كيف أواجه التغيير المطلوب على صعيد الذات؟
الخميس الماضي، انطلقنا من المقولة التي سمعناها ولا نزال، التي تقول بأن العالم لن يكون بعد الكورونا فايروس كما كان قبلها. وحاولنا القيام بمسح عام للتغيرات التي قد تحدث على مختلف أصعدة الحياة، الشخصية والعائلة والاجتماعية.
اليوم سأحاول التكلم عن البعد الشخصي. أبدأ بهذا المجال لأنه، من جهة، من الطبيعي أن يكون التسلسل من الشخصي إلى العام حتى ولو أنه غالباً نقوم بالعكس، إذ ننتظر ردة فعل المجتمع، ما ستقول عامة الناس أو تقوم به وعلى أساسه نقرر ما نريده شخصياً، وغالباً، مع الأسف، يكون مجرد تقليد.
ومن جهة أُخرى، وهذه برأيي، قاعدة ذهبية مهمة جداً، الأمور بمختلف أشكالها، تبدأ بالذات. مثلاً لا يمكنني أن أتلقى حب الآخرين لي، طالما لا أُحب ذاتي، إن كنت أستاذاَ ولم أستطع ضبط الطلاب ردة فعلي العفوية هي اتهام الطلاب. حتما عليهم مسؤولية، ولكن هل أسأل نفسي عن مسؤوليتي في هذا الأمر؟ وهكذا دواليك.
كما سبق وقلت، الحجر الصحي فُرض على الجميع. فكيف عشناه؟ على الصعيد الشخصي. كيف عشت هذا الحجر الفروض علي؟ مصيبة أو مجرد استسلام على حد القول الشعبي: ما باليد حيلة؟
هل عرفت استغلاله لأكون مع ذاتي لأفكر جدياً بما أريد أن أصنع من حياتي؟ أي علاقات أريد أن أعيشها مع الآخرين؟ أي مستقبل أريد لذاتي؟ ما هي القرارات التي أريد اتخاذها لتحقيق ذلك؟ هل أريد البقاء في الوطن؟ أم أفضل الهجرة إلى الخارج؟
إذا سألتكم ما هو مقياس النضج العاطفي والنفسي سوف تعطوني لائحة كبيرة من المقاييس: الاحترام، قبول الآخر، الحرية، الخ. وهذه اللائحة تحتوي على الكثير من الصح. لكن الأهم منها، أساس النضج العاطفي ــ النفسي هو بدون شك إمكانية أن أكون لوحدي. وتحديداً أن أكون لوحدي بحضور الآخر.
هذا ما نختبره في جلسات التحليل النفسي، خصوصاً في البداية، نرى المُحلَّل لا يحتمل الصمت، لا يحتمل أن يكون وحيداً بحضور الآخر ــــ المحلل ــــ. ويبدأ بالقول: اسألني حتى أعرف شو بدي احكي. وجهني بأي اتجاه لازم أحكي. أشعر أنني أتكلم لوحدي، مع ذاتي. فليكن! أين المشكلة إن تكلمت مع ذاتك! كم من المرات أُسأل: «ما بضوج كل الوقت لحالك؟». ألا نعرّف فقدان العقل بالتعبير: عم يحكي لحالو!
هذه الوحدة، أو العزلة، مهمة جداً للوصول إلى النضج والبلوغ النفسي ــ العاطفي. وبالتالي هي حالة إيجابية، لكننا في الواقع ننظر إليها بسلبية كبيرة. لكوننا نعادلها بالانعزالية والفارق بينمها كبير.
العزلة هي الرغبة في أكون مع ذاتي. غالباً نخاف منها لأننا لا نريد أن نواجه ذاتنا، أن نغوص بها، وهذا ما نختبره أيضاً على صعيد التحليل النفسي من خلال المقاومات اللاواعية والواعية منها والتي تمنع المُحلَّل من أن يدع الحقيقة ـــ اللاوعي ــــ يخرج إلى الساحة، أو أثناء الرياضات الروحية حيث يُطلب من المشاركين الصمت والعزلة، حيث على المرافق أو المرافقين تذكيرهم باستمرار بأهمية الصمت والعزلة.
أمّا الانعزالية، فهي حتماً سلبية لأنها تعني رفض العلاقات مع الناس، رفض الانخراط في المجتمع.
ولكن كما نعلم جدياً، في أغلب الأحيان نعيش غرباء عن ذاتنا، عن حقيقتنا. من جهة لأننا كما قلت، نخاف منها، من مواجهتها، ومن جهة أُخرى تربينا مع الأسف، على روح القطيع، وبالتالي نعيش كما يريدنا الآخرون أن نكون.
بالإضافة إلى تحريم السؤال. لا يحق لنا أن نسأل: الأمر هكذا لأنه هكذا. هذه الناحية بدأت تتغير في مجتمعنا والحمد لله. لكن مثلاً، على الصعيد الديني والإيماني، لا نزال بعيدين عنها سنين ضوئية.
وهذه الناحية تشكل أكبر عائق في وجه النمو والتطور الذاتي والمجتمعي. أمام كل جديد، تكون ردة الفعل هي الرفض، حتى قبل أن نعلم ما يحمله لنا هذا الجديد من سلبي ومن إيجابي. وهذه كانت ردة فعل الناس في العالم أجمع أمام فرض الحجر الصحي. قلة قليلة جداً طرحت سؤال إيجابية هذا الحجر!
كلنا نبحث عن السعادة لكن خارجاً عنّا بينما ما من أحد يستطيع أن يعطينا إياها، فالسعادة تأتي من داخلي، من مدى انسجامي مع ذاتي وهذا الانسجام يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإمكانية بقائي مع ذاتي.
مباشرة أوضح أن هذا لا يعني الاكتفاء الذاتي ولا أن الآخرين لا يحملون لي شيئاً من الفرح والسعادة، لكن السعادة بالمعنى العميق تأتي من هذا الانسجام.
وبالتالي نحن مدعوين، على ضوء ما عشناه حتى الآن منذ عشر سنوات أن نحاول الذهاب إلى ما هو جوهري. والملفت للانتباه أن ما لم نحققه بإرادتنا، إن صح التعبير، فالطبيعة قامت به عوضاّ عنّا. ممّا يعني أنه مهما عشنا بالتزييف والمصطنع، ستأتي لحظة، حدث، كارثة ما، تُلزمنا بالذهاب باتجاه الجوهري.
في شهادة حياتية لإنسان أثناء الحجر الصحي يقول: للمرة الأولى في حياتي لم يكن لدي شيء أقوم به. فالفراغ والملل يضعونا أمام ذاتنا بالحقيقة إن عرفنا استغلالها.
من المهم جداً الغوص في داخلنا لنعرف ذاتنا أولاً وبالتالي ما نريد أن نفعل من حياتنا. وكلنا نعلم بأنه من أصعب الأسئلة التي نواجهها هو سؤال: من أنا؟ كما أنه ليس من باب الصدفة أن شعار الفلاسفة اليونان القدماء كان «اعرف نفسك بنفسك».
الغوص في الداخل يعني اكتشاف قدراتي الكبيرة المدفونة في أعماقي وهذا هو معنى الصيد العجيب في الإنجيل عندما يطلب يسوع من بطرس الغوص في العمق والنتيجة كانت سمك كثير لدرجة أن الشباك كادت أن تتمزق. فأي عمق هذا سوى عمق الذات وهذه الأسماك سوى رمز لما هو مدفون في أعماقنا ولكننا نجهله. غص في أعماقك يا بطرس، يا أكس من الناس وستكتشف كنزاً هائلاً لا تتوقعه.
الغوص في الداخل هو، في النهاية ما يعادل السفر إلى أرض مجهولة: «اِنطَلِقْ مِن أَرضِكَ وعَشيرَتكَ وبَيتِ أَبيكَ، إِلى الأَرضِ الَّتي أُريكَ» يقول الله لإبراهيم. وما هي هذه الأرض التي سأريك سوى ذاته العميقة، الداخلية مع كل غناها والتي يجهلها.
باختصار، الغوص في الداخل، الإصغاء للذات هو الذي يوحد رغباتي المنقسمة فيما بينها وهذه الوحدة هي التي تعطي السلام الداخلي وتجعل من قراراتي الأكثر صواباً وبشكل خاص تخفف من الهوة الموجودة بين أقوالي وأفعالي.
نيلسون مانديلا يقول: «إنه لم يشعر أبدًا بالحرية كما كان في العقود التي قضاها في زنزانته لوحده». وهناك قول يعود لفكر الزين «مقابل الروح الحر هناك محيط حر». والإنسان الحر يعرف المجانية ويفضل العطاء على الأخذ. هل للعطاء المجاني مكان في حياتي؟ هل كلمة التضامن أو العمل من أجل الخير العام، تجد لها مكان في قراراتي. أم أن شعاري هو أنا ومن بعدي الطوفان!
بعض التساؤلات التي لا بد منها:
* هل أشعر بأنني أهل لأكون وحيداً مع ذاتي؟ هل أنا سعيد بأن أكون مع ذاتي؟ أم أحسب الثواني والدقائق؟ أو أبحث عن أحد أتصل به؟ أو أقوم بأي نشاط كان يبعدني عن ذاتي؟
* هل أعرف فعلاً ذاتي؟ بقدر ما أعرف ذاتي أستطيع أن أعرف الآخرين على حقيقتهم. وهذا ما نراه في النص الإنجيلي المعروف بالابن الضال. عادة نتوقف على اعتراف الابن الضال بخطيته وابتعاده عن الأب. وهذا صحيح. لكن النص يقول: عندما وصل إلى حافة الموت، ذهب باتجاه ذاته. أي أنه لم يكن يعرفها. وعندما اكتشفها عرف حقيقة وكرم أبيه «كم من أجير لدى أبي يفضل الخبز عنه وأنا هنا أموت جوعاً»، وعلى ضوء ذلك، أكتشف خطيئته فاعترف بها.
* أي نوع من الحياة أريد؟ ممحورة حول ذاتي؟ أم هروب دائم منها؟
* أي نوع من العلاقات أريد؟ علاقات مصلحة، علاقان مجانية، أم علاقات حقيقية مع الآخر؟
* هل أنا سعيد حيث أنا وبما أقوم به؟ إذا كان الجواب بالنفي. أي تغيير يمكنني القيام به لأكون أكثر سعادة.
