاقية، الإخلاص والطاعة المعتادة للسلطة الكنسية، أهلية عيش حياة إيمان طبيعية.
بما يخص الظهورات، تطابقها مع العقيدة اللاهوتية ومصداقيتها الروحية، خالية من كل خطأ، عبادة سليمة وثمار روحية بتقدم مستمر (خاصة التأمل، الاهتداءات، شهادة المحبة).
مقاييس سلبية: خطأ ظاهر بخصوص الوقائع، أخطاء عقائدية ننسبها لله نفسه، أو للعذراء مريم، أو للروح القدس في ظهوراتهم (مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية إضافة الرائي من نفسه ــ حتى ولو كان بشكل لا واعي ــ لظهور حقيقي فائق الطبيعة، عناصر إنسانية بحتة، هذه الأخيرة بقيت خالية من كل خطأ من المجال الطبيعي. انظر التمارين الروحية لأغناطيوس دي لويولا).
بحث أكيد لربح على علاقة مع الظهورات، أعمال لا أخلاقية خطيرة مرتكبة من قبل الرائي، أو من قبل المقربين منه، أثناء الظهورات، أو بمناسبة هذه الأعمال.
اضطرابات نفسية أو ميول مرضية نفسية لدى الرائي، التي كان لها تأثير أكيد على الحدث المفترض أنه فائق للطبيعة، أو ذهان، هستيريا جماعية، أو عوامل أخرى من نفس النوع.
من المهم اعتبار هذه المقاييس، سواء كانت إيجابية أو سلبية، كمعاير ذات دلالة وليست أسباب نهائية، ودراستها في تنوعها وعلاقاتها مع بعضها البعض.
من بين أكثر من مئة ظهور للعذراء خلال القرن العشرين، اعترفت الكنيسة بأربعة منهم فقط: فاطمة ـــ البرتغال (1917)، بورينغ ـــ بلجيكا (1932)، بانّو ـــ بلجيكا (1933)، أتيكا ـــ اليابان (1973). فالكنيسة كما تلاحظون هي أكثر من حذرة أمام هذه الظهورات!
هل نحن ملزمون بالإيمان بهذه الظهورات؟ لا! فالظهورات ليست موضوع إيمان. كل إنسان حر بأن يؤمن أو لا يؤمن بالظهورات، أكانت هذه الظهورات معترف عليها من قبل الكنيسة أم لا. في الواقع، دور الظهورات لا يكمن في تأسيس الإيمان، إنما في خدمته.
ما هي الظهورات الأساسية المعترف عليها؟ منذ العام 1531 وحتى العام 1983، أي على مدار 452 سنة، تم الاعتراف ب 17 ظهور للعذراء مريم.
هل يحق لنا الحج إلى هذه الأماكن؟ حتماً، شرط أن نأخذ بعين الاعتبار أن الهدف هو التعمق في الرسالة من أجل الاهتداء ولحياة أكثر تطابقاُ مع الإنجيل.
والظهورات الغير معترف عليها؟ هناك العديد من الظهورات لم تعترف الكنيسة بمصداقية ما يقوله الرائي. هذه القرارات لا تؤخذ بسرعة. إنها تؤخذ بعد سنين من التحقيقات مع أطباء ونفسانيين ولاهوتيين. وهناك العديد من الظهورات التي لا تزال التحقيقات جارية بخصوصها، مثل ظهورات ميديجوريه في كرواتيا.
فالحكمة تقتضي الإصغاء لكمة الإنجيل التي تقول: «من سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ. ومَن أَعرَضَ عَنكم أَعرَضَ عَنِّي، ومَن أَعرَضَ عَنِّي أعرَضَ عَنِ الَّذي أَرسَلَني» (لو 10، 16). الموقف الصحيح الذي علينا تبنيه أمام هذه الظهورات الغير معترف بها، هو موقف الطاعة والحذر، بتواضع وثقة بالكنيسة التي تتحدث من خلال الأسقف المحلي أو من خلال مجمع العقيدة والإيمان.
المهم أيضاً هو الاتحاد مع من هم «مع» الظهور أو «ضد» الظهور، بروح البحث لمعرفة ما يريده الربّ. هذا يذكرنا بكلام المسيح للذين طلبوا منه آية: «جِيلٌ فاسِدٌ فاسِقٌ يُطالِبُ بِآية، ولَن يُعْطى سِوى آيةِ النَّبِيِّ يونان» (متى 12، 39). أي آية ابن الإنسان الذي سيقوم من الموت بعد ثلاثة أيام.
فالخلاصة التي تفرض ذاتها تقول: التقوى المريمية السليمة تعطي خصوبة للحياة المسيحية، في الكنيسة جسد المسيح.
هل تكشف الظهورات رسائل جديدة لعالمنا؟ حتما لا! وما من ظهور يمكنه أن يحمل شيئاً جديداً بالنسبة لما قيل وتم إعلانه في الكتاب المقدس. الظهورات لا تكشف شيئاً جديداً: إنها تكتفي بأن ترسلنا إلى رسالة الإنجيل، مُظهرة بذلك أن اهتدائنا للبشرى السارة لا ينتهي أبداً.
هل يمكننا انتظار نبأ مثير من خلال الظهورات؟ القديس يوحنا الصليب يقول ما يلي وهو مهم للغاية: «منذ أن أعطانا ابنه، الذي هو كلمته، ليس لله من كلمة أخرى يعطينا إياها. لقد قال لنا كل شيء، في نفس الوقت ولمرة واحدة، في هذه الكلمة الوحيدة (...) لأن ما كان يقوله مجزأً للأنبياء، قاله كلية بابنه (...). لهذا السبب من يريد الآن أن يسأله، أو يرغب برؤية أو وحي، ليس فقط يقوم بعمل جنوني، إنما يقوم بعمل إهانة لله، وذلك بعدم توجيه نظره كلية على المسيح، دون البحث عن شيء آخر في أيّ الجديد».
والبابا بنديكتوس السادس عشر يقول: «علينا أن نعلم بأن الموافقة التي تعطيها الكنيسة لظهور خاص ليس سوى السماح المُعطى، بعد تفحص عميق، بإعلان هذا الظهور من أجل تعليم وخير المؤمنين. لسنا ملزمين ولا يحق لنا أن نؤمن بهذا النوع من الظهورات، حتى المعترف بها من قبل الكنيسة.
علينا فقط، بحسب قوانين الحذر، إعطائها قيمة المعتقد الإنساني، بقدر ما تكون هذه الظهورات ممكنة ويمكن الاعتقاد بها من أجل التقوى (..). بالنتيجة، يمكننا عدم الموافقة على هذا النوع من الظهورات والتخلي عنها، شرط أن نقوم بذلك بتواضع مناسب، لأسباب جيدة وبدون أي احتقار».
ظهورات مريم بين الحقيقة والخيال
حديثي اليوم سيكون بمثابة مقدمة لليومين اللاحقين حول ظهورات فاطمة وأسرارها الثلاثة. مقدمتي اليوم ستتمحور بشكل خاص حول الإجابة على الأسئلة التي نتساءلها جميعاً وليس لدينا أجوبة دقيقة موثوقة، ممّا يجعلنا نسرح في الخيال ونتناقل الأخبار من إلى انطلاقاً ممّا نسمع دون إمكانية التدقيق بصحة ما نسمعه وننقله.
أولاً الكنيسة الكاثوليكية بسلطتها كحارسة للإيمان هي التي تقرر مصداقية أو عدم مصداقية ظهور ما. هذا الأمر يتم من خلال الأسقف المحلي، أو بتدخل مباشر من روما من خلال مجمع العقيدة والإيمان. تقوم بذلك بعد تحقيقات طويلة ودقيقة جداً.
ما هي المقاييس التي تعتمد عليها الكنيسة لتأخذ قرارها؟ هناك أربع مقاييس مهمة وأساسية:
· تطابق الرسالة مع الكتاب المقدس.
· الاتحاد مع الكنيسة.
· الانسجام بين الرائي والرسالة
· الثمار الروحية للاهتداء.
· مقاييس إيجابية ومقاييس سلبية للتميز بين الظهورات
مقاييس إيجابية: يقين أخلاقي، أو على الأقل احتمال كبير، بما يخص الظواهر، المكتسبة في نهاية التحقيق الجدي. ظروف خاصة على علاقة بوجود وطبيعة الظاهرة: النوعيات الشخصية للرائي أو للرائيين، وخاصة الاتزان النفسي، نزاهة واستقامة الحياة الأخلاقية، الإخلاص والطاعة المعتادة للسلطة الكنسية، أهلية عيش حياة إيمان طبيعية.
بما يخص الظهورات، تطابقها مع العقيدة اللاهوتية ومصداقيتها الروحية، خالية من كل خطأ، عبادة سليمة وثمار روحية بتقدم مستمر (خاصة التأمل، الاهتداءات، شهادة المحبة).
مقاييس سلبية: خطأ ظاهر بخصوص الوقائع، أخطاء عقائدية ننسبها لله نفسه، أو للعذراء مريم، أو للروح القدس في ظهوراتهم (مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية إضافة الرائي من نفسه ــ حتى ولو كان بشكل لا واعي ــ لظهور حقيقي فائق الطبيعة، عناصر إنسانية بحتة، هذه الأخيرة بقيت خالية من كل خطأ من المجال الطبيعي. انظر التمارين الروحية لأغناطيوس دي لويولا).
بحث أكيد لربح على علاقة مع الظهورات، أعمال لا أخلاقية خطيرة مرتكبة من قبل الرائي، أو من قبل المقربين منه، أثناء الظهورات، أو بمناسبة هذه الأعمال.
اضطرابات نفسية أو ميول مرضية نفسية لدى الرائي، التي كان لها تأثير أكيد على الحدث المفترض أنه فائق للطبيعة، أو ذهان، هستيريا جماعية، أو عوامل أخرى من نفس النوع.
من المهم اعتبار هذه المقاييس، سواء كانت إيجابية أو سلبية، كمعاير ذات دلالة وليست أسباب نهائية، ودراستها في تنوعها وعلاقاتها مع بعضها البعض.
من بين أكثر من مئة ظهور للعذراء خلال القرن العشرين، اعترفت الكنيسة بأربعة منهم فقط: فاطمة ـــ البرتغال (1917)، بورينغ ـــ بلجيكا (1932)، بانّو ـــ بلجيكا (1933)، أتيكا ـــ اليابان (1973). فالكنيسة كما تلاحظون هي أكثر من حذرة أمام هذه الظهورات!
هل نحن ملزمون بالإيمان بهذه الظهورات؟ لا! فالظهورات ليست موضوع إيمان. كل إنسان حر بأن يؤمن أو لا يؤمن بالظهورات، أكانت هذه الظهورات معترف عليها من قبل الكنيسة أم لا. في الواقع، دور الظهورات لا يكمن في تأسيس الإيمان، إنما في خدمته.
ما هي الظهورات الأساسية المعترف عليها؟ منذ العام 1531 وحتى العام 1983، أي على مدار 452 سنة، تم الاعتراف ب 17 ظهور للعذراء مريم.
هل يحق لنا الحج إلى هذه الأماكن؟ حتماً، شرط أن نأخذ بعين الاعتبار أن الهدف هو التعمق في الرسالة من أجل الاهتداء ولحياة أكثر تطابقاُ مع الإنجيل.
والظهورات الغير معترف عليها؟ هناك العديد من الظهورات لم تعترف الكنيسة بمصداقية ما يقوله الرائي. هذه القرارات لا تؤخذ بسرعة. إنها تؤخذ بعد سنين من التحقيقات مع أطباء ونفسانيين ولاهوتيين. وهناك العديد من الظهورات التي لا تزال التحقيقات جارية بخصوصها، مثل ظهورات ميديجوريه في كرواتيا.
فالحكمة تقتضي الإصغاء لكمة الإنجيل التي تقول: «من سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ. ومَن أَعرَضَ عَنكم أَعرَضَ عَنِّي، ومَن أَعرَضَ عَنِّي أعرَضَ عَنِ الَّذي أَرسَلَني» (لو 10، 16). الموقف الصحيح الذي علينا تبنيه أمام هذه الظهورات الغير معترف بها، هو موقف الطاعة والحذر، بتواضع وثقة بالكنيسة التي تتحدث من خلال الأسقف المحلي أو من خلال مجمع العقيدة والإيمان.
المهم أيضاً هو الاتحاد مع من هم «مع» الظهور أو «ضد» الظهور، بروح البحث لمعرفة ما يريده الربّ. هذا يذكرنا بكلام المسيح للذين طلبوا منه آية: «جِيلٌ فاسِدٌ فاسِقٌ يُطالِبُ بِآية، ولَن يُعْطى سِوى آيةِ النَّبِيِّ يونان» (متى 12، 39). أي آية ابن الإنسان الذي سيقوم من الموت بعد ثلاثة أيام.
فالخلاصة التي تفرض ذاتها تقول: التقوى المريمية السليمة تعطي خصوبة للحياة المسيحية، في الكنيسة جسد المسيح.
هل تكشف الظهورات رسائل جديدة لعالمنا؟ حتما لا! وما من ظهور يمكنه أن يحمل شيئاً جديداً بالنسبة لما قيل وتم إعلانه في الكتاب المقدس. الظهورات لا تكشف شيئاً جديداً: إنها تكتفي بأن ترسلنا إلى رسالة الإنجيل، مُظهرة بذلك أن اهتدائنا للبشرى السارة لا ينتهي أبداً.
هل يمكننا انتظار نبأ مثير من خلال الظهورات؟ القديس يوحنا الصليب يقول ما يلي وهو مهم للغاية: «منذ أن أعطانا ابنه، الذي هو كلمته، ليس لله من كلمة أخرى يعطينا إياها. لقد قال لنا كل شيء، في نفس الوقت ولمرة واحدة، في هذه الكلمة الوحيدة (...) لأن ما كان يقوله مجزأً للأنبياء، قاله كلية بابنه (...). لهذا السبب من يريد الآن أن يسأله، أو يرغب برؤية أو وحي، ليس فقط يقوم بعمل جنوني، إنما يقوم بعمل إهانة لله، وذلك بعدم توجيه نظره كلية على المسيح، دون البحث عن شيء آخر في أيّ الجديد».
والبابا بنديكتوس السادس عشر يقول: «علينا أن نعلم بأن الموافقة التي تعطيها الكنيسة لظهور خاص ليس سوى السماح المُعطى، بعد تفحص عميق، بإعلان هذا الظهور من أجل تعليم وخير المؤمنين. لسنا ملزمين ولا يحق لنا أن نؤمن بهذا النوع من الظهورات، حتى المعترف بها من قبل الكنيسة.
علينا فقط، بحسب قوانين الحذر، إعطائها قيمة المعتقد الإنساني، بقدر ما تكون هذه الظهورات ممكنة ويمكن الاعتقاد بها من أجل التقوى (..). بالنتيجة، يمكننا عدم الموافقة على هذا النوع من الظهورات والتخلي عنها، شرط أن نقوم بذلك بتواضع مناسب، لأسباب جيدة وبدون أي احتقار».
هل يمكن للمسيح أن يولد اليوم؟
للجواب على هذا السؤال لابد من الانطلاق من الإطار التاريخي الذي ولد فيه يسوع. فلسطين كانت تحت الاحتلال الروماني واليهود يحتفظون بإدارة الأمور الدينية فقط. والشعب اليهودي كان يعيش على رجاء مجيء المسيح المنتظر. فمن هو بنظرهم؟
إنه قبل كل شيء المحرّر من الاستعمار الروماني وهو من سيعيد
الملك لإسرائيل! وكانت هناك مجموعات مناهضة للاحتلال الروماني منها الفريسيين، ولهذا السبب يأتون إلى يسوع لينصبوا له فخاً عندما سألوه: «هل يحق لنا أن نعطي الجزية لقيصر؟».
فإذا أجاب لا هذا يعني أنه مناهض، ثوروي ضد حكم قيصر، وإن أجب بنعم فهذا يعني أنه موالي لحكم قيصر. في هذا الإطار يتوجه النبي أشعيا للشعب بالقول: «ويَخرُجُ غُصنٌ مِن جذعِ يَسَّى وَينْمي فَرعٌ مِن أُصولِه ويَحِلُّ علَيه روحُ الرَّبّ روحُ الحِكمَةِ والفَهْم روح المَشورَةِ والقُوَّة روحُ المعرفةِ وتَقوى الرَّبّ ويوحي لَه تَقْوى الرَّبّ فيَقْضي لِلضُّعَفاءِ بِالبِر
ويَحكُمُ لِبائِسي الأَرض بالاستقامة ويَكونُ البِرّ حِزامَ حَقْوَيه والأَمانَةُ حِزامَ خَصرِه فيَسكُنُ الذِّئبُ مع الحَمَل وَيربِضُ النَّمِرُ مع الجَدْيِ ويَعلِفُ العِجلُ والشِّبلُ معاً وصَبِيٌّ صَغيرٌ يَسوقُهما، تَرْعى البَقرةُ والدُّبُّ مَعاً ويَربضُ أَولادُهما معاً والأَسَدُ يَأكُلُ التِّبنَ كالثَّور ويَلعَبُ الرَّضيعُ على حُجرِ الأَفْعى ويَضَعُ الفَطيمُ يَدَه في جُحرِ الأَرقَم» (أش 11، 1 -8).
وعندما كان الشعب اليهودي في السبي، في المنفى، يتوجه إليه النبي أشعيا بالقول: «الشَّعبُ السَّائِرُ في الظُّلمَةِ أَبصَرَ نوراً عَظيماً والمُقيمونَ في بُقعَةِ الظَّلام أَشرَقَ علَيهم النُّور. كَثَّرتَ لَه الأُمَّة وَفَّرتَ لَها الفَرَح يَفرَحون أَمامَكَ كالفَرَحِ في الحِصاد كابتهاج الَّذينَ يَتَقاسَمونَ الغَنيمة لِأَنَّ نيرَ ثِقْلِها وعَصا كَتِفِها وقَضيبَ مُسَخِّرِها قد كسَّرتَها كما في يَومِ مِديَن إِذ كُلُّ حِذاءٍ يُحدِثُ جَلَبَة وكُلُّ ثَوبٍ مُتَلَطِّخٍ بِالدِّماء يَصيرانِ لِلحَرْقِ ووَقوداً لِلنَّار.
لِأَنَّه قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ فصارَتِ الرِّئاسةُ على كَتِفِه ودُعِيَ أسمُه عَجيباً مُشيراً إِلهاً جَبَّاراً، أَبا الأَبَد، رَئيسَ السَّلام» (أش 9، 1 - 8). إذن الشعب اليهودي لم ييأس ولم يفقد الرجاء بمجيء المسيح المنتظر. وثق في وعود الله له، ومع ذلك عندما ولد المنتظر رفضوه، لم يتعرفوا عليه ولم يعرفوه: «جاء إلى بيته فما قبله أهل بيته» (يو 1، 11). لماذا لم يقبلوه هم الذين لم يملّوا من انتظاره حتى اليوم؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، علينا لفت الانتباه أن يسوع لم يولد في عالم مرتاح، يعيش في سلام، بل في عالم يتخبط بالعديد من المشاكل والتساؤلات، عالم محتل من قبل شعب غريب، الرومان. أليس هذا شبيهاً بوضعنا الحالي؟ فإن أتى إلينا نبي وقال لنا ما قاله أشعيا لشعب العهد القديم، هل سنأخذ هذا الكلام على محمل الجد؟ هل سنثق بوعود الله التي يقدمها لنا كلّ من الكتاب المقدس والكنيسة؟
لماذا لم يقبلوه! لأنهم لم يعرفوه، لأن «الذين قبلوه وهم يؤمنون باسمه فقد مكّنهم أن يصيروا أبناء الله» (12). لأن انتظارهم له محدود ومقيّد بالتصورات الخاطئة عنه. بالنسبة لهم المسيح المنتظر سيأتي ليحرّر الشعب من الاستعمار الروماني ويعيد الملك لإسرائيل. (شرح أكبر انطلاقا من مفهوم المعرفة في الكتاب المقدس)
إنهم على مثالنا، وبالرغم من معرفتهم في الكتب المقدسة، لم يصغوا إليها وأسقطوا تصوراتهم عليها ممّا كان من الصعب جداً إن لم نقل من المستحيل أن يعرفوه، لأنه لم يأتي بحسب هذه التصورات: ملك، مقاتل، ومحرر، وهو من سيقضي على أعداء إسرائيل!
عندما أتى المجوس لزيارة الطفل يسوع، عبروا من هيرودس لكي يستفسروا عن مكان الولادة، وهيرودس بدوره يدعو جمع عظماء الكهنة وكتبة الشعب كلهم واستخبرهم أين يولد المسيح. فقالوا: «في بيت لحم. فقد أوحي النبي فكتب: وأنت يا بيت لحم، أرض يهوذا، لست أصغر ولايات يهوذا، فمنك يخرج الوالي الذي يرعى شعبي إسرائيل» (متى 2، 1 - 6).
وإذا ذهبنا إلى سفر ميخا نجد ما يلي: «أَنتِ يا بَيتَ لَحمُ أَفْراتَة إِنَّكِ أَصغَرُ عَشائِرِ يَهوذا ولكِن مِنكِ يَخرُجُ لي مَن يَكونُ مُتَسَلِّطاً على إِسْرائيل وأُصوِلُه مُنذُ القَديم مُنذُ أَيَّامَ الأَزَل» (5، 1). لا يستطيع اليهود أن يتصورا ملكهم مولود في أصغر ولايات يهوذا، فالملك عليه أن يولد في قصر، بطريقة معينة، واحتفال كبير، الخ.
ونحن! أي تصور لدينا عن يسوع الذي سنحتفل بميلاده قريباً؟ حتماً كل واحد وواحدة منّا لديه تصور معيّن، واسمحوا لي أن أقول أنه طالما لدينا تصور معيّن فمن الصعب أن نلتقي به. أفضل طريقة للانتظار هي بدون شك أن ننتظر دون أي تصور ونكون متيقظين لاستقباله كما هو بالطريقة التي يأتينا فيها، بمعنى آخر أفضل طرقة للانتظار هي الفراغ!!
اعتدنا أن نقول أن الاهتمام بالفقير هي طريقة لعيش الميلاد وهذا صحيح. ولكن لكي أهتم بالفقير حقيقة، بطريقة عفوية وطبيعية، فعلي القيام بذلك على مسار حياتي، ثانياً وهذا هو الأهم، على هذا الاهتمام أن يكون ثمرة علاقتي بالمسيح وليس أمراً أفرضه على نفسي من الخارج.
أخيراً وليس آخراً، هل يمكن للمسيح أن يولد اليوم؟ سؤال خاطئ بالمطلق. لأن ولادة المسيح لا ترتبط فينا، فهو يولد كل يوم في عالمنا، لكن إن لم نراه فهذا لا يعني أنه غائب. إنه كلي الحضور، يبقى علينا أن نميّز حضوره، أن نقرأ علامات الأزمنة، لكي نستقبله في حياتنا.
كل ذلك يعني أن الأمر يعود إلينا وليس ليسوع. نحن من علينا أن نجده في عمق ظلماتنا، وأزماتنا ومشاكلنا. وأكرر أنه فينا وبالتالي علينا أن نحرّر أنفسنا من كل ما يمنعنا من أن نلمس هذا الحضور الخفي. نص الميلاد يتحدث عن طفل مقمّط ومضجع. فالطفل يسوع الذي فينا علينا أن ننميه ليكبر مينا ويحتل جسدنا كما سبق له أن احتل جسد مريم. مقمّط، مضجع، أي أنه في عمق قبورنا المكلّسة، في أعماقنا التي تكبته بقوة هائلة.
فلنعسى من خلال تأملنا بالإنجيل والصلاة وممارسة الإفخارستيا لكي نتحرّر أكثر فنكون قادرين على تمييز حضوره فنختبر السلام الداخلي فينا بالرغم من كل ما يدور من حولنا.
من هو الله : الفصل السادس
الله المائت والقائم من بين الأموات
«إن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطل وإيمانكم باطل» (1 قور 15/14).
لا شك أنّ القيامة موضوع أساسيّ في إيماننا المسيحي. وبولس الرسول هو واضح في كلامه عليها. غالباً ما نعيش القيمة على أنّها مكافأة تعطى لنا، أو بالأحرى نحصل عليها مقابل أعمالنا الصالحة. كما أنّها قد تساعدنا على التخلّص من واقعنا وحاضرنا، إذ نهرب إلى التفكير في عالم القيمة، في نوعيّة القيامة وكيفيّتها. والقيامة هي أخيراً موضوع مزعج لنا لأنّنا مطرح الكثير من الأسئلة حولها من جون الحصول على جواب واضح ونهائي، بالرغم من وجود العديد من التخيّلات والأفلام حولها.
وهذا موضوع مهمّ أيضاً، لأنّ الإنسان يرفض الموت ويسعى باستمرار إلى الخلود. فكّ حياة الإنسان هي محاولة للهروب من الموت (الإبداع والإنجاب وصعوبة قبول غياب صبي في العائلة ليخلّدها إلخ...). وكلّ حدّ يواجهه الإنسان يحيله، بشكل لاواع بالطبع، إلى الحدّ النهائي الذي هو الموت. وهذا ما يعاكس القيامة، فهي تتطلب قبول الموت.
ولماذا يرفض الإنسان الموت؟ لأنّه لا يقبل الحدود، والحال أنّ الموت بشكّل في نظره الحدّ النهائي. الإنسان يرفض الموت لأنّه لا يثق بالكفاية بحبّ الله له. فهو في بحث مستمرّ عن الضمانات التي تكفل له الحبّ، تكفل له أنّه كائن محبوب. ونقول أخيراً إنّ الإنسان لا يثق بالكلمة، بكلمة الله. وقد تكون الفكرة التي ورثناها والقائلة بأنّ الإنسان هو «روح خالدة وجسد فتنٍ» قد وجدها الإنسان ليُطمئن ذاته. وفي هذه الأيّام، كثيراً ما يتحدّثون ويتساءلون حول موضوع الأرواح واستحضار الأرواح. كّ ذلك يدلّ على أنّ الإنسان يرفض الحدود، يرفض الموت.
أولأ من تحدث عن القيامة، انطلاقاً من خبرته، هو القدّيس بولس الرسول. عاش بولس القيامة واختبرها على طريق دمشق. وهذا يعني أولاً أنّنا نختبر القيامة هنا، من دون أن نُلغي القيامة الأخيرة، قيامة الأجساد.
عندما تكلّم بولس عن القيامة، فإنه يتكلّم عنها على أنّها تحوّل: ليست القيامة إحياء للجثة، بل القيامة تحوّل: تحوُّل بولس من مضطهد للمسيح وللمسيحيّين: «شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟». إلى رسول للمسيح.
وهذا التحوّل هو نتيجة الاتحاد بالله. فبقدر ما أتحدّ بالله، وبالتالي استسلم لعمل روحه في باطني، أكون في القيامة، لأنّ التحوّل لا يتمّ بأعمالي، بل القيامة هي التعبير عن هذا التحوّل الذي أعيشه، عن طريق الوحدة التي أعيشها مع الله.
نحن مدعوون إلى اختيار القيامة في هذه الدنيا، والقيامة الأخيرة (الشاملة والجماعيّة) هي، إلى حدّ ما، نهاية المطاف، نهاية المسيرة، مسيرة القيامات التي أعيشها وأختبرها في هذه الدنيا. والإنجيلي يوحنّا واضح في هذا الأمر، حين يقول: «من سمع كلامي وآمن بمن أرسلني فله الحياة الأبديّة، ولا يمثل لدى القضاء، بل انتقل من الموت إلى الحياة. الحقّ الحقّ أقول لكم: تأتي ساعة ـــ وقد حضرت الآن ـــ فيها يسمع الأموات صوت ابن الله، والذين يسمعونه يحيون» (يو 5/24-25). إنّ آنيّة القيامة وحاضرها أمر مهمّ جدّاً عند الإنجيلي يوحنا، ونحن مدعوون إلى أن نعيشها كذلك. بالطيع، أكرّر وأقول: إنّ هذا لا يُلغي القيامة الأخيرة، قيامة الأجساد.
لكي تكون هناك قيامة، فلا بدّ من وجود الموت. فلكي أختبر القيامة، عليّ أن أموت. لذلك نحن مدعوون إلى أن نعيش الموت هنا، الموت عن الذات من أجل الآخر، حبّاً له ولكي يكبر. الموت هن الذات أختبره بعلاقاتي المختلفة: الزوج مع الزوجة، الأهل مع الأولاد إلخ...
إسمحوا لي الآن أن أتوقف عند أمر مهمّ نعيشه جميعاً بوجه من الوجوه، وفيه تخبر القيامة، ألا وهو: المغفرة. ماذا يحدث في المغفرة؟
الخطيئة تمسّ دائماً بالآخر. فيها شيء من رفض العلاقة مع الآخر: إنها هدّامة، تهدم من يرتكبها، لأنّه لم يعد على صورة الله. كما أنّها تمسّ بضحيتها، إذ إنّ كلّ خطيئة تسعى إلى تصغير الآخر، إلى اعتباره مجرّد شيء.
لكي يستطيع ضحيّة الخطيئة أن يغفر، عليه أن يقبل أنّه قد تمّ تحجيمه ولم يُعتبر وجوده، أنّه، باختصار، قد قُتل. وهذا ما يظهر في آلام المسيح، فقد قبل الموت الذي يُمارس عليه. إنّ قبول الشرّ الذي يمارسه الآخر علينا يعني التخلي عن مبدأ العدل والدخول معه في علاقة رحمة، علاقة حبّ.
فمن يغفر يحرّر في نفسه الحبّ، الحبّ المجّانيّ، بما أنّ الذي جرحه لم يعد يستحق أن يُحبّ، فيحين أنّ الحبّ هو قدرة خلاّقة تعمل دائماً. فالمغفرة تستعمل الخطيئة لتُنتج ما هو عكس الخطيئة، أي القيامة.
كما أنّ المغفرة تخلق مرّة أخرى من أخطأ، فإن رفضَ أو تخلّى عن تحجيم الآخر، تخلّى عن هدمه. عندما يغفر لي الآخر وأقبل هذه المغفرة ، أعترف بأنّي قد خطئت، ولكنّي، يوجه خاصّ، أكتشف الآخر في علاقة جديدة، أكتشفه أكبر منّي.
وماذا إن لم يغفر من جُرح؟ كلّ مسار عمليّة الخلق الجديد يبدو مجمّداً. من رفض أن يغفر، رفض أن يجعل نفسه على صورة الله. فما الحل؟ أن أقبل عدم مغفرته لي، أي أن أعفر له عدم مغفرته لي. فبهذا ينقلب الوضع كلّيّاً، ويصبح هو في موقف الذي يُغفر له.
من هو الله: الفصل الخامس
اللــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه المتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــألم
«وبدأ يسوع يعلّمهم أن ابن الإنسان يجب عليه أن يعاني آلاماً شديدة، وأن يرذله الشيوخ والأحبار والكتبة، وأن يُقتل وأن يقوم بعد ثلاثة أيام» (مر 8/31-32).
أوّل سؤال يتبادر إلى أذهاننا هو التالي: هل هذا يعني أنّ يسوع كان في صدد تطبيق برنامج مسبق الصنع؟ هذا السؤال نسمعه مرّا عديدة على أفواه الناس.
إن قرأنا الإنجيل متمعّن، نلاحظ، ولا شكّ، أنّ جميع المقاطع تشير إلى آلام المسيح وموته وقيامته، بطريقة من الطرق. لهذا السبب، أتوقف الآن عند موضوع آلام المسيح، لنحاول أن نتعمّق فيها ونفهمها فهماّ أفضل.
في بعض الأحيان، قد تُفاجئنا النصوص الكتابيّة: فهناك سلسلة من النصوص، كالنص أعلاه حيث تُظهر لنا التعابير فيها أنّ موت المسيح على الصليب هو أمر ضروريّ «يجب على ابن الإنسان». وفي النسبة نفسها تقريباً، هناك تعابير أخرى معاكسة تكشف لنا أنّ هذا الموت كان موتاً حرّاً، موتاً تمّ اختياره من قبل المسيح: «إنّ الآب يُحبّني لأنّي أبذل نفسي لأنالها ثانية: ما من أحد ينتزعها منّي ولكنّي أبذلها برضاي» (يو 10/17-18). فهل الضرورة والحرّيّة أمرات متناقضان؟
موت يسوع كضرورة، يشير يسوع إليه على أنّه إرادة الآب: «أفلا أشرب الكأس التي ناولني إيّها أبي؟»، أو على أنّه المعموديّة التي سيقبلها يسوع: وكُتب أيضاً «إنما حدث ذلك كلّه لتتمّ كتب الأنبياء». على يسوع إذاً أن يدخل في دوّامة الشرّ البشري. نرى هذه الضرورة «مُسجّلة» في الله، إن صح التعبير، ويؤكدها الكتاب المقدّس. وهذه الضرورة «مُسجّلة» أيضاً في المحيط الإنسانيّ. كل شيء ضدّ يسوع: الخبث والحسد والخيانة إلخ... فالسماوات والأرض متّفقة على هذا الموت.
ولكنّ هناك مجموعة أخرى من النصوص تشير إلى أنّ الآلام قد تمّ اختيارها بكلّ حرّيّة من قبل يسوع: «إنّي أبذل نفسي برضاي». وردت هذه الآية في إطار الراعي الصالح الذي يبذل نفسه في سبيل خرافه: إنّه أتى من أجل ذلك. فإليه تعود المبادرة. وبولس الرسول يشدّد على هذه الناحية في رسائله. فهل موت المسيح هو موت ضروريّ أو موت مُختار، اختاره المسيح بحرّيّة؟
إنّ الكلمة الأساسيّة في هذه النصوص هي، ولا شك، كلمة البذل، أي تسليم الذات. وهذه الكلمة كثيراً ما نجدها في النصوص: جميع الناس سلمون يسوع إلى جميع الناس: يهذا يُسلمه إلى اليهود، وهم يُسلمونه إلى بيلاطس، وهذا يُسلمه إلى الصلب. قمع أنّ هؤلاء الناس يتناقلون يسوع فيما بينهم وكأنّه مجرد شيء ما، فإنّهم يصلون متأخّرين جدّاً، لأنّ يسوع يُفاجئهم في أثناء العشاء الأخير. فقيل أن يخرج يهوذا في الليل ليسلم يسوع، أسلم يسوع نفسه بقوله: «خذوا فكلوا، خذوا فاشروا». لا يمكن أحداّ أن يسليه حياته، لأنّه لا يمكن الاستيلاء على ما سبق وأعطى.
العشاء الأخير عمل أساسيّ لتفهّم آلام يسوع: إنّه المكان الذي يتخلّى فيه يسوع عن حياته ويجعل منها عطيّة. هكذا نرى ضرورة الموت، وقد تمّ تجاوزها من قبل حرّيّة يسوع. بهذا المعنى يقول بولس الرسول: «لقد ابتلع الظفر الخطيئة».
إنّ موت يسوع هو موت البار، يكشف لنا من جهة عدم عدالة الصليب، لأنّ البار وُضع في عداد المجرمين. ومن جهة أخرى، يكشف لنا الصليب، أو يعلن لنا شرّنا جميعاً أمام جميع البشر.
كتب بولس الرسول: «جعل نفسه خطيئة». فعلى الصليب تتمّ السخرية من العدالة وتُكشف خطيئة الإنسان، وقد سبق وقلنا إنّ الله غير عادل، بل هو رحيم. وعن السؤال: لماذا أراد الله الموت لابنه، جواب واحد: لقد أراد الله، في المسيح، أن يلحق بنا في قمّة شفائنا. أفلم يُدعَ عمانوئيل، أي الله معنا؟ لا وجود لموت آخر من شأنه أن يعبّر عن جوهر الله، عن الله الحبّ.
وثمرت الخطيئة، في نظر الكتاب المقدس، هي الانقسام: الانقسام بين الرجل والمرأة، بين الإنسان وأخيه الإنسان. ثمرة الخطيئة هي محاولة إلغاء التعدّد، وكلّ ذلك يتمّ من خلال العنف. فالصليب هو، في النهاية، محاكمة هذا العنف الإنساني.
وفي نظر البشر، يُعتبر يسوع كبش فداء. قال عظيم الكهنة: «خير لكم أن يموت رجل واحد عن الشعب»، في حين يبذل يسوع نفسه بحرّيّة، ويموت بلا مبرّر. يدلّ موت يسوع على أنّنا، عندما نقتل، فلنتخلّص من شوعرنا بالذنب أكثر ممّا نرتكز على الأسباب الكافية.
ليس الله هو الذي ينصب الصلبان، بل الإنسان. فالله يموت على صلباننا بكل حبّ وحرّيّة. والمسيح لم يبحث عن الصليب، بل قبله بكلّ حبّ وحرّيّة ووعي. لا يرسل الله لنا صلباناً، لأنّه حبّ. وعلينا أن نعلم بأنّ الصليب هو صليب الحبّ، لا صليب الآلام، بمعنى أنّ الحبّ يجعلني، على مثال المسيح، أقبل الصليب، ولكنّني لا أبحث عن الصليب. وبهذا المعنى أقول إنّي مدعوّ إلى أن أعيش الصليب بفرح.
والمسيح لا يخلّصنا بموته فقط، بل خاصّة بالأمانة التي دفعته إلى العيش مع الإنسان، دفعته إلى تحقيق إرادة الآب: لقد عبّر عن حبّه لأبيه حتى الموت، الموت حبّاً: «فمع أنّه في صورة الله، لم يعدّ مساواته لله غنيمة، بل تجرّد من ذاته، متخّذاً صورة العبد، وصار على مثال البشر وظهر في هيئة إنسان فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب، لذلك رفعه الله إلى العلى ووهب له الاسم الذي يفوق جميع الأسماء، كيما تجثو لاسم يسوع كل ركبة» في السموات وفي الأرض وتحت الأرض ويشهد كلّ لسان أنّ يسوع المسيح هو الربّ، تمجيداً لله الآب (فل 2/6-11).
ما هو خلاصيّ في آلام يسوع وموته هو الحبّ، حبّ مفرط، حيث الصليب هو أفضل تعبير عنه: «بلغ به الحبّ إلى أقصى حدوده» (يو 13/1).وبفضل الصليب عرف الإنسان أنّ الله محبّة. لهذا السبب يتكلم بولس الرسول عمّا يسمّيه «لغة الصليب».
وما هي نتائج ذلك المفهوم على حياتنا؟
أولاً ندرك أنّ الصليب هو قبل كلّ شيء صليب الحبّ، لا صليب الألم، بمعنى أنّ حبّي للآخرين يجعلني أقبل الصليب ولا أتلقاه كأمر مفروض عليّ من الخارج. فالحبّ يجعلني أقبل أن أتألم من أجل الآخرين، من أجل من أحبّ. ولكن ذلك ينبع من اخلي ومن قناعتي الشخصيّة. وهذا ما يعني أيضاً لأنّ المسيحيّ لا يبحث عن الألم كما يعتقد الكثيرون، بل عن الحبّ، لأنّ الله محبّة ولا يطلب منّا سوى أن نحبّ. وللحبّ متطلباته ولا شك.
