تحليل نص الوكيل الخائن
مثل الوكيل الخائن لو 16
1وقالَ أَيضاً لِتَلاميذِه: "كانَ رَجُلٌ غَنِيٌّ وكانَ لَه وَكيلٌ فشُكِيَ إِلَيه بِأَنَّه يُبَذِّرُ أَموالَه. 2فدَعاهُ وقالَ له: ما هذا الَّذي أَسمَعُ عَنكَ؟ أَدِّ حِسابَ وَكالَتِكَ، فلا يُمكِنُكَ بَعدَ اليَومِ أَنْ تَكونَ لي وَكيلاً. 3فقالَ الوكيلُ في نَفْسِه: ماذا أَعمَل؟ فَإِنَّ سيِّدي يَستَرِدُّ الوَكالَةَ مِنّي، وأَنا لا أَقوى على الفِلاحة، وأَخجَلُ بِالاستِعطاء. 4قد عرَفتُ ماذا أَعمَلُ حتَّى إِذا نُزِعتُ عنِ الوَكالَة، يَكونُ هُناكَ مَن يَقبَلونَني في بُيوتِهم. 5فدَعا مَديني سَيِّدِه واحِداً بَعدَ الآخَر وقالَ لِلأَوَّل: كم عَلَيكَ لِسَيِّدي؟ 6قال: مِائةُ كَيْلٍ زَيتاً: فقالَ له: إِلَيكَ صَكَّكَ، فاجلِسْ واكتُبْ على عَجَلٍ: خَمسين. 7ثُمَّ قالَ لآخَر: وأَنتَ كم عَليكَ؟ قال: مِائةُ كَيْلٍ قَمحاً. قالَ له: إِلَيكَ صَكَّكَ، فَاكتُبْ: ثَمانين. 8فأَثْنى السَّيِّدُ على الوَكيلِ الخائِن، لأَنَّه كانَ فَطِناً في تَصَرُّفِه. وذلِك أَنَّ أَبناءَ هذهِ الدُّنيا أَكثرُ فِطنَةً مع أَشباهِهِم مِن أَبْناءِ النُّور. 9"وأَنا أَقولُ لَكم: اِتَّخِذوا لكم أَصدِقاءَ بِالمالِ الحَرام، حتَّى إِذا فُقِدَ قَبِلوكُم في المَساكِنِ الأَبَدِيَّة. 10مَن كانَ أَميناً على القَليل، كانَ أَميناً على الكثيرِ أَيضاً. ومَن كانَ خائِناً في القَليل كانَ خائِناً في الكَثيرِ أَيضاً. 11فَإِذا لم تَكونوا أُمَناء على المالِ الحَرام، فعَلى الخَيرِ الحَقِّ مَن يَأَتَمِنُكم؟ 12وإِذا لم تكونوا أُمَناءَ على ما لَيسَ لَكم، فمَن يُعطيكُم ما لَكم؟ 13"ما مِن خادِمٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلَزمَ أَحَدَهما ويَزدَرِيَ الآخَر. فأَنتُم لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِله ولِلمال".
هنا يتوجه يسوع للتلاميذ، وهذا الأمر لم يحدث منذ الفصل 12، 22-53. يبدأ برواية 1-8، ثم يتمم تأويلها ببعض الكلمات 9-13. المثل غالباً ما يُساء فهمه من قبل الكثير من الناس. نتساءل كيف يمكن ليسوع أن يؤيد تصرفات احتيالية بمدحه لنصاب ومزور معاً.
سوف نرى بأن محور النص ليس هنا، حيث يصف يسوع الوكيل بالخائن أو بالغير عادل: «فأَثْنى السَّيِّدُ على الوَكيلِ الخائِن، لِأَنَّه كانَ فَطِناً في تَصَرُّفِه. وذلك أَنَّ أَبناءَ هذهِ الدُّنيا أَكثرُ فِطنَةً مع أَشباهِهِم مِن أَبْناءِالنُّور».
بداية يمكننا القول بأن وصف الوكيل بالخائن أو بالغير عادل، يعود لكونه كان كريماً مع المدينين على حساب صاحب الملك. الآية 8: «فأَثْنى السَّيِّدُ على الوَكيلِ الخائِن، لِأَنَّه كانَ فَطِناً في تَصَرُّفِه، وذلك أَنَّ أَبناءَ هذهِ الدُّنيا أَكثرُ فِطنَةً مع أَشباهِهِم مِن أَبْناءِالنُّور» تقول لنا بوضوح بأن المديح يخص ذكاء وفطنة تصرف الوكيل، وليس عدم نزاهة الوكيل.
وبما يخص الفطنة في العلاقات البشرية، أبناء النور، كما كان المسيحيون يسمون أنفسهم، منورين بكلمة الله، بإمكانهم أن يتعلموا من أبناء هذه الدنيا، من اللذين لا يهتمون بالإيمان ولا بالحياة الآخرة. حتى في حال تصرفوا بطريقة غير شريفة، يمكن للمؤمن الحقيقي أن يميز بعض القيم الجيدة التي من المستحسن له أن يعيشها.
رسالة المثل التي نقرأها في الآية 8، يتم توضيح معناها من قبل يسوع في الآية 9: «وأَنا أَقولُ لَكم: اِتَّخِذوا لكم أَصدِقاءَ بِالمالِ الحَرام، حتَّى إِذا فُقِدَقَبِلوكُم في المَساكِنِ الأَبَدِيَّة». إنه تحريض للتلاميذ لمعرفة كيفية استعمال المال بفطنة في أجل ملكوت الله.
إذا عرف الوكيل الخائن كيف يستعمل خيرات هذا العالم ليخلق له أصدقاء ويهيئ لمستقبله الأرضي، فكم بالأحرى على المسيحي أن يهيئ مستقبله الأبدي بمشاركته الفقراء من خلال الصدقة؛ لكي يستقبلوه في مدينة الله. فالفقراء هم في منزلهم لدى الله بحسب روحانية التطويبات، كما هو واضح في الآيات 19 وتابع (لعازر والغني).
فالإنسان الفطن هو من يعتبر المال وسيلة وليس كهدف. المال غير عادل وغشاش إن صح التعبير، والوكيل وصف بنفس الطريقة في الآية 8، لأن المال بإمكانه أن يتحول إلى صنم، وفي حال مقارنته مع خيرات الملكوت الحقيقة والأبدية، يبدو المال على أنه ذات قيمة غير أكيدة ومؤقتة. فملكوت المال لا يدوم.
الآية 9 تهدف لإبعاد كل سوء فهم ولتمنع بشكل نهائي، بأن نرى في المثل تشجيع أو دعوة للغش «مَن كانَ أَميناً على القَليل، كانَ أَميناً على الكثيرِ أَيضاً. ومَن كانَ خائِناًفي القَليل كانَ خائِناً في الكَثيرِ أَيضاً. وإِذا لم تكونوا أُمَناءَ على ما لَيسَ لَكم، فمَن يُعطيكُم ما لَكم؟».
الآيتين 10 و12. مقابل عدم العدالة التي تميز الوكيل والمال، هناك ما يعارضها: الأمانة التي تنمو يوماً بعد يوم في استعمال الخيرات الروحية والأرضية. من خلال 3 تباينات، يتوجه هذا التحريض بشكل خاص للمسؤولين عن الجماعات المسيحية: الأمانة المطلوبة من الذين يجيّرون الخيرات المادية، مطلوبة بشكل أكبر من المسؤولين عن الخير الروحي لأخوتهم.
الآية 13: «ما مِن خادِمٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لِأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَأَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلَزمَ أَحَدَهما ويَزدَرِيَ الآخَر. فأَنتُم لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِله ولِلمال»، تشكل مثلاً وشرحاً للمثل كما أنها الكلمة الأخيرة التي تخص موضوع المال.