* ما هي القيم التي أؤمن بها وما مدى انسجامها مع نمط حياتي؟
* إحدى أهم ميزات الإنسان هي إمكانيته على التأقلم. إنه قادر على التأقلم مع أي وضع أو حالة يجد نفسه فيها. لكن هذا التأقلم لا يعني الاستسلام للواقع الجديد، ولا يعني إلغاء شخصيتي، إنما يعني أن أجد الجديد في داخلي مما يسمح لي بالعيش سعيداً في هذا المجتمع. وكلنا نعلم كم تسبب هذه الناحية من الألم لدى المغتربين الجدد.
ما قبلهما ليس كما بعدهما!!
في حديثي الأول: كورونا فايروس، نعمة أم نقمة؟ بيّنت مسؤولية الإنسان في وصولنا إلى هذا الوباء. وأنه بالرغم من كونه مصيبة وكارثة يمكننا أن نحوله إلى نعمة. أن نجعل منه قيامة حقيقية بوعينا وإدراكنا لمسؤوليتنا في تراجع الطبيعة والكون وبالتالي الحياة الإنسانية.
نجعل منه نعمة تساعدنا على الخروج من أنانيتنا حيث فقدنا أجمل مل في الحياة الإنسانية والذي اعتدنا أن نسميه: الخير العام. نعمة تساعدنا لنولد من جديد ونبني علاقتنا مع العالم والكون على أسس إنسانية سليمة.
وفي حديثي الثاني: الانعكاسات النفسية للحجر الصحي، ركزت على أهمية العلاقات الإنسانية والانفتاح على الآخر الذي بدونه لا معنى للحياة وكيف علت منذ الآن الصرخة التي تطالب بتغيير المجتمع الإنساني ليكون أكثر تشاركية وإنسانية.
وفي حديثي الثالث: كيف أعيش إيماني في ظل الكورونا فايروس، رأينا كيف أن الإيمان هو قبل كل شيء فعل إنساني، لا يرتبط بالضرورة بممارسة الطقوس، وأن الإيمان هو الذي يعطي المعنى للحياة، أي إيمان كان وليس بالضرورة الإيمان الديني.
ومن جهة أُخرى الإيمان هو الذي يسمح بوجود مجتمع وبالعيش مع الآخرين المختلفين عني. لأن العلاقات الإنسانية مبنية على الثقة والثقة هي الإيمان! يساعدني على قبول الواقع لا من باب الاستسلام والخنوع بل لأنه لا يمكنني أن أُحدث أي تغيير في المجتمع إن لم أقبل بواقعه أولاً.
واليوم، انطلاقاً من هذه الأحاديث الثلاثة، وكاستمرارية لها سأبدأ معكم سلسلة جديدة حول ما بعد الكورونا، فكان العنوان: ما قبلهما ليس كما بعدهما!! في الحقيقة، اليوم الحديث الغالب في العالم، التحليلات بشتى أشكالها وأنواعها، مختلف الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، تتحدث عن المجتمع الإنساني ما بعد الكورونا.
وأغلبيتها تحمل العنوان ذاته: «لن يكون المجتمع بعد الكورونا كما كان عليه من قبل» أو «أي مجتمع بعد الحجر الصحي؟». بالطبع، كل الاحتمالات واردة وأغلب الدراسات تستند على دراسات الوباءات السابقة أو تقارن ما بين بعد الحرب العالمية الأولى أو الثانية واليوم.
النقاط المشتركة تقول مثلاً، أن الحياة الإلكترونية ستتنامى بشدة. وستمس كل المجالات: اجتماعات العمل، الاستشارات الطبية والنفسية، الخ. ولكن يجب عدم التسرع لأن الحجر قد يولد ردة فعل معاكسة تكمن في الرغبة القوية بلقاء الآخر شخصياً، ممّا قد يدفع الناس للإكثار من اللقاءات العائلية والصداقة.
أو سوف يتوجهون لما هو جوهري بالنسبة لهم، أي أن يجدوا الوقت لأنفسهم، سواء ليفكر كل واحد بنفسه «يقعد مع ذاته» سواء ليكونوا مع عائلاتهم وأصدقائهم، بالمقابل، تقول الدراسات، بأن التواصل عن بعد يعطيهم الوقت الذي يريدونه. باختصار تعطينا نتيجة متوقعه وعكسها في الوقت نفسه. لأن ما من أحد يملك الجواب الحاسم!
مثلاً الناس سيكونون أقل بخساً وأكثر اقتصاداً ولن يشتروا إلاَّ ما هو ضروري لهم، وأ، هذه الناحية بدأت حتى قبل الوباء. ولكن من الممكن أن يكون لهم ردة فعل على الحجر الذي فُرض عليهم، فيزداد الإسراف في الاستهلاك والمشتريات، الخ.
الانتشار الهائل للأنترنت كشف عن مفارقة تستحق التوقف عندها: قبل الحجر، كان الناس متواجدين مع بعض جسدياً، لكن افتراضياً كانوا متباعدين، واليوم مع الحجر الصحي، أصبحوا افتراضياً متواجدين لكن جسدياً متباعدين.
ممّا يعني، بنظر أصحاب هذه الدراسة، أن الرغبة في التواصل قوية لدى الناس، بالإضافة إلى أنه قبل الوباء، قاموا بدراسة اجتماعية مبنية على الكلمات التي تستعمل أكثر من غيرها.
ورأوا أنه في الفترة الأخيرة الكلمتين الأكثر استعمالاً هي التضامن والأخوة على حساب اللذة والنجاح. وهذا الأمر يعبر عن الرغبة القوية في البعد الجماعي. وبالتالي سيكون الاهتمام بالبيئة أكبر ممّا كان عليه سابقاً.
وسينعكس هذا الأمر على المجال الصحي لارتباطه العميق بالبيئة. كذلك الأمر، العمل عن بعد سوف يفرض ذاته في الكثير من المجالات. والأمثلة كثيرة. لكن بالمقابل هناك خطر وصول الذكاء الاصطناعي حيث سيكون الإنسان هو مجدر مساعد للروبوت، للإنسان الآلي. وعلى ما يبدو أن الأمر قريب أكثر ممّا نتوقع! لكن أغلب الدراسات تتمحور حول الاقتصاد أكثر من الأمور الإنسانية.
اليوم سأقوم معكم، كما كتبت في الإعلان بمسح عام للتساؤلات التي يطرحها كل من الوباء والحجر لكي نحاول، في الأحاديث اللاحقة أن نخصص لكل سؤال لقاء للتعمق به والتفكير حوله.
اليوم العالم بأجمعه، ونحن منه، نقول بشكل عفوي لا يمكن للعالم أن يبقى كما هو بعد الكورونا. حتما هذا الكلام صحيح، ولكن من يستطيع أن يتنبأ ويقول لنا كيف سيكون العالم بعد الكورونا؟
ما قبلهما ليس كما بعدهما!! لا شك أن وباء الكورونا فايروس، طرح ولا يزال يطرح علينا أسئلة جذرية مهمة جداً. أي مجتمع نريد؟ أي عائلة نحلم بها؟ على أي أساس نبني علاقاتنا الإنسانية، الخ.
كما سبق وقلت، الحجر الصحي فُرض على الجميع. فكيف عشناه؟ على الصعيد الشخصي. كيف عشت هذا الحجر الفروض علي؟ كمصيبة أو على حد القول الشعبي: ما باليد حيلة؟
هل عرفت استغلاله لأكون مع ذاتي لأفكر جدياً بما أريد أن أصنع من حياتي؟ أي علاقات أريد أن أعيشها مع الآخرين؟ أي مستقبل أريد لذاتي؟ ما هي القرارات التي أريد اتخاذها لتحقيق ذلك؟ هل أريد البقاء في الوطن؟ أم أفضل الهجرة إلى الخارج؟
على الصعيد العائلي: كيف عاشت عائلاتنا هذا التواجد؟ مصدر سعادة للمرأة بأن تجد زوجها إلى جانبها، بينما عادة يكون في الخارج للعمل أو للقاء الأصدقاء؟ أم كان فرصة لدعم وتقوية العلاقة الزوجية، واكتشاف جديد لكل طرف للطرف الآخر؟ هل شعرنا بالممل من بعضنا البعض؟ على الصعيد العائلي: هل كان هذا التواجد، مصدر فرح للأهل بأن يكونوا مع أبناءهم لفترة لا بأس بها وغير اعتيادية؟
هل تطورت العلاقات بين أفراد العائلة وكبرت المشاركة في الاهتمامات المنزلية؟ أم خيم عليها التوتر وانعزال كل طرف في زاويته الخاصة مع هاتفه ووسائل التواصل الاجتماعي كما نسميها؟ هل عبرت العلاقة بين الأهل والأبناء من علاقة سلطة إلى علاقة أكثر مرافقة؟ هل كان هناك انفتاح أكبر على بعضنا البعض، ممّا سمح لكل واحد وواحدة أن يشارك بما يعيشه في حلو ومر؟
هل كان هذا التواجد المفروض يشكل عبئاً على الأبناء أم تم استغلاله لتعارف متبادل وثيق؟ كذلك الأمر بخصوص العلاقات بين الأخوة والأخوات. كما هو واضح، كل الاحتمالات واردة، لكن المهم هو أن الموضوع بيدنا ونصنع منه ما نشاء! فماذا نريد بالفعل على هذا الصعيد؟
على الصعيد الاجتماعي، أي مجتمع نريد، وأي دور للفرد وما علاقة الفرد بالمجتمع؟ لا شك أنه خلال الحجر وحتى اليوم لم تتوقف، وعلينا الشكر لمن قام بها، المبادرات الإنسانية حيث تم توزيع سلل غذائية وصحية وأكثر الأحيان بمبادرات فردية وهذه علامة جيدة برأي.
على الصعيد الإيماني والكنسي: كيف عشت إغلاق أبواب الكنائس والجوامع؟ هل شعرت بأن إيمان أصبح في خطر؟ أم كان مصدر ثقة وسلام داخلي بالرغم من الوباء؟ هل زمن الحجر كان فرصة لي للتعمق في الإيمان والكتب المقدسة؟
ما قبلهما ليس كما بعدهما!! إذا كان العالم يعيش كارثة وباء الكورونا فايروس، فنحن، في سوريا نعيش كارثتين كبيرتين: حرب دامت حوالي العشر سنوات، ووباء الكورونا.
فما جوابنا على العبارة ما قبلهما ليس كما بعدهما!! إذا كان هذا التساؤل شرعي، فمن المؤكد أن لا أحد يملك الجواب. لأن الجواب هو، في النهاية، شخصي وجماعي، لكن حتماً، ليس بنتيجة أوتوماتيكية.