لا يرسل الله لنا صلباناً، فإنّ حبّ ولا يمكنه أن يمارس معنا سوى أعمال الحبّ. سبق وقلنا إنّ الله عاجز خارجاً عن الحبّ.
الحبّ الحقيقيّ يدفعني إلى قبول الموت بشتّى أنواعه: أولاً الموت المعنوي، الموت عن الذات. أنا مدعوّ إلى أن أموت ذاتي من أجل من أحبّ. ولا بدّ لي أن أموت عن ذاتي، إن أردت أن يكبر الآخرون. أنموت عن أنانيتي، عمن حبّي المفرط لذاتي من أجل أن أكون أكثر حضوراً للآخر المحتاج إليّ. وبهذا المعنى يقول يوحنا المعمدان في شأن علاقته مع المسيح: «لا بدّ له أن يكبر. ولا بدّ لي أن أصغر» (يو 3/30). إن حاولت أن أعيش الصليب والآلام بهذا المفهوم، فهذا يجعلني أكون حرّاً أمام موتي النهائي، موتي الجسدي، أي أنّني باختصار أكون إنساناً حرّاً بكل معنى الكلمة.
من هو الله: الفصل الرابع
اللــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه المتجســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد
«إنَّ الله ما رآه أحد قطّ...من رآني فقد رأى الآب» (يو1/18 و 14/9) «في البدء كان الكلمة والكلمة طان لدى الله والكلمة هو الله. كان في البدء لدى الله. به كان كل شيء وبدومه ما كان شيء ممّا كان» (يو 1/1-3).
ما يميّز الإيمان المسيحيّ هو، ولا شكّ، سرّ التجسّد، كما نسميه في الكنيسة، أي الإيمان بالله الذي صار إنساناً. كلّ إيماننا المسيحيّ ينطلق من التجسّد، لأنّنا لا نعرف الله إلاَّ من خلال الابن، أو بالأحرى لا نعرف إلاَّ الله المتجسّد.
نحن نقول ونعرّف أنّ المسيح هو إله وإنسان معاً، فكيف يمكننا أن نقبل ونفهم هذا الأمر؟ وما هي نتائجه على حياتنا الإنسانيّة واليوميّة؟ يوجه عام، لا نحمل إنسانيّة يسوع على محمل الجدّ، بل نعيشها كما لو كانت عبارة عن قناع، أو موضوع مؤقت. ولهذا السبب، نفصل شخصيّة يسوع إلى شخصيّة إلهيّة تُجري العجائب والأعمال الخارقة، وإلى شخصيّة إنسانيّة تتألم وتموت على الصليب، في حين يُظهر لنا الكتاب المقدّس أنَّ التجسّد هو من صميم الله، لا أمر أُضيف إليه بسبب الخطيئة. لهذا السبب نصرّح بأنّه «لو لم تكن هناك من خطيئة، لتجسّد المسيح». ومن جهة أخرى نضيف: «لا وجود لله إلاَّ الله المتجسّد»، إذ إنّه حبّ لا يمكنه إلاَّ أن يتّحد بمن يحبّ.
إنّ المسيح هو إنسان بكلّ معنى الكلمة، لا بل هو الذي يكشف لنا حقيقة الإنسان. إن أردتم أن تعرفوا من هو الإنسان، فانتسبوا إلى مدرسة المسيح. لقد عاش المسيح المسيرة الإنسانية بكاملها، ما عدا الخطيئة. عاش الطريق الذي من خلاله يتمّ تحقيق إنسانيّة كلّ إنسان، أيّ أنّه عاش وواجه الواقع الإنساني بكلّ واقعيّة وبدون هروب، على عكس ما نتصرف نحن، إن إنّنا، في أغلب الأحيان، نحاول أن ننفي واقعنا، مختبئين وراء مثاليّة لا نفع منها، أو نطلب من الله أنّ يعيّر لنا هذا الواقع المرفوض. والتجارب التي خاضها يسوع في أثناء حياته الأرضيّة تُظهر لنا هذه الناحيّة، حيث كان حرّاً في أن يقول: لا لأبيه السماوي.
التجسّد له نتائجه، لا على نظرتنا للأمور، بل على نوعيّة لقائنا مع الله. إنّ حياتنا اليوميّة تصبح مختلفة، إن فهمنا وعشنا التجسّد بهذا المفهوم. والتجسّد يُفهمنا أنّ مكان لقائنا الله هو حياتنا الإنسانيّة بكلّ ما فيها.
إنّ الكتاب المقدّس يقدّم لنا الله بوجهين، إنّ صح التعبير: فهو الإله الذي لا يمكن إدراكه والإله المتعالي (العليّقة المتّقدة)، وهو، في الوقت نفسه، إله التاريخ، أي إله البشر: «أنا الربّ إله آبائكم، إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب» (خر 3/15). فالتجسّد ليس حدثاّ تمّ في فترة من التاريخ (مع العلم بانّ هذا صحيح بالنسبة إلى شخص يسوع). إنّه تاريخ الله مع البشر. وعمليّة التجسّد لا تنتهي، لأنّ الله يريد الاتّحاد مع البشر.
يقول آباء الكنيسة: «صر الله إنساناً ليصير الإنسان إلهاً». أوضح مباشرة فأضيف: لن يصير الله، بل هو مدعو إلى التأله، والفارق هو كبير ومهمّ. فكلّ إنسان هو «إنسان إلهيّ»، أيّ أنه، إلى حدّ ما، إله وإنسان، بمعنى أنّ الله أو روح الله موجود فيه. وهو مدعو إلى تحقيق هذه الوحدة بوجه كليّ، على حدّ فول بولس الرسول في أمر ملكوت الله، «حيث يصبه الله الكلّ في الكلّ». بالطبع، هذه الوحدة لن تتمّ بإلغاء الواحدة على حساب الأخرى (الإنسانيّة والإلهيّة). فالوحدة هو أولاَّ وحدة في التعدّد، والإنسانيّة الحقيقيّة هي ثانياّ (إنسانيّة مؤلّهة) والألوهة الحقيقية هي ألوهة متأنسة. عاش المسيح هذه الوحدة التامّة، وهذا يعني أنّه، حيث أعيش إنسانيّتي، فأنا أعيش ألوهتي، والعكس صحيح. وبمعنى آخر، فإنّ الإنسان الحقيقيّ هو إنسان متأله، والله الحقيقيّ هو إله متأنس.
عاش المسيح هذه الوحدة، حين أعتبر الإنسان وحدة متماسكة لا فرق فيه بين الجسد والروح. بهذا المعنى قال للمقعد: «يا بنيّ غفرت لك خطاياك». ومن بعدها قال له: «قم فاحم لفراشك واذهب إلى بيتك» (مر 2/5 و 11). فالتجسّد هو الذي يخلّصنا، لأنّ يسوع، من خلاله، يأخذ موتنا ويعطينا حياته: خرج المقعد معافاً سليماً، وحُكم على يسوع بالموت. بهذا المعنى، كلّ حياة يسوع هي تجسّد: ولادة وطفولة وعلاقات ومشاعر وموت وقيامة. والتجسّد هو الله الذي يعيش بابنه حياة الإنسان لكي يعيش الإنسان، في الوقت نفسه، حياة الله. وعبّر يسوع عن ذلك مراراً، حين شبّه ملكوت السماوات بالعرس. بيسوع، «تزوّج الله البشريّة، وإن لم يكن الإنسان أميناً، فالله لا يُطلّق». ولم ينته التجسّد، أولاّ، لأنّ المسيح لم ينفصل عن جسده: «به يوجد إنسان جالس عن يمين الآب». وثانياً لأنّ تاريخ حبّ الله للبشر لم ينته، ما لم يلتحق ويتملّك كلّ البشرية.
إن فهمنا، قبلنا وحاولنا أن نعيش التجسّد. وكذلك فإنّ نتائجه مهمّة بالنسبة إلينا، في حياتنا العمليّة والروحيّة:
إذا عاش المسيح الوحدة بين الإنسان والله، وإذا أعتُبر الإنسان وحدة متماسكة لا تتجزأ، فعلينا أن نعي أنّ الإنسان واحد، روح وجسد، فلا وجود لروح خالدة وجسد فانٍ، بل هناك إنسان واحد يولد ويعيش ويموت ويقوم من بين الأموات.
وإذا سكن المسيح بيننا، بين البشر، إذا توحّدت الألوهة مع الأنسنة، فهذا يعني أنّه علينا إلغاء المثاليّة من إيماننا وإنجيلنا وقبول وجو الله بالإنسان، أيّاً كان هذا الإنسان. وهذا يعني أيضاً عدم تصنيف البشر، وفقدان الأمل من أيّ كان، إن صح التعبير. وعلينا أخيراً أن نفصل بين الإنسان والشرّ الذي يرتكبه، فإنّ الإنسان لا يعادل شرّه. وهذا ما يجعلنا نفهم ما هي المغفرة، وإلاَّ أصبحت عقيمة، وهذا ما حدث في شأن المرأة الزانية، إذ إنّها اكتشفت أنّ الخطيئة ليست جزءا منها، من جسدها، على عكس الفريسيين واليهود الذين كانوا يعتقدون بأنّهم برجمها يقتلون الشرّ معها: «إذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة». وهذا يعني أنّ المسح اعتبرها أهلاً، جعلها أهلاً لأنّ تعيش بدون خطيئة.
الكنيسة ــــ على مثال المسيح ــــ هي إلهيّة وإنسانيّة. هذا يعني أنّ الكنيسة تبقى مؤسسة يديرها بشر بتأثير من الروح القدس، أي باتحاد مع الله، دون أن تلغي هذه الوحدة بُعدها الإنسانيّ. قرارات المسؤولين فيها تبقى قرارات بشر أحرار. وهنا نرى أنّ الوحدة لا تلغي التعدّد. فالألوهة لم ولن تلغي الإنسانيّة. وهذا يعني أيضاً أنّ الإلهي يُعبِّر ويُعبَّر عنه من خلال الإنسانيّ.
كلّ إنسان هو، كما قلنا، إلهيّ وإنسانيّ معاً، أي أنّ الإنسان هو مقدّس لا يحق لنا أن نمس به. قال المسيح في إنجيل متّى: «قيل لكم: لا تزن، أمّا أنا فأقول لكم: من نظر إلى امرأة واستهاها، فقد زنى بها في قلبه».
والتجسّد هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق إنسانيّة الإنسان، لتحقيق دعوته: «إنموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلّطوا على أسماك البحار وطيور السماء وطلّ حيوان يدبّ على الأرض» (تم 1/28).
عندما أ‘يش إنسانيّتي، فأنا أعيش ألوهيّتي، أي لا فرق بين الدينيّ والدنيويّ، لا وجود لمجال مخصّص لله ومجال آخر لا علاقة له به. كلّ ما يمسّ الإنسان يمسّ الله والعكس بالعكس. وهذا يعني أن ملكوت الله يبدأ هنا. لا في نهاية الكون فقط، لأنّ المسيح نفسه عاش هذه الوحدة (الملكوت) على الأرض. وبهذا المعنى أيضاً عليَّ أن أكون أميناً لكلّ ما أقوم به: إمتحان، عمل إلخ... لأنّ كلّ ذلك يمسّني وبمسّ الآخر، أي الإنسان.
من هو الله: الفصل الثالث
اللــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه المخلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــص
إنَّ موضوع الخلاص موضوع أساسيّ في الإيمان المسيحيّ. وفكر بولس الرسول ينطلق من الخلاص: فقد اكتشف أن جميع البشر خطئوا وبالتالي هم هالكون. وهذا ما جعله يكتشف أهميّة الخلاص المعطى لنا بالمسيح ومجانيّته، إذ إنَّ الشريعة لا تستطيع أن تعطينا الخلاص، فضلاً عن أنَّ الإنسان، نظراً إلى وضعه الخاطئ، لا يستحق الخلاص. فكيف ومن أيّ شيء يخلّصنا المسيح؟ هذا هو السؤال الذي سأحاول الإجابة عليه.
لقد اعتدنا أن نربط موضوع الخلاص بالخطيئة (الأصليّة)، وفي هذا شيء من الصحّة. ولكنّ الخلاص هو أهمّ وأوسع وأقدم بكثير، إن صح التعبير، من الخطيئة. إنّ كلمة خلاص كلمة «غشّاشة»، لأنَّ معناها يقيّّدنا. فلنحاول أن نكتشف الوجه الآخر لمعناها. عندما أخلص من شيء ما، بالمقابل يُعطى لي شيء آخر أفضل. فعندما أخلص من مشكلة ما، أحصل على الفرح. فالخلاص من الخطيئة يعني الخلاص من نتيجة الخطيئة: الموت. وعندما أخلص من الموت، تُعطى لي الحياة. فالخلاص يعني إذن هبة الحياة. فإن قبلنا بهذا التعريف، تصبح عملية الخلاص الأولى عمليّة الخلق ذاتها، حيث أعطى الله الحياة للبشر. فالخلاص هو أوسع بكثير من موضوع الخطيئة وإن كان يشمل أيضاّ الخلاص من الخطيئة. لكن هذا يأتي في مرحلة أخرى وكتجديد للعطيّة الأساسية التي رفضها الإنسان بسبب الخطيئة.
من المألوف أن نقول إنَّ المسيح تجسّد وسكنن بيننا ليخلّصنا من الخطيئة. هذا يعني أنَّ الخطيئة هل التي فرضت تجسّد المسيح، فلو لم تكن هناك خطيئة لما تجسّد المسيح. لكنَّ الكتاب المقدّ بوجه عام، والإنجيل بوجه خاصّ، يخبرنا بأن المسيح تجسّد لأنّه يحبّنا. ومَن يحبّ يتّحد بالحبيب، وهذا هو الزواج، وقد سبق لنا وقلنا إنَّ «الله تزوّج البشرية». هذه هي الصداقة الحقيقيّة التي يتّحد فيها الصديقان بالروح الواحد الذي يجعهما. مُن يحبّ يريد ويسعى أن يشارك المحبوب في كلّ ما يعيشه من فرح وحزن، ومن فقر وغنى، في السرّاء والضرّاء كما يقولون. والمسيح أتى وسكن «بيننا» لكي يشترك معنا في كلّ شيء، في كلّ ما يعيشه الإنسان، في كلّ ما يجعله إنسان، أيّ إنَّ المسيح أتى ليتضامن معنا ويشاطرنا «وضعنا الإنسانيّ». وهذه الفكرة سنتوقف عندها لاحقاً.
يوصلنا ربط الخلاص بالخطيئة إلى ما تعلّمناه في الماضي، ألا وهو أنّه كان علينا أن نموت بسبب خطيئتنا، وأنّ الله، لكونه رحيماً، فضّل موت ابنه مكاننا لكي يخلّصنا معه. ولكن هذا المنطق لا يتناسب مع الله المحبّ. فقد سبق وقلنا إ،ّ الله عاجز عن أن يقوم بأعمال منفية للحبّ. فلا يمكن الله أن يفكّر يوماً في أن يميتنا. لكي نفهم كما يجب موضوع الخلاص، لا بدّ لنا أن نفهم أولاً ما هي الخطيئة.
تنبع الخطيئة من قدم ثقة الإنسان بالله، وهي مرتبطة بحرّيّة الإنسان. وعدم الثقة يعني عدم الثقة بحبّ الله لنا. ولهذا السبب يسعى الإنسان ــــ كما سبق ورأينا ـــــ للحصول وحده على الحياة، بأعماله وبعيداُ عن الله. هذا ما يجعل الإنسان يسعى إلى التسلّط وإلى استغلال الآخرين، لكي يُثبت لنفسه أنّه محبوب. يسعى إلى الملكيّة، إلى المركزيّة والمحوريّة، وكلّنا نعلم بأنّه، في الظاهر، يحبّ الناس الأغنياء. وعندما تزول تلك الملكية يجد نفسه وحيداً. والزواج في أيّامنا، ومع الأسف، أصبح مبنيّاً على هذا الأساس، بدل أن يُبنى على الحبّ.
المسيح يخلّنا من الخطيئة، أيّ يخلّصنا من كل ما يمنعنا أن نكون بشراً. من جميع أنواع العبوديات التي تسخّرنا وتسلب إرادتنا وحرّيتنا. وأخيراً فإن المسيح يخلّصنا من الموت. كيف يتمّ ذلك، لا سيّما وأنّنا نعلم بأنّ الموت لا يزال قائماً ونتألم منه الكثير؟
الإنسان هو عبارة عن جملة من الصراعات: صراع بين المسموح والممنوع، بين القانون وواجباته، بين الوعي واللاوعي إلخ...ومن يقول صراع، يقول: عنف وانقسام وانشقاق. فالعنف هو في داخل الإنسان ولا بدّ منه لكي يصل إلى تحقيق ذاته. فالإنسان في صراع مع الطبيعة (كوارث، أمراض...) ومع المجتمع (كلّ فرد يعتبر نفسه مغبوناً من قبل المجتمع، إن لم يعامله بطريقة مميّزة). وأخيراً وليس آخراً، الإنسان هو صراع مع ذاته، وقد أثبت التحلّيل النفسيّ لنا ذلك من خلال الصراع بين الوعي واللاوعي، بين نزوات الموت ونزوات الحياة، وهذا ما عبّر عنه بولس عندما قال: «إنَّ الخير الذي أريده لا أفعله، والشرّ الذي لا أريده فإيّاه أفعل» (رو 7/16). والصراع متجدّد ومستمرّ.
يعني هذا أنّ الإنسان، خلافاً لما نعتقده، لم يصبح، حتى اليوم، إنساناً بكلّ معنى الكلمة. فما دام في البشرية تصرّ واحد غير إنسانيّ، فذلك أنّ الإنسان لم يصل إلى الأنسنة حتى اليوم. فالإنسان مدعو إلى أن يصبح إنساناً. وهذه مسيرة لا تنتهي. وهذا يعني أيضاً أنه لم يصبح حتى اليوم على صورة الله. ونلاحظ، إلى جانب ذلك، أنًّ جميع تصرفات الإنسان هي تصرفات غامضة: فالمساعدة والخدمة والحبّ هي كلّها تصرفات لها، في الوقت نفسه، خلفيّة لا واعية، قد تهدف إلى تملّك الآخر. فالهديّة مثلاً لم يعد تعبّر عن الحب بقدر ما تعبّر عن شيء من التفوق على من يتلقّاها. وهذا يعني أنّه لا وجود لنصرف إنسانيّ صاف مئة بالمئة، وأنّه لا يحقّ لنا في أن «نقدّس تصرفاتنا». فأحياناً ما يكون لأعمالنا الجيّدة والإيجابيّة نتائج سلبيّة لا تتعلّق بحريّتنا. ولكن هناك شرّاً يتعلق بحريّتنا إلى حدّ كبير وهو الخطيئة.
وكثيراً ما نستعمل حريّتنا استعمالاً غير صحيح، وكما رأينا، نختار الموت بدلاُ من الحياة (الوسائل المزيّفة، الطفل الذي يتعلّم المسي). وقد أثبت التحلّيل النفسيّ وجود صراع مهمّ داخل الإنسان: صراع بين نزوات الموت ونزوات الحياة، أيّ أنَّه عند الإنسان نزعة إلى التخريب والتهديم، نزعة إلى العدم. لا يل يمكننا التحدّث عن «لذّة التهديم»: لإثبات قدرتنا وإظهار حريّتنا، أسهل علينا أن نهدم من أن نبني، من أن نخلق. لهذا السبب، لا نشعر بالكفاية ولا نعيش نموّنا الإنساني على أنّه مرتبط بشكل قويّ جداً بنموّ الآخرين، ولا يمكننا أن نعيش على صورة الله وأن نكون خلاّقين إلاَّ إذا أفسحنا المجال للآخرين في أن ينموا. وهذا من صميم الحريّة الباطنيّة التي تحدثنا عنّها. ونحن مدعوون إلى أن نعيش ذلك بالنسبة إلى المسيح وبالنسبة إلى الآخرين، وهذا هو الحبّ الحقيقيّ الذي يقتضي الموت عن الذات من أجلهم، لكي ينموا.
إنّ الإنسان يعمل دائماً ليكون، ولا يمكنه التخلّي عن هذه الرغبة في الوجود، فهي مكتوبة في عمق أعماقه، إنّ صح التعبير، ولكنّ، في أغلب الأحيان، يسعى للوجود على حساب الآخرين، معتبراّ إيّاهم مجرد وسيلة مفيدة أو ضارّة لتمجيد ذاته. هذا هو الشرّ الأخلاقيّ أو الخطيئة. فالفصل 3 من سفر التكوين، الذي وردت فيه قصّة الخطيئة الأصليّة، لا يحدّثنا عن بداية الخطيئة وتاريخ دخولها في التاريخ، بل يكشف لنا ما يختبئ وراء كلّ خطيئة، يكشف لنا عن أضل الخطيئة. فالخطيئة والشرّ دخلا من باب الحرّيّة الإنسانيّة.
وهذا يعني أن لا وجود لزمن مثالي في بداية البشريّة، حيث كان الإنسان يعيش في العدالة والصداقة. لا وجود لهذا «العصر الذهبيّ» ورائنا، بل أمامنا. وبما أنّ الفصل 2 من سفر التكوين يصف لنا، بشكل رمزيّ، مشروع الله من أجل الإنسان، فهذا يعني أنَّ النصّ يحدّثنا عن إنسان المستقبل (آخر الزمنة)، الإنسان الذي نحن مدعوون إلى أن نصبح إيّاه. وما هو معطى لنا هو الإمكانيّة بأن نصبح هذا الإنسان الذي يصفه لنا الكتاب المقدّس. وبهذا المعنى نقول: لا وجود لجنّة مفقودة، بل هناك جنّة موعود بها، جنّة الإنسانية الواحدة، دون إلغاء التعدد منها، على صورة الله الواحد والمتعدّد (الثالوث).
في الكتاب المقدّ، يبدأ تاريخ البشريّة خارج جنّة عدن، وبجريمة قتل: قتل هابيل عن يد أخيه قاين. أوليست الجريمة مستمرّة؟ هكذا يحمّل الكتاب المقدّس الخطيئة مسؤولية جميع الانقسامات التي تمزّق التاريخ البشريّ. فكلّ خطيئة تؤدي إلى القتل: «سمعتم أنّه قيل للأولّين: لا تقتل، فإن من يقتل يستوجب حكم القضاء. أمّا أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه استوجب حكم المجلس، ومن قال لأخيه: يا جاهل، استوجب نار جهنّم» (متى 5/21-22).
من أين تأتي الخطيئة؟ من عدم الثقة بحيّ الله لنا. وهذا ما أدّى إلى تشويه تصوّر الإنسان لله. فالمسيح يخلّصنا من الخطيئة من خلال المسيرة التي عاشها، مسيرة الحبّ، مسيرة معاكسة لمسيرة الخطيئة، أثبت من خلالها أنّه حبّ، كليّ الحبّ، لا بل يموت حبّاً في سبيل من يحبّ: «ليس لأحد حب أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبّائه» (يو 15/13). فإذا اختبرنا حبّ الله لنا في العمق، تحرّرنا من الخطيئة ولم نعد محتاجين إلى هذه الوسائل المزيّفة لكي نُثبت لذواتنا أنّنا بشر محبوبون. فعندما أثق بحبّ الله لي، أستطيع أن أقول مع القدّيس إغناطيوس دي لويولا «خذ، ي ريَ، واقبل حرّيّتي كلّها وذاكرتي وعقلي وإرادتي كلّها، كلّ ما هو لي وكل ما هو عندي. أنت أعطيتني ذلك، فإليك أعيده يا ربّ. كل شيء لك، فنصرف فيه بكامل مشيئتك. أعطني حبّك ونعمتك، فهذا يكفيني» (رياضات رقم 234).
من هو الله: الفصل الثاني
اللـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه الخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالق
رأينا أنّ اختبار الله المحرّر، الله الذي يستطيع أن يخلق شعباً ممّا لم يكن شعباً، حمل إنسان العهد القديم إلى أن يستنتج أنّ هذا لإله هو خالق، أنّه الخالق. وإذا كان هو الخالق، فإنه يخلق بمحبّة: لكي يحرّر الإنسان، لا بدّ أن يحبّه، وإلا لما ساعده على الوصول إلى الحرّيّة، لما ساعده على أن يكون إنساناً. فماذا يعني، بالنسبة إلينا، في حياتنا اليومية، أن يكون الله هو الخالق؟ كيف يمكننا أن نفهم قصّة الخلق كما يريها الكتاب المقدّس؟ وعلى أيّ أساس تمّت عمليّة الخلق هذه؟
ملاحظة أولى لا بدّ منها، قبل أن نبدأ بقراءة قصّة الخلق، وقد تبدو هذه الملاحظة بديهيّة: إن قصّة الخلق في الكتاب المقدّس لا تروي لنا بالتفصيل ما حدث في أثناء الخلق، بل هي قصّة رمزيّة (أسطورة). ولكمة أسطورة لا تعني خرافة على ما يعتقده الكثيرون. فالأسطورة هي أسلوب أدبيّ رمزيّ يخبرنا عن حقيقة أصل الإنسان والآلهة والعلاقة بينهما، ونحن مدعوون إلى قراءة هذه الرموز للوصول إلى الرسالة التي تريد أن تنقلها إلينا.. فإذا دققّنا قراءتنا لقصّة الخلق نلاحظ ما يلي:
أولاً، كانت الأرض «خاوية خالية» (تك 1/1)، أي لم يكن لها شكل محدّد وواضح، لم يكن فيها حياة. ثم تبدأ عملية الخلق عن يد الله، أي تبدأ الحياة بالظهور على هذه الأرض. فعندما يخلق الله، يخلق بالاختلاف: الليل والنهار، السماء والأرض، المياه واليبس، وأخيرا الرجل والمرأة. وهذا يعني أولاّ أنّ لا وجود لخلق، لا وجود لحياة من دون الاختلاف.
ثانياً، نلاحظ أنّ الله، عندما يتكلم عن ذاته، فإنه يتكلم بالجمع ومرّة بالمفرد: «وقال الله: لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا» (تك 1/26). نرى هنا بوادر عن فكرة الثالوث، إذ إنّ الله يتكلم عن نفسه بصيغة الجمع، ولا يتكلم من باب التباهي. فهذا يتضمّن، في رأيي، ولو بوجه غير واضح وغير مباشر، فكرة الثالوث، وهذه الفكرة، التي تتوضّح إلى حدّ ما من خلال العهد الجديد، في المسيح الابن الذي سيعرّفنا الآب بوحي من الروح القدس. فالله متعدّد بالاختلاف إذاً وواحد معاً (أب وابن وروح قدس). وهنا يُطرح علينا السؤال حول مفهوم الثالوث (أتحدث عنه بعد قليل). ثم يتابع نص الكتاب المقدّس فيقول: «فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم» (تك 1/27). فالإنسان هو صورة الله كمثاله، أي أنّه متعدّد بالاختلاف وواحد أيضاً (ذكر وأنثى)، واحد بما أنّهما مشتركان في الجوهر أيضاً، أيّ الإنسانيّة. إنّ جوهر الإنسان هو التعدّد بالاختلاف على مثال الله. فالرجل وحده ليس هو الإنسان ولا المرأة وحدها هي الإنسان، بل الاثنان معاً. وأفضل صورة للثالوث، هي في رأييّ، صورة الرجل والمرأة. والتعدّد بالاختلاف ليس هو فقط بين الرجل والمرأة، بل بين كلّ إنسان وآخر، حتى ولو كان من الجنس عينه.
الله يخلق بالكلمة: «كنّ فكان». والخلق بالكلمة هذا يعني المسيح، بما أنّه هو كلمة الله. وبهذا المعنى يفتتح يوحنا إنجيله قائلاً: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله. به كان كلّ شيء وبدونه لم يكن شيء».
وإذا كان الله يخلق لأنّه يحبّ، فكيف يمكننا أن نفهم أنّ الله منع الإنسان عن المعرفة: «من جميع أشجار الجنّة تأكل، وأمّا شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، فإنك يوم تأكل منها تموت موتاً» (تك 2/16 - 17)؟ إنّ الله وضع للإنسان شريعة للحفاظ على حياته: لأنّ منع الكل من شجرة المعرفة يهدف إلى حماية الإنسان من الموت، لأنّ الله يريد الحياة للإنسان، لا الموت: «أمّا أنا فقد أتيت لتكون الحياة للناس، وتفيض فيهم»، يقول المسيح في مثل الراعي الصالح (يو 10/10). إلى جانب أهمية الشريعة بوجه عامّ في حياة الإنسان، فلا وجود لإنسان من دون شريعة: فعلى الصعيد النفسيّ مثلاً، هذه الناحيّة مهمّة جدّاً وتظهر في مرحلة (الأوديب) من مراحل النموّ النفسيّ للطفل. في هذه المرحلة يكون الصبي متعلقاً بأمّه والفتاة بأبيها. وكلّ واحد منهما يريد الزواج من الآخر (الصبي من أمّه والفتاة من أبيها)، وهما يعبّران عن هذا الأمر إمّا بالكلام وبشكل واضح في بعض الأحيان، وإمّا بالتصرف، إذ يبقى الصبي مرتبطاً بأمّه ولا يريد أن يتركها ولو لحظة، إلى جانب شيء من الرفض للأب، لأنّه يُعتبر منافساً له. وللأب هنا دور ذو أهمّيّة بالغة، إذ عليه أن يفصل بين المّ والصبي والفتاة وأبيها، وإلاّ فالنتيجة كارثة. وهذا ما يُظهر لنا دور الشريعة وأهميّتها في حياة الإنسان.
ماذا يجري في الواقع؟ في الواقع نسعى دائماً لإلغاء هذا التعدّد بالاختلاف الذي نجده بين البشر. كلّ واحد منّا يسعى لأن يكون الآخر مثله، صورة عنه. فالرجل يريد أن تكون زوجته كما يريدها أن تكون، أي مثله، والمرأة تريد زوجها بالمثل، والصديق صديقه إلخ... ولهذا السبب، لا تدوم العلاقات طويلاً إلاَّ ما ندر، ولهذا السبب أيضاً، نحن لسنا خلاّقين، بل نعيش من «قلّة الموت»، كما نسمع أغلب الأحيان على أفواه الشبّان. في كلّ مرّ نحاول فيها أن نُلغي الاختلاف، نسعى إلى الموت، نتراجع إلى ما قبل الخلق، إلى تلك الأرض «الخاوية الخالية». فنحن مدعوون إذاً إلى احترام الاختلاف، لا بل إلى تقويته وتغذيته في حياتنا. نحن مدعوون إلى السهر من أجل الحفاظ على هذا الاختلاف وجعله مصدر حياة وخلق، مصدر غنى، ولكنّنا نحوّله في أغلب الأحيان إلى مصدر خلاف (الرجل يقول إنّ المرأة بنصف عقل، والمرأة تقول إنّ الرجال وحوش إلخ).
في الحوارات التي قد نسمعها بين الناس، نرى كلّ واحد منهم في موقف الدفاع، يحاول أن يُقنع الآخر برأيه، يقنعه بأنّه على حق، بأنه يملك الحقيقة، أي أنّ الآخر هو على خطأ. ولكن من منّا هو على حق؟ من منّا يملك الحقيقة؟ منطقتنا غنية بالاختلافات: (اختلافات الأديان، اختلافات اجتماعيّة، اختلافات في التقليد)، ولكنّنا نجعل من هذه الاختلافات مصدر خلافات وانتقادات. فإذا كان الله قد خلق الإنسان متعدّدا بالاختلاف، فهذا يعني أنّه علينا جميعاً أن نحافظ على هذه الميّزة الفريدة لأنها هي مصدر الحياة. فلا يحقّ لي أن أفرض رأي على الآخر. إفتحوا الإنجيل، تلاحظوا أنَّ المسيح لم يثل أبداً: «عليكم أن تتبعوني»، بل كان دائماً يقول: «من أراد أن يتبعني». بهذا المعنى نجد نصًّا رائعاً في سفر تثنية الاشتراع، يقول الله فيه للإنسان ما يلي: «أنظر، إنّي أعرض عليك اليوم الحياة والخير، والموت والشرّ. إذا سمعت إلى وصايا الربّ إلهك، سائراً في سبله حافظاً وصاياه وفرائضه وأحكامه، تحيا وتكثر ويباركك الربّ إلهك في الأرض التي أنت داخل إليها لترثها. وإذا تحوّل قلبك ولم تسمع وابتع\ت وسجدت لآلهة أخرى وعبدتها، فقد أعلن لكم اليوم أنكم تهلكون هلاكاً (...) فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك من بعدك» (تث 30/15-18). فالله يعرض والإنسان يختار بكلّ حرّيّة.
هنا يأتي موضوع مهمّ جدّاً، لا يمكننا المرور عليه «مرور الكرام». هذا الموضوع هو موضوع الدينونة. فإذا كان الله يعرض والإنسان يختار، فكيف يمكن لله أن يدين؟ للإجابة على هذا السؤال، علينا أن نعلم أولاً بأن الله رحيم، فلا يعاملنا بالعدل، وإلاَّ هلكنا جميعاً (مثل عملة الساعة الخامسة في متى 20/1-16). في الواقع، لا يدين الله أحداّ، بل الإنسان هو الذي يدين نفسه. الإنسان يختار بحرّيته الظلمة بدلاً من النور والموت بدلاً من الحياة. وهذا ما قرأناه في نصّ تثنية الاشتراع. في إنجيل يوحنا، هذا الموضوع واضح جداً، لأنّ المسيح يقول: «فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد. وإِنَّما الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّورَ جاءَ إِلى العالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور» (يو 3/16-19). وقال في مكان آخر: «وإِن سَمِعَ أَحَدٌ كَلامي ولَم يَحفَظْه فأَنا لا أَدينُه لأَنِّي ما جِئتُ لأَدينَ العالَم بل لأُخَلِّصَ العالَم. مَن أَعرَضَ عَنِّي ولَم يَقبَلْ كَلامي فلَه ما يَدينُه: الكَلامُ الَّذي قُلتُه يَدينُه في اليَومِ الأَخير» (يو 12/47-48). فما قلناه في شأن إلغاء الاختلاف يوضّح لنا أيضاً هذه الناحية على أفضل وجه: فالإنسان، بمحاولته إلغاء الاختلاف بينه وبين الآخرين، يختار الظلمة والموت، في حيان يعتقد ويقتنع بأنّه يختار الحياة «والنصيب الأفضل»، مثل الطفل الصغير الذي يتعلّم المشي: في البداية، يستند إلى كرسي أو إلى طاولة صغيرة أو يتمسك بيد إنسان بالغ. كل هذه الوسائل هي متينة، ولكن، إن بقي يستند إليها، فلن يتعلم المشي ولن يصبح إنساناً مستقلاً. فعليه، لكي ينمو في هذه الناحية، أن يثق بكلام الإنسان البالغ الذي يناديه «تعال ولا تخف». ونحن أيضاً نعتقد بأنَّ الملكية والمركزية، والمادّة واهتمام الآخرين، هي التي ستعطينا الحياة والفرح والسعادة، في حين نكون في الواقع على عتبة اختيار الظلمة والموت، لأنَّ الحياة هي هبة من الله، ونحن نتلقَّاها منه ولا نملكها.
فالإنسان هو الذي يدين نفسه، لأنَّ الله لا يدين، وليس بإمكانه أن يدين، لأنّه محبّة وليس هو «إلاَّ محبّة» كما سبق وقلنا. فالله عاجز عن أن يقوم بأعمال تخالف الحبّ. بهذا المعنى نقول لإنَّ الله غير عادل، بل هو رحيم. لا ألغي الدينونة، بل أقول إنَّ الدينونة هي بيد الإنسان وليست بيد الله، لأنّ الله «أنى ليبحث عن الهالك ويخلّصه، فلم يأتي ليدين وإلاَّ أصبح الله متناقضاً في جوهره. فكيف يمكننا أن نفهم أنّ الله غفر الخطايا أو أنّه لم يحكم على المرأة الزانية، علماً بأنها لم تطلب منه المغفرة؟
فالمغفرة هي من جوهر الحبّ. ولذلك هي خلاّقة، لأنها تحرّر الإنسان من الذنب الذي يكبّله ويجعله أسيراً لهذا الشعور. كلّنا نعلم إلى أيّ حدّ نبقى مكبّلين، إن كنّا نعيش تحت وطأة الشعور بالذنب. فالمغفرة هي إذن خلاّقة، لأنّها تحرّر الإنسان، تخلقه مرّة أخرى. وهكذا فإن الله يخلق من خلال المغفرة، من خلال مغفرته لخطايانا: «قم فاحمل فراشك واذهب إلى بيتك»، يقول يسوع للمقعد بعد أن قال له: «مغفورة لك خطاياك». ولكنّنا، يوجه عام، نحكم على الآخرين، ولكي نريح ضمائرنا، نُسقط هذا الشعور على الله ونجعل منه حاكماً ديّاناً.
وبكلمة واحدة نقول بأن الله محبّة. وإذا كان محبّة، فلا بدّ أن يكون متعدّداً بالاختلاف في جوهره، لأنّ المحبّة تفترض وجود علاقة، والعلاقة تتطلّب وجود أكثر من واحد. والمحبّة في جوهرها خلاّقة، لأنّها خروج مستمرّ من الذات (خرج الزارع لزرع، خرج ربّ عمل ليبحث عن عملة إلخ...).
والله خلق الإنسان على صورته، أيّ متعدّد بالاختلاف، لأنّه حياة. وإذا كان الله قد ارتاح في اليوم السابع للخلق، فهو لم يتعب من الخلق لكي يرتاح، بل ما يراد من النص هو أنّ الله سلّم الكون إلى الإنسان «إنموا واكثروا...». وعليه هو الآن أن يخلق الكون، إن صح التعبير، بمعنى أنّه على الإنسان أن يسيطر على الكون ويؤنسنه، ويجعله إنسانيّاً. وهذا ما يتمّ بمقدار ما يصبح الإنسان أكثر إنسانيّة، أكثر إنساناً. ولكن عدم الثقة الكافية بالله، عدم الثقة بحبّ الله له، يدفع بالإنسان إلى رفض الحياة الموهوبة له من قبل الله، ويسعى للوصول إليها بطرقه الخاصّة. وهذه هي الخطيئة ـــــ الموت ـــ الذي يسعى الله باستمرار لأنّ يخلّصنا منه. فكيف ومن أيّ شيء يخلّصنا الله؟ هذا ما سنراه في ما يلي.
