ما هي الروحانية الإغناطية؟
تتميّز الروحانيّة الإغناطيّة بسمتين: فهي روحانيّة علمانية وإنسانية.
روحانيّة علمانيّة
تتصف الروحانيّة الإغناطيّة بأنها روحانيّة علمانيّة، بمعنى أنّ اغناطيوس قد وضع أسسها ومعالمها إذ كان علمانيًا، لا كاهنًا أو راهبًا، وذلك على خلاف معظم الروحانيّات الكنسية الشعبيّة التي وضعها رهبان أو كهنة. فإنّ مجمل ملامح الروحانيّة الإغناطيّة حاضرة في كتاب الرياضات الروحيّة.
وهذا الكتاب هو ثمرة خبرة اغناطيوس الشخصيّة وخلاصتها إذ كان بعد علمانيًا. وجميع خطوات هذه المسيرة الروحيّة بل والتصوُّفيّة قد اختبرها اغناطيوس وهو علمانيّ، لم يُفكِّر لا في الكهنوت ولا في الرهبنة. فروحانيّته نابعة إذًا من مؤمن علمانيّ، كما أنّها موجّهة إلى العلمانيِّين.
فإن تأثّرت بعض الحقبات من تاريخ الكنيسة بالرهبان خصوصًا؛ وإن كانت كنيسة المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1967) كنيسة الأساقفة خصوصًا؛ فكنيسة القرن الحادي والعشرين ستكون ـــــ على ما يبدو ــــ كنيسة العلمانيِّين الذين سيقومون بدورهم الفعّال فيها وسيُبرزون مواهبهم الكنسيّة فيها (بدون أن يُهمل دور الأساقفة الرائد، ولا دور الرهبان النبويّ).
فمواهب الروح القدس متنوّعة، وحان الوقت لتظهر مواهب العلمانيِّين في الكنيسة. وبناءً على ذلك، فإنّ تنشئة العلمانيِّين، والثقة بهم وبقدراتهم الروحيّة والخدمية والكنسيّة... لمن الأمور المُلِّحة في مطلع هذا القرن وهذه الألفيّة. فكلُّ ما من شأنه أن يُساهم في تكوين العلمانيِّين وفي فتح مجالات جديدة لتحملُّهم مسؤوليّات في الكنيسة، إنمّا يواكب هذا الاتِّجاه الذي أعرب عنه قداسة البابا.
فإن كان الأمر كذلك، فإنّ الروحانيّة الإغناطيّة العلمانيّة تُمثِّل فرصة ذهبيّة للكنيسة جمعاء، ولا سيّما لأولئك الذين ينتمون إليها، مثل «رفاق الكرمة، جماعات حياة مسيحية». وكلّما تعمّق العلمانيُّون الاغناطيون في روحانيّة مؤسِّسهم العلمانيّ، إنمّا هم يواكبون الاتِّجاه الذي تسير فيه كنيسة القرن الحادي والعشرين.
روحانيّة إنسانيّة
نشأ اغناطيوس وترعرع في غضون النهضة الأوربيّة في القرن السادس عشر. وقد ركّزت اهتمامها على «الإنسان» ودوره في الكون والتاريخ، وفي التطوُّر والتقدُّم؛ وذلك بفضل الاكتشافات العلميّة والجغرافيّة، والثقافيّة والمطبعيّة... وعصرنا يتّسم باهتمامات وتطلّعات وإنجازات مماثلة.
وقد تأثرت الروحانيّة الإغناطيّة بهذه الروح، حتّى إنّ أول كلمة من «المبدأ والأساس» هي: «الإنسان». فروحانيّة أغناطيوس العلمانيّة، هي روحانيّة إنسانيّة محض، محورها وفاعلها وهدفها إنّما هو الإنسان. وفي ذلك تشابه عظيم وعصرنا هذا.
إلا أنّ الإنسان ـــــــ بحسب أغناطيوس ــــــــ مغمور في الله، وليس إنسانًا مستقلاً عن الله. فيُضيف النصُّ المذكور هذه الكلمات: «الإنسان خُلق ليُسبِّح الله ويُكرِّمه ويخدمه». وينتهي النصُّ بهذه الكلمات: «ما يزيدنا اهتداء إلى الغاية التي لأجلها خلقنا»، وهي الله.
فكلمة الإنسان الأولى والأخيرة إنّما هي الله ـــــــ في المنظور الإغناطي ـــــــ وذلك على خلاف نهضة عصره، أو تفوُّق عصرنا. فقد صحّح أغناطيوس ما قد يعتري الإنسان من كبرياء أو تسلُّط، ومن استقلال بدون مرجعيّة الله. فملحمة أغناطيوس هي ملحمتنا نحن في تعظيمنا للإنسان. الإنسان المغمور في الله.
وهناك أمرٌ آخر يجعل أغناطيوس قريبًا منّا، وهو تركيزه على جميع أبعاد الإنسان، ولا على حياته الروحيّة فقط. فقد تحدّث عن الإنسان بمجمله، أي بجميع أبعاده النفسيّة والروحيّة، والعقليّة والوجدانيّة والاجتماعيّة والعمليّة... فلنتذكّر تقدمة ختام «الرياضات الروحيّة»: «خذ واقبل، يا ربّ، حرِّيتي كلها، وذاكرتي وعقلي وإرادتي كلها. كلّ ما هو لي وما عندي...». فالإنسان كله ـــــــ بجميع أبعاده ـــــــ هو من الله وإلى الله ولله. وعليه، فالإنسان الإغناطي لا يهتمّ بالروح فقط، بل بالإنسان بكليته وبكلّ ما يُكوِّن لحمة حياته.
ومّا يلفت النظر أيضاً أنّ روحانيّة أغناطيوس مُفعمة بالتعابير الوجدانيّة: الحبّ، الرغبة، الشعور، التأثُّر، التذوُّق، الانبساط، الانقباض... وذلك على خلاف تيّار ساد الكنيسة يُركِّز على العقل أو الإرادة أو التجرُّد من المشاعر... فأغناطيوس قد وُفِّق إذ دمج الوجدان في حياة الإنسان الروحيّة، كعنصر مهمّ منها، ولكن دونما الوقوع في فخِّ العواطف والأحاسيس المتأجِّجة التي تُفقد الإنسان صوابه وحكمته وتمييزه.
وتأكيدّا لذلك، لنتذكّر أن آخر مُشاهدة يعرضها أغناطيوس في «الرياضات الروحيّة» ـــــــ كثمرة لها ولمسيرتها ــــــ إنّما هي «المشاهدة لبلوغ الحبّ». فالمتريِّض ينطلق من رياضته الروحيّة إلى حياته اليوميّة وهو يسعى أن يبلغ الحبّ: حبّ الله وحبّ الخليقة وحب الإنسان. وإنّه يُترجم هذا الحبّ في الخدمة: فآخر نعمة يطلبها المتريِّض هي أن «يحبّ عزّته الإلهيّة ويخدمها في كل شيء».
من الفقر إلى الفقر الروحي، أو من الفقير إلى الفقير بالروح
لماذا اخترت هذا الموضوع؟ أولاً هناك صعوبة كبيرة بالتحدث عن الصوم الكبير دون الوقوع في التكرار، ثانياً في الكنيسة نشدد على الاهتمام بالفقراء في فترة الصوم، وأخيراً نحن جميعاً، ما عدا بعض الاستثناءات، نعيش بدرجات تختلف قليلاً، شكل من أشكال الفقر، بالإضافة إلى أن يسوع يقول لنا بأن ملكوت السماوات هو للفقراء بالروح.
فالموضوع مهم جداً لحياتنا المسيحية والروحية وبشكل خاص في الظروف التي نعيشها في هذه الأيام. سوف أتحدث أولاً عن تطور مفهوم الفقر والفقراء على مسار الكتاب المقدس، ثم سأحاول أن أشارككم كيفية العبور من الفقر، بمختلف أشكاله، إلى الفقر بالروح الذي يشكل بطريقة ما
جوهر دعوتنا كأبناء وبنات لله. سأتوقف إذن على التطويبة الأولى:
«طوبى للفقراء بالروح فإن لهم ملكوت السماوات».
لكي نفهم معنى كل تطويبة مُعلنة من قبل يسوع: طوبى للفقراء، للعطاش، الخ. علينا أن نأخذ بعين الاعتبار ثلاثة عوامل:
1- أصل التطويبة، أي معناها في العهد القديم وفي اليهودية الذي ألهم يسوع والإنجيليين، أي مصدر الكلمة أو الارتباط الكتابي.
2 - إطار الإنجيلي متى، الذي يشير إلى إعادة تأويل النصوص الأساسية. يسوع يتمم العهد القديم ويحمل له معنى جديد.
3 – شهادة حياة يسوع بقدر ما يوجد رابط بين ما يحمله الإنجيل من جديد والتطويبات الخاصة.
الكلمات التي، في العهد القديم، تتحدث عن الفقراء هي عبارات واقعية: إنهم المتسولين والمحتاجين، من يعبّر للآخرين عن احتياجاته. الضعيف والمنحني. هذه العبارات، من الكتاب المقدس العبري، تعبّر عن موقف جسدي للفقير. في العهد القديم نجد نوعين من الفقراء.
1 - المحتاجين، هم الذين، مادياً، لا يستطيعون تأمين حاجاتهم: الأرملة ومن هم في العوز.
2 – الأناوين تعني الودعاء، أنقياء القلوب، المتواضعين الذين يثقون بالله.