والسؤال الصح: أي تغيير نريد؟ أي إنسان نريد أن نبني، وأي مجتمع نريد تحقيقه؟ باختصار، هل نحن مستعدين لنجعل من الضروري والمفروض علينا اختيار حر نتبناه ونسعى لتحقيقه؟ هذا ما سنحاول الحوار حوله في لقاءاتنا القادمة.
كيف أواجه التغيير المطلوب على الصعيد الزوجي والعائلي؟
مقدمة: أريد بداية التذكير بأن هدف هذه الأحاديث التي انطلقت بسبب وباء الكورونا فايروس، تهدف للوقوف مع الذات بهدف الذهاب إلى ما هو جوهري في حياتنا لكي نعيش علاقات إنسانية حقيقية منمّية ومُفرحة.
بمعنى آخر، كما بينا سابقاً، وباء الكورونا فايروس هو فرصة لنحدث تغيرات على كل الأصعدة محققين بذلك أن علاقاتنا بمختلف أشكالها لن تكون بعد الوباء كما كانت عليه قبل.
الخميس الماضي تحدثت عن التغيرات المفترض تحقيقها على صعيد الذات. وقلت إن كل شيء يبدأ بالذات. فكما أتعامل مع ذاتي أتعامل مع الآخرين. ورأينا أن الإنسان كنز لا يمكن سبره بالكامل وبالتالي مسيرة الغوص في الذات، معرفة الذات، هي مسيرة لا تنتهي وهذا يحمي حياتي من الوقوع بالملل والركود وفقدان المعنى.
اليوم حديثي يمس العلاقة الزوجية والعائلية. بشكل عام يقول الناس بأنهم يتزوجون لأنهم يحبون بعضهم ويريدون الاستقرار. بالطبع بالإضافة إلى الرغبة في تكوين عائلة، الخ. دون أن ننسى المفهوم الشائع للزواج على أنه علاقة بين شخصين يكملان بعضهما البعض. هاتين الكلمتين: الحب والاستقرار تستحق التوقف عندهما.
أولاً نحب بعضنا. ماذا تعني هذه الكلمة؟ وما هو مقياس الحب الحقيقي؟ مقياس الحب الحقيقي هو بكل بساطة غياب كل مقياس. لأنه طالما أني أحب الآخر لهذا أو ذاك السبب أو لهذه او تلك الصفة، فانا لا أحب الشخص، إنما هذه أو تلك الصفة. وعندما لسبب ما تغيب هذه الصفة يذهب الحب معها وتنتهي العلاقة.
هذا يعني، أنه من الممكن إعطاء بعض من جوانب الحب، لكن لا يمكننا أن نحده بتعريف. لا شك الحب يكمن في العطاء فوق كل شيء. لكن ليس أي عطاء. إنما عطاء الذات ككل. لا يذهب تفكيركم مباشرة إلى الموت أو إلى الصليب، لنختبئ خلف إصبعنا الصغير ونقول هذا أمر مستحيل.
عطاء الذات يعني القبول بأنني لم أعد ملكاً ذاتي: «لا سُلطَةَ لِلمَرأَةِ على جَسَدِها فإِنَّما السُّلطَةُ لِزَوجِها، وكذلِك الزَّوجُ لا سُلطَةَ لَه على جسَدِه فإِنَّما السُّلطَةُ لامرَأَتِه». لم أجد جملة أقوى وأعمق من هذه الآية لبولس الرسول.
هذا يعني إنه في الحب نعطي ذاتنا كلية للآخر فتصبح رغبة الآخر هي رغبتي وبالعكس، بمعنى آخر انطلق من رغبة الآخر لا من رغبتي، وهذا هو معنى الآية: يصبح الاثنان جسداً واحداً.
أوضح أكثر. الإنسان هو وليد الكلمة: ما يجعل رجل وامرأة يرتبطان ببعضهما وينجبان الأطفال هو كلمة النعم المتبادلة بينهما. وبالتالي، هذا العطاء يكمن قبل كل شيء بالكلمة. أُعطي ذاتي بالكلمة، يعني أُعري ذاتي أمام الآخر بالكلمة.
أقول له ذاتي حلاوتي ومرارتي، ضعفي وقوتي، وهذا ليس بالأمر السهل، لكي، لاحقاً، تتجسد هذه الكلمة العارية في العلاقة الجسدية. أي أن هذه الكلمة تصبح جسداً! بمعنى آخر، لقاء الأجساد يصبح لقاء بين كائنين بكليتهما، تجسيد للكلمة. في البدء كان الكلمة والكلمة صار جسداً.
بهذه الطريقة يكون الاثنان في صدد السير باتجاه الوحدة الحقيقة. وهذه الوحدة لا تعني الاندماجية، فهذه الأخيرة قاتلة. وهذا ما عبر عنه جبران خليل جبران في كتابه النبي: «فليكن بين وجودكم معاً فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض حتى ترقص رياح السماوات فيما بينكم».
هذه الفسحة هي التي تمنع كل طرف من أن يتملك الآخر ويتصرف به وبالتالي تسمح له بقبول اختلاف الآخر عنه، اختلاف رغباته، نظرته للأمور وللحياة. والأهم تسمح بالتعامل مع الآخر ككل وليس كوسيلة من أجل اللذة أو تلبية رغبة ما.
لتوضيح هذا الكلام، قلت الحميس الماضي بأن الإنسان كنز، واليوم أُضيف بأن الإنسان هو كائن روحاني. لا بمعنى أنه يمضي وقته في الصلاة والعبادة مع أهميتهما بالطبع؛
إنما بمعنى أنه أكثر من مجرد جسد فيزيولوجي، بيولوجي، وبالتالي في كل مرة يتم التعامل مع الآخر كجسد فهذا يعني إلغائه كإنسان واعتباره مجرد شيء، وسيلة للتمتع، وهذا هو معنى الآية «من نظر إلى امرأة فاشتهاها فقد زنى بها في قلبه». أي أنه شيئها بالنظر.
فالعلاقة الإنسانية تُبنى على الرغبة، والرغبة هي دائماً الرغبة في الآخر المختلف عني. وما يميز الرغبة هو استحالة تلبيتها بالكامل ممّا يجعل العلاقة دائما دينامية، حية، لا تتوقف. أي أن ما يميز الرغبة هو نقص تلبيتها. لا يمكن للإنسان أن يشبع من حضور الآخر في حياته. وهذا ما رأيناه في الحديث الأول حيث ظهرت بقوة أهمية العلاقة مع الآخر في ظل الحجر الصحي.
فالعلامة المميزة للإنسان، إن صح التعبير، هي النقص، نقص تلبية الرغبة بالكامل. هنا نلمس كيف أن اعتبار الزواج على أنه علاقة بين شخصين يكملان بعضهما، أي يسدان النقص، هو مفهوم قاتل بكل معنى الكلمة.
الإنسان كنز، الإنسان كائن روحاني، أُضيف بأن الإنسان كائن ثالوثي: المرأة والرجل والعلاقة المتبادلة بينهما. وهذا الكلام ينطبق على كل علاقة حتى بين شخصين من الجنس نفسه. فالعلاقة الإنسانية الصحيحة هي دائماً ثالوثية: الرجل والمرأة، (أو رجل ورجل أو امرأة وامرأة)، ثالثهما هو النقص. وقبول هذا النقص هو الضمان الوحيد لعدم الوقوع في تشيء الآخر.
هذا القبول، هذه الطريقة في التعامل مع الآخر، هو حجر أساس، العمود الفقري للحياة الزوجية. للتقدم بهذا الاتجاه يأتي دور الحوار. القاعدة الذهبية للحوار هي البحث عمّا هو حقيقي وصحيح في كلام الآخر، لأن ما من أحد يملك الحقيقة. وهذا ليس بالأمر السهل لكوننا تربينا على الجدل المبني على أقناع الآخر بوجهة نظري ومفاهيمي.
نتزوج لأننا نحب بعضنا ونريد الاستقرار. هل الاستقرار يعني الجمود. أم أن الاستقرار هو أيضاً مسيرة، مسيرة ترافق كل التطور سلبي كان أم إيجابي، يعيشه الزوج معاً. ما من شيء في حياة الإنسان ثابت بمعنى الجمود. فالجمود يعني بكل بساطة الموت. «الروح يأتي من حيث لا ندري ويذهب إلى حيث يشاء وتلك هي حالة مولود الروح»، يقول يسوع لنيقوديمس.
في نهاية مراسم الزواج يقول الناس بأن فلان وفلانة تزوجوا. هذا الكلام دليل على مفهوم الزواج والاستقرار على أنه جمود. شخصياً أقول: إنهم بدأوا المسيرة ليصبحوا زوج وزوجة. فالاثنين هما، نظراً لاختلافهما الطبيعي، بمثابة خطان متوازيان، ولكي يلتقيا فلا بد من الحوار الذي منه يولد خط ثالث مشترك بينهما وهذا الخط هو الحياة الزوجية الحقيقية.
هذا الخط يرمز إليه الطفل. لكنه ليس هو الخط الثالث. فالطفل لديه شيء من أبيه، ومن أمه، وهناك ناحية أُخرى خاصة به، تميزه، تميز شخصيته. كل ذلك يبين لنا بأن العلاقة الإنسانية تتطلب جهد، حوار، ولا يمكن أن تعرف الثبات أو الجمود!
إذا قبلنا بذلك نفهم بأن العلاقة الإنسانية بهذا المفهوم، والعلاقة الزوجية بشكل خاص هي من الأماكن المهمة لنمو كل طرف من أطراف العلاقة. في حال بنيت على الحوار والقبول المتبادل، مهما واجهت من صعوبات وأزمات لا يمكن أن تتزعزع، بل على العكس تصبح أقوى وأعمق لأنها مبنية على الصخر، صخرة قبول الاختلاف.
بالإضافة إلى أن الإنسان ينمو من خلال الأزمات، وكل حياته فيها أزمات. منذ الولادة حتى القبر. حتى لا يكون كلامي نظري أُعطي مثلاً للتوضيح: العبور من مرحلة الفطام هو أزمة، قبول النظافة وتلبية الحاجات الطبيعية كما يتطلبها المجتمع، أزمة، المراهقة أزمة، وهكذا دواليك.
أعتقد أنني تحدثت بالكفاية عن العلاقة الزوجية. والآن انطلاقاً من هذه العلاقة ما هي التغيرات التي يجب أن تتم على صعيد العلاقة العائلية. إذا كانت العلاقة مع الذات، والعلاقة الزوجية هي مسيرة، فكذلك الأمر بالنسبة للعائلة. بمعنى أن العلاقة أو الحياة العائلية هي عبور من السلطة إلى المرافقة، من التبعية إلى الاستقلالية.