من هو الله: الفصل الأول
اللـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه المحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرِّر
في العهد القديم، صور متعدّدة ومختلفة، وأحياناً متناقضة، عن الله، لأنَّ الله يكشف عن ذاته من خلال التاريخ، فتتطوّر صورة الإنسان عن الله مع مسيرة التاريخ الإنساني. أقدم هذه الصور في الكتاب المقدّس هي ثورة الله المحرَّر، صورة الله الذي يحرَّر شعبه. لهذه الصورة أهمّيّة كبرى، لأنّها تمّهد وترمز إلى فكرة الله الذي يحرِّر من الخطيئة، فكرة الله المخلّص. فإنَّ فكرة التحرّر أو فكرة الله المحرَّر هذه هي الاختبار الأول الذي قام بها إنسان العهد القديم عن الله.
قد نعتقد بأنَّ الكتاب المقدّس هو كتاب متسلسل، وُضع بشكل تسلّسلي من البداية حتى النهاية. في الحقيقة. ليس الأمر كذلك، لأن قصّة الخلق كُتِبت في النهاية وأتت كاستنتاج عقليّ، إلى حدٍّ ما، كاستنتاج مبني على الاختبار الأساسي، على اختبار الله المحرِّر. قبل أنّ يتدخّل الله، لم يكن هناك شعب، بل كانت هناك قبائل متفرّقة لا علاقة لبعضها ببعض. وبفضل تدخّل الله فيها، تحوّلت إلى شعب استنتج أنَّ الله هو إله خالق، لأنّه خلق شعباً ممّل لم يكن شعباَ، أي إله قادر على أن يخلق من اللاشيء، من العدم.
الله في وسط شعبه: يهني هذا أنّه إله التاريخ: «أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب» (تك 3/6). وهذا أمر مهمّ جداً، وهو أساس سرّ التجسّد الذي نتوقف عنده في ما يلي. إله التاريخ، هذا ما يميّز الإيمان المسيحي، وهو يعني أنّ الله دخل تاريخ الإنسانية فصار تاريخه وتاريخها واحداً. في نظر الكتاب المقدّس، يكشف الله عن نفسه من خلال التاريخ، من خلال الأحداث اليومية، البسيطة منها، والمهمّة التي يعيشها الإنسان، لأنَّ الله يسكنها. وبهذا المعنى يقول الكتاب المقدّس إنَّ «الله لم يره أحدّ قطّ، ومن يراه يموت» (خر 3 3/20. يو 1/18). نرى ذلك أيضاً بوجه أوضح في زيارة مريم لنسبيتها أليصابات. فإنَّ أليصابات قالت لمريم: «من أين لي أن تأتني أُمّ ربّي»، علماً بأنها تجهل حمل مريم. يعني ذلك أنَّ أليصابات اكتشفت وجود الله الكلمة من خلال هذه الزيارة المجانية، إذ إنَّ الله يكشف عن ذاته من خلال التاريخ الإنساني ومن خلال عدّة وساطات، أهمّها المسيح، لا بل الوساطة بحدّ ذاتها، أو، كما كتب بولس الرسول، «الوسيط الحقيقيّ، صورة الله». فليس الله بعيداً عن الإنسان، بل يعيش بالقرب منه، يعيش معه. فكل محور العهد القديم يدور حول رغبة الله أن يسكن في وسط شعبه، أي في وسط الإنسانية جمعاء، لأنّه يحبّ الإنسان، يحبه حتى إنّه يموت حبّاً له: «ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبائه» و «افرحي وتهلّلي يا ابنة صهيون فإنّ إلهك سيسكن في وسطك» (ابنة صهيون ترمز إلى البشرية كلِّها).
نعلم من العهد القديم أنّ الله يعطي الإنسان هذا الوعد، وعد الإقامة معه وعدم التخلي عنه. لكن الإنسان يخونه باستمرار لعدم ثقته الكافية به. أمّا عدم الثقة هذا فهو عائد جزئياً إلى أنَّ الإنسان يريد أن يكون الله كما يريده هو، أي ملبيّاً لرغباته وحاجاته. وبالمقابل، يبقى الله أميناً لوعده، وعد الحبّ الذي يكمن في المشاركة في حياة الإنسان، كمشاركة الزوج في حياة زوجته، أي الاتحاد بها باستمرارية هذا الاتحاد في «السرّاء والضرّاء».
وهذا الحضور، حضور الله في وسط شعبه، هو حضور محرَّر، لأنّ الله يقود الإنسان من خلال هذا الحضور، وقويّه ويسنده ويشجّعه في مسيرته الإنسانية والإيمانية. وهذه المرافقة أضفت على الله، في العهد القديم، صورة القائد الذي يُرشد الشعب، ويناضل معه، ويحارب معه ومن أجله، ويجعله ينتصر على أعدائه. فنرى إنسان العهد القديم يطلب إلى الله أن ينتقم له ويسنده للتغلّب على أعدائه. بمعنى آخر، يُسقط الإنسان على الله مشاعره الإنسانية، ممّا «شوه»، إلى حدّ ما، صورة الله في بعض أسفار العهد القديم. وهذه الصورة الناقصة، غير الناضجة، أو هذا المفهوم غير الصحيح لله، قيَّد إنسان العهد القديم في مفهومه لله، وعيّر عليه قبول المسيح كما عاش وكما نراه من خلال العهد الجديد، إذ إنّه يخالف الصورة المألوفة التي كوّنها عن الله. (نرى ذلك في مطلع قصة أيوب، حيث يصغي الله إلى صوت الشيطان، ويسمح، بناء على طلبه، أن يُجرّب أيوب). ولا يريد التخلّي عن هذه الصورة، لأنّها تنسجم مع رغباته وحاجاته المباشرة التي يعتقد بأنّها حقيقيّة.
إنَّ تلك النظرة إلى الله جعلت شهب العهد القديم يعتقد بأنّ الله هو إلهه وحده، إله شعب معيَّن ومرتبط بأرض معيّنة. ولكنّنا نرى في الوقت نفسه أنَّ هناك صراعاً يسكن العهد القديم، وهو صراع بين العامّ والخاصّ، أي صراع بين لأن يكون الله مرابطاً بشعب معيّن وأن يكون إله الدميع، إله البشر، إله الأمم، كما يسمّيهم الكتاب المقدّس: «توجّهوا إليَّ فتخلصوا، يا جميع أقاصي الأرض، فإنيّ أنا الله وليس من إله آخر. بذاتي أقسمت ومن فمي خرج البرّ، كلمة لا رجوع عنها. ستجثو لي كل ركبة ويُقسم بي كلّ لسان» (أش 45/22-24).
يُعبّر عن حضور الله في تاريخ الإنسان بوجه مبدئي ورمزي، من خلال عمليّة الخلق، حيث يضع الله من روحه في الإنسان. فقد ورد في الكتاب المقدّس (تك 2/7): «ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار الإنسان نفسّا حيّة». ثم من خلال إعطاء الشريعةـ ــــــ وهي كلام الله ــــــ (والمسيح هو كلمة الله). ومن بعد ذلك، أتى الأنبياء وكانوا يذكَّرون الشعب دائماً بإرادة الله، فكانوا بمثابة صوت الله الحيّ بمثابة حصور الله، إن صح التعبير، في وسط الشعب. تمّ هذا الحضور بوجه كليّ من خلال المسيح ــــــ الكلمة المتجسّد. فقد شكن الله في وسط مريم (الأحشاء) وسكن في وسط الشعب، بحضوره الشخصيّ المتجسّد، عن طريق كلمته.
وفي العهد الجديد، نرى الله وقد سكن فعلاً في وسط شعبه، من خلال شخص المسيح، الكلمة المتجسّد. ولقد فهم العهد القديم لأنّ الله يحرّر «ماديّاً»، إن صح التعبير، تحريراً من الآخر، من العدو، من جميع مشاكله الماديّة والمعنوية، النفسية والاجتماعية (ونحن اليوم لا نزال ننظر إلى الله وكأنّه يحلّ المشاكل ويزيل الصعوبات في الحياة). أمّا العهد الجديد فقد أضفى على فكرة التحرّر معناها الحقيقيّ، فأخذت معنى روحيّاً، وإن غير مجرَّد. فعندما نقول: «روحيّ» نعني أنّ له انعكاساته الماديّة الملموسة. وبمعنى آخر، أنا أعمل وأعيش حياتي «الماديّة»، انطلاقاً وفي ضوء هذه المعطيات الروحية التي هيها لي المسيح من خلال كلامه الحيّ. وهذا يعني أيضاً أنَّ الله لا يقوم بالعمل مكاني أنا، بل أنا مسؤول، وعليَّ أن أمارس هذه المسؤولية، والله يساعدني من خلال حريّتي ومسؤوليتي. إنّ الله لا يعمل بالرغم منّي، بل من خلال حرّيتي المسؤولة. وهذا ما يزعجنا، لأنّنا نستريح أن نستريح ونترك الله يعمل مكاننا.
فكرة التحرّر كما فهمها إنسان العهد القديم جعلت من الصعوبة بمكان أن يقبل مسيحاً مصلوباً، لأنّه كان ينتظر إلهاً محارباً ومنتصراً على أعدائه، وهذا ما يجعل التلاميذ أنفسهم يشعرون بالفشل أمام الصليب: «كنّا نحن نرجو أنّه هو الذي سيفتدي إسرائيل». هذا ما قاله تلميذا عمّاوس للقائم من بين الموات، معبّرين عن شعورهم بالفشل الذريع وخيبة الأمل الذريع أمام ألام المسيح وموته.
كيف يحرّر الله الإنسان وممّا يحرّره؟ إنَّ الله يحرّرنا بحبّه لنا. ونحن بالمقابل نستطيع أن نعيش هذا التحرّر بمقدار ما نعيش ونقبل هذا الحبّ. فالمشكلة كلَّها تكمن في الثقة بهذا الحبّ. منذ الأزل يطرح الإنسان على نفسه هذا السؤال: هل الله معه أو لا؟ وهل يحبّه أم لا؟ وهل هو محبوب أم لا؟ في العهد القديم تظهر لنا تجربة عدم الثقة هذه، وهي التي دفعت الشعب إلى عبادة العجل الذهبيّ، وتخزين المنّ الذي أعطاه الله، مع أنّ الله وعد باستمرار هذه العطيّة. وما قصّة تجربة الحيّة سوى تعبير واضح عن هذا الأمر، حيث إنّ حذر الإنسان أمام حبّ الله له دفعه إلى السعي للقبض والسيطرة على الحياة والخلود بقواه العضلية، بدل أن يثق بالله ويتقبّل الحياة والخلود كعطية من الله. الله المحرّر يريد أن يكون الإنسان حرّاً من كل شيء، من كل ما سلب إرادته ويجعله عبداً، حرّاً ممّا يمنعه أن يكون إنساناً: «إنّ المسيح قد حرّرنا تحريراً. فاثبتوا إذاً ولا تدعوا أحداً يعود بكم إلى نير العبوديّة» (غل 5/1).
فالتحرّر الذي يأتي به الله مرّ إذا، كما تلاحظون، يتطوّر كبير بين العهدين القديم والجديد: من التحرّر من عبوديّة ماديّة خارجيّة سبَّبها الآخر، إلى التحرّر من عبودية أكثر عمقاً، مرتبطة بي شخصيّاً وتعود إلى إرادتي، إن صح التعبير. لأنّ الحريّة المسيحية لا تكمن فقط في التحرّر من العبوديّة التي يمارسها الآخر عليّ، وهذا أمر مهمّ جدّاً، بل إنّ جوهر هذه الحرّيّة يكمن في الحرّيّة الباطنية التي تعنيني، بالإضافة إلى العبوديّة التي أمارسها أنا على الآخر. عندما أكون حرّاً من الداخل، أكون حرّاً فعلاً، وعدم الحرّيّة الخارجية لم يعد ذا مكانة كبرى. بوجه عام، نختبئ وراء الحرّيّة الخارجيّة، ولكن من منّا حرّ أمام ما يفرضه علينا المجتمع والتقاليد ــــ أمنى أن لا أكون على خطأ ـــ فأنا لا أقاوم التقاليد ولا المجتمع، بل السؤال هو التالي: هل أعيش ذاتي قناعاتي، أم أعيش كما يريدون الآخرون أن أكون؟ (أذكر يوماً طُلب إليّ فيه أن أتحدث عن الحرّية إلى مجموعة من الفتيات. في بداية الحديث قدّمن لي لائحة طويلة يعرضن فيها الممنوعات المفروضة عليهن! كفتيات شرقيّات، وهذا أمر صحيح، ولكن عندما سألتهن: من منكنّ على استعداد أن تشترك في سهرة ما، جون أن «تتمكيج» أو دون أن تلبس «على الموضة»؟ فلم يكن هناك من جواب سوى اصمت). أنا لا أقاوم «الموضة» ولا الماكياج. بل أسأل: إلى أيّ حدّ أنا حقيقيّ وأعيش ذاتي؟ هناك أيضاً موضوع الهديّة: مع الأسف الشديد، فقدت الهديّة بُعدها الرمزي وحلّ محلّه البعد الماديّ. إذا قٌدّمت لي هديّة بعشر ليرات، أشعر بأنه عليّ أن أقدّم هديّة بعشرين ليرة. فالهدية لم تعد تعبيراً عن الحبّ، بل أصبحت وسيلة للتفوّق ولتملك من أهديه، فضلاً عن وجود عدد من الناس اضطروا إلى تخفيض علاقاتهم مع الآخرين، لأنّه ليس بإمكانهم أن يقابلوهم بالمثل على هذا الصعيد.
في أثناء صلب المسيح، تتّضح لنا اللعبة ذاتها إلى حدّ ما: فإن أغلبية الحاضرين في أثناء محاكمة يسوع والذين اشتركوا في المكالبة بصلبه هم من الذين «استفادوا منه». لقد اتّخذوا هذا الموقف لأنّه لم يكن لديهم الجرأة للتعبير عن قناعاتهم واختباراتهم مع يسوع. فلقد انساقوا تماماً في محاكمة مزوّرة وطالبوا بإطلاق لصّ مقابل البريء، في حين أنَّ الذين اختبروا بالعمق التحرّر عن يد المسيح لم يخافوا من إعلان إيمانهم به، كما هو حال المولود أعمى في إنجيل يوحنا الفصل 9. إنَّ الحريّة المسيحية تجعلني في النهاية حرّاً حتى أمام ذاتي، وهذه الحرّيّة هي الوحيد التي تمكنّني أن أكون إنساناً أولاً وخلاّقاً ثانياّ (هناك من يصاب بالرشح، وينشلّ عن الحركة ويصبح سجين موقف المشتكي، وهناك من يصاب بمرض السرطان ويتابع عمله ونشاطه حتّة آخر رمق من حياته). فإن العبوديّة الأهم، العبوديّة الوحيدة، هي في النهاية عبوديّة الذات. عندما أبحث عن الملكيّة، وعن المركزيّة، وعن المادّة، أفعل كلَّ ذلك من أجل ذاتي، لا سيّما وأنّي أعيش هذا الأمر على أنّه «مفروض» عليّ إلى حد ما، وأُبرّره بأنّه لخيري، وهذا ما لا يمكّنني أن أكون حرّاً تجاهه. فالمسيح عاش هذه الحرّيّة شخصيّاً في أثناء وجوده التاريخي الأرضي: فقد كان يأكل مع الخاطئين بالرغم من أصابع الاتهام التي كانت توجّه إليه في هذا الشأن، أيّ، بمعنى آخر، لم يكن المسيح متمسّكاً «بسمعته»، بل كان حرّاً تجاه هذا الموضوع، ممّا مكّنه أن يكون مع الجميع ومن أجل الجميع، وهذا ما مكّنه أن يكون خلاّقاً. على الصليب أيضاً، لم يفكّر المسيح في ذاته، بل في الآخرين: فكّر في صالبيه: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون» (لو 23/34)، وفي لصّ اليمين: «الحقّ أقول لك، اليوم تكون معي في الفردوس» (لو 23/43).
فالحرّيّة هي الخلاّقة، والله هو خلاّق لأنّه حرّ ومُحرّر ولقد خلقنا أحراراّ حتّى إنّنا نستطيع أن نقول لله: لا. وبالمقابل فهو يحترم رفضنا هذا، كما أنّه بتحريره إيّانا، يخلقنا مرّة أخرى ويجعلنا خلاّقين. ونحن أيضاً، إن اس تقبلنا هذا التحرّر المعطى لنا من قبل الله، نستطيع أن نحرّر الآخرين معنا. عندما يحرّرنا الله من ذواتنا، يصبح الآخر محور حياتنا بدل أن نكون منغلقين على أنفسنا، ممّا يؤدّي بنا إلى الموت الحتميّ.
من هو الله: المقدمة
من هو الله
من هو الله؟ موضوع الله موضوع أساسي ومهم، لأنه في الحقيقة يعني موضوع الإنسان أيضاً. ففي كلِّ مرّة يطرح فيها الإنسان السؤال حول ذاته، مصدره، جذوره، معنى وجوده، يطرح في الوقت نفسه السؤال حول وجود الله، أو حول المطلق، وذلك إمّا لكي يؤكِّد هذا الوجود أو لينفيه. وهذا أمر ذو أهمية كبرى، إنّه يُبيّن لنا مدى الترابط القائم بين الله والإنسان حتى إنَّه لا يمكننا التحدث عن الواحد دون الآخر. لا بل أكثر من ذلك فآنَّ الاثنين مدعوَّان لعيشا وحدة متماسكة لا تنفصل، على مثال المسيح الذي نعرِّفه بأنه إله وإنسان معاً. أفلم يقل المسيح: «كلَّما صنعتم شيئاً لواحد من أخوتي هؤلاء الصغار فلي صنعتموه» (متى 25/ 40)؟
إنَّ موضوع الله مهمَ لأنَّه بمثابة المفتاح الذي يمكّننا أن نفهم الأمور الأخرى. أو بالأحرى نحن ننظر إلى جميع الأمور من خلال هذا المنظار الذي نسمّيه الله، لأنَّنا ننظر إلى مجمل الأمور (الأشياء والآخرين انطلاقاً من الإيمان). فمهمو الإيمان ونظرتنا إلى الله هما اللذان يحدّدان لنا بقيَّة المفاهيم. لهذا السبب، سنسعى، من خلال هذا الموضوع، إلى تصحيح نظرتنا ومفهومنا لله، وبالتالي لبقية الأمور الحياتية التي تهمّنا. بشكل عام لدينا مفاهيم متعدّدة ومختلفة وفي أغلب الأحيان متناقضة في شأن الله (الله المحبّ والله الرحيم، والله الحاكم والديّان، والله الذي يريد الذبائح إلخ...) بالإضافة إلى أنّنا نصيغ الله بالوجه وبالطريقة التي تناسبنا، فنُسقط عليه رغباتنا وميولنا وأمنياتنا وأحلامنا، علّه يحقّقها لنا. وبهذا المعنى، فإنَّ بعض الانتقادات التي توجهَّت إلى المسيحيّة تتّهم هذه بأنها تؤمن بإله يريد أن يبقى الإنسان طفلاً غير مسؤول، فيتّكل في كلِّ شيء على الله. وهناك انتقادات أخرى تقول بأنَّ الله هو من نتاج الإنسان، أي بأنَّ «الإنسان هو الذي أوجد الله». قد نرفض هذه الانتقادات باسم الإيمان والدفاع المتعصّب الأعمى عن الدين. ولكن عينا الاعتراف بأنَّ فيها الكثير من الحقيقة، لأنّنا غالباً ما نعيش الله على أنّه كذلك. فهو الذي يُميت: «الله أخذه، هي إرادة الله». وهو الذي يُجرّب الإنسان: «إنَّ الله يُجرّب محبيه». ولكن هذه العبارة ليست من العهد الجديد، بل من العهد القديم. ونقول بأنَّ الله هو الذي «يُبلي ويُعين». نقبل هذا الأمر لأنّه يُريحنا ويرفع عنَّا المسؤولية. من المريح لنا أن يعود كل شيء إلى الله. ولكنَّ في ذلك هروباً من العالم ومن المسؤولية التي تقع على عاتقنا نحو العالم والإنسان: أفلم يقل الله للإنسان: «إنموا واكثروا وتسلطوا» (تك 1/28)؟ لكنَّنا نرفض ذلك، عندما يعاكس رغباتنا وأمنياتنا: «شو عملتلك ياالله... وينو الله...»؟
معرفتنا لله نابعة، في الكثير من الأحيان، من تصوّرات وأفكار ورثناها منذ القدم، وهذا ما يدخل في نطاق ما سمّاه المحلّل النفسي المعروف يونغ «اللاوعي الجماعي». عند جميع الناس، نلاحظ هذه التصورات نفسها، ولكن بدرجات متفاوتة. وهذا يعني أنَّ معرفتنا لله لا تنبع من معرفتنا للكتاب المقدّس، بل تأتي، في أفضل الأحيان، من التعليم المسيحي الذي تربيّنا عليه دون أن نحاول تطويره والتعبير عنه بلغة اليوم، مع كلّ ما حملته لنا العلوم الإنسانية التطبيقية والإنسانية.
فنحن مدعوّون إلى التفكير في هذا الموضوع على ضوء الكتاب المقدّس لنكوّن صورة حقيقية، إلى حدّ ما، عن الله والإنسان معاً. ورد في الكتاب المقدّس «إنَّ الله حبّ، وهو ليس إلاَّ حبّا»، على حدّ قول اللاهوتي الفرنسي فرنسوا فاريون. وهذا يعني بالطبع أنَّ الله لا يمكنه أن يقوم بأعمال مخالفة للحبّ، أو، بمعنى آخر، خارجاً عن الحبّ، لا يستطيع الله شيئاً، لأنه خير وكلّي الخير. إنَّ الله لا يُجرّب الإنسان، بل التجربة هي جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان، لأنه خُلق حراً. فلا وجود للتجربة بدون الحرية والعكس صحيح.
هذا ما يحملنا على التوقّف عن كل وجه من وجود الله، محاولين أن نتعرّف إليه عن كثب ونتركه يكشف لنا وجهه الحقيقي من خلال كلمه الذي نقرأه ونتلقاه من الكتاب المقدّس بوجه عامّ ومن العهد الجديد بوجه خاصّ.
مواضيعنا ستكون إذاً على النحو التالي:
الله المحرِّر: إنَّ أول اختبار لإنسان العهد القديم كان اختبار الله الذي يُحرِّر محبيّه. ولكن من ماذا يحرّرنا الله؟ من كلّ ما يمنعنا أن نكون بشراً أحراراً، على صورته كمثاله. كان هذا المفهوم غير واضح في العهد القديم، ولكنه أخذ في المسيح معناه وأبعاده الحقيقيّة: الله يحرّرنا من الخطيئة، وهي أساس جميع أنواع العبوديّات التي يعيشها الإنسان.
الله الخالق: بعد القيام باختبار الله المحرِّر، اختبر إنسان العهد القديم الله الخالق، الله الذي يصنع شعباً ممّا لم يكن شعباً. فاستخلص من ذلك أنَّ الله هو القادر على كل شيء: فبإمكانه أن يخلق من العدم. إذاً هو الله الخالق، خالق الكون وما فيه، خالق الإنسان.
الله المخلّص: أخذ اختبار التحرّر في العهد الجديد، في المسيح، معنى آخر، منحى آخر، عمقاً: فالله المحرِّر أصبح اللخ المخلّص. إنَّ تاريخ الله مع الإنسان يُعبَّر عنه بتاريخ الخلاص. واختبار الخلاص مرتبط بأمرين مهميّن: الخلاص من الخطيئة، ومن نتيجتها وهو الموت. نحن نقول إنَّ المسيح يخلِّصنا من الخطيئة، وهذا صحيح، ولكن علينا أن نعلم كيف يتِّم ذلك. ثم نقول إنَّ المسيح تجسَّد لكي يخلّصنا من الخطيئة، وهذا ما علينا أن نعدّله، لأنَّ هذا المنطق يعني أنَّ التجسد فُ{ِض على الله بسبب الخطيئة، وهذا أمر لا يتطابق مع جوهر الله المحبّ. فنحن نقول اليوم إنَّ الكلمة تجسّد وسكن بيننا واتَّحد بنا لأنّه يحبّنا: «فالله تزوَّج البشريّة» كما ورد في الكتاب المقدّس . وباتحاده هذا يحرّرنا ويخلّصنا من الخطيئة. إنَّ التجسّد مستقلّ تماماً عن موضوع الخطيئة، وإن كان، في الوقت نفسه، يحرّرنا منها. فلو لم يكن هناك من خطيئة، لتجسّد المسيح أيضاً.
الله المتجسّد: لا يمكننا أن نفهم كما يجب الخلاص المسيحي إلاَّ في ضوء مفهومنا للتجسّد. فالتجسّد ليس حدثاً عابراً، كما نعتقده في أغلي الأحيان. إنَّ التجسّد حدث تمَّ مرّة واحدة في شخص المسيح، ولكنّه يتمّ أيضاً بوجه عامّ وشامل بين الله والبشريّة، بمعنى أنَّ الله يرغب أن يتّحد بالشرية كلِّها، وهذا هو الملكوت، كما كتب القدّيس بولس: «حيث يصبح الله الكلّ في الكلّ». نعلم من الكتاب المقدّس بأنَّ الإنسان الحقيقي هو إنسان متأله ويأنَّ الله الحقيقي هو إلزاماً إله متأنّس.
الله المتألّم: تألّم المسيح ومات على الصليب حبّاً بنا. لم يعش آلامه من باب الواجب ولا من باب تنفيذ برنامج مسبق، كمت نعتقد، وهو لم بتألّم مكاننا، بل تألّم المسيح لأنّه يحبّنا فأراد أن يعيش كلَّ ما نعيشه، بما فيه الألم. أراد أن يعيش كلَّ ما يعيشه الإنسان، كلَّ ما يجعل الإنسان إنساناً. لم يبحث المسيح عن الصليب، بل قبله لأنّه يحبّ، يحبّ الإنسان حتّى الموت.
الله المائت: وهذا شان المسيح مع الموت. مات المسيح حبّاً لنا وذهب إلى الموت بكلَّ حرّية. قال المسيح في مثل الراعي الصالح: «إنَّ الله يُحبّني لأنّي أبذل نفسي لأنالها ثانية. ما من أحد ينتزعها منّي. ولكنّي أبذلها برضاي. فلي أن أبذلها ولي أنّ أنالها ثانية». ذهب المسيح إلى الموت بكّل حرّية ول يرفض الموت. وعبَّر يوحنّا الإنجيلي عن هذه الحريّة عندما ذكر كيف أنَّ الجنود الذين أتوا للقبض على يسوع «وقعوا إلى الأرض» أمام هذه الحرّية العظيمة التي قادته إلى الموت.
الله القائم من الموت: لأنَّ المسيح ذهب إلى الموت بكلّ حرّية، لأنّه تخلّى عن ذاته، أي كان حرَّاً حتى توجيه نفسه، أقامه الله من بين الأموات: «فمع أنّه في صورة الله، لم يعدّ مساواته لله غنيمة، بل تجرّد من ذاته، متّخذاً صورة العبد، وصار على مثال البشر وظهر في هيئة إنسان فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. لذلك رفعه الله إلى العلى ووهب له الاسم الذي يفوق جميع الأسماء، كيما تجثو لاسم يسوع كل ركبة في السماوات وفي الأرض وتحت الأرض ويشهد كلُّ لسان أنَّ يسوع هو المسيح تمجيداً لله الآب» (فل 2/6-11).
الصوم: من لانعزالية إلى العزلة ومن الحاجة إلى الرغبة
الصوم من الانعزالية إلى العزلة، ومن الحاجة إلى الرغبة
في كل سنة نتحدث عن الصوم. وسبق لنا أن تحدثنا عن ممارسات الصوم ومعناها بالنسبة لعلاقتنا مع الآخرين ومع الله. واليوم سنتابع إلى حد ما هذه الناحية الأخيرة، إنما من ناحية علاقة الصوم بالصحراء وبالعزلة. لماذا ارتبطت فكرة الصوم بالصحراء؟ «ثم سار الروح بيسوع إلى البرية ليجربه إبليس». يقول لنا الإنجيل. ماذا يقول لنا الكتاب المقدس عن البرية أو الصحراء؟
بالمعنى الجغرافي للكملة، الصحراء أو البرية هي أرض لم يباركها الله. تندر فيها المياه والنباتات، كما هي الحال في جنة الفردوس قبل هطول الأمطار (تك 2). وتستحيل فيها الحياة (أش 6). إذا حولت قطعة أرض إلى برية، رجعت إلى حالة الخراب والأصلي (إر 2). وهذا هو القصاص التي كانت تستحقه خطايا شعب العهد القديم.
والفكرة السائدة في العهد القديم هي أن الله أراد لشعبه أن يجتاز هذه الأرض «البغيضة» للدخول به إلى الأرض التي تدر لبنا وعسلاً. ولكن إذا كانت البرية تحتفظ دائماً بطابعها كمكان مهجور، فهي قبل كل شيء تذكر المرء بحقبة من التاريخ تشهد لولادة شعب الله. فرمزية البرية في الكتاب المقدس لا يمكنها أن تختلط بحركة تصوفية للعزلة أو الهروب من الحضارة.
كما أنها لا تسعى للرجوع إلى الصحراء المثالية، إنما العبور من زمن الصحراء حيث خروج شعب العهد القديم هو رمزها. الصحراء ليست سوى وسيلة للاهتداء في ضوء المسيح الآتي. ويسوع أراد أن يعيش مختلف مراحل شعب العهد القديم. ولكن على خلاف آباءه، تغلب على التجربة وبقي أميناً لأبيه، مفضلاً الكلمة على كل أمل في السلطة الأرضية.
الصوم: من الانعزالية إلى العزلة.
الإنسان المعاصر لديه صعوبة كبيرة في أن يكون لوحده. تباينياً يختبر صعوبة في الدخول في علاقة حقيقية مع القريبين منه، بقدر صعوبته في أن يتحمل العزلة. لديه صعوبة في التواصل مع الآخرين، بقدر صعوبته في الدخول في ذاته. إنه بتأرجح باستمرار بين الاندماج والذوبان بالجموع وانسحاب العزلة التي من خلالها يؤكد ذاته مقابل الجموع.
كل شيء يتم كما لو أن إنسان اليوم مصاب بعجز مزدوج: عيش العيش مع الآخرين، وعجز الوحدة. هذا الأمر يجعله يرغب بقوة أن يكون في مكان آخر غير المكان الذي يوجد فيه (التلفزيون في المنزل). إنسان اليوم لديه إذن صعوبة كبيرة أن يجد طريق العزلة، الطريق الذي يقوده إلى ذاته، إلى العالم وإلى الله. فما هي إذن العزلة؟ وما هو دورها في الحياة بشكل عام والحياة المسيحية بشكل خاص؟
إذا كنّا نُعرّف العزلة بالعلاقة مع الآخر القريب مني ومع الآخر الموجود في داخلي، فالعزلة تتعارض مع الانعزالية التي تنفي هذه العلاقة. وللخروج من الانعزالية كثيرون يلجؤون إلى العلاج التحليلي النفسي.
الانعزالية والعزلة.
الانعزالية تختلف عن العزلة بنكرانها للانفتاح على الآخر، هذا الانفتاح الذي يُعاش دائماً من قبلها كضعف أو اضطراب. بشكل أكثر جذرية أيضاً، الانعزالية هي نفي للرغبة الموجودة فينا، الرغبة في الآخر. فالانعزالية والخرس سيّان، لأن العلاقة مع الآخر تجد تعبيرها في الكلمة، ونفي الكلام يقود إلى نفي العلاقة. فعلاقة الانعزالية بالعزلة كعلاقة البكم بالصمت.
فأن أصمت هذا يتضمن أن لديَّ شيء أقوله؛ أن أكون وحيداً هذا يفترض أيضاً إمكانية ألا أكون وحدي، أن أكون منفتحاً على العالم. حضور المحبوب يُعاش، في العزلة، على أنه غياب. في الانعزالية، البعد يُعاش على أنه قطع يهدد العلاقة. فلكي يثبت لذاته أنه موجود، الإنسان الانعزالي يحتاج للحضور المادي والملموس للآخر، وفي الوقت نفسه هذا الحضور لا يُحتمل. فاختفاء أو تحوّل الاخر يجعل الانعزالي يعيش في الألم. هذا الألم يظهر عندما تختفي كل مرجعية.
فالذي لا يخاف من العزلة هو من تعلم من خلال علاقاته مع الآخرين بأن الحضور لا يعني مطلقاً الاندماجية مع الآخر (الطفل) وأن الغياب ليس اغتراب قاتل. في حالاتها القصوى، الانعزالية تصبح مرضية وخطيرة.
في الكثير من الأحيان نحتاج لنملي أوقاتنا لكي نشعر بأننا موجودين. فالراحة هي أمر لا يُطاق ولا يُحتمل. فلا يمكننا أن نكون أو نبقى لوحدنا. وغالباً نستعمل العبارة البريئة ظاهرياُ: «ما بقدر أقعد بلا شغل». وبمجرد أن يتوقف العمل يظهر الشعور بالقلق، الشعور بعدم الوجود. (ضرورة وجود ضجيج حولي: موسيقى، تلفزيون. الموبايل. العائلة التي رفضت التلفزيون في بيتها).
العزلة على عكس ذلك تماماً. إنها تكشف الإنسان لذاته. والإنسان الذي يعيش العزلة لا يضيع في العالم كما أنه ليس بمعزول عن ذاته. وانفتاحه على العالم يشكل جوهر شخصيته، لذلك عندما يعود إلى ذاته يكتشف واقع العالم. بالنسبة له أن يعيش، هذا لا يعني رفض مواجهة الحياة والموت، إنما وبكل بساطة بالنسبة له أن يحيا يعني أن يتعلم أن يحيا لكي يتعلم أن يموت.
عزلة وحب:
ماذا يعني بالنسبة لنا العبور من الانعزالية إلى العزلة؟ العزلة لا تفهم إلا من خلال العلاقة مع الآخر. فإذا كانت هذه العلاقة مع الآخر تأخذ معنى الحب، فالعزلة تأخذ معنى انكار الذات، أو التخلي. هذا العبور من الانعزالية إلى العزلة يتطلب تدريباً طويلاً لأنه يسمح بالحب.
الشعور بالانعزالية يولد من عدم تلبية الحاجة. فالطفل يشعر بأنه ضائع بمجرد أن تبتعد أمه لأنه بحاجة إليها. أمّا العزلة، فعلى العكس، مصدرها الرغبة، أو بتعبير آخر، مصدرها الحب (شرح الرغبة). فالاعتراف بالذات وبالآخر من خلال الرغبة ــــ مع كل ما يتطلب ذلك ــــ له علاقة وطيدة مع الحرية الداخلية.
فبينما لا يمكن للحاجة إلاَّ أن تُلبّى وإلاَّ الهلاك، لا يمكن للرغبة أن تُلبّى بشكل كامل ولمرة واحدة لكونها تتغذى من مَن هو غريب عنها (شرح). لا بل أكثر من ذلك، من الممكن أن تخلى عن الرغبة دون أن نموت أو نقتل. فمن خلال العلاقة الجنسية، تقود الرغبة إلى اكتشاف الجسد الشخصي، أي إلى اكتشاف الكيان، الوجود الشخصي، الذي يأخذ على عاتقه كل شيء من خلال نسبية استقلاليته وفي جذرية عدم اكتماله.
بنوع من انقلاب آلية الحاجة، ظهور الاختلاف يصبح علامة ومحرك علاقة الحب. الغموض، أو تمزق الانفصال، يصوننا في عالم طفولي، حيث لا شيء يوجد إلاَّ بشكل ملموس حسي، ومن خلال احتكاكنا به نشعر بوجودنا.
بالنسبة للرضيع، الشخص هو فقط احتكاك، وكل إنسان يختفي إذا غاب. لم يصل الطفل بعد إلى أن يعيش الغياب على أنه حضور شخصي داخلي. أعتقد بأن هذا العبور من خلال الغياب هو علامة الحياة بالروح «خير لكم أن أمضي». والتخلي مرتبط بالرغبة.
عزلة وتخلي:
التخلي مرتبط بالرغبة، كما أن العزلة ترتبط بالعلاقة مع الآخر. الرغبة ترتبط مع من ليس نحن، أي بالآخر المختلف. وحركة الرغبة تكشر العالم الخيالي، حيث يكفي بأن أحلم بالآخر كآخر لكي أملكه وأنتعش منه. فالرغبة تجعلنا نعترف بالآخر كآخر وبالتالي لا يمكننا أن نمتلكه كلية، ولهذا السبب تولد فينا شيئاً من القلق.
عندما لا نجد إرضاءنا في داخلنا، ننشد باتجاه الآخر الذي يرسلنا إلى ذاتنا. وعندما نصل إلى الحركة الصافية للرغبة في الآخر الذي يفلت بجذرية غيريته من التحجيم الخيالي، ندخل في لعبة التخلي الحقيقي الذي هو تجاوز للحاجة بأن نكون مُستهلكين من قبل الآخر أو أن نستهلكه لكي نعترف به حامل للرغبة موضوعها نحن. فالرغبة تشهد لحرية الآخرين، ولهذا السبب هي من مجال الحب.
فالرغبة هي إذن بوتقة الحب. إنها الامتحان الذي يمر به بدرجات مختلفة، الإنسان المتزوج، الصديق والمتصوف. الرغبة ليست انغلاق عقيم إنما تحقيق لتجدد دائم للرغبة عينها: الرغبة في الآخر، الرغبة في الانفتاح على الآخر الذي بداخلنا ولا نراه والذي هو أكثر حميمية لنا من ذاتنا. فالرغبة في الأمانة للرغبة الوحيدة التي لا يمكن تحقيقها إلاّ من خلال الرجاء. هذا الرجاء هو قوتها وهو الذي يقودنا شيئاً فشيئاً إلى قلب العالم الغير مرئي: اللــــــــــــــــــــــــــــــــــه.
الصوم: من الحاجة إلى الرغبة:
لكي نفهم هذه المسيرة علينا أن ننظر عن كثب ما يحدث في الصلاة. أولاً، الصلاة تذكرنا، بوقت نقف فيه «لنضع أنفسنا بحضور الله». وعندما نسأل المصلين، لماذا تصلّوا، يجيبون غالباً بأنهم بحاجة إليها، والذي لا يصلي يجيب بأنه ليس بحاجة إليها.
بُعد الحاجة:
ماذا تعني هذه المرجعية الثابتة للحاجة؟ وما هي الحاجة؟ التحدث عن الحاجة يتضمن بالضرورة وجود أو بحث عن شيء هدفه الإرضاء الناتج عن وقف التوتر نتيجة استهلاك الشيء. وبالتالي الصلاة في هذا المفهوم تلد عندما ينقصنا شيء أساسي. فالعطش أمر ملح وفي حال عدم تلبيته تكون النتيجة هي الموت. وعندما يتم إرضاء الحاجة، تقف وتنتهي، كذلك موضوعها. فالحاجة تولد مجدداً وبشكل دوري وبدون حدود.