تطويبات الإنجيلي لوقا تستند إلى الفئة الأولى. المحتاجين ويأتي لنجدتهم. لهذا السبب يفضل الفقراء بكل بساطة. إنه الفقر ــــ حالة، الفقر المادي «طوبى لكم أيها الفقراء فإن لكم ملكوت السماوات». بينما تطويبات الإنجيلي متى تعود للفئة الثانية. الأناوين... فقراء القلب، إنه الفقر الداخلي. بالطبع نحن أحياناً محتاجين، وأحياناً فقراء القلب.
التعارض لدى متى ليس بين فقير وغني، إنما بين فقير ومتكبر. ما يميز المتواضع، الفقير بالروح، هو أنه شخص يثق بالله. وفي سفر صفنيا نرى بوضوح هذا الأمر: «في ذلك اليَومِ لا تَخجَلينَ مِن جَميعِ أَعمَالِكِ الَّتي عَصَيْتني بِها لِأَنِّي حينَئِذٍ أَنزعُ مِن وَسْطِكِ المتَباهينَ المُتَكَبِّرين فلا تَعودينَ تَتَشامَخينَ في جَبَلِ قُدْسي. وأُبْقي في وَسَطِكِ شَعْباً وَضيعاً فَقيراً فتَعتَصِمُ باسم الرَّبِّ» (صف 3، 11 - 12).
لدينا هنا أفضل وصف للفقر بالروح. والمزمور هو صلاة هؤلاء الفقراء الذين يتكلون على الله: «الربّ قَريب مِن مُنكَسِري القُلوب ويُخَلًصُ مُنسَحِقي الأرْواح» (مز 34، 19). طوبى لمن لهم قلب فقير لا تعني قبل كل شيء طوبى لمن تخلوا عن الغنى، إنما «طوبى لمن يثقون بالله، أو يسلمون ذاتهم لله». يمكننا القول بأن هذه التطويبة الأولى هي تطويبة الأيدي الفارغة، الأيدي المفتوحة، للقلب المفتوح. فقير الكتاب المقدس، المتواضع ــــ وبشكل خاص في المزامير ـــــ هو:
* الإنسان بدون دفاع، ضحية ولعبة الظلم. ويقبل، بدون تذمر، حالته المزرية ويوجّه لله وحده نظره ورجاءه. الفقر بحسب الإنجيلي متى أصبح طريق، أسلوب روحي أقرب إلينا. يمكننا التفكير بالقديسة تريزا التي غرفت من الإنجيل طريق التواضع، والطفولة الروحية، والرجاء.
الفقراء بالروح لدى متى يعبّرون عن موقف روحي أكثر من واقع جسدي أو اجتماعي. الفقير بالروح هو من يبحث بتواضع عن الله، من يلتجئ إليه، يخافه، ويخدمه. «إني إِلى هذا أَنظُر: إِلى المِسْكينِ المُنسَحِقِ الرُّوح المُرتعِدِ من كَلِمَتي» (أش 66، 1 - 2). ممّا يعني أن الفقير هو من يعترف، يقبل شقاؤه. فقره:
الجسدي: الصحة التي تضعف، والقوى التي تنقص وبالتالي الحاجة والمساعدة.
النفسي: جروحاتنا الشخصية، العائلية والجماعية.
الفقر الأخلاقي: الشقاء، التصدعات التي لا يعرفها إلى الشخص ذاته.
شقاء عاطفي: فقر في علاقاتنا العائلية، المهنية والجماعية.
فقر روحي: رفضنا للحب، خطايانا وقلبنا المنغلق.
نجد هذا الموقف بشكل خاص في المزامير: فقير ومتألم، فقير ووحيد، وغالباً فقير وتعيس. إطار المزامير يشير بوضوح أن الموضوع ليس الفقر المادي، إنما الفقر النفسي، الأخلاقي والروحي بالإضافة إلى الخطيئة. «إِلَيَّ اْلتَفِتْ واْرحَمْني فإِنَي وَحيدٌ بائِس» (24، 16).
في القرون الأخيرة قبل المسيح، الفقراء، هم المحتاجين، الجياع والعطاش لله، الذين يبحثون عن الله. فالفقير هو: من يعي شقائه، جرح خطيئته، وهذا الوعي يوجه الفقير باتجاه الله. وفي أغلب الأحيان، الصرخة «إني فقير» تؤدي إلى نداء لله، «عندما يدعو الفقير فالله يسمع».
الفقير هو من يعي لفراغ بداخله ويتوجه لله. هؤلاء الفقراء يعلموننا من خلال خبرتهم المؤلمة للنقص، بأن الله لا ينبعث إلاّ في القلوب المستعدة والمنفتحة على عمله. فللفراغ هناك الملء. الفقراء بالروح هم الأشخاص الذين ينحنون داخلياً، ويخضعون كلية لله ليغرفوا منه قوتهم.
تطويبة الفقراء بالروح تشكل جواب مكافأة على الانتظار الطويل لفقراء العهد القديم. لم يعطينا يسوع نظرية حول الفقر. لم يكتب دفاعاً عن الفقر. لدى يسوع، الفقر ليس بعقيدة، إنما حياة. ولد على القش، مات على الخشب، لا مثل يعقوب، إنما فقير بطريقته. لا معوز ولا بائس.
لا يبدو أنه يكره الوجبات الطيبة ولا يستنكف عن المشاركة في الموائد. رأيناه مع امرأة تصب على قدميه عطر غالي الثمن. أعلن البشرى للفقراء، للمعوزين. ولأنه عاش الفقر يستطيع يسوع أن يعلنه «سعيداً».
في نهاية التطويبة الأولى «طوبى للفقراء بالروح» يضيف يسوع: «فإن لهم ملكوت السماوات». إنهم المتواضعون بأيدي ممدودة، مفتوحة تعترف بنقصهم، ويخلقون الفراغ ليستقبلوا الملء. يسوع يريد أن يراني أنشر فقري فيه ليتحول إلى غناه. وبولس الرسول يتحدث عن تحرر يسوع المسيح. كيف هو الغني وقد جعل من نفسه فقيراً ليغنينا بفقره (2 قور 8، 9).
إذا أردنا أن نعيش التطويبة لكي يتكون يسوع فينا، علينا الاستمرار بالنظر إلى حياة يسوع ونتأملها. يسوع يحتاج إلى أب: «لَيسَ تَعليمي مِن عِندي بل مِن عِندِ الَّذي أَرسَلَني» (يو 7، 16). فالفقير بعد مجيء يسوع لم يعد المتسول، الجائع، والعاطل عن العمل.
إنه الإنسان «الطبيعي» إن صح التعبير، الذي يعيش واقعه ككائن إنساني، يعيش إنسانيته مع حاجاته. الفقير، هو الإنسان الذي، مغمور بالألم وتحت نور الله، يعي معنى أن يكون مخلوق وليس الخالق. الفقير هو الإنسان الذي يعلم أو يشعر بأنه مريض أو يشيخ، ضعيف، هش وصغير، يستقبل ما يحتوي الفقر من العزلة في الفقر، وعدم الأهلية ويقبلها.
باختصار، هو الإنسان الذي اكتشف حدوده ويمكنه أن يجعل من صلاة المزمور صلاته: «أَمِلْ يا رَبِّ أُذُنَكَ وأستَجبْ لي فإنِّي بائِسٌ مِسْكين» (86، 1). الفقر بالروح يشكل مفتاح التطويبات الأخرى. إنه يفتح باب الملكوت على مصراعيه. باب ضيق، الفقر هو العبور الإلزامي لعدم التملك والتخلي.
الفقير بالروح، فقير القلب، هو من ليس لديه شيئاً، ولا يملك شيئاً، وينتظر كل شيء من الآخرين، إنه بحاجة للآخرين ــــ أيدي مفتوحة وقلب مفتوح ــــ. فقط الفقير بالروح، يمكنه أن يحب لأن الحب يعني الحاجة إلى الآخر. أن يكون الإنسان فقير بالروح، يعني أن يكون في حالة استقبال.
مثل من يأخذ حمام شمس، فهو ليس بحاجة للقيام بأي شيء لكي تدفئه الشمس، تدخل فيه. يكفي بكل بساطة أن يكون هنا ويقدم ذاته لعمل الشمس، لشعاعها. حتى ولو آمنت بالشمس، إن لم أعرّض ذاتي لها لا تعطيني شيئاً. أن أعرض حاجاتي لله، أمر «طبيعي»، أمّا أن أعرضها للآخرين، فليس دائماً بالأمر السهل.
الفقر الجذري ينتزع الإنسان من كل ما يشكل عقبة للعطاء الكامل للحب. هذا الفقر هو انفتاح على «الاجتياح» ومع ذلك فهو يؤدي إلى الحرية الداخلية. الفقير الحقيقي لا يعرف المرارة عندما يمد يده. إذا عشت هذا الموقف بينما آخرون يمدون لي أيديهم، فأنا استقبلهم «كفقير بالروح» وليس كمتبرع أو محسن كريم يتخلى بكل كرم عن حقوقه ويجعل الآخرين يشعرون بذلك.
الفقير الحقيقي، تلميذ يسوع المسيح، دائماً مُجرّب ليقول شكراً عندما يعطي. الفقير هو من يكون له قلب مستقبل لكل إنسان، قلب جديد دائماً جاهز للاندهاش، وليترك نفسه يستغوي إلى حد ما على مثال إرميا: «قد استَغوَيتَني يا رَبُّ فاستُغْويت» (20، 7 - 13).
عندما نكون فقراء، عفوياً نتأمل لأننا نشعر بأننا بحاجة إلى الآب والابن والروح القدس، من ليس له شيئاً، لا شخص يمكنه أن يستند إليه، من لا يمكنه أن يمجد ذاته على استحقاقاته وحقوقه وفضائله. من ليس لديه يقدمه سوى بؤسه، هذا هو بالفعل فقير والله يأتي إليه مسرعاً.