من الطبيعي أن يكون الأهل بموقع السلطة لدى الطفل الصغير. لكن عليهم في الوقت نفسه أن يبدأوا بإعطائه الثقة وخاصة تنمية ثقته بنفسه من خلال التشجيع، بدلاً من التمنين: ضيعان المال وحرمان الذات الذي قمنا به لكي تنجح. هذا هو حجر أساس مستقبل الطفل. لأن الثقة هي أهم شيء في حياة الإنسان!
المشكلة اليوم، ينطلق الأهل من أفكار خاطئة عن التربية: من جهة، الأهل هم السلطة، هم من يعرفون مصلحة أبنائهم ويقررون عنه، ومن جهة أُخرى يفتخرون، باسم ما يسمونه بالتربية الحديثة، بأن الطفل الصغير ينادي أهله بأسمائهم! وبالتالي يستغربون غياب المسافة المطلوبة بينهم وبينه.
من الطبيعي والجيد العبور من السلطة إلى المرافقة ولكن هذا لا يعني إلغاء البعد الذي يحمي من الوقوع في الفوضى وفقدان المرجعيات. فالمرافقة تعني إعطاء الثقة، حوار مفتوح بين أعضاء العائلة، والحوار هنا بالمعنى الذي تحدثت عنه، وخاصة حوار خالي من الأحكام وردود الأفعال المباشرة، ممّا يمنع تصنيف كل طرف للطرف الآخر: أهلنا دقة قديمة، هاد الجيل الله يعنّا عليه، الخ.
بهذه الطريقة يصبح الطفل إنسان ناضج، واثق من نفسه، وجاهز لعيش استقلالية صحيحة. وفي الوقت نفسه تتحقق عائلة سعيدة، تسر بالأوقات التي يقضونها سوية، أوقات محببة ومفرحة وبالتالي منمية للجميع.
الإنعكاسات النفسية للحجر الصحي
الانعكاسات النفسية للحجر الصحي
بداية أشكر لكم متابعتكم لهذه الحلقة عن الانعكاسات النفسية للحجر الصحي. منذ ثلاثة أسابيع تحدثت عن الفايروس كورونا من خلال سؤال: هل هو نعمة أن نقمة؟ حاولت من خلالها توضيح مسؤولية البشرية في الوصول إلى هذه الحالة والدعوة لتغيير نمط حياتنا ونوعية علاقاتنا.
الحقيقة ترددت في تقديم هذا الحديث لأنني تساءلت هل تحن في سوريا عشنا أو نعيش الحجر الصحي؟ أم على قول النكتة نُفلت في النهار وننضب في المساء؟ لكن بما أن هناك عدد لا بأس به من المتابعين موجودين في أوروبا وأمريكا وكندا فقررت إعطاء الموضوع.
بما أن الإنسان هو كائن علائقي فمن الطبيعي أن يكون للحجر الصحي تأثيرات نفسية عليه. ونحن بشكل عام عندما نرى أحداً من أصدقاءنا منعزل ولو للحظات نسأله إن كان هناك من مشكلة وهل يمكننا المساعدة. وعندما يكون الحجر قسري فنتائجه حتماً أكبر وأسوأ.
أكثر من ثلث البشرية تخضع اليوم للحجر بسبب الكورونا فايروس. أكثر من 2.6 مليار شخص ملزمين بالبقاء في منازلهم ولفترة تجاوزت الثلاثة أسابيع حيث لا يمكنهم الخروج إلاّ استثنائياً.
فما هي المخاطر النفسية لهذه الحالة؟ بالحقيقة لا نعرفها بالمعنى العلمي للكلمة. فالحالة غير مسبوقة وبالتالي انعكاساتها أيضاً. لكن هناك دراسات ظهرت بخصوص الحجر، بالإضافة إلى الخبرة المهنية تسمح لنا برسم بعض الخطوط الأساسية.
في نهاية شهر شباط من هذه السنة، بينما كان ملايين الأشخاص في آسيا يخضعون لتدابير الحجر ــــ ولا أحد في أوروبا ـــ، نشرت المجلة الأمريكية (the lancet) مقالة تتحدث فيها عن المخاطر النفسية للحجر الصحي التي ظهرت أثناء الوباءات السابقة.
24 بحثاً على الحجر الصحي المفروض منذ عام 2004 على كل القارات، خاصة في الصين، كندا وأفريقيا الغربية، وذلك خلال وباءات السارس، إبولا، وأنفلونزا (H1N1).
لكن آنذاك لم يتجاوز الحجر الأسابيع الثلاثة خصوصاً أثناء وباء الإبولا. بعد بضعة أيام من نشر هذه المقالة، نشرت مجلة أُخرى (General Psychiatry ) نتائج استطلاع في بداية شهر شباط الماضي في الصين بالقرب من 53000 شخص محجورين.
إنها الدراسة الوحيدة التي تمت في فترة وباء الكورونا فايروس. دراسات أُخرى يمكنها أن تنير المختصين وتنيرنا، بشكل خاص الدراسات على العاملين في مجال الحجر، والعاملين في الغواصات البحرية أو رجال الفضاء. بالطبع مع فارق إلى حد ما مهم وهو أن الحجر اختياري بالنسبة للفئة الثانية.
2. ما هي الانعكاسات النفسية للحجر الصحي؟
يبدو أن الحجر الصحي يضع الرابط الاجتماعي في خطر، بما أنه من غير الممكن مقابلة العائلة أو الأصدقاء أو الرفاق وفقدان الشعور بالرضى الذي يعطيه العمل. «كل ما يزعزع مراجعنا الزمنية والاجتماعية أو الاقتصادية يضاعف مستوى التوتر والقلق». بالإضافة إلى خطر العنف المرتبط ببقاء أفراد العائلة 24/24 مع بعض.
«الدراسات التم تمت في الصين وعلى العاملين في الغواصات تظهر تصاعد الغضب والقلق الذي يعدي من هم حولهم». والعنف الزوجي ارتفع بشكل خطير. ممّا دفع الهيئات الاجتماعية في بلد مثل فرنسا لدق ناقوس الخطر بهذا الخصوص. يُضاف إلى ذلك الاضطرابات العاطفية والانهيار العصبي، التوتر، الأرق، الغضب وفي أغلب الأحيان مزاج نكدي وحساسية عالية جداً.
مثلا في عام 2004 تم حجر 338 شخص لمدة تسعة أيام، يعملون في المشافي في تايوان لكونهم كانوا يتعاملون مع مرضى السارس. أظهرت الدراسة أنهم، بعد نهاية حجرهم، كانوا يظهرون بسرعة أكبر من زملائهم، الشعور بالتعب، وعدم التعلق بالآخرين، حساسية عالية وصعوبة في التركيز، إضافة إلى أنهم أصبحوا يتذمرون في أغلب الأوقات.
الدراسة التي تمت في الصين في شهر شباط الماضي أظهرت أن 35% من المحجورين كانوا يظهرون اضطرابات نفسية (قلق، فوبيا، اضطرابات قهرية، صعوبات اجتماعية مختلفة) و5% كانت حالتهم النفسية شديدة، أي يحتاجون لمساعدة نفسية.
فالانعكاسات النفسية ممكن تلخيصها على الشكل التالي:
أولاً، وهذا أمر مهم، إعلان الحجر الصحي، لم يكن له نفس الوقع على جميع الناس وهذا أمر طبيعي. بالنسبة للبعض، أخذ شكل إجازة غير منتظرة فذهب إلى قريته. بالنسبة للبعض الآخر، كان صدمة.
غضب، شعور بالظلم، أو عدم العدالة، عزل، ملل، قلق، خوف. الغضب والقلق بشكل خاص ينعكسان على من هم حولنا. بالنسبة للبعض، هذا الأمر يوقظ لديهم لحظات مؤلمة عاشوها في طفولتهم.
3. ما هي العوامل الأساسية لهذه الانعكاسات النفسية التي تمت ملاحظتها؟
أولها وأهمها بدون شك، هو مدة الحجر. «أعراض التوتر ما بعد الصدمة تصبح أعلى بشكل واضح عندما تتجاوز مدة الحجر العشرة أيام». وكما نعلم تم تجاوز هذه المدة بشكل كبير في حالة الكورونا فايروس حيث المجمع العلمي اقترح عشرة أسابيع حجر.
يُضاف إلى هذا العامل الخوف من العدوى، الإحباط والملل، والنقص في المعدات والمعلومات، لكن أيضاً الفقدان الكبير في الدخل المالي ووصمة العار بالنسبة للمرضى المحجورين. هذه الدراسة تنصح السلطات بالعمل على كل عامل من هذه العوامل.
الخوف من النقص خلق نوع من الهلع وأحيا خوف قديم يعود للماضي الشخصي. إلى ذلك يُضاف مصدر آخر للقلق: المعلومات كثيفة جداً، مظلمة، وفي أغلب الأحيان متضاربة.
المعرفة بوجود نقص في أجهزة التنفس وأن المستشفيات ممتلئة، كل ذلك يولد قلق كبير. هل سنصاب؟ من سيهتم بي، بأولادي إذا أصبت بشكل خطير؟ هل سيجدون علاجاً؟ متى سينتهي الحجر؟ هل سأستطيع الصمود؟
نقص المدخول المادي، هل سيجعلني في خطر؟ هل سنجد دائماً ما نأكله؟ الخ. كثير من الأسئلة بدون نهاية تترجم تنوع الحالات وتشكل ثقل نفسي هائل لكل إنسان. بعض الاقتصاديين تحدثوا عن إمكانية نقص في المواد الغذائية. باختصار، كما قلت، كل ما يزعزع مراجعنا الزمنية، الاجتماعية والاقتصادية يرفع من مستوى القلق.
4. هل هناك فئات معينة أكثر تعرضاً لذلك؟
دراسة الصين تبين أن النساء، الأكثر تعلماً، الأشخاص البعيدين عن البنى الصحية وخاصة العمال المهاجرين، هم أكثر تعرضاً بسبب فقدان دخلهم المالي. الأعمار التي تتراوح بين 18 – 30 ومن هم فوق الستين هم الأكثر تعرضاً، مشددة على دور وسائل التواصل الاجتماعي لدى الشباب.