الحاجة إلى الصلاة:
ماذا نقول في الحقيقة عندما نقول بأن الصلاة هي حاجة؟ هذا يعني أن الله هو موضوع هذه الحاجة وعندما يتم استهلاكه ينتهي توتر المصلّي. علينا أن نصلي إلى الله لكي نعيش كبشر كما علينا أن نأكل لنعيش.
وعندما يقول لنا الإنجيل «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، هذا يعني أنه لا يكفي الإنسان أن يعيش لكي يعش كإنسان. فالخبز كموضوع ضروري للحياة لا يعبّر عن كل حاجات الإنسان. ولكن إذا كان الأمر صحيحاً فهذا يعني «بأن الإنسان لا يحتاج فقط إلى الخبز لكي يحيا بل هو محتاج إلى الله». ممّا يعني أننا نخلط بين الحياة والحاجات الضرورية لها مع الإنسان الذي يحيا لكنه يتجاوز الحياة بحد ذاتها.
هذا الخطأ يولّد لدينا الشعور بالذنب إذا ما أخفقنا بالصلاة. ولكي نرضي أنفسنا بذلك نعطي صفة الضرورة للصلاة وبالتالي نستغرب عندما يأتي اليوم الذي فيه نقول «غريب ما الذي يحدث معي الآن. فأنا أصلّي ولا أشعر بشيء، كنت عندما أصلّي أسمع صوت الله أمّا الآن فلا شيء، لا أجد طعم للصلاة».
كالملح تماماً عندما يصبح بلا طعم. وبنفس المعنى نتوجه إلى الكنائس لكي نصلّي معتقدين أن هناك وهناك فقط نجد الله الذي باستطاعتنا أن نصلّي إليه. ولكن المسيح يقول لنا كما قال للسامرية: «صدقيني أيتها المرأة تأتي ساعة فيها تعبدون الآب لا في هذا الجبل ولا في أورشليم».
ولكن مهما تكن طريقة صلاتنا هذه تأتي ساعة نعي فيها بأن الله الذي نبحث عنه موجود في كل مكان «آخر» آخر غير المكان الذي نبحث فيه عنه. هذا المكان «الآخر» يردّنا في النهاية إلى ذواتنا. خصوصاً عندما نعلم بأن الوهم يختلط بالصلاة في أغلب الأحيان.
وهم الحاجة أو ظهور النقص:
نتخيل بأننا محتاجين للصلاة لكي نعيش، ونكتشف أن بإمكاننا أن نعيش بدون صلاة! وهذا الإله الذي لا يمكننا الوصول إليه لا يرضينا مطلقاً. فباحتياجنا للحاجة نرضي أنفسنا نحن الذين اعتدنا على القول القائل بأن الإنسان محتاج لله. نحن في الواقع ندعي بأننا محتاجين إلى الله، بينما لا نجد في الصلاة إلاَّ شيء من الحماس الفارغ والذي يمكن أن نصفه بالحلم. وهكذا نروي عطشنا من خلال الحلم (الطفل يشبع نفسه هوامياً).
ولكن عندما نكتشف ذلك بالحقيقة نصل إلى التخلي، والتخلي هو محور عودة الحاجة إلى ذاتها. هذه العودة، هذا التخلي هو علامة ظهور الرغبة، وهذا الاهتداء من الحاجة إلى الرغبة هو ما يميز الإنسان. بالطبع لا يمكننا إلاَّ أن نرضي حاجاتنا ولكن لا يمكننا أن نعيش كإنسان إلاَّ من خلال تجاوز الحاجة أو بالأخرى من خلال تضاعف الحاجة والذي يؤدي إلى نفيها، إلى الرغبة «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان...».
مثل الابن الضال يوضح لنا بشكل جيد هذه الناحية. الجوع (الحاجة) يفتح أمام الابن طريق العودة إلى الآب. الابن لا يحتاج إلى أبيه بل إلى الطعام فقط. ليس بإمكانه أن يتخلى عن الطعام. ولكن على العكس، فهو لا يحتاج إلى الآب وهذا ما يسمح له بأن يتخلى عن كونه ابن «لست مستحقاً أن أُدعى لك ابناً» يقول لأبيه.
في الواقع، لكي يحيا لا يحتاج لأن يكون ابناً لأب ما ولا أن يكون رجلاً من أجل رجل آخر، لذلك لا يمكنه إلاَّ أن يرغب به. كان يعتقد أنه يثبت لنفسه بأنه رجل إذا عبّر لأبيه بأنه غير محتاج له، وباكتشافه بأنه، في الواقع، يستطيع أن يتخلى عن أبيه وليس عن الطعام، يكتشف إمكانية العيش كابن، في اللحظة التي يتم فيها التخلي.
فالتخلي علامة الرغبة التي لا تبحث عن ارضاء ذاتها من خلال الآخر. لكنها تبحث عن محبة واحترام الآخر كمختلف تماماً. كذلك الأمر بالنسبة للآب. فمن خلال تخليه عن ارضاء ذاته من خلال طاعة الابن قبل أن يموت «لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاَّ فوجد». فالله، لا يحتاج للبشر ونحن لسنا بحاجة إلى الله. ولكن لماذا نستمر إذن في الصلاة؟ لكي ندرك أكثر فأكثر أنه بإمكاننا أن نرغب في الآخر لنفسه، أن نحبه بمقدار ما نحن لسنا بحاجة إليه.
فما هو إنساني ليس الرغبة لوحدها ولا الحاجة إنما العبور من خلال حب الآخر وحب القريب، وهنا فقط!
والصوم في كل ذلك؟ عملية الصوم المحضة تكمن في الامتناع عن بعض أصناف الطعام وحتى في بعض الأحيان عن العلاقة الجنسية. الهدف من ذلك هو الادراك والوعي بأننا نستمد كل شيء حتى ذاتنا من الله مصدر كل شيء. من خلال ممارسة الصوم يمارس المؤمن أيضاً التواضع إذ يعترف بنفسه كمخلوق ويعترف بمحدوديته. إنما ما هو جوهري في الصوم، على ما أعتقد، هو أن يعي الإنسان نقصه بكل أبعاده وفي العمق. يعي بأن هذا النقص لا يمكن ارضائه وبالتالي يجعلنا الصوم نقوم بهذه المسيرة التي تكلمنا عنها مطولاً، أي الانتقال من علاقة الحاجة إلى علاقة الرغبة حيث أحب وأرغب في الله والآخر كمختلف عني. من خلال اكتشافي لنقصي واعترافي به (النقص الذي يميّز الإنسان هو استحالة تلبية الرغبة بالكامل، ممّا يجعلها في حالة من النقص)، أرغب في وجود الآخر وأكتشف بداخلي رغبة الآخر في الوجود. فأن أرغب في الآخر وفي الله يعني أن أمسك به ولكن بطريقة دائماً مؤقتة.
من الابن الضال إلى تلميذي عمّاوس
من الابن الضال إلى تلميذي عمّاوس
لقد اتفقنا على هذا العنوان في محاولة لفهم القيامة بطريقة مختلفة من جهة، ومن جهة أخرى أردنا أن نتابع بنفس أسلوب حديث الصوم الذي عنونته «الصوم من الانعزالية إلى العزلة ومن الحاجة إلى الرغبة».
لقد رأينا في حديث الصوم أهمية العزلة الحقيقية لكي ألتقي بالحقيقة مع الآخر، والخروج من الانعزالية التي تمنعني من تحقيق ذاتي وتتركني في الكآبة. كما قلنا أيضاً:
«الانعزالية تختلف عن العزلة بنكرانها للانفتاح على الآخر، هذا الانفتاح الذي يُعاش دائماً من قبلها كضعف أو اضطراب. بشكل أكثر جذرية أيضاً، الانعزالية هي نفي للرغبة الموجودة فينا، الرغبة في الآخر. فالانعزالية والخرس سيّان، لأن العلاقة مع الآخر تجد تعبيرها في الكلمة، ونفي الكلام يقود إلى نفي العلاقة. فعلاقة الانعزالية بالعزلة كعلاقة البكم بالصمت.
فأن أصمت هذا يتضمن أن لديَّ شيء أقوله؛ أن أكون وحيداً هذا يفترض أيضاً إمكانية ألا أكون وحدي، أن أكون منفتحاً على العالم. وحضور المحبوب يُعاش، في العزلة، على أنه غياب. في الانعزالية، البعد يُعاش على أنه قطع يهدد العلاقة. فلكي يثبت لذاته أنه موجود، الإنسان الانعزالي يحتاج للحضور المادي والملموس للآخر، وفي الوقت نفسه هذا الحضور لا يُحتمل. فاختفاء أو تحوّل الاخر يجعل الانعزالي يعيش في الألم».
لفتنا الانتباه أيضاً إلى العلاقة بين الحاجة والرغبة. وكيف أن الحاجة استهلاكية، تُستهلك وتًستَهلِك، بينما الرغبة ــــ التعبير الحقيقي عن الإنسان ـــــ لا يمكن تلبيتها بالكامل وبالتالي هو دائماً الرغبة في الآخر ومن أجل الآخر، فهي إذن تتميّز بالنقص، الذي بدوره يميّز الإنسان.
وختمنا بقراءة لمثل الابن الضال عندما رأينا أن الجوع (الحاجة) يفتح أمام الابن طريق العودة إلى الآب. فالابن لا يحتاج إلى أبيه بل إلى الطعام فقط. ليس بإمكانه أن يتخلى عن الطعام. ولكن على العكس، فهو لا يحتاج إلى الآب وهذا ما يسمح له بأن يتخلى عن كونه ابن «لست مستحقاً أن أُدعى لك ابناً» يقول لأبيه.
في الواقع، لكي يحيا لا يحتاج لأن يكون ابناً لأب ما ولا أن يكون رجلاً من أجل رجل آخر، لذلك لا يمكنه إلاَّ أن يرغب به. كان يعتقد أنه يثبت لنفسه بأنه رجل إذا عبّر لأبيه بأنه غير محتاج له، وباكتشافه بأنه، في الواقع، يستطيع أن يتخلى عن أبيه وليس عن الطعام، يكتشف إمكانية العيش كابن، في اللحظة التي يتم فيها التخلي.
فالتخلي علامة الرغبة التي لا تبحث عن ارضاء ذاتها من خلال الآخر. لكنها تبحث عن محبة واحترام الآخر كمختلف تماماً. كذلك الأمر بالنسبة للآب، من خلال تخليه عن ارضاء ذاته من خلال طاعة الابن قبل أن يموت «لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاَّ فوجد». فالله، لا يحتاج للبشر ونحن لسنا بحاجة إلى الله.
هذه هي المسيرة التي نحن مدعوين لنعيشها. واليوم سوف نتابع في هذه المسيرة باتجاه القيامة من خلال قراءتنا لنص تلميذي عمّاوس. ما ذا يقول لنا نص تلميذي عمّاوس؟
إذا كان الإنجيلي لوقا يروي لنا هذا الحدث بكثير من التفاصيل التي يرويها مرقس بآيتين فقط ويتجاهلها كل من متى ويوحنا، فحتما لكي يدعونا لنسقط ذاتنا، لنجد ذاتنا في يأس التلميذين. في الواقع، قد يحصل لنا أن نرى إيماننا يتراجع، ينحسر أو حتى يختفي.
غالباً هذا الكسوف للإيمان يجتاز درجة ثانية: إنه يترافق بقلق عدم العودة للإيمان. من الصعب في هذه اللحظة أن نفهم بأن هذا القلق يخفي في الواقع شكل ذكي للإيمان نفسه. والإنجيلي لوقا يكشف لنا بأن اخفاقاتنا طبيعية ولا تقود إلى الكارثة. ففي أغلب الأحيان، كما هي حال تلميذي عمّاوس، نكون في صدد فقدان إيمان ساذج لكي نعبر إلى إيمان أكثر حقيقية. وهذه الآلية لا تنتهي أبداً.
على مثال مريم المجدلية، باكية على حافة القبر الفارغ، وتريد الاحتفاظ بيسوع لحاجتها له، ويقول لها يسوع: «لا تمسكيني... اذهبي إلى اخوتي وقولي لهم». ويعلّمها بأنه من الآن هو من يحتاج إليها، نحن أيضاً، أيضاً أُعطيت المعرفة بيسوع: لكن ليس من أجل الاحتفاظ به، غيرة، في مقابر حياتنا الداخلية، إنما لنكون شهوداً له، ونعلن الرجاء الذي فينا.
فأن نكون شهوداً له، هذا يعني أن نتخلى عن القرب المادي والحسي منه، القرب الجسدي. لأنه لا بد من أن يتوقف الحضور لحفنة من الناس، ويصبح هذا الحضور ممكناً لكل البشر، وفي كل الأزمنة.
«يا قَليلَيِ الفَهمِ وبطيئَيِ القَلْبِ عن الإِيمانِ بِكُلِّ ما تَكَلَّمَ بِه الأَنبِياء. أما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟». التلميذين الذين سمعا هذه الكلمات من إنسان مجهول، على الطريق، كانوا فاقدين لكل أمل. لقد أسقطوا على إنسان «كان نَبِيّاً مُقتَدِراً»، مستقبل خيالي متأثراً بهوام كلية القدرة: «كُنَّا نَحنُ نَرجو أَنَّه هو الَّذي سيَفتَدي إِسرائيل».
ليس فقط هذا المستقبل المرجو انهار، إنما الماضي الذي عاشوه مع هذا الرجل فقد كل معناه: لقد حُكم عليه من قبل السلطات العليا للشعب، حكم عليه كلص وسُلّم لسخرية الصليب. سماع هذه الكلمات: «يا قَليلَيِ الفَهمِ وبطيئَيِ القَلْبِ عن الإِيمانِ»، في الوقت الذي يلتحق بنا حضور المسيح القائم، يتضمن إذن، اليوم كالبارحة، عيش وقبول انهيار المستقبل المرجو الذي يقود إلى اليأس من تاريخنا.
هذا الاسقاط يستند على تأويل خاطئ للتاريخ، تأويل نعطيه إياه انطلاقاً من حكمنا الشخصي. وحكمنا الشخصي أعمى منذ البدء، بسبب الشك بعطاء الحياة الذي لا يقودنا سوى إلى الموت. هذا الشك يمنعنا من الإيمان بعطاء الله ويسلّمنا للخوف الذي يغذي فينا إرادة كلية القدرة في جدل يائس ضد الموت. بحسب هذا التأويل اليائس للتاريخ، الموت هو الرابح دائماً، وهو من له الكلمة الأخيرة.
هذا ما يشرحه تلميذي عمّاوس على الطريق. الرواية التي يروونها للأحداث صحيحة. هذا ما حدث بالفعل، ومنظور إليه من الخارج. لكن تأويلهم هو الخاطئ! يقولون، في الواقع، أنهم كانوا يرجون بأن يسوع الناصري سيكون مخلص الشعب من خلال ما حدث فعلياً في الماضي. لقد حرر الشعب وكل إنسان من الموت المفهوم كتنفيذ لحكم بالإعدام من الله على البشرية.
«حرَّر الَّذينَ ظَلُّوا طَوالَ حَياتِهِم في العُبودِيَّةِ مَخافَةَ المَوت» (عب 2، 15). بكشفه أن الله كان معهم حتى الصليب دون أن يتهمهم، حرَّر يسوع البشر من سلطان الشيطان. ولكن حكم التلاميذ الأعمى، كحكمنا، لا يمكنه أن يعرف مباشرة ما حدث بالفعل على الصليب. لهذا السبب حضور يسوع القائم إلى جانبهم يبقى حضور إنسان مجهول خلال مسير طويل سيقومون به معاً.
من هذا الإنسان المجهول سيسمعون كلمة توقد قلبهم، بتحريره لهم من تأويلهم اليائس ليفتحهم على تأويل جديد للتاريخ. يدعو يسوع التلميذين للإيمان لكي يجدوا الذكاء الحقيقي، ذكاء القلب. بفتح قلبه لهم وبمشاركته لهم في تأويله الشخصي للتاريخ انطلاقاً مما يخصه شخصياً، يدعو تلاميذه للثقة فيه وفي كل الشهود الذين سبقوه.
فالإيمان والثقة يعني مباشرة الاعتراف بالآخر، بمعنييه: التعرف على أحد بالفرح من حضوره كعطية. هذا يجعل القلب يتقد لعطائه لنا إمكانية اختبار حضور الآخر، من الداخل وليس من الخارج. يمكننا آنذاك تأويل الأحداث من الداخل، بحسب الروح الذي يحيها، وليس فقط من الخارج، في موضوعيتهم اللاشخصية.
هكذا سيزلزل يسوع تلاميذه، ليس من خلال عطائه لهم معلومة تنقصهم، ولا بتأسيسه للاهوت جديد، بل بمشاركته لهم بسر، بسره هو: «أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟». فبدلاً من فهم هذه الآية من جديد من الخارج، كما لو أن إله شاذ يطالب بالدفع من خلال الآلام مكافأة لمجده، هذا السر لا يمكن أن يكون سوى سر الحب.
فالحب فقط يزلزلنا ويجعلنا نتعرف على هذا الإنسان المجهول الحاضر معنا باستمرار، حضور الله هنا حتى حيث نهرب منه في عبودية أحكامنا الشخصية. ولدى وصولنا هنا، القلب المتقد، يبقى علينا أن نطيع من يتقد فينا، أن نطيع للروح الحقيقي للتاريخ بعطائنا له جسداً. يبقى علينا أن نفتح بابنا للقريب، للمجهول، للمحروم، لمن ليس له مأوى عند حلول الظلام.
«أُمكُثْ مَعَنا، فقد حانَ المَساءُ ومالَ النَّهار». أُمكث معنا، أي لا يزالون في علاقة حاجة، يريدون أن يبقى معهم ولأجلهم. ولذلك عندما عرفاه اختفى، هنا بداية العبور نحو علاقة الرغبة التي تعيش عدم الحضور على أنه مجرد غياب وليس تهديد بنهاية العلاقة.
لذلك، يبقى أن نفتح بابنا للقائم من بين الأموات. آنذاك تُفتح أعيننا ونعرفه كأخ، مختلف عنّا، لا نحتاج إليه بل نرغب به، نحبه لما هو عليه، لا كما نريده أن يكون «أي أن يعيد الملك لإسرائيل!» وذلك بمشاركتنا خبزه وشكره الأبدي، الذي يجعلنا نقول معه بكل ثقة: «أبّا، أبانا»، مُحرّرين بالروح من الخوف، قائمين معه.
عندما رويا مغامرتهم مع القائم من بين الأموات للرسل، أخبروهم هؤلاء بأنه تراءى لسمعان بطرس، وبالمناسبة، هذا الظهور لسمعان غائب من روايات القيامة. وفجأة يسوع يتواجد في وسطهم.
مبدأياً على هذا الحضور ألاَّ يفاجئهم بما أنهم في صدد التحدث عن لقائهم السابق معه. ومع ذلك لم يصدقوا أعينهم واعتبروه روح، كما لو أنه من الممكن أن نرى الروح. كلمة الروح هنا تعني غير واقعي. أي لا يزالون أسيرين تصوراتهم السابقة عنه. لم يتخلّوا عنها بعد، وهذا الأمر يمنعهم من التعرف عليه، لا بل أكثر يجعلهم، بطريقة ما، أن يرفضوا وجوده الجديد.
ولكن هذا أمر طبيعي، فالإيمان لا ينضج فجأة وبطريقة سحرية؛ شكله الكامل في نهاية الطريق، وعلينا أن نشكر الله على أن هذا الإيمان في البداية لا يتجاوز حبة الخردل. كما أنه لا يمكننا الحصول على الإيمان كخير لا يمكن أن يُنتزع: قد نكون مؤمنين في الساعة الثامنة صباحاً وغير مؤمنين بعد خمس دقائق. في الواقع نحن لا نملك الإيمان، نستقبله باستمرار.
وبولس يجيب بأن الفارق بين الجسد المائت وجسد القيامة كالفارق بين البذرة التي تُزرع في الأرض والنبتة الناضجة. لا شك بأنها استعارة، لكنها مهمة لكونها تبين لنا ارتباط الاستمرارية بالانقطاع. الشيء نفسه يصبح آخر (في أغلب الأحيان يرفض الأهل بأن أبناءهم كبروا، فيستمروا بالتعامل معهم على أنهم أطفال!). يسوع يأكل، يحتفظ بجروحه، لكنه لم يعد خاضع لقوانين الزمان والمكان.
فنحن لسنا مدعوين فقط لنؤمن دون أن نرى، إنما أيضاً أن نؤمن دون أن نتصور حتى. لا يمكننا لا أن نصف ولا أن نفكر الجسد القائم من الموت. ومع ذلك هناك جسد. والطبيعة مملؤة من صور القيامة: تناوب الفصول، النوم والاستيقاظ الخ. عبور المتعاكسات الواحد في الآخر.
أن نؤمن دون أن نرى، أو حتى دون أن نتصور، هذا يعني القبول أولاً بعدم الحضور المادي، الملموس، وثانياً، القبول بعدم امتلاك الآخر، والخروج من علاقة الحاجة إلى علاقة الرغبة.
مجمل الكتاب المقدس، تحت شكل قصص متتابعة خاصة ومؤرخة ومحددة في المكان، أحياناً رمزية، تكشف لنا معنى المغامر الإنسانية. كما يقول سفر الرؤيا، إنه كتاب مقفل مختوم بسبعة أختام، وحده المسيح قادر على فض الأختام. إنه يحقق ذلك بموته وقيامته، الحدث المفتاح وآخر كلمة للتاريخ.
هنا، كل ما سبق يأخذ معناه، ويعطي معنى لما عاشته وتعيشه وستعيشه البشرية. يقول لنا بأن كل المتناقضات، كل الصراعات، كل الخير وكل الشر مأخوذ على عاتق المسيح الذي يجمعنا في جسد واحد. هذا الجسد هو جسده وعلينا أن نبذل ما بوسعنا لكيلا نفكر أن المسيح قام بجسده (تخلي عن القديم الجامد)، إنما بالجسد الجديد الذي هو الكنيسة.
فالقيامة هي نهاية الكتاب المقدس، وجوهر إيماننا وحياتنا. الكون بمجمله مجبول بالقيامة المخفية التي تأخذ أشكالاً متنوعة. وعلينا أن نكون شهود على ذلك.
فالموضوع ليس الخلود إنما القيامة. وأهم ما في القيامة هو القبر الفارغ، أو بالأحرى فراغ القبر. كلنا نعلم والكنيسة تقول بأن القبر الفارغ هو دليل وليس ببرهان. هذا الفراغ يحمينا ويمنعنا من أي تصور وبالتالي علينا قبول هذا الفراغ، أن نعيش هذا الفراغ لكي نستطيع استقبال القائم من بين الأموات كما يقدم ذاته وليس بحسب تصوراتنا الخاطئة التي «تحجب أعيننا عن معرفته». آنذاك نعبر من من علاقة الحاجة لندخل معه في علاقة الرغبة.
من هنا ينبع السؤال: ما هو الجسد الروحاني؟ المسيحيون الأوائل كانوا يتساءلون أيضاً بهذا الاتجاه. كيف يقوم الموتى؟ وبأي جسد يعودون؟ (1 قور 15، 35).
علينا الاعتراف بجهلنا؛ وجواب بولس وهو يقارن بين جسدنا وحبة الحنطة التي تموت في الأرض وبين جسد المستقبل والسنبلة التي تخرج منها، هذا الجواب ليس سوى مجرد صورة؛ هذه الصورة تشير إلى الاستمرارية بين الجسد الحالي وجسد المستقبل، وأيضاً غنى هذا الأخير بالنسبة للأول.
عمّاوس، تعليم كتابي على الطريق. لا وصول للقائم من بين الأموات دون العبور من الكتب المقدسة. يسوع يكرر ما قاله في الجليل. لا شيء جديد: على ابن الإنسان أن يتألم ويُقتل ويقوم في اليوم الثالث. يسوع يعبر من خلال فهم الكتب المقدسة. إنه يفتح العقل على فهم الكتب المقدسة؛ وعلينا أن نسعى للفهم.
فالقيامة ليست بانقلاب ضد العقل والإيمان. على العكس، إنها مُسجّلة، إن صح التعبير، في طريقة الله، منذ خلق العالم، منذ اختيار إبراهيم.
عمّاوس، إنها خبرة تتم مع شخصين أو ثلاثة. لا وصول للقائم من بين الأموات بدون الكنيسة، بدون الجماعة التي تسمح بالسير من جديد، من استقبال الخبز والخمر، من معرفته لدى كسر الخبز.
القائم من بين الأموات يأكل سمكاً مشوياً، أمام أعين التلاميذ الذين قدموه له. فلا يكفي أن يستهلك التلاميذ جسد ودم الرب القائم. بل لا بد له أيضاً من أن يستوعب الكنيسة! لا يكفي للكنيسة أن تقيم الافخارستيا. ولا يكفي للافخارستيا أن تصنع الكنيسة، كما يقول الأب دي لوباك اليسوعي. فالكنيسة قادرة أن تنحرف نحو الإكليريكية أو الاكليروسية. والافخارستيا معرّضة للوقوع في الطقسية.
فما الفائدة من الكنيسة والافخارستيا إن لم تكن من أجل أن نصنع المسيح إن صح التعبير؟
فالمسيح يريد أن نغذيه، نحن، من غذائنا الفاني، في جسده القائم، والذي لم يعد يخضع للزمان والمكان، ولا للهضم ولا للموت، من أجلنا. بل على المسيح أن «يهضم» الكنيسة! ولوقا هو أخيراً الوحيد الذي يقدم يسوع القائم من بين الأموات على أنه المُفسر الوحيد وصاحب السلطة، لشريعة موسى والأنبياء والمزامير.
معنى الصوم
مقدمة تاريخية: الصوم الكبير هو زمن توبة بالنسبة لنا المسيحيين. مدته 48 يوم ابتداءً من أثنين الرماد وحتى يوم الفصح. فكرة إقامة الصوم الكبير أُوحي بها للكنيسة انطلاقاً من فكرتين أساسيتين:
* ممارسة التوبة.
* تقليد صوم المسيح خلال أربعين يوماً في البرية قبل بدء حياته العلنية.
فكرة جعل الصوم إلزامي تعود إلى القرن الثالث ميلادي وهذه الفترة، فترة الطوية كانت قصيرة في البداية ثم أصبحت 10 أسابيع بالنسبة للكنيسة اللاتينية و 7 أسابيع بالنسبة للكنيسة اليونانية. في البداية كان الصوم يكمن في اتخاذ وجبة طعام واحد في اليوم، وكان تأخذ في المساء بعد غروب الشمس. في القرن السادس أُضيفت وجبة ثانية خفيفة.
في كلا الأحوال منذ البداية كانت فكرة الصوم موجهة باتجاه الفصح والقيامة، جوهر وأساس الحياة المسيحية. فالمسيحيون كانوا يعيّدون ويعيشون ذكرى معموديتهم بمشاركتهم في صلوات وقداس ليلة الفصح حيث كانت تجري العمادات. فصلواتهم لأجل من سيعمدون ومساندتهم لهم في مراحل التجارب كانت تُذكرَّهم بالمراحل التي خاضوها قبل العماد والمتطلبات الناتجة عنها. (شرح الرابط بين الفصح والعماد والفرح النابع من ذلك).
الكتاب المقدس بشكل عام
الكتاب المقدس يقدّم لنا الصوم على أنه أفضل وسيلة للاعتراف بسمو الله، كما أنه يجعل من الصوم والصلاة مع الصدقة إحدى الوسائل التي تُبين أمام الله نواضع ورجاء وحب الإنسان. ففي العهد القديم، الصوم المصحوب دائماً بالصلاة، يعبّر عن تواضع الإنسان أمام الله. فالصوم هو نوع من إزلال النفس (أح 16).
بالصوم نعود إلى الله في موقف التبعية والخضوع وذلك قبل القدوم على عمل صعب، أو لطلب الغفران عن خطيئة ما ارتكبتها، أو لطلب شفاء ما، أو بعد مصيبة كبيرة، أو لطلب
الانفتاح على النور الإلهي، أو لطلب النعمة الكفيلة بإتمام مهمة ما (أع 12)، أو التحضير لملاقاة الله (خر 34، 28).
الأسباب متعددة والدوافع أيضاً، لكن في كلا الأحوال الهدف هو واحد: أن أكون متواضعاً أمام الله وبموقف إيماني وذلك لاستقبال عمل الله ولكي أضع نفسي في حضوره. هذه الفكرة أو النيّة، تلمّح وتعبّر عن معنى الأربعين يوماً التي قضاها موسى بدون طعام (خر 34)، وإيليا أيضاً (3 مل 19، 8).
أمّا فيما يخص الأربعين يوم التي قضاها يسوع في البرية، لم يكن هدفها الانفتاح على الروح، بما أنه مملوء منه: قاده الروح إلى البرية ودفعه للصوم حتى يدشّن حياته العلنية، المسيحانية بعمل استسلام وثقة بالله أبيه، وبالتالي يُثبت على أنه ابن الله فعلاً (متى 4، 1 - 4).
في العهد القديم عُرف الصوم الكبير على أنه يوم المغفرة، وكانت ممارسته شرطاً للانتساب إلى شعب الله. وكان هناك بعض الملتزمين يصومون خارج هذا الصوم الكبير. مثلاً، كان تلاميذ يوحنا المعمدان يصومون مرتين في السبوع وذلك لتحقيق أحد عناصر العدالة المُحدّدة لدى الأنبياء (لو 18، 12).
فإذا كان المسيح لم يعطِ قوانين محدّدة لممارسة الصوم، فذلك لأنه أتى ليكمّل الصوم، وقد دعا إلى تجاوز هذه العدالة: «لا تظنوا أني جئت لأحلّ الناموس والأنبياء، لم آتي لأحلّ لكن لأتمم. إني أقول لكم، إن لم يزد برّكم على برّ الكتبة والفريسيين فلن تدخلوا ملكوت السماوات» (متى 5). فالمسيح يركّز أكثر على عدم التعلق بالأرضيات والغنى (متى 19)، وخاصة على التخلي عن الذات لحمل الصليب (متى 10).
يدعو المسيح إلى ممارسة الصوم بكثير من «الحشمة»، معروف من قبل الله، هذا الصوم يصبح التعبير الأفضل عن الرجاء بالله، صوم متواضع يفتح القلب على العدالة الداخلية، على عمل الله الذي يرى ويعمل في الخفية (متى 6). أعمال الرسل يسرد لنا بعض الممارسات الدينية الطقسية والتي تتضمن الصوم والصلاة معاً (أع 13، 14).
بولس الرسول كان يصوم بمناسبات عدّة (2 قور 6، 11). والكنيسة، إذا حافظت على هذا التقليد، رغبة منها بالحفاظ على أبنائها في موقف انفتاح كامل على نعمة الله بانتظار عودة المسيح الثانية، فالصوم الحقيقي هو إذن صوم الإيمان، الحرمان من رؤية الحبيب، والبحث عنه باستمرار. بانتظار عودة العريس إلينا، الصوم من أجل التوبة له مكانته وأهميته في الكنيسة «هل يستطيع ينو العرس أن يصوموا ما دام العريس معهم؟ فما دان العريس معهم لا يستطيعوا أن يصوموا، ولكن تأتي أيام يُرفع العريس من بينهم حينئذ يصومون» (مر 2).
المسيح والصوم
لقد ربط المسيح كل من الصلاة والصدقة بالصوم، واعتبرهم من الأمور الهامة بالنسبة للحياة الروحية (متى 6). لكنه طلب ممارستها بكثير من «الحشمة» والتحفظ وخاصة بدون انتظار مقابل وبدون حسبان. فقبل أن نفهم بشكل عميق العلاقة بين الصوم والصلاة والصدقة، يجب علينا أن نفهم معنى وأبعاد الصوم. سأقوم بذلك على ضوء تجربة المسيح في البرية.
الروح القدس الذي نزل على يسوع ساعة عماده وأعلنه ابن الله: «هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت»، هذا الروح هو الذي قاد يسوع إلى البريّة ليجربه إبليس. هذا يعني أن محتوى التجربة هو إثبات يسوع بأنه بالفعل هو ابن الله. كل تجربة يبدئها المجرب بعبارة «إن كنت ابن الله». وبالتالي يمكننا القول بأننا نواجه التجارب الثلاث التي عاشها يسوع.
فالتجربة والخطيئة تتواجدان في كل مرة نحاول فيها الاقتراب من الله و الاتحاد معه، والعيش كأبناء له. لذلك نرى أن أعمال الشيطان وحضور الروح القدس يتواجدان في البرية مع يسوع إذ أن الروح يريد أن يُثبت بأن يسوع هو المسيح ابن الله، والمجرب يريد الاستفادة من هذه الفرصة لكي يستغلها لحسابه ومصلحته. (الصوم والقيامة).
هناك توازي مهم جداً بين تجربة يسوع في البرية وما عاشه شعب العهد القديم في الصحراء وصلاة الأبانا (نحن). هذا التوازي يسمح لنا بأن نفهم بأن هدف الصوم في النهاية هو أن نعيش كأبناء لله.
عاش يسوع التجارب الثلاث التي تعرض لها شعب العهد القديم، إنما الفارق هو أن يسوع لم يقع في التجربة، لم يستسلم لها وانتصر على المجرب، على التجربة وعلى الخطيئة. في العهد القديم عندما جاع الشعب في الصحراء، أعطاه الله المنّ طالباً إليه عدم الاحتفاظ به، وأنه سيعطيه هذا المنّ كل يوم بيومه لأن الله لا يتخلى عن شعبه.
لكن الشعب وقع في التجربة وراح يخزّن المنّ خوفاً وضماناً، بينما في البرية يجيب يسوع المجرب الذي يسأله: «إن كنت ابن الله فحوّل هذه الحجارة إلى خبز» قائلاً: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله». هذا يعني أن يسوع الابن، وهذا ما يميّز موقف الابن «طوبى للفقراء بالروح فإن لهم ملكوت السماوات»، يعيش الله الآب على أنه مصدر حياته هو لكونه الابن.
هذا يعني أيضاً أن الله الآب وحده قادر على اشباع الإنسان، وأن الجزع المادي هو مجرد صورة عن الجوع الحقيقي والجوهري، الجوع إلى كلمة الله وحضوره في حياة الإنسان « تأتي أيام يُرفع العريس من بينهم حينئذ يصومون». والوقوع في هذه التجربة يعود للقول بأن يسوع فضل وتمسك بالصورة هو الذي يملك الواقع والأهم: الإنسان خُلق ليصبح على صورة الله، والمسيح يرفض أن يصنع من الله ضورة الإنسان، ونحن بدورنا مدعوين إلى تحقيق ذلك وبالتالي عندما نصلي نقول: أعطنا خبزنا كفاف يومنا، خبزنا الجوهري كفاف يومنا.
أثناء مسيرته في الصحراء شك الشعب بأمانة الله فجربه: «لماذا أصعدتنا من مصر؟ ألتقتلني أنا وبني ومواشي بالعطش؟». وكان جواب موسى: لماذا تجربون الربّ؟ والمسيح بدوره يجيب المجرب: لا تجربنّ الربّ إلهك. خصوصاً أن المجرب استعمل المزمور 91: «يوصي ملائكته بك فيحملونك على أيديهم لكي لا تصطدم رجلك بحجر». جواب يسوع للمجرب يعني أن يسوع هو حقاً ابن الله وليس هو بصدد أن يلعب دور الابن كما يريده المجرب. وفي صلاة الأبانا نقول لا تدخلنا في التجربة، أي لا تسمح بأن نقع، نستسلم للتجربة.
في تجربته الثالثة صنع شعب العهد القديم عجلاً من ذهب وعبده وقدموا له الذبائح. والمجرب يعرض على يسوع أن يعطيه جميع ممالك الأرض ومجدها شرط أن يسجد له. ويسوع يجيب: «للربّ وحده تسجد وإياه وحده تعبد». وفي صلاة الأبانا نقول: «ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك».
يسوع يبقى إذن أميناً للآب ولرسالته، رسالة الابن. لم يتخلى عن الواقع من أجل الصورة، ولا عن ملكوت السماوات من أجل ملكوت أرضي. فعمله الخلاصي يمر في الواقع من خلال الواقع الإنساني: آلام وموت بدل المجد والعظمة. فابن الله هو حقاً إنسان ويسوع لا يريد الهروب من هذا الواقع. لا يريد الهروب من الحقيقة. لذلك لدى خروجه منتصراً على التجربة، آنذاك فقط أتت الملائكة لتخدمه.
نحن والصوم
يبقى السؤال: ما علاقة الصوم بذلك كله؟ أو كيف نفهم الصوم على ضوء خبرة وتجربة يسوع في البرية؟ لكي نفهم جيداً ما حدث في البرية بين يسوع والمجرب حيث عرض هذا الأخير على يسوع أن يحول الحجارة إلى أرغفة، وأن يلقي بنفسه من أعلى الهيكل، وأن يصبح ملك ذو سلطة على العالم أجمع.
لكي نفهم ما حدث علينا أن لا ننسى أنه على الصليب تتم السخرية من يسوع «أنقذ نفسك... انزل من على الصليب». لكن نهاية المطاف هي القيامة حيث يعلن الملاك بأن المسيح سيبق تلاميذه إلى الجليل. ففي فترة الصوم، كزمن تحضير للقيامة نعيش كل هذه التجارب مع الصلب من خلال الأناجيل التي نقرأها في هذه الفترة.
فالمعركة التي خاضها يسوع ويدعونا على خطاه تكمن في:
* رفض علاقاتنا المزيفة، والمشوهة مع الله: ارم بنفسك من أعلى الهيكل.
* رفض علاقاتنا المزيفة والمشوهة مع الآخرين، التسلط على العالم.
* رفض علاقاتنا المزيفة والمشوهة مع ذاتنا: أن نتغذى من حجارة تحولت إلى خبز.
إذن نحن مدعوين لنعيش فعلياً كأبناء لله، كأحباء الله. ولنخوض هذه المعركة، لدينا ثلاثة أسلحة، إن صح التعبير، ثلاثة وسائل تسمح لنا بالخروج منها منتصرين: الصوم والصلاة والصدقة.
يسوع الذي عاش وحقق ذاته كأبن لله وذلك من البرية حتى ساعة التخلي الكبرى ساعة الصليب، إذ أنه: استقبل ذاته من أبيه، ولذلك يصوم. يلتفت إلى أبيه فيصلي، يلتفت إلى أبيه وإلى الآخرين فيعطي (الصدقة).