من يعبد المال ويجعله صنماً له، لا يمكنه أن يكون ابن النور. منذ أن ظهر الله في العالم، والإنسان أمام خيار جذري. فعلى المسيحي أن يُظهر، من خلال استعماله للمال بأنه ينتمي إلى الله. كما أن الآيات 10 – 12 يمكن اعتبارهم كخلاصة تدريجية وتنهي شرح الرسالة العامة للنص بثلاثة نقاط :
1-الزمن الحاضر هو زمن مؤقت، زمن إرجاء علينا الاستفادة منه لكي نؤمّن إن صح التعبير، الحياة الأبدية، كما يُبينه لنا مثل الغني ولعازر.
2- مستقبلنا يرتبط بنوعية علاقاتنا مع الآخرين: علينا العبور من علاقات قانونية، علاقات قدرة، علاقات تجارية، إلى علاقات صداقة مؤسَّسة على حلّ الدَيّن؛ الصداقة التي نتشارك بها بهذه الطريقة هي طريقة تعطي للجميع الخلاص الأبدي.
3- الخيرات هي ملك الله وحده. ونحن مؤتمنين عليها، نحن وكلاء عليها لكي تخدم الأخوَّة بين البشر. وبالتالي عدم العدالة التي تتعارض مع عدل الله، تكمن في امتلاك المال. لأننا بامتلاكنا له نحيَّده عن هدفه الصحيح: خدمة الأخوَّة من خلال مجانية تُظهر النعمة التي نعيشها.
فالآية 13 «ما من خادم يستطيع أن يعمل لسيدين، لأنه إما أن يبغض أحدهما ويحب الآخر، وإما أنيلزم أحدهما ويزدري الآخر. فأنتم لا تستطيعون أن تعملوا لله وللمال» تصبح يقين: فإمّا نحن بالفعل وكلاء وبالتالي أمينين لله، وإمّا نتصرف كمالكين وبالتالي لسنا أمنين لله. لا يمكننا أن نلعب على الطرفين: أن نكون أُمناء لله، هذا يعني التخلي عن التصرف كمالكين.
الآيات 14- 31
مقابل هذا التعليم ليسوع، تظهر بعض الاحتجاجات تحت شكل الاستهزاء: في الآية 14 يتدخل محبي المال الممثلين بالفريسيين: «وكانَ الفِرِّيسِيُّونَ، وهُم مُحِبُّونَ لِلمال، يَسمَعونَ هذا كُلَّهوَيَهزَأُونَ به».
والآيات 15 – 18 تضع الشريعة والملكوت، الواحد مقابل الآخر، حيث يتم الانتقال من علاقة مبنية على الشريعة إلى علاقة مبنية على إعفاء الدَّين. في الواقع الفريسيين المعنيين هنا من قبل يسوع هم غير أمناء على صعيد أعمق من مجرد صعيد المال: إنهم غير أمناء لروح العهد المجاني الذي أقامه الله مع شعبه: لقد تملَّكوا الشريعة وأصبحوا يستخدمونها لتبرير أنفسهم أمام الناس. فعطاء الشريعة، كعطاء المال لا يعطي أية حقوق لأحد. فالآية 15 بهذا المعنى ترفض رفضاً قاطعاً كل تبرير ذاتي.
الآية 16: «دام عهد الشريعة والأنبياء حتى يوحنا، ومن ذلك الحين يبشر بملكوت الله، وكل امرئملزم بدخوله.» تشكل اعتراف بالدور التربوي للشريعة التي شرحها الأنبياء: الشريعة في خدمة الملكوت: على مثال المعمدان الشريعة تشير إلى الملكوت، تنمحي أمام ما تشهد له ألا وهو الملكوت.
في الآية 17 يؤكد لوقا استمرارية الشريعة: «لأن تزول السماء والأرض أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الشريعة». ثم يأتي الحديث عن الزواج الذي قد يبدو غريباً وبغير مكانه. في الواقع العلاقة الزوجية ترمز لعلاقة الله مع شعبه.
فالرجل الذي يتعامل مع امرأته كملك له يكون في تناقض مع مفهوم الشريعة التي تقود إلى الملكوت، شريعة الحب المطلوبة من العهد. بهذا المعنى يؤكد يسوع بأن الشريعة لا تزال سارية المفعول إن صح التعبير.
لوقا يربط هذا المشهد بالنص السابق، أي مثل الوكيل الخائن، بقوله بالرغم من أن تعليم يسوع عن استعمال المال موجه للتلاميذ، إلاّ أنه غير مخفي عن الجميع. العبارة الأخيرة التي تعبر عن استحالة عبادة ربين الله أو المال، تدفع الفريسيين للانتقال من التمتمة «فكانَ الفِرِّيسِيُّونَ والكَتَبَةُ يَتَذَمَّرونَ فيَقولون: هذا الرَّجُلُيَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم!» (15،2) إلى الإعلان.
إنهم يعتبرون المال علامة رضى من الله الذي يعطي المال وكذلك العدل. وبصفتهم أصدقاء للمال، فهم عاجزون عن أن يخدموا الله. لوقا يعمم ولا يأخذ بعين الاعتبار الواقع: الفريسيون كانوا، في الواقع، من الطبقة المتواضعة مادياً. لوقا يريد القول بأن الفريسي يصبح نموذج الإنسان الذي يغلقه الغنى عن الرسالة الإنجيلية.
جواب المعلم يأتي على ثلاثة دفعات إن صح التعبير: ينقض عدل خصومه الخاطئ «أَنتُم تُزَكُّونَ أَنفُسَكم في نَظَرِ النَّاس، لكِنَّ اللهَ عالِمٌ بِما فيقُلوبِكم، لِأَنَّ الرَّفيعَ عِندَ النَّاسِ رِجْسٌ في نَظَرِ الله»، ويعلن ثلاثة آيات بخصوص الإيمان «دامَ عَهْدُ الشَّريعَةِ والأَنبِياءِ حتَّى يوحَنَّا، ومِن ذلكَ الحِينِ يُبَشَّرُبِمَلكوتِ الله، وكُلُّ امْرِئٍ مُلزَمٌ بِدُخوِله.... لِأَن تَزولَ السَّماءُ والأَرضُ أَيسرُ مِن أَن تَسقُطَ نُقطَةٌ واحِدَةٌ مِنَالشَّريعَة... كُلُّ مَن طَلَّقَ امرَأَتَه وتَزَوَّجَ غَيرَها فقَد زَنى، ومَن تَزَوَّجَ الَّتيطَلَّقَها زَوجُها فقَد زَنى»، وفي النهاية يروي مثل طويل: لعازر والغني.
الكلمة الأولى التي يقولها يسوع في الآية 15«أَنتُم تُزَكُّونَ أَنفُسَكم في نَظَرِ النَّاس، لكِنَّ اللهَ عالِمٌ بِما فيقُلوبِكم، لِأَنَّ الرَّفيعَ عِندَ النَّاسِ رِجْسٌ في نَظَرِ الله» تنقض رأي الفريسيين وتفتتح المثل.
الغنى ليس له أية قيمة لأنه لا يعني أبداً الموافقة الإلهية، أو الرضى الإلهي. لا بل أكثر: قانون قلب الأوضاع مسجل في المخطط الإلهي؛ برفضه الخضوع لهذا القانون في حياته يرى الغني نفسه مكره وبقساوة بالموت إن صح التعبير.
الآيات اللاحقة تطرح مكانة وقيمة الشريعة والأنبياء وتهيئ نهاية المثل. الآية 16 تقسم تاريخ الخلاص إلى مرحلتين حيث يوحنا المعمدان يشكل الحدود بين القديم والجديد. ظهور الله في العالم يُلزم الإنسان بأن يتخذ قراراً بخصوص المال، وخصوصاً أن ملكوت الله يُدخل قانون قلب الأوضاع: «لِأَنَّ الرَّفيعَ عِندَ النَّاسِ رِجْسٌ في نَظَرِ الله». هذا يشكل دعوة ملحة للإنسان للدخول في ملكوت الله.