الحجر الصحي ليس له النتائج نفسها لدى الجميع، بحسب عوامل الحماية النفسية التي قد تكون مكتسبة أو للأسف، ضعيفة. الذين يعانون من هشاشة نفسية سابقة، صدمة طفولية، طفولة صعبة، صراعات عائلية، أو عدم استقرار اجتماعي.
العاملين في مجال الصحة، الموجودين على الخط الأول في المعركة، وبالتالي معرضين كثيراً للمرض لكن أيضاً لما يُسمى بال «burn-out»، أي الإرهاق بسبب العمل حيث يشعر الإنسان بأنه منهك جسدياً ونفسياً مع الشعور بالعجز الكامل واليأس، والذين لا يملكون الوقت الكافي لاستعادة الأنفاس، إن صح التعبير، والتفكير بأنفسهم (مثال الطبيب الفرنسي).
المراهقون، الذين قد يُحبطوا بسبب غياب العلاقات الاجتماعية وبالتالي يعيشون ضغطاً كبيرا بشكل يومي. لكن أيضاً كل الذين، في الحالة الطبيعية، النشاط الزائد والرياضة، يشكلون بالنسبة لهم أهمية كبيرة. أخيراً، بالنسبة للنساء والأطفال المعنفين، والموجودين اليوم محجورين في المنزل مع «جلادهم»، هم معرضون لتضاعف اضطرابات الإجهاد أو التوتر (stress) ما بعد الصدمة.
5. ما هي الاحتياطات التي يمكن اتخاذها بالنسبة لمخاطر الحجر؟
على الصعيد الفردي، التعبير عن المشاعر، وفي حالة الغضب، إيجاد الوسيلة لعزل الذات لتخفيف الغضب. الرهان يكمن في المحافظة على القلق على مستوى محتمل. من هنا أهمية المحافظة على الإيقاع المألوف للعمل ومحاولة القيام بتمارين رياضية منتظمة.
الابتعاد عن متابعة أخبار الوباء قدر المستطاع. بالمقابل المطلوب من المسؤولين الوضوح والثقة بالمعلومات التي يتحدثون عنها.
من الطبيعي أن يكون هناك صعوبة في التركيز، وضعف في الدافع أو التحفيز، وحالة من الشرود.
التأقلم مع الحجر الصحي يتطلب وقت. فخذوا الوقت اللازم ولا داع لتعنيف الذات. في الوقت الذي يتأقلم الإنسان مع هذا الإيقاع الجديد من العمل عن بعد والعزلة، علينا أن نكون واقعيين بخصوص الأهداف التي نحددها، سواء بالنسبة لنا أم بالنسبة للآخرين.
خذوا قسطكم اللازم من النوم. وليكن هناك انتظام في ساعات النوم والاستيقاظ. وكونوا مدركين أن حالة الحجر قد تدفعكم للإكثار من الكحول.
من المهم مراقبة الأفكار الأساسية والمشاعر الجسدية التي تميل بكم إلى التعاسة والشعور بأنكم أصبحتم غير فاعلين ولستم أسياد أنفسكم.
الأفكار: لماذا لا أستطيع التركيز؟ المشاعر: إحباط، قلق، حزن. الأحاسيس: جسدياً: توتر، ألم في المعدة، عصبية. أعمالنا: مثل متابعة آخر الإحصاءات بخصوص مرضى الفايروس التي تعذي وتضاعف الشعور السلبي. وتجعل منه حلقة مفرغة.
فالروتين هو الصديق الأفضل، عامل مهم لكيفية التعامل بإيجابية مع القلق والتأقلم بسرعة مع الواقع الحالي. ليكن واضح وقت العمل ووقت الراحة. قوموا بعمل معين ليس له علاقة لا بالعمل ولا بالفايروس ويفرحكم. اعملوا لفترات قصيرة مع أوقات استراحة واضحة مما يساعدكم على الحفاظ على أفكاركم بشكل واضح.
في حالة الحجر، هناك بعض الأمور التي لا يمكننا السيطرة عليها، لكن الطريقة التي نتحدث فيها مع ذاتنا في هذه الفترة العصيبة يمكنها إمّا أن تخفف، أو تضاعف محنتنا. 3 نواحي مهمة في الرحمة أو الشفقة مع الذات:
1 أن أكون ودوداً مع ذاتي في اللحظات الصعبة أو خبرات الفشل، بدلاً من نكران الصعوبات أو النقد الذاتي السلبي. عندما نقبل ونعتبر كوننا غير كاملين ونعيش صعوبات وخبرات فاشلة أمر طبيعي، هذا يسمح لنا بأن نكون ودودين مع ذاتنا ويحمينا من العصبية. فالاعتراف يحرر بينما النكران يضاعف المشاعر السلبية.
2 الاعتراف بإنسانيتنا. الاعتراف بأن الألم والفشل الشخصي هم جزء من الخبرة المشتركة للبشرية. الإحباط أمام الأمور التي لا تسير كما نرغب يرافقه غالباً شعور لا عقلاني بعيش ذلك من خلال العزلة.
أما الاعتراف بأننا إنسان يعني أيضاً الاعتراف بأن أفكارنا، مشاعرنا، تصرفاتنا متأثرة بعوامل خارجية كتاريخ أهلنا، الثقافة، العوامل الوراثية والمحيطية، بالإضافة إلى تصرفات وانتظارات الآخرين. هذا الاعتراف يساعدنا لنكون أقل انتقاداً لضعفنا الشخصي.
3 راقبوا مشاعركم وأفكاركم السلبية كما هي دون محاولة نكرانها أو إلغاءها وبدون الحكم عليها. هذا الأمر يحمي من الوقوع في المساواة بين الذات وبين هذه المشاعر، وإلاَّ نقع ونندفع باتجاه ردود فعل ومشاعر سلبية جداً.
الحفاظ على التواصل أمر مهم للغاية. بعض الناس استمروا بلقاءاتهم افتراضياً عبر وسائل التواصل صوت وصورة. البعض يشرب القهوة معاً بطريقة افتراضية. فإذا كنّا معزولين اجتماعياً من المهم المحافظة على الشعور بأننا لسنا وحيدين.
كيف تعرفون أنكم بحاجة إلى مساعدة مختص نفسي؟
اضطرابات النوم، مشاكل في الطعام (فقدان الشهية، الشره المرضي)، استهلاك الكحول أو الحبوب، أفكار سوداء، ردود أفعال عدوانية ضد ذاتك أو ضد الآخرين. كل هذه التصرفات عليها أن تُأخذ على محمل الجد. وتشير إلى أنك بحاجة إلى مساعدة أخصائي نفسي.
هذا ما يخص الانعكاسات النفسية للحجر الصحي على البالغين. فماذا نقول بخصوص الأطفال؟
يمكن للحجر أن يؤثر بشكل خطير على الأطفال من الناحية النفسية، لكن للأهل الإمكانية، من خلال أعمالهم وكلماتهم، أن يساهموا في تجنب الأسوأ. «الفترات الطويلة للحجر بإمكانها أن تضاعف أزمات القلق والخوف من العدوى». بإمكان الحجر أن يصبح حدث صادم ويقود إلى اضطراب التوتر الحاد أو إلى متلازمة التوتر ما بعد الصدمة.
في هذه الحالة تكون الأعراض خطيرة وتظهر في الأشهر اللاحقة للحجر. قد يتم فقدان العلاقة مع الواقع، وجود كوابيس، وصعوبات في التركيز أو قد يكون هناك فشل دراسي. بالمقابل هناك تصرفات بسيطة يمكن للأهل القيام بها وتخفف من تأثير الحجر لدى الأطفال.
قول الحقيقة:
إذا كان أحد الأهل مصاب بالفايروس وعليه أن يذهب للحجر، بعيداً عن الأطفال، من المهم قول الحقيقة ولا داع للتخفيف من الحالة بالادعاء مثلاً، أن سبب الغياب هو العمل. على الطفل أن يفهم أن سبب الغياب هو الحماية من انتشار الفايروس.
كما أنه من الضروري تفادي وسائل التواصل الاجتماعي، التي تنشر كل أنواع المعلومات الخاطئة، وبشكل خاص بالنسبة للمراهقين. ومن المهم عدم تعرضهم بشكل مستمر للأخبار ممّا يغذي الخوف والرعب لديهم. مع أهمية شرح الفايروس وأن الحجر هو وسيلة مهمة للحماية الذاتية وحماية الآخرين.
كيف يمكن طمأنة الأطفال القلقين في هذه الحالة؟
من المهم التحدث مع الأطفال بلغتهم وكلماتهم، مبتدئين أولاً من تساؤلاتهم. وهذا مهم بقدر ما هم معنا 24/24. شاءوا أم أبوا، فهم يسمعوا حوارات البالغين والذين يكونوا أحياناً قلقين دون التحدث عن الأقنية المتلفزة والتي نزيد نسبة القلق والخوف.
التحدث مع الأطفال يعني أولاً إعطائهم الأولوية للتعبير عن ما يشعرون به، ومساعدتهم لوضع الكلمات على مشاعرهم والسماح لهم بامتلاك الحالة إن صح التعبير. في حال أظهر الطفل علامات قلق، يمكننا المحاولة لإعطائه إمكانية التعبير عن ذلك من خلال الألعاب أو الرسم.
لتجاوز الشعور بالعجز الذي تسببه هذه الحالة (الحجر)، يمكن أن نقترح عليه أن يرسم لأعضاء العائلة الذين يحبهم أو لأصدقائه. من المهم أيضاً تذكيره بأن بقاؤه في المنزل يجعله يشارك فعلياً بالجهود الجماعية، يساعد المختصين بالصحة...
من جهة الأهل، عليهم القبول بأنهم لا يملكون الأجوبة على كل التساؤلات والجواب: لا أعرف هو جواب! تعبير الأهل عن مشاعرهم يساعد الطفل لكي، بدوره يعبر عن مشاعره.
هل التوتر الذي يعيشه الطفل اليوم بسبب الوباء، يمكن أن يستمر؟ وكيف يمكن مساعدته؟ الأطفال يملكون غالباً إمكانية التأقلم، كل واحد بطريقته الخاصة، لتعديل أو ضبط ذاته مع ما هو غير متوقع.
فطريقة تحمل المحيط لحالة الحجر الصحي تؤثر طريقة تعديل ذاته أو ضبطها. فالروتين اليومي للطفل مهم جداً، لأنه يسمح له بأن لا يكون كل شيء مضطرب في حياته، إنه يطمئنه كما يطمئن العائلة أيضاً.