فالصلاة ليست مجرد ترداد بعض الصلوات، والصوم ليس فقط الامتناع عن الأكل، والصدقة ليست مجرد عطاء مادي للآخر. بل هذا كله يعود للقول بأن أعيش علاقة حقيقية مع الله ومع الآخر ومع ذاتي.
فالصوم إذن لا يكمن فقط في الامتناع عن الأكل أو عن بعض الرغبات. هذه الأمور تبقى تعبير رمزي لما هو أعمق وأكثر جوهرية، إنها تدعلنا نقول بأن الله هو الوحيد الذي يستطيع أن يعطينا الخبز الحقيقي، الجوهري، أو بمعنى آخر هي تعبير على أنني أُسلّم ذاتي لله واستقبلها منه، أب أنني ابن الله وليس لي إله غيره.
وهذا الأمر يُعبّر عنه بطريقة إيجابية: أن أفتح عيني وأذني حتى أنظر فعلاُ لما يحدث من حولي حتى أستطيع أن أرى وأسمع المحتاج: «الحق، الحق أقول لكم، كلما فعلتم بأحد أخوتي هؤلاء الصغار فلي أنا فعلتموه». فالخطيئة لا تكمن فقط في العمل السيء والمؤذي، بل هي جوهريا عندما لا أسعى للقيام بالخير، بمد يدي لمن هو بحاجة إلي، أن أكتفي بذاتي «الحيط، الحيط ويا ربي السترة»، كما نقول باللغة العاميّة.
مساعدة الآخر، هي صدقة، وليس فقط العطاء المادي، الصدقة هي أن أصغي للآخر، أن أكون حاضر له بالفعل، أن أعيش علاقات حقيقية، على مثال المسيح الذي ذهب إلى عطاء ذاته حبّاً بنا. فالصوم هو أولاً أن أقوم بأمور إيجابية، أن أعيد علاقاتي بشكل حقيقي، وبهذه الطريقة أعيش كابن لله.
الصوم هو أخيراً أن أفرّغ ذاتي من كل ما يحجبني عن الله والآخر وذاتي، لكي أستطيع انتظار العريس الآتي والقائم من بين الأموات، ولذلك ارتبط الصوم بالقيامة في الكنيسة. فالصوم أخيراً هو مسيرة تحرر وموت عن الذات، لكي أستطيع عيش القيامة.
إذا كان يسوع قد عاش كل ذلك في صميم حياته اليومية، فكم بالأحرى نحن، علينا أن نعيشها واقعياً. ولكن هذا غير ممكن بدون الصلاة. فبالصلاة أستقبل ذاتي من الله ولكن بالأخص أستمد منه العون والقوة. بالصلاة أكتشف ذاتي وضعفي ممّا يسمح لي بالانطلاق بشكل صحيح وحقيقي باتجاه ذاتي والآخرين.
الصوم والصلاة والصدقة يشكلون معاً التوبة الحقيقية التي تكمن في الاعتراف بابتعادي عن الله والعودة إلى «حظيرة خرافه». فالصوم بدون التوبة لا معنى له ولا فائدة. بالصوم والصلاة والصدقة أموت عن ذاتي (أعيش معموديتي) لأقوم مع القائم من بين الأموات.
لذلك مرحلة الصوم هي مرحلة فرح، فرح قدوم العريس، فرح الاكتشاف بأننا أبناء الله. بالمعمودية أصبحنا أبناء الله، وروحه يسكن فينا لكي يساعدنا للعودة إليه وإلى أخوتنا البشر. فإذا كنّا ننادي الله أبانا، فهذا يعني أننا أخوة. ولكي نستطيع القول بأننا اخترنا المسيح وأننا حقاً أبناء الله÷ علينا أن نتحقق من ذلك في واقعنا اليومي.
علينا أن نتحقق فعلياً بأننا أحرار وحقيقيين. فالصوم إذن هو فترة فرح حيث نكتشف بنوتنا لله، وهذا يقودنا بالضرورة إلى المحنة والتجربة، يقودنا إلى البرية. لذلك لا يد من التخلي عن الحزن لأنه لا يأتي من الله، لا بل هو دلالة غيابه من حياتنا. في هذه الفترة نكتشف إلى أي حد نعمل ونتصرف انطلاقاً من أحكام مسبقة، وأننا نضع الله في أفكار جامدة، وأننا نقف أمامه في موقف العبد بدلاً من الابن. فلنقف بشجاعة، شجاعة البناء ونعيش بالفعل كأخوة وكأبناء.
أين أجد السلام وكيف أعيشه؟
موضوع السلام بشكل عام واسع ومتشعب، تدخل فيه العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لهذا السبب ليس من السهل التحدث عن الموضوع في هذا الإطار دون أن نضع جانباً ما نعيشه اليوم. لقد اخترنا هذا الموضوع لسببين على الأقل: أولاً لأننا نشعر جميعاً اليوم بأن سلامنا وسلام الوطن مهدد، ثانياً، لأننا نقترب من عيد الميلاد حيث نسمع في نص الميلاد قول الملائكة: «المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام للناس فإنهم أهل رضاه».
ماذا تعني هذه الآية؟ أولاً تعني أن مجد الله هو سلام الناس، والقديس ايريناوس، أحد آباء الكنيسة يقول: «مجد الله هو الإنسان الحيّ». بدون شك لا وجود لإنسان
حيّ لا يعيش بسلام، أكان هذا السلام خارجي أو داخلي. ثانياً تعني أن السلام يأتي من الله، بما أن الملائكة هي التي تُبشر به وتعلن تحقيقه وأخيراً وليس آخراً، تعني أن السلام يتحقق في محبي الله: أهل رضاه، أي في كل إنسان يتقي الله. هذا ما يقوله بطرس في خطابه أثناء لقائه قرنيليوس، الذي تأملناه في اللقاء الأخير حيث يقول: « أَدرَكتُ حَقًّا أَنَّ اللهَ لا يُراعي ظاهِرَ النَّاس، فمَنِ اتَّقاه مِن أَيَّةِ أُمَّةٍ كانت وعَمِلَ البِرَّ كانَ عِندَه مَرضِيًّا».
إذن مصدر السلام الحقيقي هو الله، وخارجاً عنه لا يمكن للإنسان أن يعيش بسلام حقيقي.
قد نعتقد أن السلام يعني نهاية كل توتر وصراع، فنقول مثلاً: الآن تمت اتفاقية السلام بين.... وبين. ولكن هذه الاتفاقية هي واحدة من بين العديد من الاتفاقيات. على ما يبدو أن عدد اتفاقيات السلام في العالم منذ سنة 2400 قبل المسيح وحتى يومنا هذا بلغ 134 اتفاقية. فأين هو هذا السلام؟
ولكن عندما نتكلم عن السلام مع الله، أو جماعة مسالمة، أو إنسان يعيش بسلام مع ذاته، أو بيت يعيش بسلام، فنحن نتكلم عن أمر آخر، مختلف تماماً. نتكلم عن أمر أكثر إيجابية من مجرد غياب الصراع. كلمة السلام في الكتاب المقدس تلمح لمثال نجد فيه:
* الاحتياجات المادية والغذائية مؤمنة:« تَوَكَّلْ على الرَّبً ومارِسِ الإِحْسان أُسكُنِ الأرضَ واْرعَ بِأَمان» (مز 37، 3).
* العلاقات تتصالح « ففَعَلَ صَموئيلُ كما أَمَرَه الرَّبّ، وأَتى بَيتَ لَحْم. فارتَعَشَ شُيوخُ المَدينَةِ عِندَ لِقائِه وقالوا: "أَلِسَلام قُدومُكَ؟ فقال: لِسَلامٍ قَدِمت، ، لأَذبَحَ لِلًرَّبّ. فقَدِّسوا أَنفُسَكم وتَعالَوا معي إِلى الذَّبيحَة". وقَدَّسَ يَسَّى وبَنيه ودَعاهم إِلى الذَّبيحة» (1 صم 16، 4 - 5).
* التصرفات مستقيمة: « فاختِنوا قُلَفَ قلوبِكم ، ولا تُقَسُّوا رِقابَكم بَعدَ اليَوم، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكم لا يُحابي الوجوهَ ولا يَقبَلُ رِشوه، منصِف اليَتيم والأرمَلة ومُحِبُّ النَّزيل، يُعْطيه طَعامًا وكسوَةً» (تث 10، 16 - 18).
فالمفهوم الكتابي للسلام يقدم لنا رؤية لبناء العلاقات بين البشر على صعيد الأفراد والجماعات. وهدف العدل في الكتاب المقدس هو بناء السلام حيث توقف. هذا المفهوم للعدل لا يكتفي باحترام القوانين والقواعد، مهما كانت مهمة وأساسية. لكن على العكس، مفهوم العدل في الكتاب المقدس يشدد على تحول الأشخاص، والعلاقات والبُنى، دليل عمل الله فيهم، لكي تتمكن من بناء السلام. حتى ولو كان الله هو مصدر وأساس السلام، فعلى مسؤوليتنا يقع تحقيق هذا السلام من خلال علاقتنا مع الله ومع الآخرين. مثلاً، في العهد القديم يأمر الله الإنسان بالاهتمام بالفقراء وأن يحب أعدائه، وأن يعوّض للذين أساء إليهم.
فالسلام في الكتاب المقدس رؤيوي، علائقي ويدعونا للعمل للبقاء على صعيد التنظير. هذا المفهوم النشيط والعلائقي للعدل وللسلام له الكثير من الشبه مع المفهوم العصري للعدل التصالحي، أي الذي يتطلب تعويض من أُسيء إليه. العدل التصالحي هو جواب سيستيماتيكي للأفعال أو للأذى، يركز على الشفاء أو الجروحات المُسببة من قبل هذه الأفعال أو الجرائم سواء للضحايا أو لمرتكبيها، وللجماعات.
ولكن إن أردنا أن نحيط بالموضوع من أكثر من جانب لا بد لنا أن نطرح السؤال: لماذا يصعب على البشر أن يعيشوا بسلام؟ لماذا لا يتحقق السلام في العالم؟ ما هي المعوقات، وما هي العوامل التي تساعد على تحقيق السلام بين البشر؟
كالمعتاد، لا يمكننا التحدث عن أي موضوع يمس الإنسان بشكل عام، وعن السلام بشكل خاص، دون أن ننطلق من الإنسان نفسه. سبق وقلت مراراً بأن الإنسان لا يستطيع أن يحقق ذاته، إنسانيته لوحده، فهو بحاجة إلى الآخر، لأن الإنسان كفرد هو جزء من الإنسانية وما تعيشه هذه الأخيرة ينعكس بطريقة أو بأخرى على الفرد والعكس صحيح أيضاً، كل ما يعيشه الفرد أو جماعة صغيرة محددة، ينعكس على البشرية جمعاء. يكفي أن نصغي إلى الأخبار المتلفزة أو غيرها لنلمس هذ الأمر لمس اليد. لماذا وما معنى أن تنقل وسائل الإعلام أخبار العالم ولا تكتفي بنقل الأخبار المحلّية؟ منذ العولمة والعالم يتجه أكثر فأكثر ليصبح قرية صغيرة، وبالتالي كل ما يمس أحد سكانها يمس الجميع بطريقة أو بأخرى.
بالمقابل، الإنسان لا يحقق ذاته خارجاً عن محيطه، أو بالأحرى لاوجود له خارجاً عن الثقافة أو الحضارة التي عاش وتربّى وكبر فيها، إنه بطريقة ما مطبوع، مجبول بها. وكل ثقافة لها قيمها وعاداتها وتقاليدها ومفهومها للعلاقات، والتي تختلف عن أية حضارة أُخرى، ممّا يعني أنها ليست الكل وبالتالي هي بالضرورة ناقصة. في الوقت نفسه هناك عوامل مشتركة فيما بينها مهما كان الاختلاف. وهنا تكمن إحدى المشاكل الكبرى في الإنسانية: عندما تنغلق الثقافة على ذاتها، يتحول هذا الاختلاف إلى صراع، صراع البقاء إن صح التعبير. لأنها تعيش ذاتها في خطر مقابل الثقافة أو الثقافات الأخرى.
فاستقبال الحضارة الشخصية كعنصر مكون للشخصية، وبشكل خاص في الطفولة، هو عنصر من الخبرة الشاملة، والتي لا يحق لنا أن نخفف من أهميتها. بدون هذا التأصل في الثقافة المحددة، لا يمكن للإنسان أن ينمو بالشكل الصحيح والسليم. على ضوء هذه العلاقة الأساسية مع أصوله، على الصعيد العائلي والمكاني والاجتماعي والثقافي، يتطور لدى الإنسان معنى الوطن، والثقافة تميل للأخذ على عاتقها التكوين الوطني. عندما أصبح الله إنسان، ابن الله نفسه لم يكتسب عائلة إنسانية فقط بل أيضاً حضارة ووطن. إنه دائماً يسوع من الناصرة، إنه يسوع الناصري (مر 10، 47؛ لو 18، 37؛ يو 1، 45 ، 19، 19).
من هنا تأتي أهمية ما نسميه عادة حوار الحضارات، أو الثقافات والذي هو في النهاية أهم من حوار الديان وأشمل. والأمم المتحدة سبقت أن أعلنت سنة 2001 سنة حوار الحضارات. فما هي الثقافة أو الحضارة؟ إنها التعبير المميز للإنسان ولتاريخه على الصعيد الفردي والاجتماعي: «إنها مجمل المعرفة والمعتقدات، الفن والحقوق، العادات والتقاليد كل المهارات الخاصّة بالإنسان بصفته عضو في هذا أو ذاك المجتمع». هذه الأمور هي التي تطبع وتميّز حضارة عن أُخرى وتعبّر عن ذاتها من خلال كل من ينتمي إليها. كل ذلك مع أهميته لا يعني مطلقاً وجود شيء من الحتمية، إنما علاقة ديالكتيكية أو جدلية بين قوى الحتمية ودينامية الحرية.
فالموضوع هنا إذن هو عملية طبيعية، حيث مختلف المكونات الاجتماعية والنفسية تعمل فيما بينها، مع انعكاسات وتأثيرات عادة إيجابية وبنّاءة. لهذا السبب حب الوطن يُعتبر قيمة علينا تنميتهاـ لكن بدون ضيق بصر، محبين في الوقت نفسه مجمل العائلة الإنسانية، محاولين عدم الوقوع في الظواهر المرضية التي تظهر عندما يأخذ الانتماء شكل التمجيد الذاتي وإقصاء التنوع، التي تتطور تحت مختلف أشكال التعصب.
فإذا كان من المهم تقدير قيم الحضارة الشخصية، فمن الطبيعي بالمقابل، أن نعي بأن كل حضارة، كمنتج إنساني ومشروط تاريخيا، يحتوي بالضرورة على حدود. فلكي لا يتحول الانتماء الثقافي إلى انغلاق، هناك ترياق، علاج فعّال: المعرفة الصافية، الغير مشروطة من قبل الأحكام المسبقة السلبية، للثقافات الأخرى. وتحليل دقيق يبين أن للثقافات، ما وراء تعبيراتها الخارجية، تملك عناصر مشتركة مهمة فيما بينها. كما يظهر هذا الأمر من خلال التتالي التاريخي للحضارات وللثقافات.
موجهة نظرها على المسيح، الذي يكشف كلية الإنسان لنفسه، وقوية بالخبرة المتراكمة خلال ألفي سنة، الكنيسة مقتنعة كلية بأنه «وراء كل التغيرات، هناك أمور لا تتغير أبداً». هذه الاستمرارية مؤسسة على الميزات الجوهرية والشاملة لمشروع الله للإنسان. فالتنوع الثقافي والحضاري علينا أن نفهمه على ضوء أو في إطار المنظور الأساسي لوحدة النوع الإنساني. فجميع الناس مخلوقين من الله وبالتالي هم أبناء الله بدون أي تمييز. هذا الأمر هو من أولى المعطيات التاريخية الوجودية، الانطولوجية التي على ضوئها يمكن أن نفهم وندرك المعنى العميق للتنوع نفسه.
في الحقيقة، وحدها النظرة السياقية وعناصر الوحدة والتنوع تجعل ممكناً التفهم والتفسير لملء حقيقة كل ثقافة إنسانية.
والآن إذا عدنا إلى الكتاب المقدس، ماذا يقول لنا عن هذا الموضوع؟ لا بد من أن ننطلق من البداية، من الأساس أو التأسيس إن صح التعبير. في روايات الخلق نرى أن الله سلّم الكون للإنسان ودعاه للتسلط على كل ما هو موجود في الكون ما عدا أخيه الإنسان «على طيور السماء وسمك البحار». ففي البداية كانت الإنسانية نباتية، إن صح التعبير، لم يكن الإنسان بحاجة للقتل ليأكل إلى أن أتت الخطيئة. فدخل القتل إليها. لماذا؟ ما هو دور الخطيئة بهذا الأمر؟
الخطيئة هي ابتعاد عن الله، مصدر الخير الحب، فنتيجة هذا الابتعاد هي الرغبة في أن يكون الإنسان هو الكل «تصبحان كالآلهة»، ممّا يعني إلغاء الآخر، أي آخر كان. النتيجة الثانية للخطيئة هي ولادة الغيرة والحسد والتي تظهر من خلال رواية قاين وهابيل. قاين قتل أخاه حسداً، والإنجيل يقول لنا بأن يسوع قُتِل حسداً أيضاً ونحن نعلم بأن الحسد بطريقة أو بأخرى يؤدي إلى القتل. رواية قاين وهابيل تقول لنا، مع الأسف، بأن البشرية مبنية على الكذب والقتل. وللأسف لا يزال هذا الأمر مستمر حتى الآن.
تسليم الكون للإنسان يعني أن الإنسان هو عبارة عن «مدير أعمال الله» إن صح التعبير. فكل ما يملكه، كل ما لديه هو من الله المالك الوحيد. والمشكلة تكمن، أكرر بسبب الخطيئة، أنه يريد أن يكون المالك ويرفض مكانه كمدير أعمال. من هنا ينشأ الصراع الدائم في البشرية وتُخلق الانشقاقات والانقسامات بين البشر ممّا يمنعهم من العيش في الطمأنينة والسلام: « وأَمَّا أَعمالُ الجَسَد فإِنَّها ظاهِرَة، وهي الزِّنى والدَّعارةُ والفُجور والعَداوات والخِصامُ والحَسَدُ والسُّخطُ والمُنازَعاتُ والشِّقاقُ والتَّشيُّع» (غلا 5، 19 - 20).
لكن علينا أن لا ننسى أنه في أعماق الإنسان، أي إنسان كان، هناك الرغبة في السلام، في أن يعيش بسلام. هذه الرغبة مشوهة ومشوشة بسبب الخطيئة، والمجتمع والتربية والماضي الشخصي: « أَمَّا ثَمَرُ الرُّوح فهو المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإيمان والوَداعةُ والعَفاف. وهذهِ الأَشياءُ ما مِن شَريعةٍ تتَعرَّضُ لَها» (غلا 5، 22 - 23). ممّا يعني أن ثمر الروح هو من طبيعة الإنسان ولهذا السبب ما من شريعة تتعرض له، ما من شريعة تمنع التصرف انطلاقاً من الروح الذي يشكل حقيقة الإنسان ويسمح له بالعيش بسلام.
فالإنسان، على الصعيد الفردي، الشخصي يعيش الصراع بين رغبته في السلام وميله للتملك والتسلط وليكون الكل. وبالتالي أقول بأن مجمل الصراعات التي تعيشها الإنسانية، أيّاً كان شكل هذه الصراعات فهي عبارة عن انعكاس للصراع الشخصي الدائم في الإنسان. فلكي يتم السلام، لا بد من زرعه تحقيقه أولاً في قلوبنا، في داخلنا والباقي يأتي تحصيل حاصل كما نقول بالعاميّة.
فإذا كان المسيح يقول لنا: « السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم. فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم ولا تَفْزَعْ » (يو 14، 27). فهذا يعني أن ما من سلام حقيقي خارجاً عن المسيح. إنه عطية القائم من بين الأموات: « جاءَ وبَشَّرَكم بِالسَّلام أَنتُمُ الَّذينَ كُنتُم أَباعِد، وبَشَّرَ بِالسَّلامِ الَّذينَ كانوا أَقارِب» (أف 2، 17). وثمرة الروح القدس: « فالجَسَدُ يَنزِعُ إِلى المَوت, وأمَّا الرُّوح فَينزِعُ إِلى الحَياةِ والسَّلام» (رو 8، 6). ويجد جذوره في الله: « فلْيَكُنْ إِلهُ السَّلامِ معَكم أَجمَعين» (رو 15، 33). وهذا السلام يفيض في الجماعة كواقع داخلي: « وكانَتِ الكَنيسَةُ تَنعَمُ بِالسَّلام في جَميعِ اليَهودِيَّةِ والجَليلِ والسَّامِرَة. وكَانَت تَنشأُ وتَسيرُ على مَخافةِ الرَّبّ، وَتنْمو بِتَأييدِ الرُّوحِ القُدُس» (أع 9، 31).
في النهاية أقول لا يحق لنا على ضوء هذا الكلام أن نقول ماذا يمكنني أن أصنع من أجل تحقيق السلام في العالم. هناك الكثير والأهم يمكن لكل واحد وواحدة منّا القيام به ألا وهو أن يزرع السلام في قلبه من خلال العلاقة مع الله والصلاة. فالله هو الوحيد الذي يغيّر قلوب البشر ويحقق السلام في قلوبهم. والصلاة هنا لا تعني أبداً الهروب من العالم ومشاكله، بل على العكس تعني مواجهتها بقوة وبسلام داخلي واثقين بأننا لسنا وحدنا، فالله معنا، لا ننسى إنه عمانوئيل، الله معنا.
المسيح حقق السلام بدمه. على الصليب وحّد البشر من خلال كشفه لشرهم ووضعهم أمام هذا الشر: «سينظرون إلى من طعنوا» (19، 37). على الصليب انتصر يسوع على الخطيئة والشر وعلى آخر عدو لنا ألا وهو الموت. بموته صالح البشر ووحّدهم. ممّا يعني أنه بدورنا إن أردنا أن نسعى للسلام، علينا أن نحمل الصليب، أي أن نموت عن أنانيتنا ونزعتنا للتسلط ونبذ المختلفين عنّا ليعمّ السلام فيما بيننا. وهذا من ثمار عمل الروح فينا. ولا يمكننا تحقيقه لوحدنا وبإمكانياتنا الشخصية مهما كانت كبيرة ومهمة.
« أَمَّا الآن ففي المسيحِ يَسوع، أَنتُمُ الَّذينَ كانوا بالأَمْسِ أَباعِدَ، قد جُعِلتُم أَقارِبَ بِدَمِ المسيح. فإِنَّه سَلامُنا، فقَد جَعَلَ مِنَ الجَماعتَينِ جَماعةً واحِدة وهَدَمَ في جَسَدِه الحاجِزَ الَّذي يَفصِلُ بَينَهما، أَيِ العَداوة، وأَلغى شَريعةَ الوَصايا وما فيها مِن أَحكام لِيَخلُقَ في شَخْصِه مِن هاتَينِ الجَماعتَين، بَعدَما أَحَلَّ السَّلامَ بَينَهما، إِنسانًا جَديدًا واحِدًا ويُصلِحَ بَينَهما وبَينَ الله فجَعَلَهما جَسَدًا واحِدًا بِالصَّليب وبِه قَضى على العَداوة. جاءَ وبَشَّرَكم بِالسَّلام أَنتُمُ الَّذينَ كُنتُم أَباعِد، وبَشَّرَ بِالسَّلامِ الَّذينَ كانوا أَقارِب،
لأَنَّ لَنا بِه جَميعًا سَبيلاً إِلى الآبِ في رُوحٍ واحِد » (أف 2، 13 - 18).
المسيحية إنسانية والإنسانية مسيحية
سأحاول في هذه المقالة أن أُبين بأن المسيحة والإنسانية واحدة، بما أن الله والإنسان أصبحا واحداً في المسيح يسوع، والألوهة والأنسنة هما وجهان لحقيقة واحدة. لكنَّ إتمام هذه الوحدة يتم عند تحقيق الوحدة بين الله والبشرية. إذا كنّا نؤمن بأن روح الله يعمل في الجميع، فهذا يعني أن كل إنسان أيّاً كان أصله معتقده بإمكان روح الله أن يعمل فيه ومن خلاله. وما معنى دعوة يسوع لنحبّ أعدائنا.
قد يبقى العدو عدو، لكنه، ابن لله وقادر على صنع الخير والشر مثل المسيحي. فالله لا يميز بين البشر، إنه إله الجميع
« فشَرَعَ بُطرُسُ يَقول: أَدرَكتُ حَقًّا أَنَّ اللهَ لا يُراعي ظاهِرَ النَّاس، فمَنِ اتَّقاه مِن أَيَّةِ أُمَّةٍ كانت وعَمِلَ البِرَّ كانَ عِندَه مَرضِيًّا. فدَهِشَ المُؤمِنونَ المَختونونَ الَّذينَ رافَقوا بُطرُس، ذلك بأَنَّ مَوهِبَةَ الرُّوحِ القُدُسِ قَد أُفيضَت على الوَثَنِيِّينَ أَيضًا» (أع 10، 34 -35. 45). أدعوكم لقراءة وتأمل الفصلين العاشر والحادي عشر من أعمال الرسل. إنهم من أروع النصوص التي توضح هذا الأمر.
سوف أنطلق من مجموعة من النصوص الكتابية لأوضح هذا الأمر الذي، برأي مهم جداً في الوضع الحالي الذي تمر به البلاد.
تك 1، 29 «انموا واكثروا وأملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على أسماك البحر وطيور السماء وكل حيوان يدب على الأرض».
متى 25، 34 – 36 «تعالوا، يا من باركهم أبي، فرثوا الملكوت المعد لكم منذ إنشاء العالم: لأني جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، وكنت غريبا فآويتموني، وعريانا فكسوتموني، ومريضا فعدتموني، وسجينا فجئتم إلي. يا رب، متى رأيناك جائعا فأطعمناك أو عطشان فسقيناك ؟ ومتى رأيناك غريبا فآويناك أو عريانا فكسوناك ؟ ومتى رأيناك مريضا أو سجينا فجئنا إليك؟»
اع، 10-11 : «فلما دخل بطرس استقبله قرنيليوس وارتمى على قدميه ساجدا له. فأنهضه بطرس وقال: « قم، فأنا نفسي أيضا بشر» فشرع بطرس يقول: «أدركت حقا أن الله لا يراعي ظاهر الناس، فمن اتقاه من أية أمة كانت وعمل البر كان عنده مرضيا.... والكلمة إنما هو رب الناس أجمعين. فدهش المؤمنون المختونون الذين رافقوا بطرس، ذلك بأن موهبة الروح القدس قد أفيضت على الوثنيين أيضا».
في مقالة كيف أعيش إيماني في الظروف الحالية؟ حاولنا التفكير بواقعنا الجديد وعلاقته بالإيمان. فتحدثنا عن كيفية عيشنا لإيماننا في الظروف التي تمر بها البلاد، وتساءلنا عن العلاقة بين الإيمان المسيحي وإنسانيتنا دون الذهاب إلى أبعد حول سؤال المواطنة: هل أعيش وأفكر كمواطن سوري أم كمسيحي. واليوم أريد معكم التوقف على هذه الناحية من باب الإيمان المسيحي نفسه. هل إيماني المسيحي يدفعني إلى التصلب والانغلاق على إيماني رافضاً إيمان الآخر، أم أن إيماني يجعلني أكثر إنسان، وبالتالي أتعامل مع الآخرين على أنهم بشر مثلي «وأنا أيضاً بشر»، أبناء لله مثلي قادرين على أعمال المحبة مثلي الخ؟
لنعود إلى الآيات الكتابية المذكورة أعلاه لتساعدنا في موضوعنا اليوم. ما المفلت للانتباه في هذه الآيات؟ وماذا تعني لنا نحن أبناء اليوم بشكل عام وفي ظروفنا الخاصة بشكل خاص؟
أول ما يلفت الانتباه في آيات سفر التكوين وإنجيل متى هو غياب كامل لذكر الله ومن جهة أخرى في نص أعمال الرسل نحن أمام رجل وثني لكن يقال فيه بأنه « تقي يخاف الله ويتصدق على الشعب صدقات كثيرة». وبطرس من جهته يقول بأن «الله لا يراعي ظاهر الناس فمن إتقانه من أية أمة كانت وعمل البر كان عنده مرضيا».
إذا بداية يمكن القول بأن عدم ذكر الله في هذه الآيات، ماعدا نص أعمال الرسل، له معنى قوي ومهم جداً. هذا يعني أن الله خلق الكائن البشري وأعطاه كل الإمكانيات اللازمة والضرورية لكي ينتقل إلى مقام الإنسان، ليحقق إنسانيته بإرادته وحريته، فله أن يحققها وله أن يرفضها. هذا يعني أيضاً أن دعوتنا الأولى والأساسية هي أن نكون إنسان. قد يبدو هذا الأمر غريبا لكنه مهم جداً لفهم صحيح لإيماننا المسيحي.
سبق وبينت بأكثر من مناسبة، من خلال الإنجيل كيف أن الإنسان الصحيح الذي يحقق إنسانيته يحقق في الوقت نفسه تألهه. مما يعني أن المسيحية ليست بأمر إضافي على الإنسانية كما لو أن الله خلق الإنسان ثم أضاف عليه المسيحية لإكمال عملية الخلق. كما لو أن المسيحية هي خارج الإنسانية، أو بمعنى آخر كما لو أن غير المسيحي ليس بإنسان، أو هو إنسان ونحن المسيحيون من «تكوين آخر، من تركيبة أخرى كما نقول بالعاميّة».
هذا الأمر مهم جداً لكونه يصب في صميم مفهومنا لسر التجسد. نحن نقول بأن الله أصبح إنسانا «صار إنساناً وسكن بيننا» تقول لنا مقدمة إنجيل يوحنا. فماذا يعني ذلك؟ هل مجرد تمثيلية؟ لا أعتقد ذلك. هل هو عبارة عن «مسايرة» لنا كما نقول في اللغة العامية؟ لا أعتقد ذلك. هذا يعني أن الله هو إنسان واحد منا كما يقول الإنجيل. كما أن المسيح صعد إلى السماء بجسده الإنساني أي أن في الله هناك الإنسان. إن لم نغوص ونتعمق في هذا المعنى الهائل لسر التجسد وبالتالي لله نبقى إلى جانب الموضوع ونفقد الجوهري والأساسي.
إذن لا يحق لنا أن نفصل بين الإنسانية والمسيحية، بين الإنسان وإيمانه المسيحي وأخيراً وليس آخراً لا يحق لنا أن نفصل بين الإنسان وإيمانه أيا كان، فالإيمان هو جزء من الإنسان وليس بأمر أضيف عليه لاحقاً كما سبق وقلت.
فالسؤال الذي يُطرح هنا: ما هي مكانة الإيمان المسيحي؟ وما هي مكانة المسيح نفسه في هذا الموضوع؟
لننظر عن كثب إلى الآيات الكتابية التي بين أيدينا. أولاً في سفر التكوين نرى بأن الله خلق الإنسان وطلب منه التسلط على جميع الكائنات، « أسماك البحر وطيور السماء وكل حيوان يدب على الأرض». أي لا يحق له التسلط على الإنسان الآخر، لكنه مدعو ليكون سيد هذا العالم، يتسلط عليه، أن يطبعه بطابعه الإنساني. هناك غياب كامل لله، وللإيمان، وللطقوس الدينية الخ. هذه الدعوة الأولى للإنسان تتميز إذن بأنها دعوة إنسانية، دعوة للإنسانية، ليصبح هذا الكائن البشري إنسان، وهذه الدعوة هي في النهاية دعوة إلى الحرية.
فالله لم يخلق المسيحي ولا المسلم ولا البوذي. خلق الإنسان ونفخ فيه من روحه. لم ينفخ من روحه في المسيحي، بل في الإنسان. وفي نص الإنجيل، هؤلاء الأبرار الذين أطعموا المسيح وسقوه وزاروه، ليسوا بمسيحيين، فهم لا يعرفونه: متى رأيناك جائعاً، أو عطشاناً أو، أو الخ. فإن كان إطعام الجائع، وسقي العطشان يعني اطعام المسيح هذا يعني أن المسيح وبالتالي الله والإنسان واحد. فلا يحق لنا أن ننظر إلى الأخر إلاَّ بهذه الطريقة: إنه الله إن صح التعبير، مقدس لا يحق لنا أن نمس به حتى بالنظر: «من نظر إلى امرأة واشتهاها فقد زنى بها في قلبه».
بالنسبة لنص أعمال الرسل أعتبره من أهم النصوص بهذا الخصوص. أولاً هذا الوثني الذي لا يؤمن على الطريقة اليهودية، لا يؤمن بإله اليهود، لا يؤمن بالمسيح، يُقال فيه بأنه « كان تقياً يخاف الله هو وجميع أهل بيته، ويتصدق على الشعب صدقات كثيرة، ويواظب على ذكر الله ». بالطيع يواظب على ذكر الله، أي إلهه كما هو يعرفه ويؤمن به على طريقته الوثنية. هذا الإنسان قائد مئة له مركزه ومكانته ومع ذلك يطلب اللقاء ببطرس. والنص يقول بأن صلواته سُمعت وذُكرت لدى الله صدقاته. أي أن صلوات هذا الوثني سُمعت واستُجيبت من قبل الله.
ثم يتابع النص ويقول أنه عندما ارتمى قائد المئة على قدمي بطرس، يُنهضه هذا الأخير ويقول له « قم، فأنا نفسي أيضا بشر». بطرس يحقق ثلاثة اكتشافات مهمة: أولاً أن ليس هناك من شيء نجس أو دنس أو مقدس بحد ذاته (ما عدا الإنسان فهو مقدس) «ما ظهره الله لا تنجسنه أنت»، تقول الرؤية. فالإنسان هو الذي يدنس أو يقدس الأشياء والأمور.
والاكتشاف الثاني فهو أنه لم يعد هناك من فارق بين اليهودي والوثني، أي بين المؤمن وغير المؤمن، بما أنه في الكتاب المقدس، اليهودي يرمز للإنسان المؤمن والوثني لغير المؤمن، فالاثنان سواء، بشر، مخلوقين على صورة الله كمثاله وقادرين على أعمال المحبة كأعمال الشر. اكتشف بطرس بأن إيمانه اليهودي لا يعطيه أية ميزة على الآخرين.
امّا الاكتشاف الثالث والأهم بدون شك، هو اكتشاف بطرس بأن الله هو إله جميع الناس، وليس إله اليهود فقط. إله جميع الناس أي إله حتى الذين لا يعرفونه، أو لا يريدون معرفته حتى، وهذا يرجعنا إلى نص إنجيل متى الذي نوهنا عليه. ويساعدنا على فهم إحدى أساسات إيماننا المسيحي التي تقول بأن المسيح هو مخلص جميع الناس، وسوف أعود إليها في نهاية حديثي. بطرس اكتشف بأن كل إنسان يتقي الله، أي يبتعد عن الشر ويحترم كل إنسان أيّاً كان، ويعمل البر فهو مرضي عنده.
ثم يتابع النص ليقول بأن الروح القدس نزل على جميع الذين سمعوا كلام الله، وتكلموا باللغات، كما حدث في يوم العنصرة، فما كان من بطرس إلاَّ أن يقبل بعمادهم. أي أن الروح القدس حاضر في كل إنسان ويعمل في كل إنسان ومن يستجيب له، حتى ولو لم يعي ذلك، فهو مسيحي تماماً، هنا نعود ثانية إلى نص متى الإنجيلي.
يبقى لنا سؤالين أساسيين لا بد من الإجابة عليهما. أولاً ما هو دور الإيمان المسيحي في هذه الحالة؟
على السؤال الأول أقول بأن المسيحية، من وجهة نظرنا هي بدون شك الوسيلة والطريق الأفضل والأسمى لتحقيق إنسانيتنا. خصوصاً عندما نعلم بأن المسيح هو إله حق وإنسان حق. فأن نتبع المسيح يعني أن نحقق إنسانيتنا وألوهيتنا في آن معاً لأن لا فرق بينهما بعد الآن.
وهذا يقودنا إلى السؤال الثاني: المسيح هو مخلص الجميع لأن روح المسيح يعمل في الجميع ومن يعيش انطلاقاً منه، حتى ولو لم يكن مسيحي بالهوية، فهو مسيحي حقيقي وهؤلاء الناس يسميهم اللاهوتي الألماني الكبير «كارل رانر» المسيحيون المجهولون!
في النهاية أقول أن المسيحية هي إنسانية بامتياز، بمعنى أنه لا يحق لنا أن نميز بين الاثنين، فهما وجهان لحقيقة واحدة، بما أن الإنسان الحقيقي هو بالضرورة ابن الله، والإله الحقيقي هو أيضاً بالضرورة إنسان.
كيف أعيش إيماني في الظروف الحالية؟
بداية أقول وألفت الانتباه بأن موضوعنا هو موضوع إيماني لكن سنحاول التحدث عنه بطريقة «متجسدة»، أي بطريقة تمس الواقع الذي نعيشه دون الدخول ولا بشكل من الأشكال في الموضوع السياسي والذي يعود لضمير كل إنسان. فالإيمان المسيحي، كما سبق وقلت مرارا وتكرارا، هو إيمان متجسد وبالتالي لا بد له من أن يظهر ويعبّر عن ذاته في الواقع اليومي؛ ويمكننا القول بشكل خاص في الظروف التي نعيشها اليوم.
الإيمان، على مثال المسيح يسوع، عندما يكون إلى حد ما حقيقي، يجعلني واقعي، أي يجعلني
أقبل، ولو كان هذا الواقع سيء وشرير، بأن الشر موجود في العالم ويعمل به بقوة. بينما ما نسمعه في كلّ مرة نواجه فيها الشر، سواء أثناء الحرب اللبنانية أو العراقية أو في بلدنا اليوم، ما نسمعه هو دائماً العبارة الخالدة: أين هو الله؟ ولماذا لا يتدخل ويوقف هذا الشر. الله لا يتدخل خارجاً عن حريتنا ولا يمكن أن يغير مسار الأمور والتاريخ رغماً عنّا. قد تقولون منيح وبعدين؟ شو دور الإيمان إذن في حياتي في هذه الحالة؟
كما قلت أولاً الإيمان يجعلني أقبل بأن الشر، مع الأسف، حاضر في الواقع ويعمل به. ثانياً الإيمان يعبّر عن ذاته من خلال علاقاتي مع الآخرين بشكل عام ومع من هم مختلفون عني بشكل خاص. أي أن إيماني يمنعني من أن أكون طرفاً ضد طرف آخر، ليس من باب الخوف ولا من باب السلبية إنما من باب القناعة بأن ما من أحد يملك الحقيقة، ما من أحد على حق بشكل كامل وكلي، وبالتالي إيماني يجعل مني جسراً لبناء العلاقة بين المختلفين، بين من يعيشون هذه القناعة الخاطئة بأنه على حق والآخر هو حتما على خطأ. ولا تظهر الحقيقة إلاَّ في النهاية: مثل الزؤان والقمح.