فراغ الذات يدعو ملء الله. هذا الفقر يحتوي على شيء من الفرح، لأن إلهي وأبي هنا. هذا الفقر يطور هذا الموقف للانتظار ـــ للرغبة ـــ للاستعداد ـــــ للثقة التابعة والتي هي ثقة الفقير لله الذي يميزه موقف التواضع. والعذراء مريم اتكلت كلية على الله في يوم بشارتها: «فليكن لي بحسب قولك»، هذه العبارة تشكل برهان على ثقتها المطلقة بالله. قلب مريم متخلي بالعمق، مما سمح لتجسد الكلمة، ابن الله. لقد رتلت مريم نشيد الفقر: «نظر إلى تواضع أمته».
الخلاصة: الفقر هو موقف روحي داخلي يتميز بالاستعداد الكلي لله لأنه يأتي من قناعة متواضعة لبؤسه الروحي. لقد خطئت، ولدي نقاط ضعف، لست جيداً كما أريد، لكن الله هنا، إنه ينتظرني. فالفقير وضع كل أمله في الرب. أن يكون الإنسان فقير، يعني أن يكون متعطشاً لاستقبال ما يعطيه الله عندما نكون أهلاً للاستقبال.
لا وجود لطريقة أو أسلوب يحمل الله لنا إن لم نقبل بالذهاب إليه كشحاذين، متسولين له لكي نستحق أخيراً المكافأة، مكافأة التطويبة الأولى «لأن لهم ملكوت السماوات». هذه هي المئة ضعف الموعودة من يسوع. الإنجيلي متى يعلّم طرق عيش إنجيل لوقا. الفقر بالروح، بالقلب، تقودنا لمساعدة من هم فعلياً وواقعياً محتاجين.
ولا ننسى بأن الله يقول لنا بأننا دائماً في موقف المتعلم. لهذا السبب عليَّ أن أخطو خطوة جديدة كل يوم حتى ولو تعثرت. بذهابي إلى أقصى ما يمكنني، من كياني أنمو وأكبر، وأتمم إرادة الله وأغتني منه. فقري، بنظر العابر يبدو غني لأنه يحب الجمال ولأنه استقبل كثيراً من الآخرين ولأنه نظر مطولاً إلى المسيح الفقير.
تأمل في الجمعة العظيمة
في رتبة درب الصليب، بعد التعريف عن كل مرحلة يقول الكاهن «نسجد لك أيها المسيح ونباركك»، ونجيب «لأنك بصليبك المقدس خلّصت العالم». السؤال: كيف يمكن لصليب المسيح أن يخلّصنا؟ كيف يمكن للآلام أن تخلّصنا؟ هل هذا يعني أن المسيح أتى ليتألم؟
هل علينا أن نبحث عن الألم لكي نصل إلى الخلاص؟ أسئلة عديدة يطرحها موضوع الصليب والآلام. لكي نجيب عليها، علينا أولاً أن نقرأ تاريخ الخلاص، أي تاريخ علاقة الله بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالله.
عندما خلق الله الإنسان، خلقه لأنه يحبه ويريده إنسان حر، ناضج ومسؤول. خلقه وأعطاه كل ما يلزم لكي يحقق هذه الدعوة بحريته. لكن الإنسان، نظراً لاستعماله
السيء للحرية، ولضعف ثقته بالله، اختار أن يعيش بعيداً عن الله، عن مصدر الحب، مصدر الخلق: «موتاً لا تموتا، فالله عالم أنه أنكما في يوم تأكلان من هذه الثمرة، تنفتح أعينكما وتصبحان كالآلهة تعرفان الخير والشر» تقول الحيّة للمرأة في سفر التكوين.
هذا ما اعتدنا أن نسميه الخطيئة. فالخطيئة زرعت في الإنسان صورة مشوهة عن الله: الله كاذب، حسود لا يريد الحياة للإنسان، بل الموت. الإنسان خان الله، لكن الله يبقى أميناً لوعوده، لحبّه: «إن لم يكن الإنسان أميناً فالله لا يُطلّق أبداً».
وبالتالي إن تجسد المسيح، فلم يتجسد بسبب الخطيئة، كما لو أن الخطيئة هي التي فرضت تجسد المسيح. لو لم تكن هناك خطيئة لتجسد المسيح! فالمسيح تجسد لأن الله يحب الإنسان لدرجة أنه يريد أن يتحد مع الإنسان، أن يتزوج البشرية، إن صح التعبير.
فالتجسد يخلّصنا، لأن يسوع، من خلاله، يأخذ موتنا ويعطينا حياته: خرج المقعد معافاً سليماً وحكم على يسوع بالموت. في الإنجيل لدينا نصوص تبين لنا بأن موت المسيح هو إرادة الآب وبالتالي أمر ضروري: «إن ابن الإنسان يجب عليه أن يعاني آلاماً شديدةً، وأن يرذله الشيوخ وأحبار والكتبة، وأن يُقتل وأن يقوم بعد ثلاثة أيام».
هل كان يسوع في صدد تطبيق برنامج مسبق الصنع؟ ولكن هناك نصوص أُخرى تقول لنا بأن هذا الموت كان حراً، موت تم اختياره من قبل يسوع: «إن الآب يُحبني لأني أبذل نفسي لأنالها ثانية. ما من أحد ينتزعها مني، ولكني أبذلها برضاي».
فهل الضرورة والحرية أمران متناقضان؟ موت يسوع كضرورة يظهر على أنه إرادة الآب: «أفلا أشرب الكأس التي ناولني إياها أبي؟». على يسوع أن يدخل دوامة الشر البشري. إنها ضرورة. كل شيء ضد يسوع: الخبث، الحسد الخيانة الخ. فالسماوات والأرض متفقة على هذا الموت.
فهل موت يسوع هو ضروري، أم موت مُختار، اختاره يسوع بملء حريته؟ جميع الناس يسلمون يسوع إلى جميع الناس: يهوذا يسلمه إلى اليهود، واليهود يسلمونه إلى بيلاطس، وهذا الأخير يسلمه للصلب.
ولكن مع ذلك، هؤلاء الناس وصلوا متأخرين: يسوع يُفاجئهم في العشاء الأخير: يسوع سلم ذاته (بذلها) قبل أن يأتي يهوذا ليسلمه. ما من أحد يستطيع أن يسلبه حياته لأنه لا يمكن الاستيلاء على ما سبق وأعطى.
والعشاء الأخير هو المكان الذي تخلى يسوع عن حياته ليجعل منها عطية حياة. بهذه الطريقة تجاوز يسوع ضرورة الموت ليجعل منها مكان حرية. بهذا المعنى يقول بولس «لقد ابتلع الظفر الخطيئة».
موت يسوع هو موت البار. هذا الموت يكشف لنا عدم عدالة الصليب وشرنا جميعاً أمام البشر. فلماذا أراد الله موت ابنه؟ لأن الله يريد أن يلتحق بنا في قمة شقائنا. الله هو عمانوئيل أي الله معنا. فلا وجود لموت آخر يُعبّر عن جوهر الله، عن الله الحبّ أفضل من الصليب.
ثمرة الخطيئة هي الانقسام بين الرجل والمرأة، بين الإنسان وأخيه الإنسان، هي محاولة إلغاء التعدد، وكل ذلك يتم بالعنف. فالصليب هو محكمة هذا العنف الإنساني.
ليس الله إذن من ينصب الصلبان بل الإنسان. والله يموت على صلباننا بحب وحرية. والمسيح لم يبحث عن الصليب، بل قبله بكل حبّ وحرية. فالصليب هو صليب الحب، لا صليب الآلام، والحب، يجعلني، على مثال المسيح، أقبل الصليب دون أن أبحث عنه.
بهذا المعنى أقول إنني مدعو لأعيش الصليب بفرح. بفضل الصليب عرف الإنسان أن الله محبة. وفُتِح باب إعادة ثقة الإنسان بالله. فلا داع بعد الآن ليبحث عن الحياة خارجاً عن الله. وهذا هو باب الخلاص. يبقى علينا الدخول منه لنكون مع الله.
إن حاولت أن أعيش الصليب والآلام بهذا المفهوم، فهذا يجعلني حرّاً أمام موتي النهائي، موتي الجسدي. باختصار أكون إنساناً حراً بكل معنى الكلمة. أي ابن لله على صورته كمثاله.
من الفقر إلى الفقر الروحي، أو من الفقير إلى الفقير بالروح
لماذا اخترت هذا الموضوع؟ أولاً هناك صعوبة كبيرة بالتحدث عن الصوم الكبير دون الوقوع في التكرار، ثانياً في الكنيسة نشدد على الاهتمام بالفقراء في فترة الصوم، وأخيراً نحن جميعاً، ما عدا بعض الاستثناءات، نعيش بدرجات تختلف قليلاً، شكل من أشكال الفقر، بالإضافة إلى أن يسوع يقول لنا بأن ملكوت السماوات هو للفقراء بالروح.
فالموضوع مهم جداً لحياتنا المسيحية والروحية وبشكل خاص في الظروف التي نعيشها في هذه الأيام. سوف أتحدث أولاً عن تطور مفهوم الفقر والفقراء على مسار الكتاب المقدس، ثم سأحاول أن أشارككم
كيفية العبور من الفقر، بمختلف أشكاله، إلى الفقر بالروح الذي يشكل بطريقة ما جوهر دعوتنا كأبناء وبنات لله. سأتوقف إذن على التطويبة الأولى:
«طوبى للفقراء بالروح فإن لهم ملكوت السماوات».