الآية 17«لِأَن تَزولَ السَّماءُ والأَرضُ أَيسرُ مِن أَن تَسقُطَ نُقطَةٌ واحِدَةٌ مِنَالشَّريعَة» تحدد العلاقة بين الشريعة والملكوت: ظهور الملكوت لا يلغي «شرعية» الشريعة.
إعلان يسوع للملكوت يتطابق مع إرادة الله كما ظهرت في شريعة موسى. فمنذ سيناء، ينتظر الله من الغني تصرف محدد اتجاه الفقير، ولن يتغير قيد شعرة. إرادة الله ثابتة أكثر من أي شيء! والتأكيد على ذلك يهيئ نهاية مثل لعازر والغني.
الآية الأخيرة ترفض وتنقض طلاق المرأة من قبل زوجها وزواج هذا الأخير، كذلك الأمر بالنسبة لزواج المرأة المطلقة. يسوع يؤكد بأن هذه الممارسات، المسموحة من قبل الشريعة، هي بمثابة زنى الذي ترفضه الشريعة.
ومع ذلك لا يعطي يسوع قانون جديد بخصوص هذا الأمر، كما هو الحال بخصوص المال. إنه يتجاوز المستوى القانوني ليؤكد بأن الزواج يخلق بين الرجل والمرأة وحدة لا يمكن للشريعة إلغاؤها ولا الحفاظ عليها كليّة. في كل الأحوال، مقابل التساهل الجنسي الموجود بكثرة في العالم الوثني، يذكِّر لوقا بأن منع الزنى من قبل الشريعة يحافظ على قيمته.
عندما يطلق اليهودي امرأته، فهو ملزم بأن يعطيها شيء من التعويض الزوجي؛ ومقابل تعويض مالي يستطيع أن يطلق زوجته. من خلال إعلانه لكيفية تعامل الرجل مع ممتلكاته، يبين لوقا بأن الرابط الزوجي لا يرتبط بالمال، وأن المرأة ليست بشيء يمكن تبادله بواسطة المال. باختصار الرجل والمرأة متساويات: الآية 18: «كُلُّ مَن طَلَّقَ امرَأَتَه وتَزَوَّجَ غَيرَها فقَد زَنى، ومَن تَزَوَّجَ الَّتيطَلَّقَها زَوجُها فقَد زَنى».
مثل الغني ولعازر (26-19)
يبدأ بدون مقدمة بما أن الآيات 14-15 هم الذين يشكلون المقدمة لهذا المثل. «وكانَ الفِرِّيسِيُّونَ، وهُم مُحِبُّونَ لِلمال، يَسمَعونَ هذا كُلَّهوَيَهزَأُونَ بِه.... فقالَ لَهم: أَنتُم تُزَكُّونَ أَنفُسَكم في نَظَرِ النَّاس، لكِنَّ اللهَ عالِمٌبِما في قُلوبِكم، لِأَنَّ الرَّفيعَ عِندَ النَّاسِ رِجْسٌ في نَظَرِ الله».
بينما مثل الوكيل يتحدث عن كيفية الاستعمال الجيد للمال، مثل لعازر والغني يمثل العكس: يضع لنا إنسان يسيء استعمال المال. الغني له صفة واحدة وهي أنه غني ويعيش بترف: «يَلبَسُ الأُرجُوانَ والكَتَّانَ النَّاعِم، ويَتَنَعَّمُ كُلَّ يَومٍ تَنَعُّماًفاخِراً».
بينما الفقير لعازر فهو «مُلْقىً عِندَ بابِه قد غطَّتِ القُروحُ جِسْمَه وكان يشتهي أن يشبع من فتات الغني». على مثال الابن الضال كان يشتهي أن يشبع مما لا يريده البشر. النص لا يقول شيئاً عن حياة لعازر الروحية.
غنى لعازر يكمن في اسمه وفقره الذي أدى به للدخول في الحياة الأبدية: «فقَدِ افتَقَرَ لأَجْلِكُم وهو الغَنِيُّ لِتَغتَنوا بِفَقْرِه» (2 قور 8، 9). النقطة الوحيدة المشتركة بينهما هي الموت. لكن بدلاً من أن يقربهما الموت، فهو يوقّع إن صح التعبير استحالة لقائهما، وهوة تفصل بينهما للأبد: انقلاب الأوضاع، المعلن عنه في التطويبات والويلات المعلن عنها في الفصل 6، والتي تميز زمن النهاية، تتحقق لدى وفات كل منهما ولا يمكن إصلاحها أبداً.
ما من أحد اهتم بدفن الفقير، إنما رسل الله إن صح التعبير هم الذين وضعوه حيث ينتظر الأبرار القيامة. وضعوه في المرتبة الأولى، مع الآباء، في حضن إبراهيم. الغني يجد نفسه حيث يكون الموتى الذين بسبب خطاياهم، يعذبون بالنار.
وهو الذي لم يترك الفتات للفقير الذي كان يتألم من الجوع، يتحجج بانتسابه إلى سلالة إبراهيم ويطلب من لعازر نقطة ماء. جواب إبراهيم يؤكد بحزم مبدأ انقلاب الأوضاع الذي يتم لدى موت الإنسان، بتعبير مستوحى من التطويبات والويلات المعلن عنها في إنجيل لوقا.
هنا، التعليم الأساسي لهذا الجزء من المثل: الهوة الكبيرة التي تشكل الفصل بين الذين يبدؤون بالتلذذ بالقرب من إبراهيم والموتى المعذبون ما هي سوى استمرارية للفصل الذي كان موجوداً، من خلال باب منزل الغني، بينه وبين لعازر؛ حيث كان يتلذذ بغناه ولعازر يعاني ألم الجوع والجروحات.
من المؤكد أن الغني لم يسمع دعوة يسوع الملحة من أجل استعمال المال ليجعل من لعازر صديقاً له. ولكن هذه الدعوة ليست جديدة مما يسمح بأن يُعذر الغني. إنها موجودة في الشريعة: «إِذا كانَ عِندَكَ فقيرٌ مِن إِخوَتكَ في إِحْدى مُدُنِكَ، في أَرضِكَ الَّتييُعْطيكَ الرَّب إِلهُكَ إِيَّاها، فلا تُقَسِّ قَلبَكَ ولا تَقبِضْ يَدَكَ عنأَخيكَ الفَقير،.. بلِ افتَحْ لَه يَدَكَ وأَقرِضْه مِقْدارَ ما يَحْتاجُ إِلَيه.... واحذَرْ أَن يَخطُرَ في قَلبِكَ هذا الفِكْرُ التَّافِه، فتَقول: قد قَرُبَتِالسَّنةُ السَّابِعة، سَنةُ الإِبْراء، فتَسوءَ عَينُكَ إِلى أَخيكَ الفَقيرِ ولاتُعطِيَه شَيئًا، فيصرُخُ إِلى الرَّبِّ علَيكَ وتَكونُ علَيكَ خَطيئَة.... بل أَعطِهِ، ولا كَرْهًا إِذا أَعطَيتَه، وبِذلك يبارِكُكَ الرَّبّ إِلهُكَ فيكُلِّ أَعْمالِكَ وفي كُلِّ مَشاريعِكَ... إِنَّ الأَرضَ لا تَخْلو مِن فَقير، ولذلِكَ أَنا آمُرُكَ اليَومَ قائِلاً: اِفتحْيَدَكَ لأَخيكَ المِسْكينِ والفَقيرِ الَّذي في أَرضِكَ» (تث 15، 7-11). كما أن الأنبياء كانوا يُذكّرون بها دائماً. أمّا تعليم يسوع بخصوص المال، فهو يقود الشريعة والأنبياء إلى ذروتهم.
في الجزء الثاني (27-31) يهدف للتذكير بأنه على الأحياء أن يصغوا لموسى والأنبياء لكي يعيشوا ما يسمعوا. مما يعني أنه ليس من الضروري على التلميذ أن ينتظر تعليم يسوع بهذا الخصوص بما أنه موجود منذ البدء. لهذا السبب لا يهتم المثل بموضوع كيف يمكن للغني أن يبقى في مثوى الأموات!