سرطان العلاقات الإنسانية هو بالتحديد هذه القناعة التي تمنع من بناء علاقات إنسانية حقيقية وصادقة. بهذا المعنى أقول أن إيماني يجعلني جسراً بين المختلفين فيما بينهم وبين من يحولون الاختلاف إلى خلاف.
من هو الله؟ كل كارثة تحمل معها الكثير من الشكوك: ألم يكن الله قادر على منع حدوثها؟ كيف يمكن الاستمرار بالإيمان بحضور فعّال لله الذي نقول عنه بأنه «حبّ» وقادر على كل شيء؟ دعونا نسأل الكتاب المقدس في مواجهتنا لهذا السؤال.
«الله لم يصنع الموت؛ لا يُسرّ بهلاك الأحياء؛ فإنه خلق كل شيء لكي يكون». بهذه الطريقة يعبّر سفر الحكمة «1، 13 - 14»، والعهد الجديد يعطي لهذا الحدس كلّ معناه. فالمسيح الذي فيه يكشف الله عن نفسه، يقدم ذاته كشافي، عدو لما يسيء للإنسان، شافياً كل مرض وكل إعاقة. وبولس الرسول يقول الأمر عينه بكلمات أُخرى: يسوع رُفع فوق كل رئاسة وسلطان وقوة تعاكسنا «وآخر عدوّ يبيده هو الموت» (1 قور 15، 24 - 25).
حتى أن بولس يستطيع أن يرتل في نهاية الفصل 15: «قد ابتلع النصر الموت، فأين يا موت نصرك؟ وأين يا موت شوكتك؟». سوف أتكلم عن هذا الانتصار على الموت وبالتالي على الشر. ولنأخذ الآن بعين الاعتبار هذا اليقين الذي يوجه كل صورة نكونها عن الله: لا علاقة لله في آلامنا وموتنا. إنه بريء من كل ما يسيء إلينا؛ ليس فقط بريء، بل عدو لشقائنا كما تبين لنا أعمال المسيح نفسها.
فلماذا إذن الرجوع عن هذه القناعة، التي سبق أن شُرحت مراراً وتكراراً في مختلف المجالات المسيحية؟ لأن الحوادث التي تواكب حياتنا يمكنها أن تُعكّر يقيننا وتدعونا لتجديد أفكارنا. فهكذا أمام ظروف صعبة وتشكل خطرا على حياتنا، يظهر السؤال: كيف يمكن أن نؤمن بحضور فعّال لله الذي نقول عنه أنه حبّ وقادر على كلّ شيء؟
مصائبنا وكوارثنا ليست بعقاب ولا بامتحان.
السؤال ليس بجديد: إنه يلازم عدد كبير من المزامير؛ نراه طوال سفر أيوب؛ ويأخذ تعابير جديدة في سفر الجامعة. ومع ذلك فالكتاب لا يلخص أبداً إلى القول بأن: «لا وجود إذن لله»، يبقى الكتاب المقدس أمام السؤال، أمام السر؛ وخلاصة أيوب هي دعوة إلى عدم البحث عن الفهم. على العكس كان يجب انتظار المسيح من أجل ذلك؛ والجواب الذي سيعطيه بعطائه لذاته صعب القبول بأنه دخل في تفكيرنا.
لماذا الألم والموت؟ سوف أكتفي بتوضحين تقليديين: الألم هو عقاب والألم هو امتحان. هذا الموقف له علاقة بطريقة ما مع الكتاب المقدس، ممّا يبين بأن أسفار العهد القديم تشكل نوعاً من المراحل المؤقتة، على مسيرة طويلة باتجاه الحقيقة، طريق يأخذ بعين الاعتبار ويجعلنا نتجاوز كل أوهامنا بخصوص من نسميه الله. وكما هو مفترض، الكلمة الأخيرة لن تعطى إلاَّ في النهاية، عندما يكون «الحمل المذبوح» (المسيح في فصحه) هو الوحيد القادر على أن يكسر أختام الكتاب السبعة لكي يكشف المعنى (رؤ 5).
إنسان الكتاب المقدس فكَّر أولاً بأن مصائبه وشقائه هم عقاب على أخطائه، من أجل عدالة إلهية تتطلب أن يتم رضاها. سفر أيوب يتمرد أمام هذه اللغة التقليدية القاسية: أيوب إنسان بار، بريء ويعرف مصير الخاطئين. فهذا الألم ليس بعقاب؛ وبخصوص هذا الموضوع يعطي الله لأيوب الحق (42، 7). ومع ذلك يبقى السر على حاله. على هذا الملف، يمكننا إضافة نص لوقا ( 13، 1 – 5 )، حيث يشرح يسوع بأن الجليليين الذين قتلهم بيلاطس لم يكونوا أكثر خطيئة من الآخرين، وأن من حطّمهم سقوط برج سلوان لم يكونوا أكثر خطيئة من سكان أورشليم.
هذا النص مهم، لأننا نجد فيه شقاء ومصائب أتوا من حرية الإنسان (قرار بيلاطس) أو من الظروف الغير متوقعة او من الكوارث الطبيعية (سقوط البرج). في إنجيل يوحنا ( 9، 1 – 3 ) حيث عمى المولود أعمى لا علاقة له بخطيئة ارتكبها لا هو ولا أهله. إذن لا وجود لانتقام إلهي. فإذا كان الأمر كذلك فهل تكون مصائبنا وشقاؤنا امتحان من الله؟
هذا الموضوع نراه حتى في العهد الجديد. يجعلنا الله نتألم ليرى مصداقية إيماننا، ليعرف ما هو مخبأ في أعماقنا. باختصار، يمكننا التوقف على أمرين. أولاً، إذا كان هناك من امتحان، فهو لا يصل إلى درجة الموت؛ إنه تربوي وعليه أن يعزّز النمو. ثم، ما يمتحن الإنسان هو العطاء المُستقبل أكثر منه الشقاء. فمثلاً المنّ في سفر الخروج الفصل ( 16)، مُقدم «كخبز الامتحان». يمكننا القول بأن كل ما يحصل لنا يمتحننا، يسمح لنا بأن نزن إيماننا، ورجاءنا، وحبنا، ولكن هذا لا يعني أبداً أن هذه الامتحانات هي من الله. هذه التوضيحات التي تستند على صورتنا الخيالية عن الله التي تجعلنا نقول بأن كل ما يحدث في حياتنا هو من الله، الله الذي يصنع التاريخ. يبقى السؤال هنا أيضاً على حاله: من أين تأتي الشرور التي نعاني منها؟
عالم من الصراعات: الكتاب المقدس يقيم غالباً علاقة ضيقة بين الشقاء، والكوارث والمصائب وبين الخطيئة. فهل سنعود الآن مجدداً إلى أسطورة العقاب؟ ليس بالضرورة، بالرغم من أن نصوصنا تقترب أحياناً من هذا المفهوم الغير محتمل. لكي نفهم العلاقة بين الشقاء والخطيئة، علينا أن نقرأ الفصول الثلاثة من سفر التكوين. ما يخرج من يدي الله هو عالم مسالم. كل الناس نباتيين: لا حاجة لهم للقتل لكي يستمروا في الحياة (الفصل الأول). الحيوانات تخضع للإنسان بما أنه هو من يسميها. والطبيعة خيّرة، تعطي ثمارها بدون مشكلة. ثم تأتي الخطيئة، المُقدمّة على أنها شك، حذر أمام القدرة التي خلقتنا. وبالتالي ندخل في عالم الصراع. دون الدخول بالتفاصيل يمكننا أن نلاحظ بأن البشرية المخلوقة من الله هي كالله، واحدة. وحدة الحبّ. وعندما يستقر الحذر، تتفكك الوحدة، والإنسان يتمزق: «عظم من عظمي ولحم من لحمي» تصبح «المرأة التي جعلتها معي»، هذه العبارة تتهم كل من المرأة والله، الواحد بقدر الثاني. صراع الرجل والمرأة يقود إلى تسلط الرجل على المرأة، تسلط لا يقصي الرغبة إنما كاتب السفر يلاحظه في المجتمع الذي يعيش فيه وينسبه إلى الخطيئة (3، 16). إلى صراع الرجل والمرأة، يُضاف صراع الإنسان والطبيعة: تصبح الأرض صحراء تنتج شوكاً وحسكاً؛ والعمل يصبح شاقاً وتنتهي الأرض بأن تستعيد من الإنسان حياته.
في الفصل الرابع ينبعث الصراع مجدداً، لكن هذه المرّة هو صراع بين الإنسان والإنسان. قاين وهابيل يدشنون سلسلة كل أشكال العنف الأخوي الذي يلازم الكتاب المقدس. حتى هذه اللحظة الوجه الأخير للعداوة بين اليهودي والوثني، التي لا تجد لها من حل إلاَّ في المسيح «سلامنا»، عندما يصبح المتخاصمين شعباً واحداً. وبولس يقول: ليس هناك يهودي ولا يوناني؛ لا رجل ولا امرأة. وفي رسالته إلى أهل رومة ( 8، 19 – 22)، يقول بأن الخليقة جمعاء تئن من آلام المخاض منتظرة ساعة المصالحة.
حتى هذه اللحظة، نكرر ونقول بأن هذا «الطلاق» بين البشر ومحيطهم ليس، بنظر الكتاب المقدس، بعقاب إلهي. إنه ثمر سام لعدم التوافق الأساسي بين حريتنا وحقيقتنا.
والله في كل ذلك؟ إنه دائماً القوة الخلاقة التي تسكننا، لكنه لا يستطيع الوصول بدون موافقتنا. كل شيء مبني على منطق العهد، ومن خلالنا يمكن للقوة الإلهية أن تعمل. الله لا يريد ولا يسمح بالكوارث التي تصيبنا. إنها تحدث في أنٍ معاً ضده وضدنا. على الصليب ندرك أنه ليس القاتل إنما ضحية شرنا. أين كان الله عندما حدثت ظاهرة التسونامي في الجنوب الشرقي من أسيا؟ بدون شك، في ضحايا الزلزال. يبقى السؤال لماذا؟ لماذا عدم ثقة البشر تسمم العالم بمجمله ؟ نجيب بأن الخليقة بأجمعها، منذ البداية، هي مشروع بشرية. ليكن! ولكن لماذا؟ ولماذا الشر؟
العقيدة القديمة للخطيئة الأصلية لا يمكن قبولها. فالفصل 3 من سفر التكوين لا يروي لنا مغامرات «أهلنا الأوائل» ولكن، في اللغة الأسطورية، هناك رفض موجود في كل البشر وكل الأزمنة. إنه الإنسان القديم الذي يتكلم عنه بولس، الإنسان الذي منه ننطلق لتحقيق البشرية الحقيقية. يمكننا قراءة ( 1 قور 15، 44 -49). في طريقنا باتجاه الإنسان الجديد، إنسان الخليقة المُتممة، كل آلامنا تصبح آلام مخاص ولادة.
في الحقيقة، ما من أحد استطاع أن يجيب بطريقة مرضية على مشكلة الألم. قد نكون هنا أمام شجرة معرفة الخير والشر، شجرة ثمرها متعذر وممنوع. والمسيح لا يعطينا أي شرح لها. بالطبع في رسالته إلى أهل رومة ( 5، 13 – 19 ) يربط بولس الشر بخطيئة آدم، ولكن في الآية 14 يقول لنا بولس بأن آدم ليس سوى صورة، رمز لمن سيأتي، المسيح. فإذا كانت نصوصنا لا تقول لنا من أين يأتي شقاؤنا ومصائبنا، فهي تكشف لنا بأنها تمس الله أولاً وأنه يأتي ليشاركنا المصير الذي اعتقدنا مطولاً أنه من نصيب الخطأة.
نعلم أننا لسنا وحدنا، وحيدين على طرقاتنا، التي غالباً ما تكون مؤلمة، والتي تفرضها علينا الحياة. «الله معنا»، حتى على صلباننا، هذه هي الرسالة. هذا التعبير يحيط بإنجيل متى: 1، 23 : «ها إن العذراء تحمل فتلد ابنا يسمونه عمانوئيل أي الله معنا». و 28، 20 : «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به، وهاءنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم ». على كل حال الله لا يكتفي بأن يكون معنا في الأسواء، إنه يلتحق بنا فيها ليخرجنا منها. ينزل إلى جهنماتنا ليفتح لنا معبراً نحو الحياة. بحيث أن «الله معنا» يتم ويتحقق في «نحن مع الله».
«إذا كانت النصوص لا تقول لنا من أين يأتي الشر، فإنها تقول لنا بأن الله يشاركنا مصيرنا».
بين القيامة والصعود
بين كتاب الأناجيل هناك حرية وتنوع! وأقل ما يمكن قوله أن الواحد منهم لا ينقل عن جاره، بل يكتب بحسب وقناعاته والرسالة التي يريد إيصالها إلى قرّاءه. الإنجيلي متى وهو من تلاميذ يسوع مما يعني أنه من شهود حدث صعود يسوع إلى السماء لم يروي لنا الحدث. بالمقابل الإنجيلي لوقا كان من رفاق بولس لكنه لم يكن تلميذاً ليسوع ولم يشهد حدث الصعود وهو من وصف لنا الحدث مرتين في إنجيله وفي كتاب أعمال الرسل وبتفصيل دقيق. كذلك الأمر الإنجيلي يوحنا هو من
تلاميذ يسوع لكنه على مثال متى لم يروي لنا الحدث. بينما الإنجيلي مرقس الذي تتلمذ على يد بطرس يصف لنا بدوره الحدث. باختصار لدينا فقط روايتين عن الصعود في الإنجيل من بين الأناجيل الأربعة والروايتين لم تكتبا من قبل أحد شهود هذا الحدث المهم.
لا شك بأن القيامة والصعود هما بطريقة ما وجهان لحدث واحد. لا يمكننا الفصل بينهما. ولكن قبل التحدث بتفصيل عن معنى صعود يسوع إلى السماء لا بد لنا من التوقف قليلاً على أهمية ووظيفة ظهورات القائم من بين الأموات.
ظهورات القائم من بين الأموات : بداية أقول بأن هذه الروايات لها وضع خاص ومختلف عمًّا روي لنا عن يسوع التاريخي. فالقيامة ليست حدث تاريخي بالمعنى الحصري للكلمة، بما أن القائم من الموت، من خلال القيامة، لم يعد خاضع للتاريخ. وبالتالي من المفضل التحدث عن حدث خارج التاريخ.
ما هو تاريخي بالمعنى الدقيق للكلمة هو خبرة وشهادة الرسل: نساء ورجال عاشوا مع يسوع واعتبروه المسيح، يشهدوا بأنهم رأوه بعد موته على الصليب. وقالوه بقوة وهم مستعدون للموت بدلاُ من أن ينكروا إيمانهم بالمسيح الحي.
في روايات القيامة، معرفة يسوع القائم والاعتراف به على أنه هو ليس بالأمر البديهي، ولا المباشر. لماذا؟ لأنه يعني الانطلاق من اختبار حسي ملموس (النظر واللمس والسمع) والوصول إلى معرفة إيمانية؛ مما يتطلب مفهوماً جديداً لما قاله يسوع التاريخي، ولتصرفاته السابقة، ولتنبؤاته عن موته. هذه الناحية واضحة جداً في رواية تلميذي عمَّاوس.
قلت معرفة، لأن يسوع لا يظهر إلاَّ للرجال والنساء الذين عرفوه سابقاً. وهذا يساعدنا لكي نفهم أسباب الظهورات. بالإضافة إلى أن المعرفة في الكتاب المقدس لا تعني مطلقاً معرفة عقلية، إنما علاقة وخبرة حياتية : «فعرف الإنسان حواء امرأته فحملت وولدت قاين» (تك 4، 1) «كيف يكون لي هذا وأنا لا أعرف رجلاً» تجيب مريم الملاك جبرائيل.
وظيفة الظهورات : هناك شيء من الضرورة للظهورات، حتى ولو كان زمنها محدود جداً.
في الحقيقة حتى ولو كان عمل القيامة لا يمكن إدراكه والوصول إليه، فالموضوع هو السماح لهؤلاء الناس بأن يشهدوا لحدث القيامة. فالموضوع هو إمكانية الاستيعاب بأن المسيح حي ما وراء الموت، وأن القائم في يوم الفصح هو عينه المصلوب في يوم الجمعة العظيمة. فالظهورات تلعب دور الجسر، همزة الوصل، استمرارية الهوية، بين الموت والقيامة للإنسان نفسه: يسوع الناصري.
إذن لا بد ليسوع من أن يظهر ذاته، وأن يسمعونه، ويلمسونه، هو الذي لم يعد تحت سيطرة التاريخ والعالم، يظهر ذاته لرجال ونساء لا يزالون هم في التاريخ. من هنا يأتي هذا الأسلوب الغريب للظهورات كما يرويه لنا الإنجيل .
إنه يظهر لتلاميذه وهذا مصدر مفاجأة ومصدر فرح أيضاً.(لو 24، 41) وهذا الأمر لا يخلو لديهم من الشك: ويسوع يرفع هذا الشك من خلال تكراره لأعمال معروفة من قبلهم مبيناً لهم أن له جسد وليس بشبح. يطلب طعاماً ويأكل أمامهم شيء من السمك المشوي. ليس فقط لديه جسد، بل هو مصلوب يوم الجمعة.
فالقائم من الموت هو نفسه المصلوب، لكنه لا يخضع لعوامل المكان والزمان: موجود حيث يريد وعندما يريد. لا تقول لنا الروايات بأنه كان يدخل ويخرج، بل كان يظهر ويختفي. يظهر والأبواب مغلقة.
لهذه الروايات ناحية أخرى: هناك غموض حول هوية القائم من بين الأموات. من المركبة يعتقد التلاميذ أنه أحد سكان المنطقة الغير معروف، ومريم المجدلية تعتقد أنه البستاني، وتلميذي عمَّاوس لم يعرفاه وهو معهم في الطريق.
لماذا هذه الصعوبة في معرفته؟ لوقا يقول «بأن أعينهم حُجبت عن معرفته». كان لا بد من القراءة المطوّلة للكتب المقدسة مع أعمال تقسيم الخبز في المنزل لكي يصلا إلى معرفته. وعندما عرفاه، أي عندما أصبح إيمانهم حياً من جديد، اختفى مجدداً: الآن يعرفان بأنه حيُّ. فالوقت الآن هو للشهادة. وهذا ما يفعلونه: يذهبون مسرعين لملاقاة الجماعة وإعلان النبأ.
هذا يبين لنا بأن الإيمان بيسوع يتطلب اهتداء، تحول في النظر: لا يمكن معرفته كما هو إلاَّ بعيون الإيمان، ولهذا السبب مريم أمه لم تشعر بالضرورة للذهاب إلى القبر. وهذا الأمر ينطبق حتى على مرحلة ما قبل القيامة: كثيرون راؤوه لكنهم لم يؤمنوا به.
هذا الغموض في الهوية يقول لنا أمراً آخر: أن يظهر بمظهر أحد السكان، بمظهر البستاني، هذا يعني أننا مدعوون لمعرفته في كل إنسان. علينا أن نكتشفه في الآخرين وأن نكتشف الآخرين به.
معنى وأهمية حدث الصعود:
من النادر جداً أن يروي الإنجيلي الرواية نفسها مرتين. ومع ذلك هذا ما نراه لدى الإنجيلي لوقا الذي يروي مرتين حدث الصعود: في نهاية إنجيله وفي بداية كتاب أعمال الرسل ولكن النص أطول بالإضافة إلى تفاصيل أكثر. في الواقع بالنسبة للوقا وحتماً بالنسبة لنا الصعود هو في نفس الوقت نهاية وبداية.
نهاية لأن حياة يسوع البشرية مع تلاميذه في هذا العالم تتوقف مع الصعود. يسوع، القائم من الموت والحي ذهب. فمن الآن فصاعداً لم يعد مرئي كإنسان. حضوره الآن هو في الله. وهذا الحضور لا يمكن رؤيته والوصول إليه إلاَّ بالإيمان. فلا فائدة من النظر إلى السماء « أيها الجليليون، ما لكم قائمين تنظرون إلى السماء؟ ». ولوقا يشدد بأنه على التلاميذ أن يفهموا ذلك.
عليهم أن يفهموا لأن الصعود هو أيضاً بالنسبة للتلاميذ بداية. مع الصعود تبدأ رسالتهم كشهود للمسيح. في الواقع، في روايتي لوقا «يؤسس» يسوع تلاميذه كشهود له. في الإنجيل يشدد لوقا على ما يقوله الكتاب المقدس:« كتب أن المسيح يتألم ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث، وتعلن باسمه التوبة وغفران الخطايا لجميع الأمم، ابتداء من أورشليم. وأنتم شهود على هذه الأمور». في كتاب أعمال الرسل وبنفس المعنى يحدد لوقا أفق رسالة الشهود:« وتكونون لي شهودا في أورشليم وكل اليهودية والسامرة، حتى أقاصي الأرض». وفي كل من الإنجيل وأعمال الرسل يعلن يسوع للتلاميذ بأنه ستُعطى لهم قوة من العلاء، قوة الروح القدس الآتي من الله والتي تجعل منهم شهود للبشرى السارة. لأنه في العنصرة يبدأ فعلياً زمن الكنيسة المرسلة.
هذا يعني أنه بعيداً عن تساؤلات مخيلتنا وفضولنا حول السماء ووضع يسوع في السماء، أو بخصوص تاريخ وطريقة عودته، حدث الصعود أو عيد الصعود مدعو ليكون لكل واحد وواحدة منا عيد دخوله في المسؤولية، مسؤولية الشهادة للمسيح. كل واحد وواحدة منا بطريقته الخاصة وفي مكانه الشخصي. ولكن فعلاً مسؤول، مسؤول بسبب معموديته وميرونه (التثبيت). وقادر بحسب إمكانياته أن يشهد لإيمان وتكون له إمكانية التحدث عنه وبكلماته. في مجتمعنا المتعدد والمتنوع، الشهادة للإيمان ليست حصرية «بأصحاب المهنة» إن صح التعبير. فكل مؤمن عليه أن يلعب دوره: نحن كمربين في التربية المسيحية، الأهل في بيوتهم والعاملين في مهنتهم الخ.
في رواية الصعود بحسب إنجيل لوقا يرفع يسوع يديه ويبارك التلاميذ. وبينما هو يباركهم ينفصل عنهم ويُرفع إلى السماء. كما لو أنه بمباركته لهم يريد أن يخفف من صدمة الانفصال صعوده، لدى التلاميذ. في الواقع البركة هي عطية الله بامتياز. في مجمل الكتاب المقدس، عندما يبارك الله فهو يعطي الحياة. عندما يعطي يسوع ذاته في العشاء الأخير يبدأ بالبركة. بمباركته لتلاميذه قبل أن يتركهم «يولدهم» إن صح التعبير كشهود لحياته. والتلاميذ متغذين وأقوياء بهذه البركة يصبحون قادرين بأن يباركون الله بدورهم.
الجملة الأخيرة من الرواية تقول: بأن التلاميذ« كانوا يلازمون الهيكل يباركون الله». بالنسبة لكل مسيحي الصلاة الافخارستية هي بدون شك نبع وقمة كل بركة. في هذه الصلاة المهمة يبارك الكاهن الله باسم الجميع وبدورنا نشترك في هذه البركة. في النهاية علينا أن لا ننسى بأن البركة تعطي الفرح وبالتالي بالرغم من ذهاب يسوع وبفضل بركته يقول لنا لوقا بأن التلاميذ « رجعوا إلى أورشليم وهم في فرح عظيم». الفرح هو دائماً العلامة بأن الحياة تتقدم وتنمو. فالله الذي يعطي الحياة هو الذي يعطي الفرح أيضاً.
« أيها الجليليون، ما لكم قائمين تنظرون إلى السماء؟ ». في لحظة ذهابه يرسل يسوع التلاميذ مكانه، لكي يتابعوا رسالته هنا على الأرض. فيسوع لم يختفي، بل ينسحب تماماً كما انسحب الله في اليوم السابع للخلق ليستريح ولكي تستمر عملية الخلق. فانسحاب يسوع في النهاية من خلال صعوده إلى السماء، كاستراحة الله وانسحابه في البداية يشكل عملية خلق.إنه عمل حب؛ فالحب ينسحب ليترك المكان للآخر.
وبالتالي عالمنا الأرضي حيث نعيش، ليس بنفي إنما هو المكان حيث يقودنا يسوع فيه ومن خلاله، لنعلن ونهيئ لمجيء ملكوته. فالوصول إلى السماء يعبر من الأرض كما أن الطريق الذي يقودنا إلى الله يعبر من خلال الإنسان. صعود المسيح هو وعد لنا. عودته إلى الآب تستبق وتحضر عودتنا إلى الله وإصلاح كل شيء فيه :« وإذا ذهبت وأعددت لكم مقاما أرجع فآخذكم إلي لتكونوا أنتم أيضا حيث أنا أكون». يسوع بمجيئه إلى الأرض وبنزول إلى الجحيم فتح لنا باب السماء، ليست بالسماء المنفصلة عن الأرض، بل السماء والأرض في اتصال مستمر، متحدتان ومتصالحتان. إنهما جليل الله الموجود كعربون في جسد القائم من بين الأموات والذي سيكون في نهاية الدهر تجمع كل الذين ماتوا وقبروا في المسيح وسيقومون معه أيضاً.
عندما يختم الإنجيلي كتابه عليه أن يوضح للقارئ أين هو الآن من حضور أو من غياب يسوع. ما وراء روايات ظهور القائم من بين الأموات من قبل الشهود وكتّاب الأناجيل، السؤال: هل يمكننا القول بأن رواية الصعود لا تزال مستمرة اليوم؟ هل هذا الحضور للمسيح الحي يمكنه أن يلمسنا اليوم؟ ما الذي يمكننا القيام به عندما نغلق الإنجيل؟ هنا تأتي أهمية الكلمات الأخيرة ليسوع في إنجيل متى الذي لم يروي لنا حدث الصعود كما قلت بل اكتفى بالحفاظ على كلمات يسوع الأخيرة قبل أن يغادر نهائياً تلاميذه وهو الوحيد الذي احتفظ بها.
الكلمات الأخيرة ليسوع تقول لنا:« وهاءنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم ». لا يمكننا أن ننتهي يوما من ممارسة إيماننا لكي نستقبل قوة هذه الكلمات. اللاهوت قد يساعدنا لكي نفهم بأن الله وحده قادر على هذا النوع من الحضور، حضور في كل مؤمن وفي كل لحظة وفي كل مكان. هذا يعني لكونه من الآن فصاعداً في الله وبالتالي في السماء كما نقول فهو قادر على هذا النوع من الحضور. في يسوع لا وجود لأي فصل لا من جهة الله ولا من جهة الإنسانية.
لهذا السبب أيضاً يستطيع يسوع أن يقول لنا « إني أوليت كل سلطان في السماء والأرض». من الصعب القول أكثر من ذلك! في السماء والأرض هذا يعني في كل مكان وإلى الأبد. «وكل سلطان» يعني أن يسوع هو كالله والذي تدعوه اللترجيا «القادر على كل شيء» (παντοκρατορ).
ولكن بين هاتين الكلمتين يعطي يسوع وصية أو أمر وهو بمثابة محور الرواية لدى الإنجيلي متى:« اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم». في كل الأناجيل يكرر يسوع «اذهبوا! اذهب! علي أن أذهب! إني أرسلكم، لنخرج!». هذه الكلمات تعني من جهة بأن يسوع هو إنسان بدوي، ليس له موضع يضع في رأسه، ومن جهة أخرى هذا يعني بأن يسوع مسكون من قوة الله التي لا تُقاوم والتي تدفعه للقاء كل إنسان. فالبشرى السارّة تدفع بالإنسان باتجاه الآخر لأن هناك كثير من الناس لم يصل إليهم حب الله بعد.
إذا كان يسوع من الآن فصاعداً في الله، في السماء كالله، إذا كان معنا كل الأيام حتى نهاية العالم فلكي نكون مسكونين بالقوة نفسها، قوة الرسالة ونعلن لكل إنسان البشرى السارّة. إذا دخلنا في مسيرته ندخل في حضوره. إذا تغذينا من كلماته نحيا من طاقة حبه. من جهة يسوع لا ينقصنا شيء فهو معنا كل الأيام حتى نهاية العالم.
كيف أكون شاهداً للمسيح؟
أولاً أن يكون الإنسان مسيحي هذا يعني أنه يتبع المسيح، يتتلمذ له لكي تصبح، قدر المستطاع، أقواله وتصرفاته وعلاقاته كأقوال وتصرفات وأعمال المسيح نفسه. بهذا المعنى
يحقق المسيحي دعوته على صورة الله كمثاله. وهذه هي أيضاً الدعوة إلى القداسة، بما أن المسيحي مدعو إلى القداسة.
إذا أراد الإنسان الوصول إلى هذا التحقيق فمن المستحيل تحقيقه بإمكانياته الشخصية مهما كانت هذه الإمكانيات. لذلك عليه الاتكال على الروح القدس الموجود في أعماقه فيسلم ذاته له لكي يقوده بحسب إرادة الله. هنا يأتي دور الحياة الروحية والعلاقة الشخصية مع المسيح.
فأن أشهد للمسيح يعني إذن أن أتبنى أقواله وأعماله وتصرفاته. هذا يعني قبل كل شيء أن أقبل الآخر كما هو، باختلافه عني، واحترامي لحريته وبالتالي عدم السعي لفرض أفكاري وقناعاتي عليه، أيّاً كان هذا الآخر، معتقده، انتمائه الديني والاجتماعي والسياسي. والقبول الحقيقي يعود لحبّه كما هو.
حبّي للآخر ولاختلافه أعبّر عنه بشكل خاص من خلال مقدرتي على مسامحته ومغفرته عندما يسيء لي. الحب يعبّر عنه أيضاً بشكل مميّز من خلال الخدمة، المسيح يقول عن نفسه: «إن ابن الانسان لم يأتي ليُخدّم بل ليخدم ويفدي بنفسه جماعة الناس» أي أن اكون إنسان من أجل الآخرين، خادماً لهم . أخيراً يمكن القول بأن الحب يقود بدون شك إلى الموت عن الذات حبّا بالآخر : «ما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبائه». أي أن أقبل بأن أموت عن شيء أحبه، شيء مهم بالنسبة لي، شيء أنا متعلق به وله أهمية كبيرة لي، من أجل أن أكون للآخر.
أن أكون شاهداً للمسيح هذا يعني أن أكون مصغياً للآخر وحاضراً له بمعنى أنني مستعد لمساعدته عندما يكون بحاجة إلي. كل ذلك يعود لموقف من يقبل «بالانسحاب» لكي ينمو الآخر وهذا ما يقوله يوحنا المعمدان عن ذاته أمام المسيح: «عليّ أن أصغر وعليه أن يكبر».
كما هو واضح إذن لكي أكون شاهداً عليَّ تبني أقوال ومواقف المسيح، أي أن أكون حراً. والحرية الحقيقية هي أن أكون حراً من ذاتي، لا أسمح بأن أكون عبداً لأي شيء وخاصة لذاتي «لأناي». لأن (الحب، الخدمة، الموت عن الذات كلها تتطلب الحرية). لكن هذا لا يمكن تحقيقه خارجاً عن عمل الروح القدس الوحيد القادر على أن يحررني. وأفضل وسيلة لكي أدع الروح يعمي فيَّ هي الصلاة والتأمل في الإنجيل وممارسة القداس.
ماذا تعني الآية: أحبب قريبك حبّك لنفسك؟
«لا يمكن أن يكون الإنسان مسيحي
دون أن ينشر نور الحب الذي ينير حياتنا»
الإنجيل يتساءل حول طريقة عيشنا للإيمان. ويسوع يستند على الكتاب المقدس: ليس فقط «أحبب الربّ إلهك من كل قلبك وذهنك ...»، بل أيضاً «أحبب قريبك حبك لنفسك». إنه لجواب دائماً آني، معاصر، لكنه يطرح علينا العديد من التساؤلات.
يمكننا أن نحترم ونساعد ونعتني... ولكن الحب «كواجب»، هذا بالحقيقة يقتل الحبّ. ومع ذلك الإنجيل يقول لنا بأن الحب ليس «موضوع اختيار!». عندما، ليلة آلامه، يغسل يسوع أرجل تلاميذه، فهو بذلك
يُسجّل خدمة الآخرين في قلب الحياة المسيحية، ليس كأمر علينا تنفيذه، إنما كطريق للحبّ «مولع» بالبشر. وهذا الحبّ المُعاش هو العهد الذي أمن يسوع الكنيسة عليه ونبحث لعيشه بمساعدتنا المتبادلة.
البابا بنديكتوس السادس عشر يفتتح منشوره البابوي «الله محبة» بهذه الكلمات: «يسوع جمع، بوصية واحدة، وصية حب الله وحب القريب، الموجودة في كتاب الأحبار: أحبب قريبك حبك لنفسك» (أح 19، 18. مر 12، 29 - 31). كما أحبنا الله أولاً (1 يو 4، 10)، فالحب ليس فقط وصية، إنما جواب لعطاء الحب الذي من خلاله يأتي الله للقائنا» (الفقرة 1). مجمل دينامية الحياة المسيحية مًلّخص بجملتين: «أنت محبوب» «احبب». وكما أن نور الحب ينير حياتنا، فمن المستحيل على المسيحي أن لا ينشره. فأن تحب، هذا يعني أن تصبح منّوراً «عيش الحب بهذه الطريقة يُدخل الله في العالم» (الفقرة 39).
خصوصية مسيحية؟ في أغلب الأحيان نسمع القول: «ليس من الضروري أن يكون الإنسان مسيحي ليقوم بذلك». الآخرون يقوم به أيضاً وأحياناً أفضل. الحمد لله! نظراً للعدد القليل للمسيحيين في العالم المعاصر، يصبح الأمر مصدر قلق إن كانوا هم الوحيدين الذي يقومون بذلك. كل إنسان ممكن أن يكون زائر سجن، وأن يهتم بالأكثر فقراً، وأن يعمل من أجل ضحايا الكوارث الطبيعية أو الحروب. في كل إنسان مخلوق على صورة الله توجد رغبة عميقة بأن يتجه إلى الآخرين وأن يخفف آلامهم، وأن يخرج من ذاته. في كل إنسان، هناك أكثر من الإنسان، كل أعمال الحب والتضامن التي يقوم بها، تّظهر هذا الأمر. ولكن للأسف هذه الشعلة التي لم تتم صيانتها تنطفئ. «حتمية حب القريب سجلها الله في طبيعة الإنسان»، يقول البابا بنديكتوس في منشوره البابوي الفقرة 31. ما يميز المسيحيين هو الاعتراف بهذه الحتمية وتسميتها، والعمل على صيانتها وتحقيقها بشكل جماعي.
هذا يعني الاعتراف بالحضور المحب لله في كل من أعمالي، فيّ وفي من حولي، كنبع، كعطاء. لاحقاً يكمن الموضوع في إظهار اعترافي به من خلال عمل الشكر. أجيب على هذا العطاء من خلال صلاتي لله، وشكري له بعمل عطاء. بهذه الطريقة يصبح ما استقبلته تقدمة. هذه هي «الذبيحة» الحقيقية: إنها تتميز بالحب الذي نضعه فيها وليس بالألم؛ حب يمكنه، على مثال المسيح، الذهاب للعطاء الكلي للذات حتى «الشغف».
الله حاضر فعلياً: في العمل الإنساني يلتقي المسيحيون مع غيرهم ويتشاطرون الحب والاهتمام بالآخرين والتضامن، لكن بالنسبة للمسيحيين بينما يبدو أن الله غائب، هو حقيقة حاضر في هذه الأماكن من العزلة والألم كالشقاء والمرض والسجون. فالقيام بعمل مقدس لا يعني أن نعطي لأعمالنا بعداً غير موجود فيها، بل الاعتراف بهذا الحضور الإلهي والعمل لكي يكون فعّالاً، ونبع فرح وسلام.
هذا البعد يوجد في قلب الإفخارستيا، مكان تجديد لحياتنا، حيث يصبح عملنا «مقدس»، عمل شكر: «في المناولة الإفخارستية يوجد كل من الشعور بأننا محبوبين وحبنا للآخرين. فالإفخارستيا التي لا تُترجم بممارسة عملية للحب هي إفخارستيا مزيفة. بالمقابل، وصية الحب لا تصبح ممكنة إلاّ لأنها ليست فقط متطلب: فالحب لا يمكن أن يكون وصية إلاَّ لأنه مُعطى» (الفقرة 14).
ضمير مرتاح أم رغبة عميقة؟ في يوم من الأيام أثناء زيارة قام بها كاهن لسجن اعتاد على زيارة السجناء فيه، تهجم عليه أحدهم قائلاً: «إنك تأتي لزيارتنا لكي تريح ضميرك». لقد وضعني هذا الكلام أمام سؤال مهم يقول الكاهن: هناك شيء من الصواب في كلامه: «كل ما فعلتم بأحد أخوتي هؤلاء الصغار فلي فعلتموه» يقول المسيح. فالجواب على هذه الدعوة أعطاني بدون شك راحة الضمير. ولكنني أعتقد بصدق أن هناك أكثر من ذلك. لأنني أذهب بالفعل برغبة قوية. فلقاء هؤلاء الأشخاص كان بالنسبة لي مصدر فرح وصداقة. وعندما أسمع «كنت سجينا فزرتموني»، كنت سعيداً بهذه الفرصة التي يعطينا إياها المسيح لنكون سوية، ونتشارك في عمل سلام وفي جسده القائم من بين الأموات. إنني سعيد بلقاء هؤلاء الأشخاص. فعمل القضاء هو أن يحكم، وعملي أن أعيش لحظات مميزة حيث الأشخاص الذين ألتقي بهم لا يمكن معادلتهم مع أعمالهم. إنه مكان انقباض، لكن تهب فيه روح الرجاء.
قبولي كما أنا: تاريخي «المقدس» يقودني أيضاً للإعتراف بأنني محبوب. حب الذات هو في قلب الإيمان المسيحي: فأن يكون الإنسان مسيحي، ألا يعني ذلك أنه يعرف ذاته بأنه محبوب من قبل من يدعوه ابنه؟ فأن أحب ذاتي قد يبدو نرجسياً أو أنانياً. لكن في الواقع، هذا يعني أن أقبل ذاتي كما أنا وليس كما أتمنى أن أكون. وإذا كان عليّ تغير الكثير بداخلي، فنظر الله المحب ورغبته يعطونني الثقة بذاتي وبالآخر. فاكتشاف هذا الحب يحمل ثماراً بطعم المشاركة. أن أحب الآخر كحبي لذاتي، يعني سماع هذه الدعوة «لحب الآخرين كما أنا محبوب!».