لكي نفهم معنى كل تطويبة مُعلنة من قبل يسوع: طوبى للفقراء، للعطاش، الخ. علينا أن نأخذ بعين الاعتبار ثلاثة عوامل:
1- أصل التطويبة، أي معناها في العهد القديم وفي اليهودية الذي ألهم يسوع والإنجيليين، أي مصدر الكلمة أو الارتباط الكتابي.
2 - إطار الإنجيلي متى، الذي يشير إلى إعادة تأويل النصوص الأساسية. يسوع يتمم العهد القديم ويحمل له معنى جديد.
3 – شهادة حياة يسوع بقدر ما يوجد رابط بين ما يحمله الإنجيل من جديد والتطويبات الخاصة.
الكلمات التي، في العهد القديم، تتحدث عن الفقراء هي عبارات واقعية: إنهم المتسولين والمحتاجين، من يعبّر للآخرين عن احتياجاته. الضعيف والمنحني. هذه العبارات، من الكتاب المقدس العبري، تعبّر عن موقف جسدي للفقير. في العهد القديم نجد نوعين من الفقراء.
1 - المحتاجين، هم الذين، مادياً، لا يستطيعون تأمين حاجاتهم: الأرملة ومن هم في العوز.
2 – الأناوين تعني الودعاء، أنقياء القلوب، المتواضعين الذين يثقون بالله.
تطويبات الإنجيلي لوقا تستند إلى الفئة الأولى. المحتاجين ويأتي لنجدتهم. لهذا السبب يفضل الفقراء بكل بساطة. إنه الفقر ــــ حالة، الفقر المادي «طوبى لكم أيها الفقراء فإن لكم ملكوت السماوات». بينما تطويبات الإنجيلي متى تعود للفئة الثانية. الأناوين... فقراء القلب، إنه الفقر الداخلي. بالطبع نحن أحياناً محتاجين، وأحياناً فقراء القلب.
التعارض لدى متى ليس بين فقير وغني، إنما بين فقير ومتكبر. ما يميز المتواضع، الفقير بالروح، هو أنه شخص يثق بالله. وفي سفر صفنيا نرى بوضوح هذا الأمر: «في ذلك اليَومِ لا تَخجَلينَ مِن جَميعِ أَعمَالِكِ الَّتي عَصَيْتني بِها لِأَنِّي حينَئِذٍ أَنزعُ مِن وَسْطِكِ المتَباهينَ المُتَكَبِّرين فلا تَعودينَ تَتَشامَخينَ في جَبَلِ قُدْسي. وأُبْقي في وَسَطِكِ شَعْباً وَضيعاً فَقيراً فتَعتَصِمُ باسم الرَّبِّ» (صف 3، 11 - 12).
لدينا هنا أفضل وصف للفقر بالروح. والمزمور هو صلاة هؤلاء الفقراء الذين يتكلون على الله: «الربّ قَريب مِن مُنكَسِري القُلوب ويُخَلًصُ مُنسَحِقي الأرْواح» (مز 34، 19). طوبى لمن لهم قلب فقير لا تعني قبل كل شيء طوبى لمن تخلوا عن الغنى، إنما «طوبى لمن يثقون بالله، أو يسلمون ذاتهم لله». يمكننا القول بأن هذه التطويبة الأولى هي تطويبة الأيدي الفارغة، الأيدي المفتوحة، للقلب المفتوح. فقير الكتاب المقدس، المتواضع ــــ وبشكل خاص في المزامير ـــــ هو:
* الإنسان بدون دفاع، ضحية ولعبة الظلم. ويقبل، بدون تذمر، حالته المزرية ويوجّه لله وحده نظره ورجاءه. الفقر بحسب الإنجيلي متى أصبح طريق، أسلوب روحي أقرب إلينا. يمكننا التفكير بالقديسة تريزا التي غرفت من الإنجيل طريق التواضع، والطفولة الروحية، والرجاء.
الفقراء بالروح لدى متى يعبّرون عن موقف روحي أكثر من واقع جسدي أو اجتماعي. الفقير بالروح هو من يبحث بتواضع عن الله، من يلتجئ إليه، يخافه، ويخدمه. «إني إِلى هذا أَنظُر: إِلى المِسْكينِ المُنسَحِقِ الرُّوح المُرتعِدِ من كَلِمَتي» (أش 66، 1 - 2). ممّا يعني أن الفقير هو من يعترف، يقبل شقاؤه. فقره:
الجسدي: الصحة التي تضعف، والقوى التي تنقص وبالتالي الحاجة والمساعدة.
النفسي: جروحاتنا الشخصية، العائلية والجماعية.
الفقر الأخلاقي: الشقاء، التصدعات التي لا يعرفها إلى الشخص ذاته.
شقاء عاطفي: فقر في علاقاتنا العائلية، المهنية والجماعية.
فقر روحي: رفضنا للحب، خطايانا وقلبنا المنغلق.
نجد هذا الموقف بشكل خاص في المزامير: فقير ومتألم، فقير ووحيد، وغالباً فقير وتعيس. إطار المزامير يشير بوضوح أن الموضوع ليس الفقر المادي، إنما الفقر النفسي، الأخلاقي والروحي بالإضافة إلى الخطيئة. «إِلَيَّ اْلتَفِتْ واْرحَمْني فإِنَي وَحيدٌ بائِس» (24، 16).
في القرون الأخيرة قبل المسيح، الفقراء، هم المحتاجين، الجياع والعطاش لله، الذين يبحثون عن الله. فالفقير هو: من يعي شقائه، جرح خطيئته، وهذا الوعي يوجه الفقير باتجاه الله. وفي أغلب الأحيان، الصرخة «إني فقير» تؤدي إلى نداء لله، «عندما يدعو الفقير فالله يسمع».
الفقير هو من يعي لفراغ بداخله ويتوجه لله. هؤلاء الفقراء يعلموننا من خلال خبرتهم المؤلمة للنقص، بأن الله لا ينبعث إلاّ في القلوب المستعدة والمنفتحة على عمله. فللفراغ هناك الملء. الفقراء بالروح هم الأشخاص الذين ينحنون داخلياً، ويخضعون كلية لله ليغرفوا منه قوتهم.
تطويبة الفقراء بالروح تشكل جواب مكافأة على الانتظار الطويل لفقراء العهد القديم. لم يعطينا يسوع نظرية حول الفقر. لم يكتب دفاعاً عن الفقر. لدى يسوع، الفقر ليس بعقيدة، إنما حياة. ولد على القش، مات على الخشب، لا مثل يعقوب، إنما فقير بطريقته. لا معوز ولا بائس.
لا يبدو أنه يكره الوجبات الطيبة ولا يستنكف عن المشاركة في الموائد. رأيناه مع امرأة تصب على قدميه عطر غالي الثمن. أعلن البشرى للفقراء، للمعوزين. ولأنه عاش الفقر يستطيع يسوع أن يعلنه «سعيداً».
في نهاية التطويبة الأولى «طوبى للفقراء بالروح» يضيف يسوع: «فإن لهم ملكوت السماوات». إنهم المتواضعون بأيدي ممدودة، مفتوحة تعترف بنقصهم، ويخلقون الفراغ ليستقبلوا الملء. يسوع يريد أن يراني أنشر فقري فيه ليتحول إلى غناه. وبولس الرسول يتحدث عن تحرر يسوع المسيح. كيف هو الغني وقد جعل من نفسه فقيراً ليغنينا بفقره (2 قور 8، 9).
إذا أردنا أن نعيش التطويبة لكي يتكون يسوع فينا، علينا الاستمرار بالنظر إلى حياة يسوع ونتأملها. يسوع يحتاج إلى أب: «لَيسَ تَعليمي مِن عِندي بل مِن عِندِ الَّذي أَرسَلَني» (يو 7، 16). فالفقير بعد مجيء يسوع لم يعد المتسول، الجائع، والعاطل عن العمل.
إنه الإنسان «الطبيعي» إن صح التعبير، الذي يعيش واقعه ككائن إنساني، يعيش إنسانيته مع حاجاته. الفقير، هو الإنسان الذي، مغمور بالألم وتحت نور الله، يعي معنى أن يكون مخلوق وليس الخالق. الفقير هو الإنسان الذي يعلم أو يشعر بأنه مريض أو يشيخ، ضعيف، هش وصغير، يستقبل ما يحتوي الفقر من العزلة في الفقر، وعدم الأهلية ويقبلها.
باختصار، هو الإنسان الذي اكتشف حدوده ويمكنه أن يجعل من صلاة المزمور صلاته: «أَمِلْ يا رَبِّ أُذُنَكَ وأستَجبْ لي فإنِّي بائِسٌ مِسْكين» (86، 1). الفقر بالروح يشكل مفتاح التطويبات الأخرى. إنه يفتح باب الملكوت على مصراعيه. باب ضيق، الفقر هو العبور الإلزامي لعدم التملك والتخلي.
الفقير بالروح، فقير القلب، هو من ليس لديه شيئاً، ولا يملك شيئاً، وينتظر كل شيء من الآخرين، إنه بحاجة للآخرين ــــ أيدي مفتوحة وقلب مفتوح ــــ. فقط الفقير بالروح، يمكنه أن يحب لأن الحب يعني الحاجة إلى الآخر. أن يكون الإنسان فقير بالروح، يعني أن يكون في حالة استقبال.
مثل من يأخذ حمام شمس، فهو ليس بحاجة للقيام بأي شيء لكي تدفئه الشمس، تدخل فيه. يكفي بكل بساطة أن يكون هنا ويقدم ذاته لعمل الشمس، لشعاعها. حتى ولو آمنت بالشمس، إن لم أعرّض ذاتي لها لا تعطيني شيئاً. أن أعرض حاجاتي لله، أمر «طبيعي»، أمّا أن أعرضها للآخرين، فليس دائماً بالأمر السهل.