مثلاً، التحضير في الصباح، الحفاظ على ساعات الوجبات الغذائية، الراحة بعد الغذاء، ساعة النوم. أوقات محددة للمحادثة مع الأصدقاء أو مع الجد أو الست الذين بإمكانهم أن يرووا لهم قصة بالمقابل يروي الطفل ما قام به خلال النهار.
يفتقد المدرسة ورفاقه، كيف يمكن المساعدة على الصبر والانتظار؟
التواصل مع المدرسة مهم، ولكن أمام استحالة القيام بذلك لوحده، يمكننا أن نقرأ له حوارنا مع المسؤولين في المدرسة بخصوصه. تشجيعه على استمرارية التواصل مع رفاقه للمشاركة وللعب. من الممكن الاقتراح عليهم موضوع ما وكل واحد منهم يرسم شيء عن هذا الموضوع لكي يتم تجميعهم معاً لاحقاً. أو تعليمهم أغنية يمكنهم لاحقاً أن يغنوها أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
كيف يمكن أن نشرح للطفل فقدان أحد الأقرباء بالوباء؟
في حال وجود أخوة من المستحسن إعلامهم معاً ثم لاحقاً ممكن تكريس وقت شخصي مع كل واحد منهم. من المهم اختيار اللحظة المناسبة: هدوء حيث الجميع مستعد للتحدث عن الموضوع وجاهزين للإجابة على تساؤلاتهم. من البديهي تفادي القيام بذلك في المساء.
في حال لم يكن الطفل مستعد للكلام، لا بد من احترام هذا الأمر مع إعلامه بأننا مستعدون عندما يريد للتحدث بالأمر. وبما أن المشاركة في الجنازة مستحيل، من المهم القيام بصلاة صغيرة في المنزل مع جميع أفراد العائلة.
في النهاية أية خلاصة؟ هذه الانعكاسات ووسائل الحماية أو التخفيف منها تقول لنا الكثير عنا، عن علاقاتنا ومعنى حياتنا. وبشكل خاص تُظهر مدى هشاشتنا النفسية. لماذا هذه الصعوبة الكبيرة في عيش العزلة؟ سواء عزلة فردية أو جماعية؟
منذ فترة لا بأس بها تم التركيز في العالم على الفعالية والإنتاج بالإضافة إلى السيادة أو السيطرة سواء على الطبيعة وغيرها سواء على الذات. ممّا أوقع البشرية في وهم كلي القدرة، هذا الوهم هو من الأسباب الرئيسية التي أوصلتنا إلى وباء كرونا فايروس والوباءات التي حدثت في السنين الأخيرة. هذا الوهم أساس قلق وتوتر الناس وهشاشتهم النفسية.
فبقدر ما يكون الإنسان مرتاحاً مع ذاته، يعيش بسلام داخلي بقدر ما يواجه الأزمات بأقل الخسائر الممكنة نفسياً واجتماعياً.
انطلاقاً من هذا الواقع، ظهر تعبير في المجال النفسي والنفسي ـــ الاجتماعي (lacher prise - let go) ما يعادل بالعربية الترك لكن لا بمعنى الاستسلام إنما بمعنى قبول الواقع دون تعنيف الذات ومحاولة السيطرة على كل شيء. والقبول باستحالة السيطرة على كل شيء.
الوباء لم ينتهي بعد، وهناك الكثير من الناس والهيئات والجمعيات التي بدأت تقلق وتتساءل: أي عالم بعد هذه الصدمة الاقتصادية الهائلة؟ منظمة الصليب الأحمر ومنظمة أمريكية تهتم بالبيئة على الصعيد العالمي (WWF) اقترحوا، كل واحدة من جهتها التدابير اللازمة إعادة بناء المجمع العالمي بمشاركة 800000 شخص و19000 اقتراح.
60 نائب فرنسي و15 منظمة وجمعية في فرنسا أطلقوا شعار: أبداً لا يمكن الاستمرار هكذا. مطالبين بتغيرات عميقة سياسية للإجابة على الحاجات المباشرة ويعطوا الفرصة التاريخية لإصلاح النظام في فرنسا وفي العالم. والمطالبة بديمقراطية تشاركية حيث لا تعود القرارات المهمة فقط لرجال السياسة بل بمشاركة الشعب.
كورونا فايروس، نعمة أم نقمة؟
أعتقد أن كثير من الناس يعتبرون هذا العنوان غريب، إن لم نقل جنوني. كيف وهل يمكن اعتبار وباء كهذا الوباء نعمة؟ والبعض الآخر قد يقول الجواب واضح إنه نقمة وعقاب من الله. في الحالتين هناك مشكلة.
إن قلنا نعمة، فهذا يعني، ولو بطريقة لا واعية، أن الله يجربنا ليقوي إيماننا بما أننا نقول إن الله يجرب محبيه، مع أن رسالة يعقوب تنفي كلية هذا الأمر: «إذا جرب أحد فلا يقل إن الله يجربني. إن الله لا يجربه الشر ولا يجرب أحداً».
وإن قلنا نقمة، فالمشكلة أسوأ، لأنه بنفس أسلوب التفكير سنقول هذا عقاب من الله، بينما هو بريء كلية من هذا الأمر. في إنجيل يوحنا يقول: «إن الله أحب العالم حتى أنه جاد بابنه الوحيد لا يدين العالم، بل ليُخلًص به العالم والدينونة هي أن النور أتى إلى العالم ففضل الناس الظلام على النور... من يسمع كلامي ولا يعمل به فأنا لا أدينه، له ما يدينه الكلام الذي قلته له».
حديثي مؤلف من قسمين: القسم الأول يخص الناحية العلمية: ماذا يقول لنا العلم والواقع، والقسم الثاني ماذا يقول لنا الكتاب المقدس؟ وهذا يسمح لنا بلمس التلاقي بينهما. لأنه، برأيي، العلم والدين لا يتناقضان، بل ينور الواحد الآخر إن صح التعبير: العلم يساعد على فهم الدين بطريقة واقعية ملموسة، بطريقة حياتية، خارجاً عن التجريد، والدين يحمي العلم من الوقوع في فخ المطلق والديكتاتورية.
منذ بداية الكون والإنسان في صراع مع الطبيعة في محاولة لتطويعها والسيطرة عليها لتكون في خدمته وتعطيه كل ما يلزم لكي يستمر في الحياة. ولكننا نعلم، بالمقابل أنه، لكي تلبي الطبيعة الإنسان، عليه أن يعتني بها، وخاصة أن يحترم قوانينها وهنا تكمن المشكلة!
مثلاً عندما قرر الإنسان أن يطير، بغض النظر عن وسيلة الطيران، كان عليه أن يأخذ بعين الاعتبار قانون الجاذبية ويحترمه وإلاَ لما استطاع تحقيق هذا الحلم. والأمثلة عديدة. لكن طموح الإنسان لا حدود له وهذا سيف ذو حدين.
فهو، من جهة، لا يقبل الحدود بشتى أشكالها وبالتالي لا يقبل النقص في حياته: مثلاً يريد أن يأكل من صنف معين من الخضار أو الفاكهة متى يشاء، خارجاً عن موسمها كما نقول، فأنشأ البيوت البلاستيكية. وبالرغم من أن الدراسات تقول بأن هذه البيوت قد تولد السرطان، فهو لا يأبه بذلك وعندما يصاب يتساءل لماذا؟
ومن جهة أُخرى، من المعروف أنه من الضروري إراحة الأرض لمدة سنة كل فترة وأُخرى، والكتاب المقدس، مع أنه ليس بكتاب علمي، يقول تفلح أرضك ست سنوات والسنة السابعة تكون سنة سبتية، أي سنة راحة للأرض وإلاَّ فأنت إيها الإنسان لن تترك للأرض إمكانية تلبيتك كما تشاء بما أنك استهلكت كل مواردها. والوقع يثبت لنا اليوم هذا الأمر. ومع ذلك يستغرب الإنسان عدم تلبية الأرض له كما يشاء.
وهذا ما حدث أيضاّ عندما تم خرق طبقة الأوزون وكلنا نعلم نتائج هذا الاختراق: التغيير المناخي الذي نشهده اليوم، تلوث، مصادر مياه الشرب مهددة، فقدان التنوع البيولوجي، وارتفاع درجة حرارة الأرض وذوبان سريع للثلج والجليد في القطب الجنوبي. وبحسب المختصين إذا لم يتم العمل بجدية للحد من هذا الارتفاع الحراري للأرض، إذا استمر ارتفاع درجة حرارة الأرض بهذه الطريقة فقريبا ستُمحى أغلبية المدن الساحلية في العالم لأن مياه البحار والمحيطات سترتفع بين 5 – 10 أمتار. والمختصين سبق لهم أن أطلقوا ناقوس الخطر. لكن هل من مستجيب؟
في عام 1992 تم توقيع اتفاقية عالمية سميت بقمة الأرض في ريو دي جانيرو، البرازيل وفي عام 1997 خمس سنوات بعد قمة الأرض، تم توقيع معاهدة كيوتو، في اليابان، التي تعتبر كمعاهدة تنفيذية لقمة الأرض، للتخفيض من نسبة الغازات الدفينة في الغلاف الجوي والمفترض أن تدخل حيز التنفيذ عام 2005.
في شهر تشرين الثاني «2005» 182 دولة من أصل 192 وافقوا وصادقوا على المعاهدة. في العام 2009 الولايات المتحدة الأمريكية وقعت لكن لم تصادق. وكما نعلم عام 2017 انسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من اتفاقية المناخ التي انعقدت في باريس.
كل ذلك، يبين لنا أنه عندما لا يحترم الإنسان الطبيعة وقوانينها، فمن الطبيعي أن تنقلب عليه إن صح التعبير. فهذه هي مسؤولية الإنسان اتجاه الطبيعة. والسؤال؟ هل ما يحدث اليوم مع الكورونا فايروس سيجعل العالم يعترف بعنجهيته ويقبل حدوده ويستوعب بأنه ليس سيد الكون، بالرغم من أنه مدعو لذلك لكن ليس من خلال كسر قوانين الطبيعة؟
عام 2014 اجتاح وباء أيبولا أفريقيا الغربية. وأمام المعاهد الوطنية للصحة ألقى الرئيس باراك أوباما خطابا شدد فيه على ضرورة أن يكون العالم جاهز على صعيد البنى التحتية لمواجهة وباء ممكن. ومارس ضغطاً كبيراً على مجلس الشيوخ للموافقة على ميزانية جديدة تخصص لهذا الأمر.