في النهاية الغني يعبر عن رأي منتشر في العالم وحتى اليوم والقائل بأن المعجزة يمكنها تحقيق ما لا يحققه الكتاب المقدس. ولكن هذا خطأ فادح. فالمعجزة، حتى قيامة أحد الموتى، لا يمكنها أن تقود إلى الاهتداء من يرفض استقبال الشريعة والأنبياء، بالإيمان. النقطتين الأساسيتين في هذا المثل هما:
الأوضاع في الحياة الآخرة هي نهائية «فبيننا وبينكم أقيمت هوة عميقة، لكيلا يستطيع الذين يريدون الاجتياز من هنا إليكمأن يفعلوا ولكيلا يعبر من هناك إلينا» والفقراء يستفيدون منطقياً من تدخل الله كما يقول لنا نشيد مريم (1، 51 - 53) وتعلنه التطويبات والويلات في إنجيل لوقا 6، 20 – 25.
ثانياً الغني يطلب آية من أجل أخوته لكنه يجد نفسه مرسلاً إلى الوحي الكتابي لأنه انطلاقاً منه، باعتباره الطريق باتجاه الملكوت، يتحدد منذ الآن الاهتداء الحقيقي والدخول في البركة الموعودة لإبراهيم من أجل الجميع.
فالمثلين مرتبطين ببعضهما ولكن الثاني هو الذي يسيطر إن صح التعبير. فالآيات 15 – 31 موجهة للفريسيين وبالتالي تخص أكثر شعب العهد القديم. إنها دعوة للاهتداء الذي أصبح ضرورياً منذ أن أخذ يسوع مكان المعمدان (الآية 16)، معلناً البشرى السارة لملكوت الله.
طريق هذا الاهتداء ليس على هامش الشريعة والأنبياء. إنه طريق طاعة يسير عليه يسوع متقدماً تلاميذه باتجاه القدس ويقودهم إلى القيامة. طريق رحمة واستقبال، طريق إعفاء كل دين ومغفرة، طريق يتناقض مع الإقامة في خيرات وممتلكات هذا العالم والاكتفاء المستند على الشريعة.
على هذا الطريق يجد الفقراء الخلاص، لأن الألم والرفض الذين هم ضحيته يجعلهم مساويين للمسيح الذي نجد وجهه وراء شخصية لعازر كالقائم من بين الأموات. أمّا الأغنياء فهم مدعوون بقوة لكي يصغوا إلى الكلمة التي تدفعهم ليس فقط لمشاركة الفقراء خيراتهم، إنما ليربحوا بسرعة كبيرة صداقتهم بفضل «مال الحرام» (يعتقد الغني أن الوقت أمامه، لديه من الوقت ما يكفي، لكن لا!!!) «أيها الغبي في هذه الليلة تسترد منك نفسك». هذا يعني في النهاية أن موسى والأنبياء يتوجهون بشكل خاص وملح للأغنياء. فالاهتداء يعبر بالضرورة من خلال استقبال الأخ وخدمة الفقراء.
مثلي الفصل 16 يشكلون تعليم واحد: يشكلون تحذيراً يهدف، من خلال التذكير باستمرارية شرعية الكتاب المقدس، ليتقاسم الأغنياء غناهم منذ الآن، أثناء حياتهم الأرضية وأنه بهذه الطريقة يفلت الفقراء، منذ الآن، في حياتهم الأرضية من الشقاء.
بدلاً من الخضوع لانقلاب الأوضاع المفجع لدى الموت، من المفضل ممارسة هذا الانقلاب بطوعية إن صح التعبير من خلال مشاركة الجائع.
فالإنسان الذي يسبب الشكوك والزلاّت هو الإنسان الذي لا يتبنى، لا يأخذ على عاتقه ممارسة إعفاء الدَيِّن والذي تكمن ذروته في المغفرة. الشك الحقيقي والزلة الحقيقية التي تهدد جماعة التلاميذ هي رفض مغفرة الله.
متى لا يضع أي حدود و شروط للمغفرة، بينما هنا كما نلاحظ، لوقا يربطها بالتوبة: « إِذا خَطِئَ إِلَيكَ أَخوكَ فوَبِّخْهُ، وإِن تابَ فَاغفِرْ له. وإِذا خَطِئَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ في اليَوم، ورجَعَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ فقال: أَنا تائِب، فَاغفِرْ له».
توبيخ الأخ عندما يخطئ موجود في الشريعة: (أح 19، 17 – 18). التركيز على ضرورة الاهتداء تشير على أنه على المغفرة أن تأخذ على عاتقها مهمة المصالحة. فكما أننا لا نستطيع إعفاء إنسان من دينه إذا رفض، كذلك الأمر لا تكون المغفرة كليّة إن لم يهتدي من نغفر له ويطلبها. آنذاك المصالحة تصبح ممكنة.
«3 فخُذوا الحَذَرَ لأَنفُسِكم». ارتباط هذا التحذير بالعطاء والمغفرة ليس عشوائياً، بل يذكرنا بصلاة الأبانا: اغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ إلينا. الدخول في ممارسة العطاء والمغفرة يحمينا من الوقوع في الحكم الخاطئ، الحكم الشاذ، هذا يعني الدخول في تصرف الله الذي يجعلنا جميعاً أخوة.
ممارسة المغفرة بين الأخوة شيء، وتأسيس جماعة حيث يعيش الأفراد المشاركة والمغفرة شيء آخر. فالتلاميذ الذين عليهم تأسيس هذه الجماعات، وإدخال البشر في هذا النوع من التصرف يطلبون من يسوع: «يا رب زدنا إيماناً».
إنهم يدركون صعوبة، أو حتى استحالة إعلان وممارسة الأمرين من قبلهم وفي نفس الوقت. هذا الأمر لا يمكن إلاَّ أن يُعطى لهم من قبل المعلم. فالإيمان المُستقبل من الله لا يمكن أن يكون غير فعال في الإنسان مهما كان هذا الإيمان صغيراً.
الإيمان يرتبط بدون شك بالرسالة، ويحقق المستحيل لأنه قوة الله في الإنسان. هذا هو الوعد المُعطى، الغير المباشر الذي سيُعطى للتلاميذ في العشاء الأخير. ويسوع يقول لبطرس علناً: «ولكِنَّي دَعَوتُ لَكَ أَلاَّ تَفقِدَ إِيمانَكَ. وأَنتَ ثَبَّتْ إِخوانَكَ متى رَجَعْتَ» لو 22، 32. هذا النوع من الرسالة مستحيل للتلميذ خارجاً عن كلمة وصلاة المعلم.
الآيات 17، 1- 10 تختتم هذه الوحدة التي تتمحور حول موضوعي الملكوت والمجانية. التلميذ هو خادم الله والبشر (أع 20، 19 - 21). قبل أن يأكل ويشرب على مائدة الرب في الملكوت: «فتَأكُلونَ وتَشرَبونَ على مائدتي في مَلكوتي» (22، 30)، هناك خدمة ورسالة طويلة على التلميذ القيام بها، عمل مهم: تأسيس وتكوين الجماعات، ثمرة كلمة الله التي تنمو.
وهذا الأمر لا يتم إلاَّ بالعمل في الأرض ورعاية القطيع (أع 20، 28)، أي من خلال عمل حيث الإنسان يرتبط بالآخرين، فهو ليس بسيد عمله ولا سيد نفسه. هذه هي خدمة التلاميذ: خدمة بطَّالون لا خير فيهم، مغمورين بنعمة الله ككل إنسان وبالتالي لا حقوق لهم على الله ولا على البشر.