الفقر الجذري ينتزع الإنسان من كل ما يشكل عقبة للعطاء الكامل للحب. هذا الفقر هو انفتاح على «الاجتياح» ومع ذلك فهو يؤدي إلى الحرية الداخلية. الفقير الحقيقي لا يعرف المرارة عندما يمد يده. إذا عشت هذا الموقف بينما آخرون يمدون لي أيديهم، فأنا استقبلهم «كفقير بالروح» وليس كمتبرع أو محسن كريم يتخلى بكل كرم عن حقوقه ويجعل الآخرين يشعرون بذلك.
الفقير الحقيقي، تلميذ يسوع المسيح، دائماً مُجرّب ليقول شكراً عندما يعطي. الفقير هو من يكون له قلب مستقبل لكل إنسان، قلب جديد دائماً جاهز للاندهاش، وليترك نفسه يستغوي إلى حد ما على مثال إرميا: «قد استَغوَيتَني يا رَبُّ فاستُغْويت» (20، 7 - 13).
عندما نكون فقراء، عفوياً نتأمل لأننا نشعر بأننا بحاجة إلى الآب والابن والروح القدس، من ليس له شيئاً، لا شخص يمكنه أن يستند إليه، من لا يمكنه أن يمجد ذاته على استحقاقاته وحقوقه وفضائله. من ليس لديه يقدمه سوى بؤسه، هذا هو بالفعل فقير والله يأتي إليه مسرعاً.
فراغ الذات يدعو ملء الله. هذا الفقر يحتوي على شيء من الفرح، لأن إلهي وأبي هنا. هذا الفقر يطور هذا الموقف للانتظار ـــ للرغبة ـــ للاستعداد ـــــ للثقة التابعة والتي هي ثقة الفقير لله الذي يميزه موقف التواضع. والعذراء مريم اتكلت كلية على الله في يوم بشارتها: «فليكن لي بحسب قولك»، هذه العبارة تشكل برهان على ثقتها المطلقة بالله. قلب مريم متخلي بالعمق، مما سمح لتجسد الكلمة، ابن الله. لقد رتلت مريم نشيد الفقر: «نظر إلى تواضع أمته».
الخلاصة: الفقر هو موقف روحي داخلي يتميز بالاستعداد الكلي لله لأنه يأتي من قناعة متواضعة لبؤسه الروحي. لقد خطئت، ولدي نقاط ضعف، لست جيداً كما أريد، لكن الله هنا، إنه ينتظرني. فالفقير وضع كل أمله في الرب. أن يكون الإنسان فقير، يعني أن يكون متعطشاً لاستقبال ما يعطيه الله عندما نكون أهلاً للاستقبال.
لا وجود لطريقة أو أسلوب يحمل الله لنا إن لم نقبل بالذهاب إليه كشحاذين، متسولين له لكي نستحق أخيراً المكافأة، مكافأة التطويبة الأولى «لأن لهم ملكوت السماوات». هذه هي المئة ضعف الموعودة من يسوع. الإنجيلي متى يعلّم طرق عيش إنجيل لوقا. الفقر بالروح، بالقلب، تقودنا لمساعدة من هم فعلياً وواقعياً محتاجين.
ولا ننسى بأن الله يقول لنا بأننا دائماً في موقف المتعلم. لهذا السبب عليَّ أن أخطو خطوة جديدة كل يوم حتى ولو تعثرت. بذهابي إلى أقصى ما يمكنني، من كياني أنمو وأكبر، وأتمم إرادة الله وأغتني منه. فقري، بنظر العابر يبدو غني لأنه يحب الجمال ولأنه استقبل كثيراً من الآخرين ولأنه نظر مطولاً إلى المسيح الفقير.
مفهوم الصلاة
من الصعب جداً التحدث عن الصلاة، لأن الصلاة أمر محض شخصي. من الممكن أن ندعو أناس إلى الصلاة، أن نشجعهم على الصلاة أن نتحدث عن أهميتها ولكن من الصعب التحدث عنها.
سأتحدث عن مبدأين أساسيين للصلاة ومن ثم سوف أتحدث عن كيفية إنعاش الرغبة في الصلاة.
الأساس الأول: «أيها الربُّ سيّدنا، ما أعظم اسمك في الأرض كلها! لأعظمنَّ جلالك فوق السماوات. بأفواه الأطفال والرّضع، أعددتَ لك حصناً، أمام خصومك، لتقضي على العدوّ والمنتقم. عندما أرى سمواتك صنع أصابعك، والقمر والكواكب التي ثبتِّها، ما الإنسان حتى تتذكرّه، وابن آدم حتى تفتقده؟»( مز 8، 1- 5) الصلاة هي صلاة القلب. هي الصلاة التي تنبع من القلب في لحظات العزلة حيث نبتعد عن هموم الحياة، حيث الطبيعة والهدوء يدفعوننا إلى تمجيد الله. بالنسبة للبعض مشهد طبيعي وللبعض الآخر موسيقى هادئة وللبعض الآخر عزلة في طبيعة هادئة الخ… إنها لحظات حقيقية نجد أنفسنا مع ذواتنا في الحقيقة بعيدين عن هموم الحياة اليومية التي تبعدنا عن ذواتنا. هنا تنبع من داخلنا صرخة حقيقية وعفوية : " ما أعظم اسمك ياألله" . أعتقد أن كل واحد منا اختبر ويختبر شيء من هذا الأمر. إنها صلاة القلب، الصلاة العفوية.
في الحقيقة كل إنسان يعيش اختبارات حقيقية مع ذاته يصل إلى شيءمن هذه الصرخة. يصل إلى ذلك الاعتراف والشكر المجاني لله.
الأساس الثاني:(رو 8، 14 – 27). ما يميز الصلاة المسيحية هي أنها ليست مجرد مشاعر وتعبير عما نلمسه في الطبيعة ومن حولنا، كما أنها ليست مجرد اختبارات حقيقية مع الذات، إنها خاصة صلاة تنبع من عمل الروح القدس بداخلنا.
لهذا السبب إذا أردت أن أتعلم الصلاة فعلي أولاً أن أبحث عن المناسبات التي تساعد على الوعي لخبرات حقيقية، ومن ثم عليَّ أن أصغي إلى الروح القدس بداخلي لكي أترك له الكلام. فصلاتنا ليست مسيحية إن لم تنبع من الروح، إن لم أترك الروح يصلي فيًّ كما يقول كل من بولس الرسول وجبران خليل جبران. أي أننا نصلي بفعل من الروح القدس وعلى ضوء كشف الله لذاته في المسيح يسوع.
صلاتنا لن تكون مسيحية خارجاً عن الروح القدس، فهذا ما يميز الصلاة المسيحية. فالصلاة المسيحية هي الصلاة «بالروح والحق» كما يجيب يسوع المرأة السامرية. بالنسبة ليوحنا الحق يعني الله الآب الذي يكشف عن ذاته في المسيح. وهذا أيضاً ما يميز الصلاة المسيحية، أي أن الله يعطينا الروح القدس الذي يجعلنا نصلي بالحق، أي على ضوء كشف الله عن ذاته من خلال المسيح.
يبقى السؤال: كيف يمكنني أن أعي عمل الروح فيَّ؟كيف يمكنني أن ألمس، أن أميز عمل الروح فيَّ؟
بعض الاقتراحات لكي يرى كل واحد منّا على ضوء خبرته وشخصيته ليجد اقتراحات أخرى قد تكون مناسبة أكثر له, هذه الاقتراحات تمس 3 مجالات:
وضع الصلاة، أي الحالة التي أكون فيها عندما أصلي.
الدخول في الصلاة، أي اللحظة التي أضع نفسي في موضع الصلاة.
إيقاع الصلاة، أي مدّة الصلاة.
وضع الصلاة
علينا الانطلاق من أمر جوهري: كل إنسان وضعه أو حالته في الصلاة، وهذه الحالة لا تمس سواه؛ ليس فقط لكونها صلاة «شخصية» إي أنها تختلف من شخص للآخر، ولكن أيضاً هي شخصية بمعنى أنها تمس هذا الإنسان في هذه اللحظة، إذن هي «شخصية» في زمن معين.
والسؤال كيف يمكنني أن أعرف وضعي، حالتي الشخصية الخاصة بخصوص الصلاة؟ كيف يمكن تحقيق هذا الأمر وتطويره ؟
من الأسهل أن نبدأ من الناحية السلبية ونتساءل عن ما هو ليس بهذه الحالة، حالة الصلاة. ليست تجاهل صلاة الآخرين ولا الأمثلةالمتعددة عن الصلاة، ولاالكتب التي تعالج موضوع الصلاة. بالرغم من أهميتها (الكتب، صلاة الآخرين التي نتعلمها وتكررها، قصص القديسين التي تروي لنا خبراتهم)،تظهر لنا صعوبة: إنها قد تحمسنا، تدفعنا للصلاة ولكن لفترة وجيزة. نقرأ صفحات رائعة للقديسة تريز الأفيلية، أو للقديس يوحنا الدمشقي حول الصلاة؛ نشعر آنذاك بالحاجة لكي نشترك بهذه الحركة الإيمانية، بأن نتحد بهذه الخبرات؛ فخلال يوم، اثنين، أو ثلاثة، لدينا شعور بأننا نعيش على ضوء ذلك. بعض الصفحات الرائعة للقديس أغسطينس أو غيره: قد تلقى هذه الصلوات صدى عاطفي لها فينا. هذا مهم ويشكل جزأً من تربية النفس على الصلاة؛ لكنها لا تقودنا بعد لاكتشاف طريقتنا الشخصية في عيش الصلاة وبشكل جيد. هذه الطريقة قد تقودنا للوقوع في شيءمن الوهم والاعتقاد بأننا وصلنا إلى مرحلة إنجاح صلاتنا. وعندما ينتهي مفعول هذه الأمور: من صلاة الآخرين إلى القراءات المختلفة عن الصلاة نجد أنفسنا مع ذواتنا فارغين وأمام أرض قاحلة. هذا يعني أن هذه الوسائل للصلاة من تعاليم وخبرات الآخرين لا تكفي لكي نكتشف طريقتنا في الصلاة الشخصية.