لأن الله أحبنا أولاً، يمكننا أن نجيب على حبه، يمكننا الإجابة على حبه كالابن الذي يجيب على أهله، طبيعياً. من لم يختبر استقبال الحب لا يمكنه أن يحب، حتى بوصية. كثر هم الذين تأثروا بشهادة «تيم جينار»، بقوته في الحياة. هذا الطفل الذي لم يعرف بحياته سوى الحقد والعنف، وفجأة يحدث شيء ما بداخله عندما ينظر إليه القاضي بنظرة ثقة. منذ هذه اللحظة يبدأ «تيم» بالاستيقاظ وبالتفكير في مستقبله. واليوم كل عمله يُلخص في حبه للآخرين.
فالحب المُستقبل هو كالنور الذي لا يمكن الاحتفاظ به، تملكه. لا بد من أن يشعّ، كالشمس في حياتنا. إنه يعطينا مظهراً مرتاحاً ونريد أن يستفيد الآخرون منه. فالحياة هي أجمل بكثير عندما نكون محاطين بأناس مبتسمين. فحب القريب، هو أيضاً طريقة لدعوتهم للاستحمام بشمس الله!
في مثل السامري الصالح (لو 10، 29 - 37). على طريق أريحا، طريق عادي جداً، السامري يرى ألم إنسان مجروح. فيصبح قريباً منه، ولا حاجة للبحث في مكان آخر. الحب يُترجم بعمل بسيط أو مكلف، لكن لا يمكننا أن نعرف مسبقاً إلى أين يقودنا.
لنقوم بتمرين بسيط: لنصغي إلى مثل الوزنان (متى 25)، ولنضع بدل كلمة وزنة كلمة حب. فإذا دُفن الحب المعطى لنا، يموت ويختفي. فالذي يبقى بارداً في حبه وصداقته، ولا يعطي من وقته، يفقد ما يملك. فالحب لا وجود له إلاَّ إذا أثمر، إلاّ إذا تتطور.
الحب مُعدي... إنه ينشر الحياة في كل اتجاه، أولاّ حولنا، ثم لدى من لم يختبره حتى الآن. بهذه الطريقة نجد أنفسنا ونحن نقدم وجبات طعام للمحتاجين، أو على طريق مشفى أو سجن. مدفوعين برغبة قوية جداً للقاء الأشخاص الذين «يستحقون التنقل» من أجلهم، حتى ولو لم يتجرؤوا بالإيمان بأنفسهم. رغبة في الذهاب إلى قلب الألم لنحمل لهم عمل سلام، ونظرة حياة. كل شيء يتغير عندما نكتشف بأن أصغر أعمال الحب هو بذرة قيامة، تُنهض وتنمي، وتنقل (لما لا!) الجبال.
لأنني سمعت يوماً كلمة حب أحيتني: «صرت عزيزا في عيني مكرما وأنا قد أحببتك» (أش43، 3)، أريد أن أتشارك بدوري. كلمة تذهب إلى أبعد من مجرد مشاعر، كلمة تحيني بإحيائها لمن أحب.
الضمير الإنساني مكان للحرية
«الضمير هو صوت الله فينا. إنه يدعونا
لنطيع الحتميات العيا التي نحملها فينا»
مقدمة: إن الكنيسة تعطي للضمير أهمية كبرى. فالضمير ليس بغريزة معصومة عن الخطأ نستسلم له بكل ثقة. فمن الضروري إحيائه وإعلامه بشكل مستمر. فما هي بالتحديد حرية الضمير؟
من الخطأ اعتبار الكنيسة على أنها عدوة الضمير الأخلاقي، كما لو أن سلطتها تنتظر من مؤمنيها الخضوع المطلق لتوجيهاتها وتعاليمها، مبعدة بذلك هذا الالتزام الشخصي الذي يُدعى الضمير. هذا الحكم المُسبق على
الكنيسة لا يستطيع أن يقف أمام الإعلان الصارم للمجمع الفاتيكاني الثاني: «الضمير هو أعمق ما في الإنسان من مركز، هو المقدس الذي يلتقي فيه الله وحده ليسمع صوته» (دستور الكنيسة في عالم اليوم رقم 16). عندما نقول بأن الضمير هو المقدس، فهذا يعطيه قيمة مقدسة أي أنه لا يحق لأي مؤمن أن لا يكرّم هذا الهيكل و «الصوت الذي يدوي فيه». في تصريح حديث للجنة المشتركة الكاثوليكية - البروتستانتية في فرنسا نقرأ ما يلي: «ليس من سلطة الكنيسة أن تنوب، في الحياة العملية، عن القرار النهائي للضمائر التي تبقى دائماً السلطة العليا عندما يخص الأمر الالتزام الأخلاقي» (اختيارات أخلاقية واتحاد كنسي، إعلان عام 1992).
ماذا يعني التحدث عن الضمير؟
هذا النوع من المواقف يدهشنا ويجعلنا نتساءل: هل الإنسان مقدس إلى هذه الدرجة لكي نساوي ضميره بالهيكل؟ أليس الصوت الذي نتحدث عنه هو غالباً ضعيف، أو مشوش لدرجة أنه من الصعب تميزه وخاصة اتباعه؟
هذا النوع من التمجيد للضمير يمكنه أن يريح العديد من الأوهام. كلنا نعلم إلى أي حد من السهل الاختباء وراء الضمير لنبرر التصرفات التي يمكن تبريرها إلى حد ما أو لا يمكن تبريرها أبداً. «لدي ضميري الشخصي»، هذه العبارة هي طريقة ذكية للهروب من الانتقادات والتي تجعل من الضمير ليس فقط هيكلاً، بل قلعة حصينة نحتمي بها من كل طعن خارجي.
يمكن للضمير أن يخفي باسمه التلاشي الكامل. كثيرون يعادلونه برغباتهم المباشرة، بنزواتهم، بتوقهم العابر؛ واللجوء إلى الضمير يمكن أن يخفي أهواء الفرد الذي يأخذ رغباته على أنها أمر أخلاقي. هذا النوع من الضمير غير المتماسك، المتروك لمختلف النزوات ولاستبدادها، يعترف بتبعية ذاتية لا تعرف الرقابة. كما يمكننا الشعور أو التوقع إلى أي حد هذا النوع من الضمير العفوي يمكن التلاعب به: يعتقد ذاته حرّ لأنه يتبع رغباته ونزواته، بينما في الواقع هو يؤيد فقط، دون أن يعي، الموضة، والكليشيهات، المحيط، التقليديات بمختلف أشكالها التي تنقلها وسائل الإعلام، والرفاق، والأوامر التي تعتبر «سياسياً صحيحة». نعتقد بأننا مستقلون، ولكن في الواقع نحن مجرد ألعوبة تديرها الطرازات الأخيرة .
أخيراً، على خلاف ما يفكر به الكاتب والفيلسوف «جان جاك روسو»، الضمير ليس بغريزة معصومة عن الخطأ يمكننا الاستسلام له بكل ثقة لأنه يرشدنا بالتأكيد إلى الخير أو الحقيقة؛ الضمير يمكن أن يُخطئ، أن يتردد وأن يكون مشوشاً، أو مُتسلط عليه من قبل القلق والأوهام والتخيلات «الهوامات». وقد يعتبر الشر خيراً والخير شراً.
لا بد من إنارة الضمير: إذن الكنيسة على حق، بالرغم من كل شيء، أن تثق بالضمير وترى فيه تلك القوة التي تدفع الإنسان باستمرار «للقيام بالخير وتفادي الشر». ولكنها تقوم بذلك وهي تعلم جيداً بأن الضمير هو نتيجة عمل مهم على الذات، نتيجة ثقافة وحضارة شخصية، أي نتيجة التربية. فلا بد من أن يكون الإنسان متنبهاً على الضمير، كما أنه لابد للضمير من أن يولد فينا، وبالتالي علنيا صيانة يقظته لأنه سرعان ما ينام أو يتوه.
فللوصول إلى التصرف بحسب الضمير، نحن بحاجة «لبنائه»، فالضمير ليس مُؤَهلة مُعطاة تعمل عفوياً، وليس بعضو يعمل بدون تدرب. علينا أن نحث الضمير وهذا لا يتم إلاَّ من خلال ما زرعه فينا المربون، اجتماعياً، وبه أخرجونا من اللاتمييز الأولي، او من فوضى نزواتنا. وهذه الإثارة تتم أيضاً، بفضل التربية من خلال مواجهة الممنوعات والقواعد التي تبني الضمير. دون هذه البنية دون تبني الممنوعات والقواعد (الوصايا العشر، الوصايا الأخلاقية)، يبقى الضمير غير متماسك، بدون محتوى، تتقاذفه كلّ من الدوافع التي تأتي من أعماق النفس أو من المحيط الاجتماعي.
عملية أيقاظ وإحياء الضمير لا تتم لمرة واحدة. على الضمير أن يتأهل دائماً وإلاَّ سرعان ما يتحول إلى هذه «الروح الجميلة» الذي يعتقد بأنه مُعفى من معرفة ما يحدث في العالم لكي يتصرف. ولكي يستطيع أن يقرر بناءً على معرفة للموضوع، وبالتالي ضميرياً، على الإنسان أن يعطي لذاته إمكانية الاستعلام والتأهيل. فالمسيحي ليس بمسيحي بالولادة العفوية، إنه يصبح واعٍ لمتطلبات إيمانه من خلال التأهيل على الحقيقة المسيحية، وعلى الكتب المقدسة، والعقائد وممارسات الكنيسة (تقاليدها الأخلاقية).
الضمير يضعنا أمام مسؤولياتنا: مؤهل ومبلّغ، الضمير هو تلك السلطة التي تضعنا أمام مسؤولياتنا، وبشكل أوسع أمام من علينا أن نقدم لهم تقريراً بصفتهم أهل، مربين، عمّال، مواطنين، مسيحيين الخ. بعيداً عن أن يكون نرجسي أو يسعى لرفع قيمة نيتنا الشخصية، يخرجنا الضمير من ذاتنا ليجعلنا نكتشف ما ينتظره منّا الآخرون، ونعي واجباتنا اتجاههم. الضمير يحركنا لنقوم بمهامنا الإنسانية، إنه تلك السلطة التي تجعلنا يقظين ويوحد طاقاتنا للمواجهة. يمكننا القول إلى حد ما أن الآخرون، أو متطلبات أدوارنا الاجتماعية هم الذين يجعلوننا نعي ما علينا أن نكون.
إذن الضمير مرتبط بالمسؤولية. فباسمه نلتزم ونأخذ أعمالنا على عاتقنا؛ الضمير يقودنا للقول: ما قمت به، وما أردته وأوقع عليه ، أقبل بأن أقدم تقريراً عنه ، أقبل مسؤوليتي، وبالتالي أخطائي. الإنسان الواعي هو صاحب ضمير يأخذ على عاتقه مسؤولية قراراته ونتائجها ، بينما الضمير الخاطئ يقود إلى إلقاء المسؤولية على الآخر، التملص منها. الفيلسوف «إيمانويل ليفيناس» يقول: «العجز عن الهروب، هذه هي الأنا». يمكننا القول: العجز عن الهروب، الشعور باننا مرتبطين بأعمالنا، هذا هو الضمير.
ولكن هناك حالات لا يمكننا، أو علينا أن لا نتولى القيام بها. فالضمير هو أيضاً ما يدفعنا للقول لا للشر، وأن نعارض الأعمال التي تنتهك قناعاتنا الأكثر حميمية. فقط الضمير المبني، المؤهل يملك القوة اللازمة ليعارض تجارب التقليدية أو السهولة (الخيانة، الاختلاس، ازدواجية العلاقة مع الآخر، عدم الأمانة للكلمة الخ). فالمؤمن أكثر من غيره يجد في ضميره، قوة الله، والوسائل اللازمة ليقول لا للممارسات المشكوك فيها. هذا ما نسميه «الاستنكاف الضميري».
قوة الله فينا: الضمير هيكل الله. حتى ولو بدت هذه العبارة من المجمع الفاتيكاني الثاني قوية، أو متطرفة، فإنها تضعنا أمام أهمية هذا المكان المميز في كل واحد منّا الذي هو الضمير. عندما تتم دراسة كل شيء بشكل جيد من أجل اتخاذ القرار، عندما نكون على علم بموقف الكنيسة والمتطلبات الاجتماعية لقرار سليم، يعود لنا فصل الموضوع والقول: ماذا أفعل، وما عليّ القيام به. هنا شيء من الأمر له إلى حد ما صفة المطلق، مطلق يجعلني أنتصب، ويضعني في السلام حتى ولو تطلب ذلك العبور بالامتحانات. هذا المطلق ليس بإرغام ولا بخضوع، إنما دينامية، حياة، روح يعطي القوة التي تسمح لنكون على مستوى ذاتنا، أو بشكل أدق على مستوى ما يحمله الفرد عالياً. إذن هذا يعني تجاوز الذات. فالمؤمن يحدد هذا العالي على أنه حضور وقوة الله فيه. ولكن الغير المؤمن يمكنه الاستناد على هذه الدينامية التي تدفعه للقيام بأعمال غير مشروطة، أعمال يمكن أن تحتوي على تضحيات، حتى أحياناً التضحية بالذات.
لهذا السبب تعطي الكنيسة هذه الأهمية للضمير: إنه في كلّ إنسان «صوت الله»، الذي يجعله يكتشف عظمة وجمال الطاعة للأوامر الأكثر علواً التي نحملها في داخلنا. فكيف يمكن أن لا نكتشف إلى أي حد نحن سر لأنفسنا، سر يتجاوزنا ويلزمنا باحترام هذا الحضور الله فينا.
التحليل النفسي والاعتراف
هل حلّ التحليل النفسي مكان الاعتراف؟ سؤال يسأله الكثير من المسيحيين اليوم عندما يقارنون بين الاثنين معتقدين بأن العامل المشترك والأساسي هو البوح بما هو في داخل الإنسان. لاشك أن هذا العامل مشترك بينهما لكن هذا لا يكفي للاستنتاج بأن التحليل حلّ مكان سر الاعتراف أو سر المصالحة كما نعرّفه اليوم.
المصالحة مع الله تعبر وتتحقق من
خلال المصالحة مع الذات ومع الآخر. فهدف سر المصالحة ليس الاعتراف بالخطايا مع أهمية هذه الناحية، بقدر ما هو إعادة العلاقة وتصحيحها مع الله على غرار ما عاشه الابن الضالّ. فالتحليل النفسي وسر الاعتراف مختلفين كثيراً دون أن يتناقضا بما أن لكل منهما مجاله الخاص. فما هو هذا الاختلاف وما هي القرابة أو العلاقة بينهما؟
الإنسان كائن لا يمكن تقسيمه إلى أجزاء، لكنه يعيش في مجالات مختلفة ومتعددة: نفسي، اجتماعي، عاطفي، ديني الخ.. فالمجال النفسي يختلف كثيراً عن المجال الروحي مع وجود إمكانية الذهاب والإياب بينهما. فالحالة النفسية للإنسان لها تأثيرها الحتمي والمهم على الحياة الروحية، بالمقابل، الإيمان والحياة الروحية له مفعوله في المجال النفسي. كلنا نعلم أن الحالة النفسية مثلاً لها دور في الشفاء وبالتالي في المعجزة بطريقة ما. لكن للإيمان دور أيضاً في التغلب على العديد من المشاكل النفسية. وبالرغم من ذلك علينا أن نحافظ على القول بانهما مجالين مختلفين وبالتالي على عدم خلطهما ببعض.
التحليل النفسي يهدف إلى مساعدة الإنسان لمعرفة ذاته، معرفة كيفية عمل اللاوعي الذاتي وبالتالي تحريره من رواسب الماضي التي تكبّله في العديد من تصرفاته وردود أفعاله ومواقفه. بمعنى آخر التحليل النفسي يسعى لمصالحة الإنسان مع ذاته بغية الوصول إلى عيش منسجم معها فيختبر الراحة النفسية. فرواسب الماضي وبشكل خاص الكذب في العلاقة، أي عندما تطلب الأم من طفلها أن يكون كما تريده أن يكون، أو تستعمله كتعويض عن نقص ما أو...هذا الكذب وتلك الرواسب تجعل الإنسان يعيش بشيء من الاغتراب عن ذاته، وبهذا المعنى نقول بأن اللاوعي يحدد أغلبية تصرفاتنا فلا نسيطر عليها وهذا ما عبّر عنه القديس بولس بقوله «إنَّ الخير الذي أريده لا أفعله والشر الذي لا أريده فإياه أفعل». فالهدف الأول للتحليل النفسي هو في النهاية الغوص في عمق الذات والتعرف عليها وعلى طريقة عمل اللاوعي الذاتي ممّا يؤدي إلى التغيير. والذين اختبروا التحليل النفسي يتفاجؤون دائماً بعد العديد من التساؤلات عن كيفية التغيير، يتفاجؤون بأن التغيير يتحقق بهم دون أي قرار من قبلهم. فالتغيير هو بكل بساطة نتيجة هذا التقرب من الذات، نتيجة سكن الإنسان لذاته.
إذن ما يهم التحليل النفسي هو ما حدث في ماضي الفرد وترك أثر سلبي ليساعده على التحرر منه. بمعنى آخر التحليل النفسي هو من المجال الذي يقع إلى حد كبير تحت سلطة الإنسان مع العلم أن هناك جزء لا يستهان به (الحقيقة) ليس للإنسان من سيطرة عليه.
هذا باختصار شديد مجال التحليل النفسي، كيفية عمله وهدفه. أمّا المجال الروحي فهو مختلف تماماً.
الاعتراف أو سر المصالحة هو من المجال الروحي. فهذا الأخير يتعلق بالعلاقة مع المطلق أو مع الله. في هذا المجال لاوجود للبحث عن اللاوعي كما هو الحال في المجال النفسي، إنما هناك سعي للتقرب من الله والقيام بأعمال يطلبها الإيمان وتنبع منه. كما أن التصرفات اللاواعية تُنسب إلى الخطيئة، بينما التصرفات الجيدة فهي من الله. في المجال الروحي تأتي القوة إن صح التعبير من النعمة التي يعطيها الله ومن الصلاة؛ بينما في المجال النفسي فالقوة، كما رأينا تأتي من الانسجام مع الذات. فسر الاعتراف أو المصالحة يختلف إذن تماماً عن التحليل النفسي.
سر الاعتراف أو المصالحة لا يهدف إلى البوح بالخطايا حتى ولو كان هذا الأمر موجود ويشكل جزء من الاعتراف. فالاعتراف يسعى إلى الاعتراف بعطايا الله اللامتناهية «الحبّ» وشكره عليها. وأمام هذه العطايا يكتشف الإنسان ويعترف بضعفه وعدم مقدرته على أن يبادل الله بالمثل «الحبّ»، وبالتالي يعترف الإنسان بحاجته لله ذاته لكي يستطيع التغلب على الخطيئة. فالبوح بالمشاكل والصعوبات التي يعيشها الإنسان ضمن إطار التحليل النفسي يهدف ليتم الانسجام مع الذات الذي يُنتج عنه التحرر، ولكن هذا الأمر لا علاقة له بالله، حتى ولو قد يكون له بعض التأثير على هذه العلاقة، يبقى أن هذه الأخيرة لا تدخل في إطار التحليل النفسي. مثلاً في التحليل النفسي لا يحق للمحلَّل الدخول في موضوع الدين، أي في مصداقيته وتحديداً موضوع وجود الله، لكن من الممكن تحليل التصرفات الدينية وكيفية عيش الإنسان لدينه والوصول مثلاً إلى أنه يعيش الدين كوسيلة دفاع ضد القلق والشعور بالذنب.
في الاعتراف لا ندخل في تفاصيل أسباب ضعف الإنسان وعجزه على التغلب على هذا الضعف أمام الخطيئة التي تتكرر دائماً. مثلاً ضمن إطار رياضة روحية لا يحق لنا أن نصغي إلى لاوعي المتريض، إنما إلى أقواله أو خطابه الديني والإيماني إن صح التعبير وبشكل خاص علاقته بالله لكي نميّز لاحقاً حقيقية هذا الإيمان، وإذا كان مطلوباً أن نميّز وجود دعوة كهنوتية أو رهبانية. ولكن في حال وجدنا أن هناك مشكلة نفسية ما من المفضل توقيف الرياضة لفترة بسيطة ومواجهة المشكلة التي تعيق مسيرة المتريض الروحية.
والآن ما هي الأمور المشتركة بين التحليل النفسي والاعتراف؟ علينا القول أن لا وجود لعناصر مشتركة بينهما نظراً لاختلاف المجالين كما حاولنا توضيح ذلك. ولكن يمكننا القول أن هناك تشابه في الخطوات وخاصة بالنتيجة. تقارب في الخطوات: الدخول في الذات والبوح بما يزعجها ويمنعها أن تعيش ذاتها وتقبلها وتحبها. أمّا على صعيد النتيجة فكلا الموضوعين قد يؤديا إلى راحة نفسية وسلام داخلي، وتغير داخلي عميق وانسجام مع الذات. فالبعض قد يقول أن هذا لا يتم في الاعتراف إذ أن الخطيئة تتكرر. علينا أن لا ننسى بأن المهم في الاعتراف لا يكمن في إلغاء الخطيئة بل في إعادة العلاقة مع الله وعيش المصالحة معه بالرغم من الخطيئة. فالمسيحي هو إنسان خاطئ لكن مغفورة له خطاياه.
يبقى السؤال: إذا كانت النتيجة إلى حد ما متقاربة هل هذا يعني أنه لا داعٍ للاعتراف؟ حتما لا! أولاً إذا كان هناك شيء من التقارب على صعيد النتيجة هذا لا يعني أنه يمكن للتحليل أن يحلّ مكان الاعتراف أو بالعكس. وإذا كان هناك تشابه أو تقارب بالنتيجة هذا لا يعني أنها واحدة في الحالتين. وأخيراً كما سبق وقلنا موضوع الاعتراف يخص العلاقة مع الله، بينما التحليل النفسي لا علاقة له بهذا الأمر. إنهما مجالين مختلفين تماماً ولكن كل واحد يمكنه أن يسلط الأضواء على الآخر: فالتحليل يساعد المعترف لكي يفهم أكثر تصرفاته وبالتالي ضعفه أمام الخطيئة، والاعتراف يحرر الإنسان ممّا يعيق مسيرته الروحية والإنسانية أيضاً.
مريم رمز الإنسانية المُتَمَّمة
اعتدنا أن نقول بأن الإنسان خلق على صورة الله كمثاله. وهذا صحيح وموجود في الكتاب المقدس. ولكن المشكلة أننا نعتبر هذا الكلام من الماضي، أي نعتبره على أنه قد تحقق، بينما في الحقيقة، وهذا الأمر يخص مجمل الإيمان المسيحي والحياة الإنسانية، الخلاص مثلاً، خلقنا لكي نصبح بحريتنا واختياراتنا وقراراتنا على صورة الله. فالموضوع هو موضوع حرية واختيار وهذا مهم للغاية.
ماذا يعني هذا الكلام؟ إذا قرأنا الرواية الثانية للخلق نلاحظ بأن عملية الخلق قد تمت
(بالطبع لا نأخذ الأمر بحرفيته لكونه يعبّر عمّا هو أكبر وأشمل منه) على مرحلتين. الأولى عندما جبل الله طيناً من التراب وخلق الإنسان. هذا الإنسان ليس بإنسان بكل معنى الكلمة والذي يصفه القديس بولس بأن الإنسان الترابي «من التراب وإلى التراب تعود». والمرحلة الثانية للخلق والتي تُعتبر عملية الخلق الحقيقية هي عندما يقول النص بأن «الله أخذ هذا الإنسان «الترابي» ونفخ فيه من روحه فصار الإنسان نفساً حيّة».
هذا الكلام مهم للغاية. هذا يعني أن الحياة بشكل عام، والحياة الحيّة بشكل خاص تأتي من الله لأن الله هو مصدر الحياة. ممّا يعني أن دعوتنا الحقيقية هي أن نجعل من أجسادنا «الترابية» أجساداً «روحانية»، أي تعيش من الروح الموجود في أعماقنا. وهذا الأمر، أكرر وأقول، هو موضوع حريتنا وقراراتنا.
دعوتنا إذن، دعوة أجسادنا هي مسيرة، مسيرة الحياة بمجملها، مسيرة عبور من الإنسان «الترابي» إلى الإنسان «الروحاني». ومن هو الإنسان أو الجسد الروحاني سوى جسد القائم من بين الأموات كما يصفه لنا القديس بولس ويصعب على الكثيرين فهمه. الجسد الروحاني هو جسد إنساني لكنه يعيش بشكل مطلق انطلاقا من الروح. وهذا هو معنى ودور وأهمية ظهورات القائم من بين الأموات والتي تقول لنا بأن جسد القائم من بين الموات هو نفسه جسد ما قبل القيامة (بما أن القائم من بين الأموات يطلب من تلاميذه شيئاً يأكله ويبين لهم جروحاته) لكنه في الوقت نفسه جسد مختلف، جسد حوّله الروح لأنه أصبح يعيش كليّة من هذا الروح. وأكرر هذه هي دعوتنا، هذه هي دعوة أجسادنا.
المشكلة لدينا تكمن في النهاية بعشقنا وأشدد على الكلمة، للسحر وللعجائبي ولكل ما هو مبهر. أليست هذه هي «خطيئة حواء» إن صح التعبير التي رأت بأن الثمر المُقدّم لها من الحيّة جميلة المنظر فاستخلصت بأنها طيبة؟ هذا الميل يجعلنا نبني كل علاقاتنا، مع ذاتنا ومع الآخرين ومع الله بطريقة مشوهة، غير صحيحة، مبنية على «الكذب» بدلاً من الحقيقة « أَنا أَتَكَلَّمُ بِما رَأَيتُ عِندَ أَبي وأَنتُم تَعمَلونَ بما سَمِعتُم مِن أَبيكم... أَنتُم أَولادُ أَبيكُم إِبليس تُريدونَ إتمامَ شَهَواتِ أَبيكم. كانَ مُنذُ البَدءِ قَتَّالاً لِلنَّاس ولَم يَثبُتْ على الحَقّ لأَنَّه ليسَ فيه شَيءٌ مِنَ الحقّ. فَإِذا تكَلَّمَ بِالكَذِب تَكَلَّمَ بِما عِندَه لأَنَّه كذَّابٌ وأَبو الكَذِب» (يو 8، 41 - 44).
هذا الميل للسحر وللعجائبي يجعلنا نسطّح الأمور الكثر أهمية وعمقاً وروحانيّة. فنضع الخارجي، بدلا العميق والداخلي، والأقل جوهرية مكان الجوهري. كم وكم من الناس يعبدون مريم أكثر من الله. والكنيسة تقول لنا بأننا لا نعبد إلاَّ الله لكننا نكرم مريم، لكن الواقع لدي الكثيرين هو، مع الأسف، العكس. إلا نقدس حشا وثديي وحليب مريم؟ بينما يجيب يسوع المرأة التي وقفت وقالت له: «طوبى للبطن الذي حملك وللثديين الذين رضعتهما» «بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها». أهمية مريم، عظمة مريم، لا تكمن إن صح التعبير في حشاها وحليبها وثدييها بالرغم من أهميتهم، بقدر ما هي في كونها مصغية مستقبلة ومستسلمة لكلمة الله التي تجسدت فيها. ليست مريم من جسدت كلمة الله فيها، بل هي من سمحت لهذه الكلمة أن تأخذ جسداً فيها «ها أنا أمة الربّ فليكن لي بحسب قولك».
وهذا هو المعنى العميق لعذرية مريم وبتوليتها، في الوقت الذي نشدد فيه على البعد الفيزيولوجي لعذرية مريم. البعد الفيزيولوجي أو الجسدي لعذرية وبتولية مريم ما هو سوى رمز للمعنى الأعمق والجوهري. لكي لا أُفهم خطأ عندما أقول رمزي، هذا لا يعني مطلقاً أنه غير حقيقي، وبهذا المعنى أقول: حتى ولو بُرهن لي بأن «الحبل العذري» للمسيح هو بحت رمزي، حتى ولو قيل لي عن أخوة وأخوات يسوع المذكورين في الإنجيل، لن أتوقف عن الاحتفال، من خلال عذرية مريم، بعذرية العالم، عذرية كل إنسان، بما فيها عذريتي.
إذن المعنى العميق لعذرية وبتولية مريم تكمن في استقبالها المطلق لكمة الله واستسلامها لها «فليكن لي بحسب قولك». إن أردنا توضيح هذا الأمر من خلال صورة تأتي من واقع بعيد في الماضي نقول:
يقول يسوع في إنجيل متى « فهناك خصيان ولدوا من بطون أمهاتهم على هذه الحال، وهناك خصيان خصاهم الناس، وهناك خصيان خصوا أنفسهم من أجل ملكوت السموات. فمن استطاع أن يفهم فليفهم! » فالعذرية والبتولية هي نوع من الخصاء. والخصاء أو المخصي تعني أيضاً « من يحفظ» من «يحفظ غرفة نوم النساء». فبسبب عجز الجسد، السلالة الملكية لا يمكنها أن تتعكر. بسبب ذلك، المخصيّون هم رجال ثقة المملكة وعلى أعلى المستويات.
فهناك إذن علاقة بين عجز الجسد والثقة المعطاة له. عجز الجسد يصبح علامة إيمان وثقة: هذا العجز يشهد بأن السلالة الملكية صافية، لكي يتم احترام الإنجاب من كلمة الملك. فمن أجل الحفاظ على نقاوة السلالة الملكية، بسبب الملكوت، هناك من جعلوا أنفسهم عاجزين: لقد خصوا أنفسهم. فحراستهم لا يمكن أن تنحرف من أجل مصلحة الجسد أو لخدمة إرادتهم الشخصية. إنهم يصبحون حراس العلاقة بين الولادات التي تتم في المملكة، مع الأصل الملكي: هؤلاء الأولاد هم فعلاً أولاد الملك.
يقول يسوع هذه الطريقة في الخصاء، بسبب الملكوت، في خدمة ملك ما، هذه الطريقة في عفة الجسد تنطبق على مملكات العالم، مملكات الجسد: إنها الشرط الذي يسمح باستمرارية الدم الملكي مع متابعة الاهتمام بالذرية. عملية الخصاء هذه، اختيرت من قبل بعض الرجال أو أنهم ولدوا هكذا. إنهم في خدمة جسد ودم الملك، من أجل خدمة الذرية الملكية. إنها يخدمون بحسب رغبة الملك وليس بحسب مزاجهم. فجسد ودم الملك هما الذين يتحدثان في سلالة النساء وليس جسدهم ودمهم ( جسد المخصيين).
ولكن هناك طريقة أخرى يكون الإنسان فيها خصياً، لا لخدمة جسد ودم إنسان آخر، حتى ولو كان ملكاً، إنما في خدمة روح الذي يكشف لنا من هو. فالحقيقة تتكلم فينا ومن خلالنا، إنه روح الله الذي يشهد له من يجعل نفسه مخصياً في سبيل الملكوت. إنه من لا يستعمل قدرة الروح الذي يسكنه من أجل مجده الشخصي. إنه يخصي نفسه ذاتياً بسبب الطاعة للكتب المقدسة وللإيمان بكلمة الأنبياء الذين يعلنون مجيء الله في العالم. إنه يخصي ذاته لا بالجسد وبالتالي عجزه الاختياري يشهد لرغبة الله التي تحيي، يشهد للكلمة التي تولد في اللحم والدم منذ البدء. عذرية الجسد تقول لنا الإتمام، الوحدة مع الروح. في عذرية الجسد تُكشف البنوة للحياة وإتمامها: الله يعطي ذاته في ابنه. فالإنسان العفيف، هذا الخصي هو يوسف، العفيف بحبه لله والذي يجد فرحه في ابن مريم لأن هذا الكشف لم يأته من اللحم والدم، بل من أبو هذا الابن الذي في السموات: «طوبى لك يا سمعان بن يونا، فليس اللحم والدم كشفا لك هذا، بل أبي الذي في السموات» (متى 16، 17). في وعلى هذا اللحم بنيت الكنيسة، ملكوت المسيح، ابن الله الحي: «وأنا أقول لك: أنت صخر وعلى الصخر هذا سأبني كنيستي» (متى 16، 18). فهل نستطيع الذهاب حتى القول أنه بخصي ذاته في اللحم ـ بطاعته حتى الموت، الموت على الصليب ـ يشهد يسوع للروح الذي يولِّد الكنيسة في العالم؟
فالعفة هي من ناحية النقص والذي يسميه التحليل النفسي الخصاء الرمزي، ذاك الخصاء الذي تمارسه الكلمة «الخصاء الرمزي في الأوديب هو الذي يفتح الطفل على الكلمة ويسمح له بأن يصبح إنسان».
عذرية وبتولية مريم:
لا نجد أيّ مديح في الكتاب المقدس للعذرية، ما عدا بعض المقاطع من بولس والتي هي، في الحقيقة، غامضة جداً. أكثر من ذلك، نصوص الكتاب المقدس لا تتحدث عن عزوبية يسوع. وإذا لم تتكلم عنها، فلأن هذا الموضوع لا فائدة له في إعلان بشارة الإنجيل؛ لا يدخل في حساباته. لا يمكن مقارنة هذا الموضوع مثلاً مع موضوع استعمال المال والغنى.
مقابل هذا الصمت، يمكننا التفكير بأن طقس أو عبادة العذرية هو عمل كنسي بحت، ولد من هوام النقاوة «الملائكية». ومع ذلك، من التهور أن نتخيل بأن تمجيد العذرية لا يعني شيئاً آخر سوى نوع من انحراف كهنوتي. والسؤال لماذا كل من متى ولوقا الإنجيلي يتمسكان بأن تكون ولادة يسوع دون أي تدخل ذكوري؟ لماذا تتكلم مقدمة إنجيل يوحنا عن « الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُل بل مِنَ اللهِ وُلِدوا». فلكي لا نقع سريعاً في تمجيد العذرية، متى ولوقا الذين يتكلمون عن «الحبل من الروح القدس»، يقولون في الوقت نفسه أن يسوع هو من سلالة... يوسف. من هنا ينبع السؤال التالي: هل العذرية التي يتحدثون عنها هي عذرية مادية، جسدية؟ وما هي عذرية مريم؟ وبشكل أعمّ ما هي العذرية بكل بساطة؟ ولماذا العذرية، بنظر الكتاب المقدس ليست بعذرية – فضيلة، ممجّدة بحد ذاتها، إنما ترتبط دائماً بالولادة والخصوبة؟
العذرية ترسلنا إلى لحظة الخلق:
قبل أن أبداً بكتابة هذه المقالة كانت هذه الصفحة بيضاء، عذراء إن صح التعبير. كالثلج الذي يتساقط، كالشاطئ الذي لم يدوسه أحد بعد. عذراء تعني جديد. فهل هي فعلياً المجد، الكمال؟ حتما لا! لأن الصفحة البيضاء لا تلعب دورها كصفحة ألاَّ، إن صح التعبير، إذا فقدت عذريتها. جمال عذريتها لا يأتي إلاَّ من استعدادها للكتابة عليها. إنها مُثقلة بكل الإمكانيات. فالكلمة المكتوبة عليها هي التي تخصبها وتتمّمها. هذه الاستعارة قد تساعدنا على فهم، ولو قليلاً، العلاقة التي يبنيها الكتاب المقدس، بخصوص مريم، بين العذرية والخصوبة. أن تكون المرأة عذراء، فهذا لا شيء؛ أن تكون المرأة أم، فهذا أمر كبير؛ ولكن أن تكون عذراء وأم، هذا تباين لا يطاق وفي الوقت نفسه هو الحقيقة بكاملها. لكي نستطيع استيعاب الأمر، علينا أن نعود، كالمعتاد، إلى البدء.
العذرية ترسلنا في الواقع إلى لحظة الخلق، إلى اللحظة حيث كالصفحة البيضاء، لم يكن العالم فيها بشيء، حيث الإنسان لم يكن بشيء، حيث أنا لست شيئاً سوى إمكانية صافية لحرية الله. ففي اللحظة التي أبتدئ فيها بالاستقبال في داخلي هذا الآخر الذي منه يبدأ وجودي، ألا أكون في هذه الحالة متزوج بالعهد؟ يبدو أن الصفحة لم تعد بيضاء، عذراء بمجرد أن كُتبت الكلمة الأولى. هنا يكمن السر: كلمة الله، الوحيدة التي تولد بالفعل، لا تفسد عذريتي لأنها تبنيني في كياني الحقيقي. فبعد الكلمة الأولى التي بعيداً عن أن تحتل كلية المكان، بمسحته، تأتي كلمة أُخرى، والتي عليها هي أيضاً أن تجدني بتول، جديد من أجل مغامرة جديدة. جاهز للانطلاق. في الحقيقة هذه الكلمة هي التي، بمجيئها إليّ تجعلني بتولاً أو عذراء، وتخلق مساحة العذرية حيث يمكنها أن تتجذر.
برأي الفيزيولوجيا لا علاقة لها إن صح التعبير بالبتولية. فالبتولية التي نتحدث عنها ليست بأمر بيولوجي. إنها من مجال الكلمة الخلاّقة التي تدخل في الجسد كمن يدخل إلى منزله؛ كلمة لا تُعنّف؛ لا تغتصب إن صح التعبير: إنها عذرية من أجل استقبال الحياة الأبدية. عذرية مصنوعة باستمرار من قبل الحياة الأبدية التي بدورها تخلق شروط استقبالها. هنا يمكننا القيام بمقارنة: النهر يخلق القاع اللازم ليستطيع السيلان. هذا الأمر يفترض بعض الهدم أو الخراب: محو كل ما يحتل المكان. كلمة محو يمكنها أن تُستخدم كاستعارة للعذرية.
ماذا يعني كلّ ذلك؟ ما تقوله الكنيسة عن عذرية مريم، يخصنا نحن أيضاً. هذه المساحة العذراء التي فينا حيث يمكن للكلمة أن تأتي دائماً وتتجذر، هذه المساحة حاضرة، مستعدة، ما وراء أعمالنا الشائنة. ألا نقول في الكنيسة أن مغفرة الله تخلقنا من جديد؟ ألا نعلم أن ما من شيء مقفل تماماً؟ وأن طباعة الصفحة لا تنتهي؟ هذا الأمر يلتحق بدون شك بما نسميه بالرجاء والذي ليس سوى الانفتاح المطلق على الآتي. الذهاب والذهاب من جديد، البداية فوراً والبداية الثانية. اختيار الوجود. قول «ليكن لي بحسب قولك». إذن حتى ولو بُرهن لي بأن «الحبل العذري» للمسيح هو بحت رمزي، حتى ولو قيل لي عن أخوة وأخوات يسوع المذكورين في الإنجيل، لن أتوقف عن الاحتفال، من خلال عذرية مريم، بعذرية العالم، عذرية كل إنسان، بما فيها عذريتي.