سجناء الروح القدس الذي خارجاً عنه لا يمكن تحقيق هذه الرسالة: إيصال رحمة الله للبشر، ودعوة الله للمائدة المسيحانية وملء الروح القدس، فالتلميذ يعمل بحسب ما يُطلب منه، مدركاً تماماً بأن لا عمله ولا ممارسته للشريعة يجعلون منه مفيداً لله. فهو يعلم أنه يوماً ما سوف يعيد من عمل في خدمتهم لله ولكلمة النعمة الوحيدة القادرة على البناء والتكوين.
قبل هذا المثل لديثنا ثلاثة أمثال عن الرحمة: الخروف الضال والدرهم المفقود والابن الضال.
مثل الوكيل الخائن لو 16، 1 - 13
1وقالَ أَيضاً لِتَلاميذِه: "كانَ رَجُلٌ غَنِيٌّ وكانَ لَه وَكيلٌ فشُكِيَ إِلَيه بِأَنَّه يُبَذِّرُ أَموالَه. 2فدَعاهُ وقالَ له: ما هذا الَّذي أَسمَعُ عَنكَ؟ أَدِّ حِسابَ وَكالَتِكَ، فلا يُمكِنُكَ بَعدَ اليَومِ أَنْ تَكونَ لي وَكيلاً. 3فقالَ الوكيلُ في نَفْسِه: ماذا أَعمَل؟ فَإِنَّ سيِّدي يَستَرِدُّ الوَكالَةَ مِنّي، وأَنا لا أَقوى على الفِلاحة، وأَخجَلُ بِالاستِعطاء. 4قد عرَفتُ ماذا أَعمَلُ حتَّى إِذا نُزِعتُ عنِ الوَكالَة، يَكونُ هُناكَ مَن يَقبَلونَني في بُيوتِهم. 5فدَعا مَديني سَيِّدِه واحِداً بَعدَ الآخَر وقالَ لِلأَوَّل: كم عَلَيكَ لِسَيِّدي؟ 6قال: مِائةُ كَيْلٍ زَيتاً: فقالَ له: إِلَيكَ صَكَّكَ، فاجلِسْ واكتُبْ على عَجَلٍ: خَمسين. 7ثُمَّ قالَ لآخَر: وأَنتَ كم عَليكَ؟ قال: مِائةُ كَيْلٍ قَمحاً. قالَ له: إِلَيكَ صَكَّكَ، فَاكتُبْ: ثَمانين. 8فأَثْنى السَّيِّدُ على الوَكيلِ الخائِن، لأَنَّه كانَ فَطِناً في تَصَرُّفِه. وذلِك أَنَّ أَبناءَ هذهِ الدُّنيا أَكثرُ فِطنَةً مع أَشباهِهِم مِن أَبْناءِ النُّور. 9"وأَنا أَقولُ لَكم: اِتَّخِذوا لكم أَصدِقاءَ بِالمالِ الحَرام، حتَّى إِذا فُقِدَ قَبِلوكُم في المَساكِنِ الأَبَدِيَّة. 10مَن كانَ أَميناً على القَليل، كانَ أَميناً على الكثيرِ أَيضاً. ومَن كانَ خائِناً في القَليل كانَ خائِناً في الكَثيرِ أَيضاً. 11فَإِذا لم تَكونوا أُمَناء على المالِ الحَرام، فعَلى الخَيرِ الحَقِّ مَن يَأَتَمِنُكم؟ 12وإِذا لم تكونوا أُمَناءَ على ما لَيسَ لَكم، فمَن يُعطيكُم ما لَكم؟ 13"ما مِن خادِمٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلَزمَ أَحَدَهما ويَزدَرِيَ الآخَر. فأَنتُم لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِله ولِلمال".
ملكوت الله والزواج 14 – 18
14 وكانَ الفِرِّيسِيُّونَ، وهُم مُحِبُّونَ لِلمال، يَسمَعونَ هذا كُلَّه وَيَهزَأُونَ بِه. 15فقالَ لَهم: "أَنتُم تُزَكُّونَ أَنفُسَكم في نَظَرِ النَّاس، لكِنَّ اللهَ عالِمٌ بِما في قُلوبِكم، لأَنَّ الرَّفيعَ عِندَ النَّاسِ رِجْسٌ في نَظَرِ الله. 16دامَ عَهْدُ الشَّريعَةِ والأَنبِياءِ حتَّى يوحَنَّا، ومِن ذلكَ الحِينِ يُبَشَّرُ بِمَلكوتِ الله، وكُلُّ امْرِئٍ مُلزَمٌ بِدُخوِله.17"لأَن تَزولَ السَّماءُ والأَرضُ أَيسرُ مِن أَن تَسقُطَ نُقطَةٌ واحِدَةٌ مِنَ الشَّريعَة. 18"كُلُّ مَن طَلَّقَ امرَأَتَهُ وتَزَوَّجَ غَيرَها فقَد زَنى، ومَن تَزَوَّجَ الَّتي طَلَّقَها زَوجُها فقَد زَنى.
19 – 31: الغني ولعازر
19"كانَ رَجُلٌ غَنِيٌّ يَلبَسُ الأُرجُوانَ والكَتَّانَ النَّاعِم، ويَتَنَعَّمُ كُلَّ يَومٍ تَنَعُّماً فاخِراً. 20وكانَ رَجُلٌ فَقيرٌ اسمُهُ لَعازَر مُلْقىً عِندَ بابِهِ قد غطَّتِ القُروحُ جِسْمَه. 21وكانَ يَشتَهِي أَن يَشبَعَ مِن فُتاتِ مائِدَةِ الغَنيّ. غَيرَ أَنَّ الكِلابَ كانت تأتي فتَلحَسُ قُروحَه. 22وماتَ الفَقيرُ فحَمَلَتهُ المَلائِكَةُ إِلى حِضْنِ إِبراهيم. ثُمَّ ماتَ الغَنيُّ ودُفِن. 23فرَفَعَ عَينَيهِ وهوَ في مَثْوى الأَمْواتِ يُقاسي العَذاب، فرأَى إِبْراهيمَ عَن بُعدٍ ولَعازَرَ في أَحضانِه. 24فنادى: يا أبتِ إِبراهيمُ ارحَمنْي فأَرسِلْ لَعاَزر لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصبَعِهِ في الماءِ ويُبَرِّدَ لِساني، فإِنِّي مُعَذَّبٌ في هذا اللَّهيب. 25فقالَ إِبراهيم: يا بُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعاَزرُ البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب. 26ومع هذا كُلِّه، فبَيننا وبَينَكم أُقيمَت هُوَّةٌ عَميقة، لِكَيلا يَستَطيعَ الَّذينَ يُريدونَ الاجتِيازَ مِن هُنا إِلَيكُم أَن يَفعَلوا ولِكَيلا يُعبَرَ مِن هُناك إِلَينا. 27فقال: أَسأَلُكَ إِذاً يا أَبتِ أَن تُرسِلَهُ إِلى بَيتِ أَبي، 28فإِنَّ لي خَمسَةَ إِخَوة. فَلْيُنذِرْهُم لِئَلاَّ يَصيروا هُم أَيضاً إلى مَكانِ العَذابِ هذا. 29فقالَ إِبراهيم: عندَهُم موسى والأَنبِياء، فَلْيَستَمِعوا إِلَيهم. 30فقال: لا يا أَبتِ إِبراهيم، ولكِن إذا مَضى إِليهِم واحِدٌ مِنَ الأَمواتِ يَتوبون. 31فقالَ له: إِن لم يَستَمِعوا إِلى موسى والأَنبِياء، لا يَقَتَنِعوا ولو قامَ واحِدٌ مِنَ الأَموات".