يقول باراك أوباما: «من المرجح أن يأتي الوقت الذي ستحدث فيه الأمراض المعدية والقاتلة للغاية. ولمكافحتها بشكل فعال، نحتاج إلى إنشاء بنية تحتية، ليس فقط هنا في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن عالميًا، مما يسمح لنا بعزلها وفهمها والاستجابة لها بسرعة... إذا ظهر شكل جديد من الأنفلونزا، مثل الأنفلونزا الإسبانية، في غضون خمس سنوات أو عقد من الزمان، فسيتعين علينا القيام بالاستثمارات اللازمة في المنبع حتى نتمكن من القضاء عليه». وهذا ما يحدث اليوم!
فيديو هذا الخطاب له ضجة كبيرة اليوم في أمريكا ويأخذ بعداً سياسياً كبيراً بسبب اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية. واليوم نسمع بأن التلوث بدأ يخف في العالم بسبب توقف كل مصادره عن العمل. في الهند، مثلاً، لأول مرة يستطيع الناس أن يروا جبال همالايا التي لم يكن باستطاعتهم رؤيتها بسبب التلوث!
إذا كان هذا ما يقوله لنا العلم، فماذا يقول لنا الكتاب المقدس؟ بداية يقول بأن الله خلق الكون والإنسان وسلمه إياه: «اِنْموا واَكْثُروا وأمْلأُوا الأَرضَ وأَخضِعوها وَتَسَلَّطوا على أَسْماكِ البَحرِ وطُيورِ السَّماءِ وَكُلِّ حَيَوانٍ يَدِبُّ على الأَرض».
أول أمر يلفت الانتباه هو أن السيطرة مُعطاة للإنسان على كل شيء، ماعدا السيطرة على أخيه الإنسان. وكلنا نعلم أن ما من سيطرة، أيا كان نوعها، يمكن أن تتم بدون توتر، بدون صراع وبدون خسائر حتى! وغالباً تكون الخسائر كبيرة.
بالمقابل في إنجيل يوحنا الفصل 9 أمام طفل مولود أعمى، يسأل التلاميذ يسوع: «رابِّي، مَن خطئ، أَهذا أَم والِداه، حَتَّى وُلِدَ أعْمى؟». ويجيب يسوع: «لا هذا خَطِئَ ولا والِداه، ولكِن كانَ ذلك لِتَظهَرَ فيه أَعمالُ الله».
بالطبع هناك من يقول بأن هذه الآية تعني أن الله خلقه أعمى لكي يشفيه. عذراً هذا الكلام معاكس لمفهوم كل من الإنجيل ويسوع المسيح نفسه. هذه الآية تعني أن الله يعمل دائماً كما يقول في إنجيل يوحنا: «إِنَّ أَبي ما يَزالُ يَعمَل، وأَنا أَعملُ أَيضاً». والكتاب المقدس يقول أيضاً بأن الله يصنع من الشر خيراً، ومن الخطيئة والموت حياة.
فعمل الله يظهر بشكل عام في كل مكان وزمان، لكن يمكننا القول إنه يظهر بشكل خاص في مثل هذه الحالات، في ظلماتنا وقبورنا أمراضنا وأزماتنا، لكن علينا نحن، بالإيمان أن نكتشف عمله هو من يقول إنه أتى ليخلص المرضى، أي كل الذين يعانون من الحياة، بسبب العديد من الصعوبات المختلفة والمتنوعة التي تمنعهم من تحقيق إنسانيتهم وتحقيق ذاتهم على صورة الله كمثاله.
أليس هذا هو معنى الميلاد: أتى لينير ظلماتنا؟ كما يقول النبي أشعيا: «الشعب الساكن في الظلمة أبصر نوراً عظيماً والمقيمون في بقعة الظلام أشرق عليهم النور».
أليس هذا هو معنى القيامة حيث انتصر الله، كما يقول لنا بولس الرسول، على آخر عدو ألا وهو الموت. انتصر على الموت لكنه لم يلغيه. انتصر على الشر، لكن الشر مستمر، انتصر على الخطيئة لكنها لا تزال تعمل بقوة فينا.
لأن هذا الانتصار يتم بالتعاون بين الإنسان والله. وعندما نقول الله فنحن نقول الحب. فعندما يعمل الإنسان بحب لا يمكن أن يستغل أحداً أو يسيطر على الآخر، وينمو على حساب أحد. كما يقول القديس اغسطينس: «أحبب وأفعل ما تشاء».
هذا الواقع، يكشف لنا إلى أي حد لا نزال بعيدين عن تحقيق إنسانيتنا. طالما تسعى فئة من الناس للسيطرة على فئة أُخرى، فعبثاّ يتعب البناؤون! لأنه لا يمكن الفصل، كما يقول البابا فرنسيس بين التقدم التكنولوجي والتقدم الاجتماعي. ومشكلة البشرية اليوم هي في الفصل القائم بين الاثنين.
طالما أن الإنسان يعطي للبعد التكنولوجي ــــ الاقتصادي الأولوية وعلى حساب الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق عالماً إنسانياً لأنه بقدر ما نكون إنسانيين، نجعل الكون وعالمنا أكثر إنسانية.
كورونا فايروس، نعمة أم نقمة؟ بحد ذاته لا نعمة ولا نقمة. إنه مصيبة، كارثة. لكن نحن من نحوله إلى نعمة. نحن من نجعل منه قيامة حقيقية بوعينا وإدراكنا لمسؤوليتنا في تراجع الطبيعة والكون وبالتالي الحياة الإنسانية. نجعل منه نعمة تساعدنا على الخروج من أنانيتنا حيث فقدنا أجمل مل في الحياة الإنسانية والذي اعتدنا أن نسميه: الخير العام.
نحوله إلى نعمة تساعدنا لنولد من جديد ونبني علاقتنا مع العالم والكون على أسس سليمة. اليوم، بسبب الحجر الصحي اكتشف الناس أن الحياة لا طعم لها خارجاً عن العلاقة مع الآخر، على حد القول الشعبي: «جنة بلا ناس ما بتنداس».
الوباء نعمة تساعدنا على بناء علاقات أكثر حقيقية، أكثر إنسانية، حيث الآخر مهم بحد ذاته، خارجاً عمّا يحمله لي، وأن الآخر هو من يعطي المعنى لوجودي. وبقدر ما أجعله يوجد أكون فرحاً وإنساناً حقيقياً.
نعمة تساعدنا لندرك بأنه لا يمكننا أن ننمو، أن نفرح، وأن نحزن لوحدنا. الكورونا فايروس كشف لنا بشكل فظ كم نحن متساويين شئنا أم أبينا وأن ما من أحد أفضل من غيره «ما في حدا على راسه خيمة».
كشف لنا بأنه لا المال ولا السلطة وغيرها، يعطون المعنى والقيمة لحياتنا، إنما العلاقات المبنية على الاحترام المتبادل. كما أنهم لا يستطيعون حمايتنا من الأمراض والوباءات.
نعمة تساعدنا لكي ندرك بأننا «مديري أعمال» هذا الكون إن صح التعبير ودورنا يكمن في تنميته وجعله أكثر إنسانية ومن أجل الجميع، وهذا هو معنى السيطرة المدعوين إليها.
ندرك أننا لسنا بأسياد الكون إلاّ بقدر ما نعمل من أجل الخير العام لأن العالم ليس ملكاً لأحد إنه، كما يقول البابا فرنسيس في رسالته الرعوية «كن مسبحاً: Laudato ci»، إنه منزلنا المشترك! فعلينا الاهتمام به.
كورونا فايروس يمكنه أن يكون فرصة ذهبية لولادة إنسانية جديدة مبينة قدر المستطاع على المجانية لا على المنفعة والمصلحة الشخصية. فرصة لنختبر بأن القيامة هي هنا وقادرون على عيشها على مثال مرتا ومريم.
إذا أمعنا النظر في رواية قيامة لعازر نرى أن القيامة الحقيقية التي حققها يسوع هي قيامة مرتا ومريم. لقد كانتا أحياء موتى، منغلقات في منزلهم وفي ألمهم كما في الموت. والمسيح أخرجهم من مكان الموت إلى الحياة، بخروجهم إليه فتغيرت حياتهم.
ونحن اليوم قابعين في منازلنا ونشعر بأننا أحياء موتى، فليكن هذا الوباء وسيلة لنعيش منذ الآن رغبتنا الحقيقية في الحياة التي دفناها في أعماقنا، ولنجعلها تخرج إلى أرض الواقع فتولد أرضاَ جديدة وسماء جديدة وإنسانية جديدة. وكما يقول بولس الرسول: «إِن لم يَكُنْ لِلأَمواتِ مِن قِيامة، فإِنَّ المسيحَ لم يَقُمْ أَيضًا».
دور ومكانة اآخر في حياتي
للتحدث عن الآخر، لا بد من الانطلاق من الإنسان. على السؤال من هو الإنسان يمكننا الإجابة بأن الإنسان هو كائن مختلف قيد البناء والتحقيق. أي أن الإنسان أولاً هو كائن مختلف وواحد. الكتاب المقدس يقول بأن الله خلق الإنسان ذكراً وأنثى.
ذكر وأنثى، يعني أنهما متساويين في الجوهر الواحد الذي هو الأنسنة ومختلفان في طريقة عيشهما وتجسيدهما لهذا الجوهر الواحد: المرأة تعيش كل شيء في حياتها من خلال أنوثتها (طرقة اللباس، الجلوس، التصرف، الخ)، والرجل من خلال ذكورته.
عندما نقول متساويان ومختلفان، هذا لا يعني أنه أمر قد تم، قد تحقق، بل هو قيد التحقيق. هذا يعني أن الإنسان لم يصبح بعد إنسان، إنه في طريقه نحو تحقيق أنسته. لو كان الأمر قد تحقق، فلا يكن هناك من حروب وظلم واستغلال، الخ.
العلوم الإنسانية تقول لنا ما يقوله الكتاب المقدس، لكن بلغتها الخاصة. بالنسبة لها، الإنسان كائن مزدوج الجنس (ذكر وأنثى)، وهذه الازدواجية ليست فقط خارجة، بل داخلية، أي لدى كل إنسان هناك الجنس الآخر: لدى الرجل أنوثة، ولدى المرأة ذكورة، جل ما هنالك كل منهما تتغلب لديه هويته الجنسية الأصلية، وعندما يكون هناك خلل بين الهويتين نكون أمام مثلي الجنس، أو رجل مخنث أو امرأة مسترجلة كما نقول في اللغة العامية.