إذن كيف يمكنني أن أكتشفها واقعياً وعملياً؟أيَّ موقف عليَّ أن آخذه في البداية للوصول إلى هذا الأمر؟ ثلاثة اقتراحات: لكي أصلي جيداً عليَّ أن أستند على:
1 – وضعية معينة للجسد
2 – صلاة نابعة من القلب
3 –مقطع من الكتاب المقدس أجد نفسي فيه.
1 – وضعية الجسد تساعد على الصلاة. كل ما سأقوله الآن قد يكون له طابع مثالي وصعب الممارسة، لكنه يشكل نوع من مرجع. أضع نفسي في وضع الاسترخاء وأتساءل: «إن أردت أن أعبر فعلاً عمّا أشعر به وما أرغب به في أعماقي ما هو الموقف الذي أتبناه؟» نكتشف هنا الموقف الذي نتبناه بشكل عفوي: قد أجد نفسي في موقف المصلي، الذراعين مرفوعتين، أو موقف المتوسل واليدين ملتصقتين؛ كما قد أكون في موقف المصلي الشرقي:موقف المنحني حتى الأرض، أو موقف يسوع في جتسماني جاثياً على ركبتيه ووجهه على الأرض، الخ.
هذا النوع من التعبير الجسدي الخارجي يبدو ساذجاً ومضحكاً بعض الشيء، لكننا نعبّر بشكل أفضل من خلال الحركات. إنها تعبّر عمّا يدور في أعماقنا,
2 – حالتي في الصلاة هي صرخة من القلب. إن أردت التوسل لله، أن أعبّر له عما أشعر به في أعماق نفسي ما يهمني ويشغل بالي، ما ذا أقول؟ إذا أردت الآن أن أعبر عن حقيقتي، عن ذاتي، عمَّا يجول بأعماقي ماذا أقول لله ؟ لندع العفوية تعمل فينا: « أشكرك يارب، ساعدني يارب، ارحمني ياألله، أو يارب لم أعد احتمل هذا الوضع،» الخ.
ويسوع ذاته قال : « نفسي حزينة حتى الموت»،«أشكرك يارب لأنك استجبت لي وقد علمت أنك تستجيب لي دائماً أبداً» . من بين هذه العبارات التي تنبع من القلب، يمكننا اختيار العبارة التي تناسبنا الآن. التي تنطبق أكثر على حالتنا الآن، ونبدأ صلاتنا منها. بالطبع هذه العبارة التي أختارها بإمكاني أن أغنيها آنذاك بصلاة أعرفها أو بجملة قرأتها عن الصلاة. فالعبارة التي أختارها، قد تبدو لي سخيفة أو لا قيمة لها أمام صلوات القديسين. هذا غير مهم،فالأهم أنني أحمل أمام الله ما أعيشه وأشعر به الآن. هذا ما لفت إليه نظرنا يسوع عندما توقف على جملة العشار « اللهم ارحمني أنا الخاطئ». هذا الإنسان الذي وجد بصدق طريقته في الصلاة، عاد بارّاً أمام الله. بكلمة واحدة «عرّى» ذاته . إنها فعلاً صرخة قلب.
3 – صلاتي تستند وتتغذى بصفحة من الكتاب المقدس أجد فيها ذاتي. إذا أردت التعبير عن جوهر مشاعري اليوم، جوهر رغباتي اليوم، جوهر مخاوفي اليوم، ما أنتظره من الله اليوم، إن أردت أن اعرض عليه همومي اليوم ما يشغل بالي اليوم، في أية شخصية، في أي موقف من الإنجيل أجد ذاتي؟ في بطرس الذي، بعد أن رمى ذاته في الماء، يصرخ يارب نجني؟ أو أتخيل نفسي مع الرسل،أمام الجموع الجائعة، أسأل يسوع إلى أين نذهب؟ أو ما العمل؟ أو أجد نفسي في مشهد آخر؟
من مهم جداً إذا أردنا أن نتعلم الصلاة. أن نجد صلاتنا الشخصية والحقيقية، أن نجد نقطة انطلاق لصلاتنا الخاصة. من هنا يمكن أن تتطور صلاتنا، مواقفنا في الصلاة، وحواراتنا الحقيقية مع الله.
الدخول في الصلاة
هذا الموضوع معرض بكثرة لسوء الفهم، أو للفهم الخاطئ. غالباً نعتقد أنه علينا البدء في الصلاة بطريقة محددة: إشارة الصليب، أو غيرها، مما يولّد لدى الناس الشعور بأنهم ينفذون قاعدة معينة. إنها طريقة مصطنعة للدخول في الحوار مع الله، لأن هذا يعني أن نرمي أنفسنا بدون حذر في هذه مغامرة للصلاة دون تحضير كافٍ.
قد تكون هذه إحدى الأسباب التي تجعل صلاتنا صعبة. لم نأخذ الوقت اللازم للتحضير للصلاة، للدخول في الجو إن صح التعبير. من هنا تأتي أهمية خلق جو من الصمت والهدوء، جو استقبال الذات، للدخول في الصلاة. من المهم جداً أن نبدأ صلاتنا معترفينبعدم إمكانيتنا للصلاة وبالتالي أطلب واعترف بأن الروح هو الذي يصلي فيَّ. وهذا هو دور الصمت والهدوء. إنه يبعدنا ويحمينا من كلّ ادّعاء أو معرفة فيالصلاة واضع نفسي بموقف الفقير بالروح. وإلاَّ فصلاتي لن تكون حقيقية، لن تكون صلاة بكل بساطة.
في كلّ مرّة علينا أن نضع أنفسنا في موقف الأعمى طالبين من الله:«يارب اجعلني أبصر»، أن أفهم، أن ألفظ الكلمات التي يلهمني بها الروح القدس.
إيقاع الصلاة
الصلاة كالحياة لها إيقاعها الذي يسندها بطريقة ما، يسمح لها بأن تطول دون تعب. من المهم أن أجد الإيقاع المناسب الجسدي والنفسي. ما هو هذا الإيقاع؟ الإيقاع الأساسي، هذه الموسيقى التي نحملها بداخلنا، إنها إيقاع التنفس. فالتنفس يشكل الإيقاع الأساسي للحياة، يشكل مقياس وجودنا. بهذا المعنى الروحانية الشرقية وبالتحديد البوذية منها أعطت دوراً مهما لتقنية التنفس. للإيقاع أهمية كبرى في الحياة وفي كل المجالات.
مثلاً هناك ما يسمى بصلاة يسوع التي تكمن في تكرار توسل ما على إيقاع التنفس:« يا يسوع ابن الله ارحمني»، أو أية جملة أختارها. بهذه الطريقة تنتقل العبارة من العقل إلى القلب لتلمس مشاعري بأكملها. إنها تدخل من خلال إيقاع التنفس إلى التنفس ذاته لكي تتغلغل في كل الكيان البشري. كما أن هناك إيقاعات وطرق أخرى متعددة ومختلفة.
ما هو الهدف من الصلاة ؟ أن نصل لكي نعيش إرادة الله.
ملاحظة مهمة: من الخطأ الاعتقاد بأن الصلاة يمكن تعلمها من خلال هذه التقنيات كما أن هذه الأخيرة تؤدي إلى السيطرة على الذات. هذا هو هدف تقنية اليوغا، بينما في المسيحية الأمر مختلف تماماً.
إن هدف الصلاة المسيحية لا يكمن في تملك الإنسان لذاته، حتى ولو كانت الصلاة المسيحية تؤدي بالمسيحي إلى وعي أكبر لذاته، وإلى توازن أفضل. كل ذلك ممكن أن يكون نتيجة التربية على الصلاة التي تؤدي إلى تنفس أعمق، وأخذ البعد اللازم أمام الأمور. ولكن ليس هذا هو الهدف من الصلاة المسيحية. وفي حال عشنا الصلاة هكذا فنحن بعيدين عنها كلية.
فما هي القمة، ما هو معنى الصلاة المسيحية؟ هذا ما أشار إليه يسوع أثناء صلاته في جتمساني: «يا أبت، لا مشيئتي بل مشيئتك». أو صلاة يسوع على الصليب: «يا أبت بين يديك أستودع روحي». هذا هو هدف ومعنى الصلاة المسيحية.
فكل تربية على الصلاة لا تسعى لهذا الهدف، لا تؤدي بالإنسان إلى تسليم ذاته لله، وضع ذاته بين يدي الله بإيمان وحب، بإمكانها أن تتحول إلى وهم. لهذا السبب لا يكفي أن نشجع ذاتنا والآخرين على الصلاة؛ لأنه من الممكن أن نصلي، وأن نصلي كثيراً وفي نفس الوقت ننحرف عن المعنى الحقيقي لها. لآن الصلاة ككل واقع إنساني معرضة للانحراف وللخطأ. لا وجود لواقع إنساني لا يستطيع الإنسان الانحراف به بفضل أنانيته، والصلاة معرّضة لهذا الغموض أيضاً.