تحليل نص لوقا 16، 1 - 15
« وقالَ أَيضاً لِتَلاميذِه: كانَ رَجُلٌ غَنِيٌّ وكانَ لَه وَكيلٌ فشُكِيَ إِلَيه بِأَنَّه يُبَذِّرُ أَموالَه .فدَعاهُ وقالَ له: ما هذا الَّذي أَسمَعُ عَنكَ ؟ أَدِّ حِسابَ وَكالَتِكَ، فلا يُمكِنُكَ بَعدَ اليَومِ أَنْ تَكونَ لي وَكيلاً. فقالَ الوكيلُ في نَفْسِه: ماذا أَعمَل ؟ فَإِنَّ سيِّدي يَستَرِدُّ الوَكالَةَ مِنّي، وأَنا لا أَقوى على الفِلاحة، وأَخجَلُ بِالاستِعطاء. قد عرَفتُ ماذا أَعمَلُ حتَّى إِذا نُزِعتُ عنِ الوَكالَة، يَكونُ هُناكَ مَن يَقبَلونَني في بُيوتِهم. فدَعا مَديني سَيِّدِه واحِداً بَعدَ الآخَر وقالَ لِلأَوَّل: كم عَلَيكَ لِسَيِّدي ؟ قال: مِائةُ كَيْلٍ زَيتاً: فقالَ له: إِلَيكَ صَكَّكَ، فاجلِسْ واكتُبْ على عَجَلٍ: خَمسين. ثُمَّ قالَ لآخَر: وأَنتَ كم عَليكَ ؟ قال: مِائةُ كَيْلٍ قَمحاً. قالَ له: إِلَيكَ صَكَّكَ، فَاكتُبْ: ثَمانين. فأَثْنى السَّيِّدُ على الوَكيلِ الخائِن، لِأَنَّه كانَ فَطِناً في تَصَرُّفِه. وذلِك أَنَّ أَبناءَ هذهِ الدُّنيا أَكثرُ فِطنَةً مع أَشباهِهِم مِن أَبْناءِ النُّور. وأَنا أَقولُ لَكم
: اِتَّخِذوا لكم أَصدِقاءَ بِالمالِ الحَرام، حتَّى إِذا فُقِدَ قَبِلوكُم في المَساكِنِ الأَبَدِيَّة. مَن كانَ أَميناً على القَليل، كانَ أَميناً على الكثيرِ أَيضاً. ومَن كانَ خائِناً في القَليل كانَ خائِناً في الكَثيرِ أَيضاً. فَإِذا لم تَكونوا أُمَناء على المالِ الحَرام، فعَلى الخَيرِ الحَقِّ مَن يَأَتَمِنُكم ؟ وإِذا لم تكونوا أُمَناءَ على ما لَيسَ لَكم، فمَن يُعطيكُم ما لَكم؟ ما مِن خادِمٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لِأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلَزمَ أَحَدَهما ويَزدَرِيَ الآخَر. فأَنتُم لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِله ولِلمال. وكانَ الفِرِّيسِيُّونَ، وهُم مُحِبُّونَ لِلمال، يَسمَعونَ هذا كُلَّه وَيَهزَأُونَ
بِه. فقالَ لَهم- أَنتُم تُزَكُّونَ أَنفُسَكم في نَظَرِ النَّاس، لكِنَّ اللهَ عالِمٌ بِما في قُلوبِكم، لِأَنَّ الرَّفيعَ عِندَ النَّاسِ رِجْسٌ في نَظَرِ الله. »
بداية يمكننا القول بأن وصف الوكيل بالخائن أو بالغير عادل، يعود لكونه كان كريماً مع المدينين على حساب صاحب الملك. الآية 8: « فأَثْنى السَّيِّدُ على الوَكيلِ الخائِن، لِأَنَّه كانَ فَطِناً في تَصَرُّفِه، وذلك أَنَّ أَبناءَ هذهِ الدُّنيا أَكثرُ فِطنَةً مع أَشباهِهِم مِن أَبْناءِ النُّور» تقول لنا بوضوح بأن المديح يخص ذكاء وفطنة تصرف الوكيل، وليس عدم نزاهته. وبما يخص الفطنة في العلاقات البشرية، أبناء النور، كما كان المسيحيون يسمون أنفسهم، منورين بكلمة الله، بإمكانهم أن يتعلموا من أبناء هذه الدنيا، من اللذين لا يهتمون بالإيمان ولا بالحياة الآخرة؛ حتى في حال تصرفوا بطريقة غير شريفة، يمكن للمؤمن الحقيقي أن يميز بعض القيم التي من المستحسن له أن يعيشها.
رسالة المثل التي نقرأها في الآية 8، يتم توضيح معناها من قبل يسوع في الآية 9: « وأَنا أَقولُ لَكم: اِتَّخِذوا لكم أَصدِقاءَ بِالمالِ الحَرام، حتَّى إِذا فُقِدَ قَبِلوكُم في المَساكِنِ الأَبَدِيَّة». إنه تحريض للتلاميذ لمعرفة كيفية استعمال المال بفطنة في أجل ملكوت الله. إذا عرف الوكيل الخائن كيف يستعمل خيرات هذا العالم ليخلق له أصدقاء ويهيئ لمستقبله الأرضي، فكم بالأحرى على المسيحي أن يهيئ مستقبله الأبدي بمشاركته الفقراء من خلال الصدقة؛ لكي يستقبلوه في مدينة الله، فالفقراء هم في منزلهم لدى الله بحسب روحانية التطويبات، كما هو واضح في الآيات 19 وتابع (لعازر والغني). فالإنسان الفطن هو من يعتبر المال وسيلة وليس هدف. المال غير عادل وغشاش إن صح التعبير، والوكيل وصف بنفس الطريقة في الآية 8، لأن المال بإمكانه أن يتحول إلى صنم، وفي حال مقارنته مع خيرات الملكوت الحقيقة والأبدية، يبدو المال على أنه ذات قيمة غير أكيدة ومؤقتة. ملكوت المال له نهاية.
الآية 9 تهدف لإبعاد كل سوء فهم ولمنع بشكل نهائي، بأن نرى في المثل تشجيع أو دعوة للغش « مَن كانَ أَميناً على القَليل، كانَ أَميناً على الكثيرِ أَيضاً. ومَن كانَ خائِناً في القَليل كانَ خائِناً في الكَثيرِ أَيضاً. وإِذا لم تكونوا أُمَناءَ على ما لَيسَ لَكم، فمَن يُعطيكُم ما لَكم؟ » الآيتين 10 و 12. مقابل عدم العدالة التي تميز الوكيل والمال، هناك ما يعارضها: الأمانة التي تنمو يوماً بعد يوم في استعمال الخيرات الروحية والأرضية. من خلال 3 تباينات، هذا التحريض يتوجه بشكل خاص للمسؤولين عن الجماعات المسيحية: الأمانة المطلوبة من الذين يجيرون الخيرات المادية، مطلوبة بشكل أكبر لدى المسؤولين عن الخير الروحي لأخوتهم. الآية 13: « ما مِن خادِمٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لِأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلَزمَ أَحَدَهما ويَزدَرِيَ الآخَر. فأَنتُم لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِله ولِلمال »، تشكل مثلاً وشرحاً للمثل كما أنها الكلمة الأخيرة التي تخص موضوع المال. من يعبد المال ويجعله صنماً له، لا يمكنه أن يكون ابن النور. منذ أن ظهر الله في العالم، والإنسان أمام خيار جذري. فعلى المسيحي أن يُظهر، من خلال استعماله للمال بأنه ينتمي إلى الله.
كما أن الآيات 10 – 12 يمكن اعتبارهم كخلاصة متدرجة وتنهي شرح الرسالة العامة للنص:
1-الزمن الحاضر هو زمن مؤقت، زمن إرجاء علينا الاستفادة منه لكي نؤمن إن صح التعبير الحياة الأبدية، كما يُبينه لنا مثل الغني ولعازر.
2- مستقبلنا يرتبط بنوعية علاقاتنا مع الآخرين: علينا العبور من علاقات قانونية، علاقات قدرة، علاقات تجارية، إلى علاقات صداقة مؤسسة على حلّ الديّن؛ الصداقة التي نتشارك بها بهذه الطريقة هي طريقة تعطي للجميع الخلاص الأبدي.