مريم رمز الإنسانية:
على عكس متى ولوقا، مرقس ويوحنا وبولس لا يتحدثون عن عذرية مريم. بالطبع هذا لا يبرهن على شيء، سوى أنه يمكن إعلان الإنجيل دون ذكر عذرية مريم. بالمقابل، كنيسة القرون الأولى أعطت أهمية كبيرة لنصوص البشارة في إنجيل متى ولوقا. قرأتها على أنها وثائق تاريخية. بدون شك لأنها كانت الوسيلة الوحيدة لإعلان البتولية الروحية، أو اللاهوتية، التي تحدثنا عنها هنا. شخصياً لا أرفض الإيمان بالعذرية الجسدية لمريم، ولكن بالحقيقة، ليس لهذا الأمر أهمية كبيرة في إيماني. في كل الأحوال، المسيح ولد من الله. إنه كليّة عطاء من الله وحضور الله. الله معنا، مهما كانت الوساطات المشتركة في هذا المجيء إلى العالم.
وكما حاولت أن أشرحه، مجد عذرية مريم هو مجدنا، منذ اللحظة التي نجدد فيها من أنفسنا لاستقبال الكلمة. ومع ذلك، ما نعيشه بشكل عام وبطريقة غير كاملة، عاشته مريم ورمزت بشكل تام. إنها الوحيدة التي يمكن القول فيها: «طوبى لك لأنك آمنتِ»، «طوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها» (لو 11، 28). الكتاب المقدس يقدم مريم على أنها رمز الإنسانية المستقبلة لله. وبالتالي رمز شعب العهد القديم حارس الكلمة، وللكنيسة، التي أرادها المسيح أن يقدمها لنفسه (كما تُقدم الخطيبة) « لا دَنَسَ فيها ولا تَغَضُّنَ ولا ما أَشْبهَ ذلِك، بل مُقدَّسةٌ بِلا عَيب» (أف 5، 22 - 28).
الله هو المصدر الوحيد لكل ولادة
كما نرى، موضوع عذرية مريم لا يمكن عزله. إنه يدخل ضمن سياق أوسع بكثير: إنه سياق اللقاء المتجدد دائماً بين الله والبشر. لقاء خلاّق، كما في اليوم الأول. خلاّق باستمرار من خلال الولادة التي يحققها (يو 3). في الواقع كل تطبيقات التقليد الكاثوليكي عن مريم تلتقي: حبل عذري ليسوع، أمومة إلهية، حبل بلا دنس (مريم غير متواطئة مع الخطيئة)،انتقال مريم. كل ذلك يعني أن الله هو الأصل الوحيد لكل كائن، لكل ما هو حسن. لا شيء يسبقه، ولا شيء يشرح عمل الله، الذي يبقى عمل حبّ. عذرية مريم تقول بأن الله هو المصد الوحيد لكل ولادة. ما الذي يولّده الله؟ نفسه. الله بشكل إنسان والإنسان بشكل الله. فإذا كان المسيح هو أنسنة الإلهي، فهو أيضاً تأليه الإنساني. مدعوين «للمشاركة في الطبيعة الإلهية» (2 بط 1، 4)، وأن نولد من الماء والروح، علينا أن نترك أنفسنا نُخلق أو أن يُعاد خلقنا. هذا هو التمرين الأهم لحريتنا. هذه هي عذرية من « الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُل بل مِنَ اللهِ وُلِدوا» (يو 1، 14). ما يجعل مريم دائماً عذراء، هو قبولها بأن تكون أماً. وكلمة «ليكن لي بحسب قولك» أنجبت المسيح، لكنها أنجبت أيضاً ذاتها لحقيقتها.
هل حوار الأديان ممكن؟
ملاحظة: من المهم قراءة المقال حول الإصغاء والحوار في حقل النفسي التربوي.
لكي نجيب على هذا السؤال، من المهم أن نشير أولاً أن هذ «الفريضة أو هذا الإلزام» ليس بأمر آتٍ من العلى. لكن الإنسان المسيحي ملزم بالحوار كما هو ملزم بالتنفس. هذا الاقتراح، مهما كان مبالغاً به ظاهرياً، يبقى أنه مؤسَّس على أسس لاهوتية وانتروبولجية متينة.
1- الله حاضر في شخص وذلك منذ لحظة وجوده، إذن قبل أن ينتسب إلى دين أو إلى آخر. وهذا الإله
(بحسب الإيمان المسيحي) هو ثالوث يدعو كل واحد للمشاركة في حياته. فكل شخص هو إذن مبني بهذا الحضور: لا يمكنه أن يصبح ملء ذاته خارجاً عن الله.
2- كل شخص يقوم، بطريقة أو بأُخرى، بخبرة هذا الحضور. لأنه لا يمكن تخيّل وجود إنسان لم يقم بأية خبرة عن حقيقته الأساسية.
3- صيرورة الإنسان تتعلق بأهليته للتعبير (سواء باللغة أو بأي نشاط رمزي) عن خبراته العميقة والمشاركة بها. شخصين متحابين، مثلاً، لكن لا يجدان الوسائل للتعبير عن حبهما، فهما معرضين ليروا حبهم يضمحل. هذا المبدأ ينطبق على كل الخبرات الإنسانية، بما فيها الخبرة المبهمة في أغلب الأحيان، لحضور الله الذي يدعو للمشاركة في حياته.
4- إذا كان كل ذلك صحيحاً، يمكننا القول بأن كل دين هو أولاً ثمر الجهد الذي يبذله البشر في كل العصور وكل الثقافات لعبّروا، في المجتمع، عن خبرتهم عن الله. هذه الأديان تصبح هكذا، للذين ينظرون إليها كمسيحيين ويقومون بالتميز الضروري، إلى حد ما نوافذ تنفتح على سر الله. «من كان له أُذنان للسمع»، كل دين يقول شيئاً عن سر الله وسر الإنسان.
5- بنظر المسيحي، المسيحية ليست مجرد نافذة إضافية تنفتح على سر الله. فالمسيحي يعتقد بأن المسيح، هو ملء الوحي الإلهي، العطاء الكلي والنهائي الذي يقدمه الله من ذاته للإنسان. هذا الجزم قد يعطي الانطباع بأنّه، بالرغم من كل ما قلناه سابقاً، المسيحي، في النهاية، ليس له أية مصلحة ليبذل جهداً ليفهم ما الذي يُحي البشر في الديانات الأُخرى. ولكن علينا أن لا ننسى أبداً بأن المسيح هو شخص. إنه كلمة الله، وهو، كالآب والروح القدس، حاضر في كل إنسان منذ الأزل. فعندما تحدثنا الأديان الأُخرى عن حضور الله في الإنسان، فهي إذن، تتحدث أيضاً عن شخص المسيح، عن سر كلمة الله التي لا يمكن غوره كليّة (لهذا السبب يتكلم المجمع الفاتيكاني الثاني عن «بذار الكلمة» عندما يتحدث عن الأديان الغير مسيحية. أنظر أيضاً أعمال الرسل الفصين 10 – 11 لقاء بطرس وقائد المئة الوثني قرنيليوس).
عندما نتحدث عن شهادة المسيحي لإيمانه وللمسيح، اعتدنا القول بأنه من خلال شهادته ينقل المسيح للآخرين. في الحقيقة هذا المفهوم للشهادة ناقص. لأنه الشهادة الحقيقية تعني أن أشهد أمام الآخر لما هو موجود في أعماقه لكنه لم يكتشف بعد. برأي هذا المفهوم هو أساسي ومهم للغاية في حوار الأديان.
في الختام، الحوار يسمح للمسيحيين بالذهاب دائماً إلى أبعد لكي يسبروا غور عمق سر المسيح. إنه أيضاً إعلان لما هو في قلب الإيمان المسيحي. فالإصغاء والنظر الإيجابي للمسيحي الذي يلتزم في الحوار يُنشد مخطط الله من أجل كل إنسان، لأن الإنسان لا يصبح ملء ذاته إلاّ في الحوار، مع الآخرين ومع الله.
هل أراد الله التعددية الدينيّة؟
إنه لتنوع مزعج. في عالم حيث التبادل بين البشر يتضاعف، يجد المسيحيون أنفسهم في مواجهة مع تعددية دينية، ومعتقدات تزعزع استقرارهم. فهل هذه التعددية هي جزء من مخطط الله؟ هل تضع مصداقية الطريق المسيحي موضع تساؤل؟
لماذا تعددية الأديان؟ السؤال ليس بتافه، خصوصاً عندما نعرف المواجهات والاشتباكات المتبادلة التي عرفتها الأديان خلال التاريخ. وكل يوم نرى المشاكل المطروحة بسبب التواجد المشترك
لهذه الأديان المختلفة في البلد نفسه والتي لديها طقوس وأعياد وممارسات مختلفة وحتى القيم الأساسية أيضاً.
المسيحي مقتنع بأن الله يريد خلاص الجميع ومؤمن بأن المسيح وكنيسته يقدمون الطريق الصحيح لخلاص البشرية، وبالتالي لا يمكنه إلاَّ أن يتساءل حول معنى وجود أعداد مختلفة من الأديان الغير مسيحية. نحن لا نتحدث هنا عن الانقسام بين المسيحيين، الذي يشكل مشكلة مختلفة، حتى ولو كان لها علاقة مع الأولى. ما المعنى إذن من وجود هذه التعددية الدينية؟ كيف يجب علينا اعتبار الأديان الغير مسيحية؟ الموضوع ليس مجرد موقف أخوي أو محبة علينا تبنيه أمام كل الأديان، وأمام كل كائن بشري. الموضوع هو التفكير حول معنى وقيمة هذه الأديان.
الله يأتي ليبحث عن الإنسان: لننطلق من معطية أساسية. الإنسان مسكون برغبة بالمطلق لا مفرّ منها. الرغبة في المطلق، هي الرغبة في كل شيء ومنذ البدء، في حياة كاملة وسعيدة كليّة. والأديان تحت أشكال مختلفة كثيراً، هي تعبير الإنسان الذي يبحث عن الله.
ولكن الإيمان المسيحي يقول لنا أولاّ وقبل كل شيء بأن الله لا يكتفي بأن يترك الإنسان يبحث عنه. إنه، منذ بداية العالم، يبحث عن الإنسان: « آدم أين أنت؟»، يقول الله، بعد سقوط الإنسان في الخطيئة (تك 3، 9). ويأتي ليبحث عنّا حتى صليب ابنه.
الله يريد أن يعطي ذاته للإنسان ويشركه في حياته الشخصية. وهذا ما يُسمّى بالوحي. الله يكشف عن ذاته للإنسان بطريقتين: أولاً من خلال جمال الكون، ثم بتدخله في تاريخنا. ولكن، في الحالتين، الشهادة الخارجية تلتحق «بسر» الشهادة الداخلية لوعينا الذي عليه أن يجيب ويتحد بهذه الشهادة الخارجية.
المزامير تحتفل بالوحي الكوني: « السَّمَواتُ تُحدِّثُ بِمَجْدِ الله والجَلَدُ يُخبِرُ بِمَا صَنَعَت يَداه.النَّهارُ لِلنَّهارِ يُعلِنُ أَمرَه واللَّيلُ لِلَّيل يُذيعُ خبَرَه» (مز 19، 2 - 3). العلماء اليوم وجدوا مجدداً المعنى: أحياناً، يقعون في تجربة تسمية الله في نهاية «تلسكوبهم». هذا الوحي شامل: إنه مُعطى لكل البشر. إنه أساس العديد من الديانات، خاصة الديانات الوثنية أو الديانات القديمة للهنود الحمر. هذه الديانات، المختلفة بقدر اختلاف البشر، تتلاقى في الاعتراف بوجود غيرية أو قدرة إله كوني. فمن المسموح القول بأنه، من خلال كشف عظمته في الكون، الله يبحث عن الإنسان، حتى ولو أنه يقوم بذلك بطريقة لا تزال مغلّفة.
الوحي في التاريخ: الطريقة الثانية التي يستعملها الله ليكشف عن ذاته ويعطيها للإنسان هي تدخله في تاريخنا. فالكلمة ستكون أكثر غنى بكثير من الطريقة السابقة. ولكن، علينا الانتباه: الوحي التاريخي لا يمكنه أن يكون مباشرة شامل كالوحي الكوني. فإذا كان الله يريد أن يحترم تاريخنا، لا يمكنه أن يتوجه مباشرة للجميع، بما أن البشر منتشرين في المكان والزمان. لا يمكنه القيام بذلك إلاَّ بتوجهه لبعض البشر الخاصّين الذين سيسجلون تدريجياً كلمته في تاريخهم. فالله لا يمكنه التحدث إلى البشر إلاَّ بطريقة إنسانية. فلكي تصل كلمته إلينا بصفتها حقيقة إلهية، عليها أن تجعل من ذاتها كلمة إنسانية بالحقيقة «على العام أن يصبح أولاً خاص؛ أو العام لا يضل إلى الخاص إلاَّ عن طريق الخاص».
في ثقافة حقبة تاريخية وشعب محدد: كيف يمكن لهذا الأمر أن يتم؟ نراه لدى الأنبياء. هؤلاء الناس اختبروا في أعماقهم، وفي تجاوز وعيهم، خبرة حضور الله ونقل رسالة كتبوها لاحقاً بكلمات إنسانية. هكذا كان الأنبياء قادرين أن يختموا إعلاناتهم بتعبير قوي «هكذا تكلّم ربّ القوات»، في نهاية خطاب هو خطابهم كليّة. فذروة الوحي التاريخي، ذروة هذا اللقاء بين إلهام إلهي وكلمة إنسانية، توجد في يسوع الإنسان الذي تكلّم لغة البشر، هو كلمة الآب الأبدية، الذي صار جسداً، أي مؤلف لكلمات إنسانية. فالوعي الإلهي والإنساني ليسوع كان المكان بامتياز للوحي التاريخي لله إلى البشر. هذا يشرح لنا اختيار شعب العهد القديم. فهو ليس باختيار عشوائي لشعب على حساب الآخرين، إنه اختيار شعب من أجل الآخرين. اختيار تربوي يعبر من البعض من أجل فائدة أو مصلحة الجميع، بنفس الطريقة نفهم احتيار الرسل ومن بعدهم بولس الخ. هذا الشعب كان موضوع تربية إلهية طهّرت ببطء معناها الديني لمختلف أشكال خبثه، وكشفت له إله التوحيد النقي بشكل خاصّ، وكبّره على الصعيد الأخلاقي وهيأه ليسمح له بولادة ابن الله. كذلك، إذا أراد الله أن يصبح شخصاً إنسانياً بين البشر، عليه أن يأخذ على عاتقه كليّة الوضع الإنساني، أي أن يقبل بأن ينغمر في التسلسل الطويل للأجيال وأن يتضامن مع ثقافة عصر وشعب خاصّين (انظر سلالة يسوع في متى 1، 1 - 17). كلمته تنتقل من إنسان لآخر، انطلاقاً من شهادة الرسل، بحسب القوانين الطبيعية للاتصالات الإنسانية. هذا هو معنى رسالة الكنيسة: أن تُعلن وتحمل لكل الناس وحي خلاص يأتي من الله وهو للجميع.
الخلاص مُقدّم للجميع: ولكن ماذا نقول عن الخلاص للجميع، من لا يعرفون المسيحية والذين عاشوا قبل مجيء يسوع أو يعيشوا متبعين أديان أخرى؟ هل هم خارج مخطط الله؟ ماذا يمكننا أن نفكر بالقول الفاضح برأينا: «خارج الكنيسة لاوجود للخلاص»؟ المجمع الفاتيكاني الثاني، في دستوره حول الأديان الغير مسيحية، دشّنَ موقفاً جديداً كليّة بخصوصهم، ساعياً ليحمل حكماً إيجابيا على كل القيم الإنسانية والدينية التي تعلنها، معترفاً في الوقت نفسه بحدودها. فحوار الأديان أصبح جوهرياً في حياة الكنيسة، نظراً للعولمة المتنامية، خصوصاً مع اليهودية، الإسلام، والبوذية والأديان الأخرى في أسيا. هذا الحوار لا يزال أمامنا، لأنه لا يطرح علينا فقط السؤال: «لماذا كنيسة واحدة من أجل جميع البشر؟»، إنما أيضاً «مسيح واحد ووسيط واحد بين الله والبشر؟».
يمكننا القول بأن كل إنسان، أيّاً كانت علاقته التاريخية مع يسوع المسيح، قبل مجيئه أو بعده، ومهما كانت معرفته أو جهله عن الكنيسة والرسالة المسيحية، يبقى أمام عرض الخلاص الذي أتى يسوع ليعلنه علناً للبشرية التي ينتمي إليها وبالتالي يتوجه إليه.
إن كان هناك عرض للخلاص، فهناك أيضاً على الأقلّ جزئياً وحي. كل إنسان مدعو ليحيا جواب إيمان أمام هذا الجزء من الوحي المقدم له، أكان في عمق وعيه، أو بوساطة دينه، إذا كان حامل لبعض العناصر الحقيقية من الوحي. هذا يعني أن مختلف الأديان ممكن أن تُدعى «طرق» نحو الخلاص، حتى ولو كان الطريق الوحيد والنهائي للخلاص هو الطريق الذي اتخذه الله بإرساله لنا يسوع المسيح، هو «الطريق والحق والحياة» (يو 14، 6).
موعد مع حبّ القريب: يمكننا قول ذلك على ضوء الوحي المُستقبل من يسوع، لأن «الله يريد خلاص جميع الناس وأن يبلغوا إلى معرفة الحق» (1 تيم 2، 4). ولكن جميعهم مخلّصون بعطاء المسيح، حتى ولو أننا لا نرى العلاقة المرئية بين هذه الأديان والمسيحية. وكما أن المسيحيين مُخلّصون ومُبرّرون بنعمة المسيح نظراً لإيمانهم، كذلك أيضاً الغير مسيحيين مخلّصون أيضاً بالنعمة عينها ونظراً لإيمانهم الضمني في المسيح الذي يعبّرون عنه بطريقة حياتهم. يمكننا القول بأن إنسان ما يحب قريبه كنفسه، أهلاً لتضحيات كبيرة من أجل الآخرين، قد اعترف ضمنياً بالمسيح الذي يقول لنا: « الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه » (متى 25، 40). هذه التأكيدات لا تعفي شيئاً من الواجب الكبير للكنيسة لكي تقوم بكل ما يعود لسلطتها لتعلن المسيح إلى كل البشر.
أين كان الله أثناء التسونامي؟
من هو الله؟ كل كارثة تحمل معها الكثير من الشكوك: ألم يكن الله قادر على منع حدوثها؟ كيف يمكن الاستمرار بالإيمان بحضور فعّال لله الذي نقول عنه بأنه «حبّ» وقادر على كل شيء؟ دعونا نسأل الكتاب المقدس في مواجهتنا لهذا السؤال.
«الله لم يصنع الموت؛ لا يُسرّ بهلاك الأحياء؛ فإنه خلق كل شيء
لكي يكون». بهذه الطريقة يعبّر سفر الحكمة «1، 13 - 14»، والعهد الجديد يعطي لهذا الحدس كلّ معناه. فالمسيح الذي فيه يكشف الله عن نفسه، يقدم ذاته كشافي، عدو لما يسيء للإنسان، شافياً كل مرض وكل إعاقة. وبولس الرسول يقول الأمر عينه بكلمات أُخرى: يسوع رُفع فوق كل رئاسة وسلطان وقوة تعاكسنا «وآخر عدوّ يبيده هو الموت» (1 قور 15، 24 - 25).
حتى أن بولس يستطيع أن يرتل في نهاية الفصل 15: «قد ابتلع النصر الموت، فأين يا موت نصرك؟ وأين يا موت شوكتك؟». سوف أتكلم عن هذا الانتصار على الموت. ولنأخذ الآن بعين الاعتبار هذا اليقين الذي يوجه كل صورة نكونها عن الله: لا علاقة لله في آلامنا وموتنا. إنه بريء من كل ما يسيء إلينا؛ ليس فقط بريء، بل عدو لشقائنا كما تبين لنا أعمال المسيح نفسها.
فلماذا إذن الرجوع عن هذه القناعة، التي سبق أن شُرحت مراراً وتكراراً في مختلف المجالات المسيحية؟ لأن الحوادث التي تواكب حياتنا يمكنها أن تُعكّر يقيننا وتدعونا لتجديد أفكارنا. فهكذا أمام كارثة «تسونامي» التي ضربت الجنوب الشرقي الأسيوي في 26 كانون الأول من عام 2004 يظهر السؤال: كيف يمكن أن نؤمن بحضور فعّال لله الذي نقول عنه أنه حبّ وقادر على كلّ شيء؟
مصائبنا وكوارثنا ليست بعقاب ولا بامتحان.
السؤال ليس بجديد: إنه يلازم عدد كبير من المزامير؛ نراه طوال سفر أيوب؛ ويأخذ تعابير جديدة في سفر الجامعة. ومع ذلك فالكتاب لا يلخص أبداً إلى القول بأن: «لا وجود إذن لله»، يبقى الكتاب المقدس أمام السؤال، أمام السر؛ وخلاصة أيوب هي دعوة إلى عدم البحث عن الفهم. على العكس كان يجب انتظار المسيح من أجل ذلك؛ والجواب الذي سيعطيه بعطائه لذاته صعب القبول بأنه دخل في تفكيرنا.
لماذا الألم والموت؟ سوف أكتفي بتوضحين تقليديين: الألم هو عقاب والألم هو امتحان. هذا الموقف له علاقة بطريقة ما مع الكتاب المقدس، ممّا يبين بأن أسفار العهد القديم تشكل نوعاً من المراحل مؤقته، على مسيرة طويلة باتجاه الحقيقة، طريق يأخذ بعين الاعتبار ويجعلنا نتجاوز كل أوهامنا بخصوص من نسميه الله. وكما هو مفترض، الكلمة الأخيرة لن تعطى إلاَّ في النهاية، عندما يكون «الحمل المذبوح» (المسيح في فصحه) هو الوحيد القادر على أن يكسر أختام الكتاب السبعة لكي يكشف المعنى (رؤ 5).
إنسان الكتاب المقدس فكَّر أولاً بأن مصائبه وشقائه هم عقاب على أخطائه، من أجل عدالة إلهية تتطلب أن يتم رضاها. سفر أيوب يتمرد أمام هذه اللغة التقليدية القاسية: إنه إنسان بار، بريء (أيوب)، يعرف مصير الخاطئين. فهذا الألم ليس بعقاب؛ وبخصوص هذا الموضوع يعطي الله لأيوب الحق (42، 7). ومع ذلك يبقى السر على حاله. على هذا الملف، يمكننا إضافة نص لوقا 13، 1 – 5 ، حيث يشرح يسوع بأن الجليليين الذين قتلهم بيلاطس لم يكونوا أكثر خطيئة من الآخرين، وأن من حطّمهم سقوط برج سلوان لم يكونوا أكثر خطيئة من سكان أورشليم.
هذا النص مهم، لأننا نجد فيه شقاء ومصائب أتوا من حرية الإنسان (قرار بيلاطس) أو من الظروف الغير متوقعة (سقوط البرج)، مخيمات الموت و المد العالي. في إنجيل يوحنا 9، 1 – 3 حيث عمى المولود أعمى لا علاقة له بخطيئة ارتكبها لا هو ولا أهله. إذن لا وجود لانتقام إلهي. إذا كان الأمر كذلك فهل تكون مصائبنا وشقاؤنا امتحان من الله؟ هذا الموضوع نراه حتى في العهد الجديد. يجعلنا الله نتألم ليرى مصداقية إيماننا، ليعرف ما هو مخبأ في أعماقنا. باختصار، يمكننا التوقف على أمرين. أولاً، إذا كان هناك من امتحان، فهو لا يصل إلى درجة الموت؛ إنه تربوي وعليه أن يعزّز النمو. ثم، ما يمتحن الإنسان هو العطاء المُستقبل أكثر منه الشقاء. فمثلاً المنّ في سفر الخروج الفصل 16، مُقدم «كخبز الامتحان». يمكننا القول بأن كل ما يحصل لنا يمتحننا، يسمح لنا بأن نزن إيماننا، ورجاءنا، وحبنا، ولكن هذا لا يعني أبداً أن هذه الامتحانات هي من الله. هذه التوضيحات التي تستند على صورتنا الخيالية عن الله التي تدعلنا نقول بأن كل ما يحدث في حياتنا هو من الله، الله الذي يصنع التاريخ. لن أعود على انتقاد هذه الفكرة الطفولية عن «العناية». يبقى السؤال هنا أيضاً على حاله: من أين تأتي الشرور التي نعاني منها؟
عالم من الصراعات: الكتاب المقدس يقيم غالباً علاقة ضيقة بين الشقاء، الكوارث والمصائب وبين الخطيئة. فهل سنعود الآن مجدداً إلى أسطورة العقاب؟ ليس بالضرورة، بالرغم من أن نصوصنا تقترب أحياناً من هذا المفهوم الغير محتمل. لكي نفهم العلاقة بين الشقاء والخطيئة، علينا أن نقرأ الفصول الثلاثة من سفر التكوين. ما يخرج من يدي الله هو عالم مسالم. كل الناس نباتيين: لا حاجة لهم للقتل لكي يستمروا في الحياة (الفصل الأول). الحيوانات تخضع للإنسان بما أنه هو من يسميها. الطبيعة خيّرة؛ وتعطي ثمارها بدون مشكلة. ثم تأتي الخطيئة، المُقدمّة على أنها شك، حذر أمام القدرة التي خلقتنا. وبالتالي ندخل في عالم الصراع. دون الدخول بالتفاصيل يمكننا أن نلاحظ بأن البشرية المخلوقة من الله هي كالله، واحدة. وحدة الحبّ: إنها تأتي من الانتساب المتبادل للرجل والمرأة. وعندما يستقر الحذر، تتفكك الوحدة، والإنسان يتمزق: «عظم من عظمي ولحم من لحمي» تصبح «المرأة التي جعلتها معي»، هذه العبارة تتهم كل من المرأة والله، الواحد بقدر الثاني. صراع الرجل والمرأة يقود إلى تسلط الرجل على المرأة، تسلط لا يقصي الرغبة إنما كاتب السفر يلاحظه في المجتمع الذي يعيش فيه وينسبه إلى الخطيئة (3، 16). إلى صراع الرجل والمرأة، يُضاف صراع الإنسان والطبيعة: تصبح الأرض صحراء تنتج شوكاً وحسكاً؛ والعمل يصبح شاقاً وتنتهي الأرض بأن تستعيد من الإنسان حياته.
في الفصل الرابع ينبعث الصراع، صراع بين الإنسان والإنسان. قاين وهابيل يدشنون سلسلة كل أشكال العنف الأخوي الذي يلازم الكتاب المقدس. حتى هذه اللحظة الوجه الأخير للعداوة بين اليهودي والوثني، التي لا تجد لها من حل إلاَّ في المسيح «سلامنا»، عندما يصبح المتخاصمين شعباً واحداً. وبولس يقول: ليس هناك يهودي ولا يوناني؛ لا رجل ولا امرأة. وفي رسالته إلى أهل رومة « 8، 19 – 22»، يقول بأن الخليقة جمعاء تئن من آلام المخاض منتظرة ساعة المصالحة.
حتى هذه اللحظة، لا يمكننا الاتكال على عطف كامل لا من قبل البشر، ولا من قبل الطبيعة. نكرر ونقول بأن هذا «الطلاق» بين البشر ومحيطهم ليس، بنظر الكتاب المقدس، بعقاب إلهي. إنه ثمر سام لعدم التوافق الأساسي بين حريتنا وحقيقتنا.
والله في كل ذلك؟ إنه دائماً القوة الخلاقة التي تسكننا، لكنه لا يستطيع الوصول بدون موافقتنا. كل شيء مبني على منطق العهد، ومن خلالنا يمكن للقوة الإلهية أن تعمل. الله لا يريد ولا يسمح بالكوارث التي تصيبنا. إنها تحدث في أنٍ معاً ضده وضدنا. على الصليب ندرك أنه ليس القاتل إنما ضحية شرنا. أين كان الله عندما حدثت ظاهرة التسونامي في الجنوب الشرقي من أسيا؟ بدون شك، في ضحايا الزلزال. يبقى السؤال لماذا؟ لماذا عدم ثقة البشر تسمم العالم بمجمله مع نوع من المفعول الرجعي الذي يجعلها تحمل ثمارها حتى قبل ظهور الإنسان؟ نجيب بأن الخليقة بأجمعها، منذ العنصر الأول، هي مشروع بشرية. ليكن، ولكن لماذا؟ ولماذا الشر؟
العقيدة القديمة للخطيئة الأصلية لا يمكن قبولها. فالفصل 3 من سفر التكوين لا يروي لنا مغامرات «أهلنا الأوائل» ولكن، في اللغة الأسطورية، هناك رفض موجود في كل البشر وكل الأزمنة. إنه الإنسان القديم الذي يتكلم عنه بولس، الإنسان الذي منه ننطلق لتحقيق البشرية الحقيقية. يمكننا قراءة 1 قور 15، 44 -49. في طريقنا باتجاه الإنسان الجديد، إنسان الخليقة المُتممة، كل آلامنا تصبح آلام مخاص ولادة.
في الحقيقة، ما من أحد استطاع أن يجيب بطريقة مرضية على مشكلة الألم. قد نكون هنا أمام شجرة معرفة الخير والشر، شجرة ثمرها متعذر وممنوع. والمسيح لا يعطينا أي شرح لها. بالطبع في رسالته إلى أهل رومة 5، 13 – 19 يربط الشر بخطيئة آدم، ولكن في الآية 14 يقول لنا بولس بأن آدم ليس سوى صورة، رمز لمن سيأتي، المسيح. إذا كانت نصوصنا لا تقول لنا من أين يأتي شقاؤنا ومصائبنا، فهي تكشف لنا بأنها تمس الله أولاً وأنه يأتي ليشاركنا المصير الذي اعتقدنا مطولاً أن من نصيب الخطأة.
نعلم أننا لسنا وحدنا، وحيدين على طرقاتنا، التي غالباً ما تكون مؤلمة، والتي تفرضها علينا الحياة. «الله معنا»، حتى على صلباننا، هذه هي الرسالة. هذا التعبير يحيط بإنجيل متى (1، 23 و 28، 20). على كل حال الله لا يكتفي بأن يكون معنا في الأسواء، إنه يلتحق بنا فيها ليخرجنا منها. ينزل إلى جهنماتنا ليفتح لنا معبراً نحو الحياة. بحيث أن «الله معنا» يتم ويتحقق في «نحن مع الله».
الإنسان والإيمان
للتحدث عن الإيمان لابد من التحدث عن الإنسان. في قانون إيمان الرسل وقانون الإيمان الشرقي أو البيزنطي نقول أؤمن ولا نقول نؤمن. في كلا الحوال عندما نقول أؤمن أو نؤمن نلاحظ بأن كلمة الله نستعملها بكثرة لدرجة أننا ننسى الإنسان. والسؤال هل يمكن التحدث عن الله خارجاً عن الإنسان وبالعكس. فالترابط بين الله والإنسان
قوي ممّا لا يسمح بطرح سؤال الله دون أن نطرح سؤال الإنسان وبالعكس. فبمجرد أن نطرح سؤال الإنسان نطرح سؤال أصوله ومنشأه وبالتالي سؤال الله سواء لتأكيد وجوده أم لنفيه.
فالخطر إذن هو نسيان موضوع أو سؤال الإنسان. ففي الفصل الثاني من سفر التكوين نقرأ: «انموا واكثروا وملأوا وتسلطوا...». إذن منذ البداية سؤال الإنسان مطروح والله خلقه وسلّمه الكون وبما فيه. من هو الإنسان وعن أي إنسان نتكلم؟
الإنسان هو كائن شخصي: أي أنه يتكلم باسمه «أنا». أنا أتكلم باسمي الشخصي وما من أحد يتكلم باسمي أنا، ولهذا السبب بدأنا ب أؤمن. أنا من أتكلم، من يتخذ القرارات الخ. بهذا المعنى نقول بأن الإنسان هو كائن شخصي وهذا ما يميزه عن بقية الكائنات الحية. الإنسان قادر أن يخطط للمستقبل ويقرأ ماضيه، وأن يحلل واقعه الخ. بالإضافة إلى أنه يتميز أيضاً بموقفه وتعامله مع الموت. إنه يطرح موضوع الموت، حتى ولو لم يكن يفكر بموته الشخصي إلاَّ في حالات نادرة أو خطرة. وكلنا نعلم بالحجم الذي يأخذه الموت في حياتنا.
الإنسان هو كائن مسؤول عن ذاته وعن العالم، يخطط لمستقبله، هو من ينجح أو يفشل ويتحمل نتيجة قراراته وفي الوقت نفسه مسكون بقلق، قلق الوجود أو قلق الموت كما يسمونه الفلاسفة. هذا القلق طبيعي ومشترك بين جميع البشر ويميز الإنسان عن بقية الكائنات الحية الأخرى. إنه القلق أمام الموت، أمام محدوديتي، أمام عدم سيطرتي على ذاتي بشكل كامل. ميزة أخرى مهمة للإنسان هي اللغة. لغة التجريد. مثلاً النظريات التي ندرسها تنطلق من أشياء بسيطة في الحياة (الخاص) باتجاه النظريات والتعميم. أي أن الإنسان قادر للوصول إلى التعميم انطلاقاً من أشياء بسيطة وتافهة إلى حد ما. وهذا يعود جزئياً لكون الإنسان أكبر من أن نقوله بكلمات بسيطة. الإنسان كائن معقد.
اعتدنا أن نقول بأن الإنسان خلق على صورة الله كمثاله، ولكن هل تساءلنا ماذا تعني هذه الآية؟ الإنسان مدعو ليكون سيد وهذه ميزة أخرى للإنسان. الإنسان يحاول أن يكون سيد الكون وهذه المحاولة هي سبب صراع دائم بين الإنسان والطبيعة، وبينه وبين الكون. مثلاً اليوم تعيش البشرية قلق ارتفاع حرارة الكون والعلماء قلقون كثيراً من هذه الظاهرة.
والإنسان يحاول أيضاً تنظيم المجتمع من أجل تأمين الحقوق للناس ولكي يعمل الجميع من أجل الخير العام. هذا الأخير له دور مهم جداً، لكن من هم الذين يعملون اليوم من أجل الخير العام. لا بل أكثر هل عبارة الخير العام لا تزال موجودة في قواميسنا أم انتهت؟
الإنسان يتميز بالوعي، وعي نفسي ووعي أخلاقي. وعي الإنسان النفسي يصحبه وعي أخلاقي مرتبط بالمسؤولية أو بالشعور بالمسؤولية. لأن الإنسان يميز إلى حد كبير بين الخير والشر. فنحن نبني علاقاتنا مع الآخرين، نفكر بكل ما يدور حولنا، ونريد ونسعى لكي نتحكم بوجودنا. كل فرد هو إذن فاعل شخصي، كما أنه فاعل له حقوقه وواجباته. مقابل هذا الكلام هناك اعتراضات مهمة.
الاعتراضات:
بالمقابل العديد من العلوم الطبيعية والإنسانية تسعى لتبين لنا بأن الإنسان بعيد جداً من أن يكون حراً بكل معنى الكلمة وخاصة من أن يكون سيداً لذاته وللكون، بالرغم من كل التطور العلمي والتكنولوجي الذي يعيشه اليوم. العلوم الإنسانية تقول لنا أننا اليوم نفكك الإنسان ونعيد تركيبه إن صح التعبير ولكننا نصل إلى النتيجة بأن الإنسان يصطدم بمحدودية كبيرة، والتحليل النفسي يقول بأن أغلب تصرفاتنا وردود أفعالنا يتحكم بها اللاوعي، وبالتالي أين هي حرية الإنسان؟ اعتدنا أن نقول بأن الله خلقنا أحراراً ، والعلوم الإنسانية تقول لنا عكس ذلك. والسؤال الذي نطرحه باستمرار هو هل نحن مخيرين أم مسيرين؟ هل تحت بالفعل أحراراً؟ هل الكنيسة تؤمن بالقضاء والقدر؟ أغلبية المسيحيين يطرحون على أنفسهم هذه الأسئلة.
يمكننا أن نجيب على هذه الاعتراضات بطريقتين. الأولى تقول بأن الإنسان ولاشك كائن محدود. محدود من قبل المجتمع والتربية الخ. ممّا يجعل حرية الإنسان محدودة. الطريقة الثانية العلوم الإنسانية تقول لنا من هو الإنسان، لكن لا يمكنها قوله بشكل كلي لأن الإنسان أكبر منها بكثير ولا يمكنها الإحاطة به بشكل كامل. دون أن ننسى بأن الإنسان يسير باتجاه إنسانيته، لم يصبح بعد إنسان فكيف للعلوم الإنسانية أن تقول ما لم يوجد أو يتحقق بعد؟ ولهذا السبب لا نملك جواباً نهائياً على سؤال من هو الإنسان.
هذه العلوم تعلمنا الكثير عن الإنسان لكنها تنسى في أغلب الأحيان أنه يبقى هو الفاعل حتى في عملية الفك والتركيب. إنه يعي بأنه هو من يتساءل حول وجوده ومعنى هذا الوجود. هذا هو الإنسان وهذا ما يميزه بأنه شخص. فالإنسان إذن هو من يحلل ذاته، موضوع ذاته وبالتالي يعيش إلى حد ما نوع من الازدواجية بين الذاتي والموضوعي.
حوار داخلي والذاتية الإنسانية: في كل إنسان شيء من الازدواجية، لا ازدواجية الشخصية، إنما ازدواجية بمعنى أنه في الإنسان هناك حوار داخلي، أفكار مستمرة تدور في أعماقنا حتى ولو لم نكن واعين لها. الإنسان يعيش على محورين إن صح التعبير: محور موضوعي من السهل تحديده (مختلف العلاقات التي نعيشها يومياً) والذي يمكن تلخيصه بكل ما يفكر به الإنسان ويقوله علناُ شفهياً كان أم كتابياً. وهذا الأمر يقوله للآخرين كما يقوله لذاته أيضاً. كما لو أنه آخر بالنسبة لذاته. أما المحور الذاتي فليس من السهل تعريفه والتعبير عنه لأننا لا نستطيع أن نراه وجهاً لوجه إن صح التعبير. إنه يعمل فينا بشكل لاواع ويدفع بنا إلى الأمام. كالذي يريد أن يرى ظهره بدون مرآة. مثلاُ الطفل الذي يلعب ويشعر بأن أمه لم تعد بالقرب منه. أو عندما أعمل وأكون مأخوذ كلية بعملي، هذا لا يلغي وعي لذاتي بأنني أنا من يقوم بهذا العمل (الكم