علينا إذن أن نفهم جيداً بأن هدف الصلاة المسيحية هو أن يضع كل مسيحي، على مثال يسوع في جتسماني، حياته بين يدي الله ويقول له:«ها أنذا أضع حياتي بين يديك ياألله». في هذه الحالة تكون الصلاة قد كشفت للإنسان ما هو عليه: أتى من الله وموجه أن يعود إليه مجدداً، من خلال الصلاة والإيمان، أن يضع ذاته بين يدي الله. فإبراهيم يعطينا مثالاً في هذا المجال عندما أطاع صوت الله دون أي تردد. بالطبع نحن لا نعرف ما هي الصلاة التي مارسها، لكننا نعرف بأنه سلّم ذاته لصوت الله الذي دعاه لترك كل شيء باتجاه المكان الذي سيريه إياه.
هنا نلمس العلاقة الحميمة بين الصلاة والافخارستيا. ففي الافخارستيا سلّم المسيح ذاته للآب من أجلنا، ونحن مدعوون بالمثل لكي نشترك في عطاء المسيح لذاته. فتصبح صلاتنا تهيئة، تأوين، عيش للإفخارستيا. فالصلاة الحقيقية تجعل كل واحد منّا يضع ذاته في خدمة الآخرين. أن نضع ذاتنا بين يدي الله، لا يعني تحقيق ذلك بشكل مجرّد. هذا يعني تسليمها له ليضعها في خدمة الآخرين، أخوتنا. هذا هو هدف الصلاة المسيحية:تربية على الخدمة، تربية على الاستعداد الكلي على مثال مريم «ها أنذا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك»، تربية على التكريس الكلي وبدون شرط لخدمة أخوتنا البشر.
بدون شرط، لأن الله هو نفسه المطلق، هو من يعطينا بدون شرط، كشف عن ذاته لنا وحوّل حياتنا، هذا هو أساس العلاقة بين الصلاة والافخارستيا، بين الصلاة والحياة.
محك مصداقية الصلاة ليس الانغلاق على الذات أو البحث عن بعض الارضاءات الشخصية؛ إنما أن نضع ذاتنا، تصرفنا وبشكل واضح وصريح تحت تصرف من هم بحاجة إلينا، المتألمين والفقراء. هذا يعني عدم تملك الذات من أجل خدمة الآخرين.
صلاة الجماعة
أع 4، 23- 31: «فلمّا أُطلق سراحهما (بطرس ويوحنا) رجعا إلى أصحابهماواخبراهمبكلّ ما قال لهما عظماء الكهنة والشيوخ. وعند سماعهم ذلك، رفعوا أصواتهم إلى الله بقلب واحد فقالوا: يا سيّد، أنت صنعت السماء والأرض والبحر وكلَّ شيء فيها. أنت قُلتَ على لسان أبينا داود عبدك بوحي من الروح القدس:لماذا ضجّت الأمم، وإلى الباطل سعت الشعوب؟ ملوك الأرض قاموا، وعلى الربّ ومسيحه تحالف الرؤساء جميعاً. تحالف حقَّا في هذه المدينة هيرودس وبنطيوس بيلاطس والوثنيون وشعوب إسرائيل على عبك القدوس يسوع الذي مسحته. فأجروا ما خطّته يدك من ذي قبل وقضت مشيئتك بحدوثه، فانظر الآن ياربّ إلى تهديداتهم، وهب لعبيدك أن يُعلنوا كلمتك بكلّ جرأة باسطاً يدك ليجري الشفاء والأعاجيب باسم عبدك القدوس يسوع. وبعد أن وصلوا زُلزِلَ المكان الذي اجتمعوا فيه. وامتلأوا جميعاً من الروح القدس فأخذوا يُعلنون كلمة الله بجرأة».
هذا نموذج لصلاة الجماعة المسيحية تقوم بها في ظرف مميّز: في لحظة المحنة. إنها تجد نفسها لأول مرّة في مواجهة مع قدرة عدوّة تريد خنق كلمة الله.
الكلمة المُكبّلة: أعمال الرسل ينقل حدثاَ تاريخياً: بطرس ويوحنا مثلا أمام المحكمة تم استجوابهما، وتهديدهما وأُعطي لهما الأمر بعدم التحدث باسم الرب. يعودان إلى الجماعة وفي هذه اللحظة تتم هذه الصلاة. بهذا المعنى نقول أنها انطلقت في فترة من المعارضة والاضطهاد. لم يحن الوقت بعد حيث سيتألم فيه التلاميذ، وسوف يُهاجمون ويُعذبون: ومع ذلك فهم منذ الآن مرفوضون. بالمقابل إنه وقت الاضطهاد ضد حرية كلمة الله. فالصلاة التي قرأناها لا تهدف إلى اعتبار الشر المرتكب ضد التلاميذ بسبب إيمانهم، بل الشر الذي ضحيته هي الكلمة، مُكبّلة، مفروض عليها الصمت بالقوة، مخنوقة بالتهديد.
جواب الجماعة: كيف تعيش الجماعة هذا التهديد؟ كان بإمكانها أن تجيب بطرق مختلفة: بمحاضرات بين أعضائها، استشارات، تحاليل، مخططات عمل، إعداد إستراتيجية معينة، الخ. قد تكون قامت بكل ذلك، ولكن أعمال الرسل لا يتحدث عن ذلك: متمسكاً بأن يُقدم لنا نموذجاً عن الجماعة بما يشكل جوهر روحها، يقول لنا بأنه عندما تواجه المحن، فهي تصلّي.
هذا الأمر، عليه أن يدعونا للتفكير. فالصلاة هنا تبدو أنها الوسيلة الأساسية للتعبير في الجماعة، طريقتها الخاصة والمميّزة في مواجهة الظروف الصعبة.
فبالنتيجة، عندما تكون الجماعة في لحظة مؤلمة حيث عليها الدفاع عن حياتها تتحد لتصلي، هذا يعني أنها تقوم بالخطوة الأولى لتثبيت ذاتها واستعادة هويتها ماوراء وقبل كل أشكال العمل الأخرى.
جواب شخصي: هذا التفكير يطرح على كل واحد منّا سؤال: أين أجد ذاتي مرتاحاً في الجماعة، ما هي اللحظات التي أشعر فيها بملء ذاتي؟ أحد الأساقفة يقول: أشعر نفسي مرتاحاً في الجماعة التي تصلي، وتصغي إلى الكلمة وتجعل منها نقطة انطلاق للخدمة. من يعيش هذا الاختبار في الجماعة يختار أن يكون حيث وضعنا الله ككنيسة، أي جماعة مدعوّة من قبل الكلمة وتعمل كجواب على هذه الكلمة.
صلاة تبصر أو تفهّم: أمام الصعوبات التي كانت تهدد مستقبلهم، لأن السلطات آنذاك كانت قادرة على حلّ حركتهم وإنهاء الخبرة المسيحية، يعيد المسيحيون الأوائل اكتشاف معنى صلاتهم الجماعية. ماذا تطلب الجماعة، التي يقدمها لنا أعمال الرسل كنموذج لكل الكنائس، من الله؟
أولاً لا تطلب الحماية، لا تطلب حتى أن تتوقف صعوباتها، كما أنها لا تطلب لا الانتقام ولا الثأر. لا نجد شيئاً من هذا في صلاتها. حتى في القسم الأول من هذه الصلاة لا تطلب الجماعة شيئاً. تعبّر في صلاتها عن رغبتها في الفهم، إنها «صلاة عقلانية، صلاة فهم وإدراك». ليس بمعنى صلاة يسوع عندما شكر أباه لأنه أخفى هذه الأشياء عن الحكماء والأذكياء وكشفها للصغار. إنما خاصة بمعنى قول يسوع في إنجيل مرقس:«لا ترون ولا تفهمون لا تفتحوا آذانكم، ولا تفهمون».
تبحث الجماعة قبل كل شيء أن ترى وأن تفهم: إنها صلاة تهدف للبحث وللاستنارة لكنها لا تطلب شيئاً. إنها تريد أن تفسر الحدث على ضوء الإيمان، إنها تبحث على فهم، وإدراك ما حدث لها.
فالتفسير موجد في الكتاب المقدس في لا حدودية وتعالي الله:«يا سيّد، أنت صنعت السماء والأرض والبحر وكلَّ شيء فيها». أنت من عمل في التاريخ وتكلم حقيقة في هذه المدينة من خلال الروح القدس. لنلاحظ ما هو معنى هذه الصلاة: باعترافنا بأن الله هو الكل، بأنه عمل في التاريخ بفترات مميّزة – والمزمور الذي تذكره هذه الصلاة يتحدث عن هذا العمل في التاريخ بطريقة آنية –نستطيع أن نفهم ما حدث في هذه المدينة.
فصلاة التبصر والفهم تحتوي على ثلاث مراحل:
1- نأخذ بعين الاعتبار أن الله هو المطلق
2- نعتبر عمل الله في تاريخ الخلاص
3- نأخذ بعين الاعتبار الوضع الحالي.
فقراءة مزمور قديم، يعود إلى قرون سابقة، على ضوء الخبرة الحاضرة يسمح بفهم هذا الأمر. لدى قراءتنا لهذا النص نجد أنفسنا مندهشين لأننا في الواقع لا نبحث فيه لنفهم ما حدث للرسل: «ملوك الأرض قاموا، وعلى الربّ ومسيحه تحالف الرؤساء جميعاً». فالجماعة تجد نفسها في المسيح، في نظر يسوع، فلا يعتبرون أنفسهم كمجموعة اجتماعية أو تاريخية، إنما كمجموعة من البشر تشكل جزأ من المسيح، وتعتبر أن الحياة بالنسبة لها تعني «المشاركة في المسيح يسوع». ما حدث له هو علامة وشرح لما حدث لهم. إنهم يفهمون أنفسهم بشكل أفضل عندما يشعرون بهذه الوحدة مع المسيح، معه، هم واحد.