3- الخيرات هي ملك الله وحده. ونحن مؤمنين عليها، نحن وكلاء عليها لكي تخدم الأخوة بين البشر. وبالتالي عدم العدالة التي تتعارض مع عدل الله، تكمن في امتلاك المال. لأننا بامتلاكنا له نحيده عن هدفه الصحيح: خدمة الأخوة من خلال مجانية تُظهر النعمة التي نعيشها.
فالآية 13 « ما من خادم يستطيع أن يعمل لسيدين، لأنه إما أن يبغض أحدهما ويحب الآخر، وإما أن يلزم أحدهما ويزدري الآخر. فأنتم لا تستطيعون أن تعملوا لله وللمال » تصبح يقين: فإمّا نحن بالفعل وكلاء وبالتالي أمينين لله، وإمّا نتصرف كمالكين وبالتالي لسنا أمنين لله. لا يمكننا أن نلعب على الطرفين: أن نكون أُمناء لله، هذا يعني التخلي عن التصرف كمالكين.
تحليل نص من إنجيل لوقا 15، 11 - 32
أنجيل لوقا 15، 11 – 32
وقال: كان لرجل ابنان. فقال أصغرهما لأبيه: يا أبت أعطني النصيب الذي يعود علي من المال. فقسم ماله بينهما. وبعد بضعة أيام جمع الابن الأصغر كل شيء له، وسافر إلى بلد بعيد، فبدد ماله هناك في عيشة إسراف. فلما أنفق كل شيء، أصابت ذلك البلد مجاعة شديدة، فأخذ يشكو العوز. ثم ذهب فالتحق برجل من أهل ذلك البلد، فأرسله إلى حقوله يرعى الخنازير. وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلا يعطيه أحد. فرجع إلى نفسه وقال: كم أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك هنا جوعا! أقوم وأمضي إلى أبي فأقول له:
يا أبت إني خطئت إلى السماء وإليك. ولست أهلا بعد ذلك لأن أدعى لك ابنا، فاجعلني كأحد أجرائك. فقام ومضى إلى أبيه. وكان لم يزل بعيدا إذ رآه أبوه، فتحركت أحشاؤه وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبله طويلا. فقال له الابن: يا أبت، إني خطئت إلى السماء وإليك، ولست أهلا بعد ذلك لأن أدعى لك ابنا. فقال الأب لخدمه: أسرعوا فأتوا بأفخر حلة وألبسوه، واجعلوا في إصبعه خاتما وفي قدميه حذاء، وأتوا بالعجل المسمن واذبحوه فنأكل ونتنعم، لأن ابني هذا كان ميتا فعاش، وكان ضالا فوجد. فأخذوا يتنعمون. وكان ابنه الأكبر في الحقل، فلما رجع واقترب من الدار، سمع غناء ورقصا. فدعا أحد الخدم واستخبر ما عسى أن يكون ذلك. فقال له: قدم أخوك فذبح أبوك العجل المسمن لأنه لقيه سالما. فغضب وأبى أن يدخل. فخرج إليه أبوه يسأله أن يدخل، فأجاب أباه: ها إني أخدمك منذ سنين طوال، وما عصيت لك أمرا قط، فما أعطيتني جديا واحدا لأتنعم به مع أصدقائي. ولما قدم ابنك هذا الذي أكل مالك مع البغايا ذبحت له العجل المسمن! فقال له: يا بني، أنت معي دائما أبدا، وجميع ما هو لي فهو لك. ولكن قد وجب أن نتنعم ونفرح، لأن أخاك هذا كان ميتا فعاش، وكان ضالا فوجد.
في البداية ألفت الانتباه إلى أننا اعتدنا أن نقرأ فقط القسم الأول من النص، أي ما يخصّ الابن الأصغر ونتجاهل كليّة الابن الأكبر. فعنونة النص «بالابن الضال» يعطي للنص توجه مسبق وأخلاقي بينما للنص برأي، توجه آخر وأشمل. بينما يركز العنوان على خطيئة واهتداء الابن الأصغر، سوف نرى كيف أن النصّ يريد التركيز أكثر بكثير على وجه الآب. الآب المحب بلا حدود والغافر باستمرار، الآب الذي يفرح لفرح ابنه ولا يسعى لامتلاكه ولا بأي طريقة كانت. فماذا يريد أن يقول لنا النص؟ ومن هو الابن الضال؟
أكثر ما يلفت الانتباه في هذا النص هو بدون شك صمت الأب! هذا الصمت الذي، كما سنراه لاحقاً ليس بصمت سلبي، بل هو أفضل تعبير عن الحبّ واحترام حرية الآخر (الابن). وما يؤكد ذلك هو قبوله بقسم الميراث على عكس المألوف حيث تتم هذه العملية بعد وفاة المورِّث.
احترام الأب للابن يذهب إلى أقصى الدرجات، يذهب إلى قبول ضياع الابن ووصوله إلى عتبة الموت. وهنا لا يمكننا إلاَّ أن نفكر بالصليب حيث لم يتدخل الآب وترك شر الإنسان يقتل ابنه الوحيد واثقاً بأنه سيقوم من الموت وينتصر عليه. هذا يعني أن الله يثق بالإنسان لكن العكس فلا!
عندما شارف الابن الأصغر على الموت يقول لنا النص بأنه «رجع إلى نفسه وقال»، والترجمة الحرفية تقول «بأنه ذهب باتجاه ذاته وقال» والفارق مهم للغاية. عندما نقول رجع إلى نفسه، هذا يعني أنه كان سابقاً مع ذاته وابتعد عنها ثم اهتدى إن صح التعبير فعاد إليها مجدداً (هنا نلمس التوجه المسبق الذي اعتدنا أن نعطيه للنص باتجاه الخطيئة والاهتداء). بينما عبارة ذهب باتجاه ذاته تعني أنه لأول مرّة يلتقي مع ذاته وبالحقيقة. فما الذي يحدث في هذا اللقاء مع الذات؟ يكتشف أولاً حب أبيه الفيّاض: « كم أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك هنا جوعاً». كلنا نعلم أنه في تلك الفترة الزمنية بالكاد يستطيع الأجير أن يأكل من فتاة معلمه، بينما هنا الخبز يفيض لدى الأجير، تعبير عن فيض حبّ الأب. وهذا يفكرنا بقول يسوع في إنجيل يوحنا « أَمَّا أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم» (10، 10).
أمام هذا الكشف لفيض حبً الأب لا يمكن للابن إلاَّ أن يكتشف ذاته خاطئاً، أي أنه لم يقدّر هذا الحبً من جهة، ومن جهة ثانية لم يجب على هذا الحبّ بحب مماثل! هذا الأمر يسلط ضوءً مهماً جداً على مفهوم سر الاعتراف الذي نسميه اليوم سر المصالحة. فسر الاعتراف إن قبلنا بهذه التسمية، هو قبل كل شيء وجوهرياً اعتراف بحب الآب الفيّاض من جهة، وكمجهة أخرى، أمام هذا الحبّ الفياض أكتشف ذاتي خاطئاً، ثم أطلب المعونة من الله لكي أستطيع أن يجيب على هذا الحبّ بحبّ مماثل قدر المستطاع.
هذا النص يسلط الأضواء أيضاً على أحد أوجه مفهوم الخطيئة في الإيمان المسيحي، بمعنى أن كل خطيئة تسيء في آنٍ معاً إلى الله وإلى الآخر : «قد خطئت للسماء وإليك». كما أنه يقول لنا من هو الإنسان المسيحي: إنه إنسان خاطئ مغفورة له خطاياه.
لدى عودة الابن، لم يقل له الأب شيئاً من نوع الملامة (لماذا فعلت بنا ذلك الخ.)، ولم يرد أن يسمع حتى اعترافه، بل اكتفى بالتعبير عن فرحته لا بعودة الابن له، بل بعودة الابن إلى الحياة «لأن ابني هذا كان ميتا فعاش، وكان ضالا فوجد».
إذا انتقلنا إلى الابن الأكبر ماذا نلاحظ؟ أولاً أنه لا يعيش ذاته كابن ، بل كعبد يخدم سيده: « ها إني أخدمك منذ سنين طوال، وما عصيت لك أمرا قط، فما أعطيتني جديا واحدا لأتنعم به مع أصدقائي». وبالتالي لا يعي عطاء أبيه الذي لا يملك شيئاً إن صح التعبير فكل ما له هو لأبنائه : « جَميعُ ما هو لي فهُو لَكَ». وانتهى الابن الأكبر بتعنته بعدم الاشتراك بفرح عودة أخيه. هذا الموقف مهم لأنه يُظهر لنا المفهوم الصحيح لما اعتدنا أن نسميه بالدينونة؛ أي أن الله لا يدين، بل نحن من ندين أنفسنا « الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّورَ جاءَ إِلى العالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أَعمالَهم كانت سَيِّئَة .... إن سَمِعَ أَحَدٌ كَلامي ولَم يَحفَظْه فأَنا لا أَدينُه لأَنِّي ما جِئتُ لأَدينَ العالَم بل لأُخَلِّصَ العالَم. مَن أَعرَضَ عَنِّي ولَم يَقبَلْ كَلامي فلَه ما يَدينُه: الكَلامُ الَّذي قُلتُه يَدينُه في اليَومِ الأَخير » (يو 3، 19 و 12، 47 - 48). مقياس دينونتنا هي كلمة الله، أو بالأحرى تصرفاتنا أمام هذه الكلمة. بمعنى آخر الدينونة هي نتيجة اختياراتنا.
في النهاية أقول بأن الابن الأكبر هو في الحقيقة الابن الضال وليس الابن الأصغر كما اعتدنا أن نقول!
أخيراً ما يريد أن يكشفه لنا هذا النص هو بدون شك وجه الآب المحب، والمحبّ إلى «أقصى الحدود». وأفضل مكان يظهر فيه هذا الحب هو المغفرة والمسامحة. فالله يسامح بمجانية هائلة، لا تعرف الحدود. حبّ الآب كما بيناه يعني بأن الله لا يعاملنا بالعدل، وإلاَّ تكون النتيجة كارثة، بل يعاملنا بالمغفرة والمسامحة، بمعنى آخر كل إنسان يخلص، كل إنسان يدخل الملكوت إلاَّ إذا رفض وأتساءل فيما إذا كان هذا الإنسان موجود على وجه الأرض.
تحليل نص من إنجيل مرقس 2، 18 - 22
إنجيل مرقس 2، 18 – 22
وكانَ تَلاميذُ يوحَنَّا والفِرِّيسِيُّونَ صائِمين، فأَتاه بَعضُ النَّاسِ وقالوا له: «لِماذا يَصومُ تَلاميذُ يوحَنَّا وتَلاميذُ الفِرِّيسيِّين، وتَلاميذُك لا يَصومون ؟» فقالَ لَهم يسوع: «أَيَستَطيعُ أَهلُ العُرسِ أَن يَصوموا والعَريسُ بَينَهم ؟ فمادامَ العَريسُ بينَهم، لا يَستَطيعونَ أَن يَصوموا. ولكِن سَتَأتي أَيَّامٌ فيها يُرفَعُ العَريسُ مِن بَينِهم. فعِندئِذٍ يَصومونَ في ذلك اليَوم. ما مِن أَحَدٍ يَرقَعُ ثَوباً عَتيقاً بِقُطعَةٍ مِن نَسيجٍ خام، لِئَلاَّ تَأخُذَ القِطعَةُ الجديدَةُ على مِقْدارِها مِن الثَّوبِ وهو عَتيق، فيَصيرُ الخَرقُ أَسوَأ. وما مِن أَحَدٍ يَجعَلُ الخَمرَةَ الجَديدَةَ في زِقاقٍ عَتيقة، لِئَلاَّ تَشُقَّ الخَمرُ الزِّقاقَ، فَتتلَفَ الخَمرُ والزِّقاقُ معاً. ولكِن لِلخَمرَةِ الجَديدة
زِقاقٌ جَديدة».
ما يفلت الانتباه في هذا الجدال بين يسوع والحاضرين هو أن يسوع مَحوَر الصوم حول شخصه، حول وجوده وعدم وجوده. هذا يعني أن الصوم يستمد معناه من يسوع وليس من أي مصدر آخر. بمعنى آخر يمكننا القول بأن المسيح أعطى للصوم معنى جديد وجذري. يقول لنا أنه عندما يكون حاضراً بيننا فلا حاجة لنا للصوم. والكنيسة تقول استناداً للإنجيل، بأن المسيح حيّ بيننا وهو حاضر معنا دائماً. هذا يعني أن المسيحي ليس بحاجة إلى الصيام، بما أن المسيح «العريس» حاضر في حياته وفيه؛ ولكن المشكلة هي من طرفنا، بمعنى أننا نحن بعيدون عن المسيح ونخرجه من حياتنا، وغالباً نعيش كما لو أننا لسنا بحاجة إليه، وبالتالي على المسيحي أن تكون حياته كلها صيام، بمعنى أنها محاولات جادّة لجعل المسيح أكثر حضوراً في حياتنا. وهذا يتم بطرق متعددة: الصلاة، الصيام، الصدقة، الخ.
في البداية نقول أنه إن أردنا تحقيق ذلك علينا قبل كل شيء اختبار غياب المسيح من حياتنا، غياب علاقتنا معه أو على الأقل ضعف هذه العلاقة، وبالمقابل وجود رغبة حقيقية في أن يكون أكثر حضوراً فيها، وهنا يأتي دور الصلاة والتأمل في الإنجيل. لهذا السبب تدعونا الكنيسة للإكثار من الصلاة في هذه الفترة المقدسة بالإضافة إلى ممارسة الصدقة. وفي الوقت عينه علينا أن لا ننسى بأن المسيح حاضر بيننا من خلال الآخر ونبني علاقتنا معه أيضاً من خلال الآخر، وهنا يأتي دور الصوم والصدقة.
إن قبلنا هذا المفهوم، فالصوم يأخذ آنذاك معنيين على الأقل:
أولاً: عندما نصوم نشعر بالنقص المادي، هذا النقص المادي يدفعنا للإدراك بأنه في أغلب الأحيان نسعى وراء الملء المادي معتقدين بأنه مصدر خلاصنا وضمانتنا وسعادتنا، بينما الإيمان يذكرنا بأن ما من أحد يملينا ويعطينا معنى لحياتنا إلاَّ المسيح وحضوره فيها. هذا هو البعد الروحي للصوم، هذه هي مكانة الصلاة والتأمل والحياة الروحية في هذه المرحلة المقدسة.
ثانياً: إن كنّا نعيش حضور المسيح في حياتنا من خلال الآخر، فهذا يعني أنه من خلال الصوم أختبر أيضاً نقص حضور الآخر في حياتي، وبالتالي يتحول الصوم إلى السعي والقيام بكل ما يلزم لجعل الآخر أكثر حضوراً في حياتي، وخاصة إلى بناء علاقاتي معه على أساس المحبة والرغبة والمجانية وليس على أساس المصلحة الشخصية البحتة.
أخيراً إن كان الصوم المقدس يقودنا إلى الفصح، إلى القيامة، فهذا يعني أن الصوم هو بمثابة مسيرة تحرر وموت تتكلّل بالقيامة. تحرر من، وموت عن كل ما يمنعني من أن أحقق ما سبق وتكلمنا عنه، كل ما يستعبدني ويسلب حرّيتي ويجعلني غريباً عن ذاتي، عن حقيقتي؛ يمنعني من تحقيق ذاتي كإنسان حر وخلاّق، ابناً لله على صورته كمثاله.
العنوان | مشاهدة |
---|---|
تحليل نص الوكيل الخائن | |
تحليل نص لوقا 16، 1 - 15 | |
تحليل نص من إنجيل لوقا 15، 11 - 32 | |
تحليل نص من إنجيل مرقس 2، 18 - 22 |