فخبرة الرسل غير مهمة، إنها إلى حد ما محجوبة من قبل الفكرة بأن ما حدث لهم لا دور له سوى أنه يذكرهم بما حدث للمسيح: تاريخهم ليس بحدث طارئ، ليس بمجرد سلسلة من الحوادث، إنه تاريخ مقدس.
من هذه الصلاة التبصرية التي تعتبر سر الله عبر تاريخ الخلاص حتى يومنا، ينتج بالنسبة لنا ضرورة تعلّم الصلاة هكذا. نحن لسنا معتادين على ذلك، وإن قمنا به فنادراً. إنها صلاة تطلب التمييز والوقت، لكن علينا أن نتمرّن عليها لأننا مدعوون إلى ذلك.
صلاة الطلب: القسم الثاني لهذه الصلاة مكرّس للطلب. لقد فهمت الجماعة أخيراً أن ما حدث لها هو الاتحاد مع المسيح المتألم والمُضطّهد وليس تحمل الشقاء. لا تطلب الجماعة سوى أمراً واحداً: أن تستطيع إعلان كلمة الله بحرّية. إنها تشعر بمسؤوليتها عن الكلمة أمام العالم وتطلب القدرة على إعلانها. قد نستغرب لكونها لا تطلب النجاح، ولا تطلب أن يتوقف الاضطهاد، ولا أن تتبدد كل أنواع سوء الفهم. إنها تطلب القدرة على الاستمرارية في إعلان الكلمة بكليتها، بشجاعة وتواضع الضروريين لإعلان الإنجيل. ثم تطلب أن تكون هناك شفاءات، وأعاجيب.
الطلب الأول هو التعبير عن وعي الجماعة لواجبها في إعلان البشارة ونقل الكلمة للآخرين. في الطلب الثاني تطلب الجماعة القدرة على أن تقدّم حوادث مستندة على هذا الإعلان. تطلب القدرة على المشاركة في الكلمة بطريقة تُظهر عمل الروح المُحوّل في الحياة اليومية، وليس بتقديمه كمبدأ مجرّد.
شفاءات، أعاجيب: إنها العالم الذي يتحول، إنها القلوب التي تتحول، الأمم التي تحقد على بعضها والتي تنجح في تحقيق المغفرة والمصالحة، الأمم التي كانت تحلم بمستقبل ناجح وتكتشف الآن الحاجة إلى تكريس ذاتها من أجل شيء يستحق بأن تُكرٍّس حياتها من أجله. إنها وقائع تُحوّل وتشكل صدى واقعي للكلمة.
تطلب الجماعة من الله القدرة على التكلم وتغيير القلب والعقل مما يسمح بخلق الانسجام بين الكلمة المُعلنة والمحيط الخارجي. قوّة التغيير المطلوبة في الصلاة هي القوّة التي تتعارض مع الخوف العفوي من التغيير، من البدء بطرق جديدة تحوّل الانحناء وقوى الموت إلى رغبة في الحياة.
لنطلب في صلاتنا الشجاعة على الكلام. ماذا تعني بالنسبة لنا الشجاعة على الكلام؟ في أي ظروف تنقصنا هذه الشجاعة؟ أي ظروف خارجية وداخلية تتطلب منّا التغيير لكي يتم التوافق بين الكلمة التي نقولها والكلمة التي نسمعها؟
أن نصبح صلاة
عندما نسأل أحداً إذا كان يصلي، فغالباً يكون الجواب: قليل أو في الصباح والمساء، أو صلاة الأبانا أو السلام المريمي. البعض يقول صليت كما يقول عن أي عمل قام به. فغالباً نخلط بين الصلوات وبين الصلاة.
الصلوات: هي طرق، أو بدائل، ضرورية ولاشك. إنها وسائل وُضعت بين يدينا من قبل التقليد الديني. إنها عبارة عن ممارسات.
الصلاة: فهي أعمق. الصلاة في النهاية هي حالة: إنها حياة. الصلاة هي التي تحيي الصلوات، تعطيها ضمان لحقيقتها كما تعطيها قوة الحب. فالمطلوب ليس «سرد صلوات» بقدر ما أن نعيش في الصلاة، باستمرار في حضور الله. أن نصبح رغبة في الله. باختصار المطلوب أن نصبح صلاة.
الأرشمندريت المعروف «بلوم» يقولك «أن لا نصلي، هذا يعني أن نضع الله خارج الوجود، وليس فقط الله، إنما كل ما يعنيه للعالم الذي خلقه، العالم الذي نعيش فيه».
الصلاة تعني الحب: لكي نحقق ذلك، علينا بناء علاقة مع الله. العلاقة مع الله لا تعني «الارتفاع» نحو الله البعيد، إنما أن نعيش حميمية معه، هو الحاضر في أعماقنا، ينتظرنا، يصغي إلينا، حتى ولو يبدو أنه لا يظهر إلاَّ من خلال الصمت. إنه الله الذي يحبنا ونحبه. فالصلاة تعني الحب.
هذه العلاقة الشخصية بإمكانها أن تصل إلى نوع من الاتحاد. لا نسعى لجلب الله الذي، في البداية هو خارج عنَّا، بل نبحث عن مشاهدة «contempler» الله الذي فينا لنتحد معه. من هنا نبعت العديد من صلوات المتعبدين الذين يقولون: «الصلاة الأفضل هي الصلاة التي فيها حبّاً كثيراً»، أو «عندما نحب نريد أن نتحدث بدون توقف مع المحبوب أو على الأقل أن ننظر إليه باستمرار:والصلاة لا تختلف عن هذا الأمر». قد نقول بأنها صلاة تصوفية. لما لا! فالصلاة لها دائماً بعد تصوفيّ بقدر ما تتجاوز العلاقة العاطفية أو العقلية. فكرة التصوف تخيف المؤمن المسيحي، إن سمع بها، لكونه يعتقد أنها تعني مظاهر غير طبيعية، أو خارقة، أو في أسوأ الاحتمالات، نوع من الهذيان. بينما التصوف يعني الرغبة البسيطة والواخزة لله الحاضر في حياتنا.
الصلاة والإيمان: الصلاة بهذا المفهوم ترتبط بالطبع بالإيمان. ولكن على العكس ليس هناك من إيمان حقيقي بدون صلاة، أي بدون علاقة بين الله وبيننا. خارجاً عن ذلك يكون الإيمان عبارة عن خلق ذاتي، غير متجسد، غير حياتي وحيوي. «فالإيمان هو عرق الصلاة».
فلصلاة تغني الإيمان والإيمان يغني الصلاة. فنحن نصلي لأننا نؤمن بالله، ولكن قد نصلي لإله لا نؤمن به أو قليلاً ولكن من أجل الحصول على الإيمان. نصلي لكي نجد الله. فالصلاة هي رأس يبحث.
أحد الكتّاب الملحدين كتب نوع من المزمور يقول فيه: «لأخر مرّة أقول لك أريد أن أؤمن بك. بيّن لي بأنك تُحبني، ساعدني لكي أؤمن بالرغم من كفري وسخريتي. ارحم هذا الإنسان الغير المؤمن الذي لم يكن له الحظ بأن يُنقل له الإيمان. فأنا لا أنتظر إيماني إلاَّ منك. فهل من الخطأ أن لا أنتظر إللاّك؟» (Albert Cohen).
أخيراً الإيمان والصلاة مترابطان ومتماسكان كاليدين المتماسكتين. فالإيمان ليس بشيء نمتلكه، حصى نمسكها بأيدينا، الإيمان هو فتح متجدد باستمرار، حيث الصلاة هي التعبير والوسيلة. بهذا المعنى نقول بأن الصلاة هي قبل كل شيء رغبة «يارب علّمنا أن نصلي». رغبة في الله ورغبة في الحب. «رغبتك هي الصلاة» يقول القديس أغسطينس. فإذا كنّا نرغب الله، فلأنه الأول من يحبنا ويرغب بنا. فالصلاة هي لقاء بين رغبتين: رغبة الإنسان مع رغبة الله، أو بالأحرى الصعود برغبة الإنسان من قبل رغبة الله.
وكما أنه لا يمكننا فصل الصلاة عن الإيمان، كذلك أيضاً لا يمكننا فصلها عن العواطف، عن الأفكار، عن العمل، وعن الإرادة. فالصلاة ليست بمجال خاص، قائم بحد ذاته، ليست بجزيرة. إنها بعد من أنشطتنا الإنسانية، طريقة في الوجود «طريقة في الحياة، طريقة مختلفة جذرياً لتهذيب كل من الحياة والعالم». فلماذا نبحث عن إلصاقها، إن صح التعبير في حياتنا، بما أنها فيها مسبقاً، أقله كبذرة، في قلبنا، أي في عمق أعماقنا.
بعض الأقوال: «الله يأتي دائماً لزيارتنا ولكن غالباً نحن غير موجودين»
«أليس من التناقض الغريب أن يستطيع البشر سوية الإيمان بالله ويصلوه قليلاً».
«الصلاة هي أن نترك أنفسنا نُصنع من قبل الله»
«الصلاة هي كمال الإنتباه»
«الصلاة ليست التفكير الكثير، بل الحب الكثير»
«الحب هو نار، والصلاة هي الحطب الذي يغذيها»
«الصلاة هي أن نعُرّض أنفسنا لله كما نُعرّض أنفسنا للنار، للشمس وللنور»