بالطبع هذا الاختلاف الجنسي الواضح بين الرجل والمرأة، موجود بين كل إنسان وآخر حتى من الجنس نفسه، فكل إنسان هو كائن فريد. المهم في الأمر، إذا أراد الإنسان أن يحقق إنسانيته، فهو ملزم بالعبور من خلال الآخر: لا يمكنني أن أفرح، أو أحزن، أو أنجح، الخ لوحدي.
هذا وهم! والمشكلة هي أننا لا نقبل الاختلاف، لأننا نعيشه كمصدر للخلاف. لهذا السبب، باللغة العربية نستعمل كلمة اختلاف بالمعنيين: الاختلاف الذي هو أمر طبيعي، والخلاف. بينما الاختلاف هو أساس الحياة: فلا وجود للخلق خارجاً عن الاختلاف: في الكتاب المقدس، خلق الله العالم والإنسان على أساس الاختلاف (ليل/ نهار. سماء/ أرض. مياه ويبس، ذكر وأنثى، الخ).
وبالتالي في كل مرة نحاول فيها إلغاء الاختلاف، نكون في صدد السير نحو الموت. والاختلاف يعني أن الإنسان هو، في النهاية، علاقة. وهذا الرفض للاختلاف هو سبب كل المشاكل في العلاقات بين الناس. من أبسط صعوبة، إلى أكبرها تنبع من رفضنا للاختلاف.
كلنا نعلم كيف يتكلم الرجال عن النساء وبالعكس، وإذا نظرنا إلى المشاكل الزوجية نراها أيضاً نابعة من رفض كل الطرفين لاختلاف بعضهما عن بعض. فمن هو هذا الآخر الذي عليَّ قبوله كما هو، قبول اختلافه. وماذا يعني قبول الاختلاف؟
الآخر هو بدون شك إنسان، لأن كل إنسان هو مختلف عني. وبالتالي عليَّ قبوله كما هو، لا يحق لي أن أفرض عليه أن يكون كما أريده أن يكون، في هذه الحالة ألغي شخصيته كلية. مع الأخذ بعين الاعتبار استحالة أن يكون كما أريده أنا أن يكون.
العلوم الإنسانية تقول بأن الآخر هو إنسان كما أنا إنسان، وبالتالي لا يحق لي أن أتعامل معه كشيء، كوسيلة لتحقيق ما أريد. والإنجيل يقول أن الإنسان كائن مقدس لا يحق لي أن أمس به حتى بالكلام: «قيل لكم لا تزني، أما أنا فأقول لكم من نظر إلى امرأة واشتهاها فقد زنى بها في قلبه».
يبقى السؤال ماذا يعني قبول اختلاف الآخر، قبوله كما هو؟ هذا لا يعني حكما أن أقبل تصرفاته السيئة، مهما كانت سيئة، لكن الإنسان أكبر من أعماله، وبالتالي أقبله كما هو وأرفض أعماله السيئة، وبشكل خاص لا أعادله بأعماله. كيف يمكنني قبول اختلاف الآخر؟
أولاً علي أن أبني علاقاتي بالشكل الصحيح، قدر المستطاع بالطبع. هذا يعني أن أحب الآخر ليس من أجلي بل من أجله هو، وهذا ما نسميه علاقة الرغبة: أحبه حتى ولو لم يلبي لي ما أريده منه أو أتوقعه منه.
لكن للأسف نحن نبني في أغلب الأحيان علاقاتنا على أساس الحاجة وليس الرغبة: أحب الآخر وأتوجه له عندما أكون بحاجة له، وفي حال لم يلبي لي حاجتي أرفضه. لكي أحقق هذا الأمر يكفي أن أقوم بمراجعة علاقاتي لكي أجد أنني أتألم ممن يعاملني على أساس الحاجة (مما يعني الغاء فرديتي وتحويلي إلى مجرد شيء أو وسيلة أستعملها متى وكيفما أشاء)، ومن جهة أخرى أنا أتعامل مع الآخرين بنفس الطريقة.
ثانياً ما يساعدني على قبول الآخر هو الإصغاء له لكي أكتشفه على حقيقته، كما هو، وبالتالي أكتشف ما هو إيجابي وجميل لديه. بالإضافة إلى بناء علاقتي معه على أساس الحوار لا الجدل. الجدل يعني أنني دائماً على حق، أملك الحقيقة، وعلى الآخر أن يقبلها ويتبناها، بينما في الحوار يسعى كل طرف لاكتشاف ما هو حقيقي وجميل لدى الآخر، بهذه الطريقة يتم الالتقاء بالحقيقة بيننا ويتم قبولنا لبعض كل واحد كما هو.
في الحوار أقبل أن يضع الآخر طريقة تفكيري، وفهمي للأمور، بما فيها إيماني موضع تساءل لكي أتقدم نحو الأكثر حقيقية: الإلحاد مثلاً ساعد الكنيسة على تنقية مفاهيمها من كل ما هو غريب عن الإيمان المسيحي. والكنيسة البروتستنتية ساعدت الكنيسة الكاثوليكية لتعود أكثر إلى الكتاب المقدس.
بالخلاصة نقول أن الآخر هو كائن مقدس لا يحق لي المساس به. لا بل علي احترامه وحبه وأن أصغي إليه. الآخر هو مقياس حقيقتي لأنه يكشف لي حقيقتي، مقياس لحريتي لأنه بمقدار ما يكون له حضور في حياتي أكون حرا (من نفسي ومن عبوديتي لذاتي)، لأنني بذلك أخرج من ذاتي للقاء الآخر المختلف عني.
من خلال الآخر أعرف نفسي وأصبح أكثر رحمة وأكثر إنسانية (أنظر الفصل 15 من أعمال الرسل: زيارة بطرس لقائد المئة قيرينيوس حيث اكتشف بطرس أنه ليس أفضل من قائد المئة أو من أي إنسان غير يهودي). فلكي أبني علاقتي مع الآخر، لا بد أن أبنيها على الاختلاف لأنني بجوهري مختلف (جنسين). مثال الابن الضال (... فرآه أبوه وهو بعيدا ً فتحركت أحشاؤه «وهي صفة أنثوية»... )
من اللقاء التربوي إلى الشكر
لكي نستطيع التحدث عن الموضوع لا بدّ من كلمة سريعة عن الواقع الحالي للكنيسة بشكل عام وللتربية المسيحية بشكل خاص. كلنا نعلم أنه، ولأسباب عديدة نجهل منها الكثير، لم يعد شباب اليوم وحتى الصغار منهم، يهتمون للإيمان المسيحي.
المجتمع السوري انفتح كثيراً على تطورات العصر وأصبحت اهتمامات أطفالنا وشباننا تتمحور حول هذه التطورات: وسائل الاتصال، الأنترنت، الموبايل، الخ، ممّا يدفع بهم باتجاه
فردية عالية وقوية حيث لم تعد للعلاقات الأهمية التي اعتدنا عليها، أو المفترض بها أن تكون.
والأسواء، برأيي المتواضع، هو أن هذه الوسائل تجعل مستخدميها يعتبرون العالم الافتراضي الذي تُدخلهم فيه، يعتبرونه على أنه العالم الحقيقي. وبالتالي الحاجة لوجود الآخر واقعياً أصبحت ضعيفة جداً.
وكما تقول النكتة: «إحدى الدلائل على أنك تعيش في القرن الحالي هو عندما تريد التحدث مع من يعمل معك في نفس المكتب، ترسل له إيميل أو واتساب». واليوم، كثير من الأطفال، وهذا يؤلم الأهل، يرفضون باكراً، الذهاب إلى الكنيسة لأنها لا تعني لهم شيئاً.
يمكننا التحدث مع الشباب عن كل المواضيع ما عدا الإيمان المسيحي أو الكتاب المقدس. من المؤكد أن هناك شيء من اللامبالاة الدينية لديهم، إن صح التعبير. وهذا يطرح سؤال خطير ومهم: ماذا أعطينا لهؤلاء الشباب خلال سنوات تواجدهم معنا في مختلف الأنشطة الكنسية؟؟ لو قمنا، وأتمنى تحقيق ذلك يوماً ما، بإحصاء عدد الأطفال الذين يترددون على التعليم المسيحي، لاكتشفنا بأن النسبة قليلة جداً.
وعلينا أن لا ننسى بأن عدداً منهم يذهب مباشرة إلى الأنشطة الأخرى في الكنيسة كالكشاف وغيها بالرغم من الاتفاق المُبرم مع الأساقفة بمنع استقبال الأطفال بالأنشطة الأخرى قبل الصف الخامس، أي بعد المناولة الأولى أو الاحتفالية.
إذا كان الواقع هكذا، فما هي مسؤوليتنا اتجاهه؟ أولاً، ولكي نبقى، قدر المستطاع، موضوعيين، علينا الاعتراف بمسؤوليتنا أيضاً أتجاه هذا الواقع. أي أننا مسؤولين ولو جزئياً عن الوضع الذي وصلنا إليه.
بشكل عام التربية المسيحية، مواعظنا نحن الكهنة، طريقة وأسلوب تقديم الإيمان والتحدث عنه، قراءتنا ومفهومنا للكتاب المقدس، لا يمس واقع الناس بشكل عام، والشباب والأطفال بشكل خاص. وهذه هي إحدى أسباب انجذاب الأطفال والشباب إلى النشاطات الأخرى في الكنيسة.
غالباً نبقى على صعيد المثالية واللازم: لازم نحب، لازم نضحي، لازم نحب أهلنا ونحترم الآخرين، الخ. ولكن نادراً ما نتساءل لماذا لا نحب، لماذا من الصعب علينا أن نحب؟ ما الذي يمنعنا من احترام الآخرين وقبول اختلافهم عنّا.
بمعنى آخر، نميل للتعامل مع التربية المسيحية والإيمان والكتاب المقدس، كتعاليم، دروس، وفي الكثير من الأحيان دروس أخلاق. كم وكم من المرّات نسمع عبارة عيش الإنجيل أو تطبيق الإنجيل، كما لو أنه كتاب شريعة.
وعندما نرى أنفسنا أمام نصوص صادمة من الإنجيل نرتبك ونتلعثم!! مثلاً إن كانت عينك، يدك، رجلك، سبب عثرة فاقلعها. أو اِتَّخِذوا لكم أَصدِقاءَ بِالمالِ الحَرام. إذا كان على التربية المسيحية أن لا تكون مجرد تعليم، والكتاب المقدس ليس كتاب أخلاق، فما هي إذن التربية المسيحية؟ ما هو هدفها؟ لماذا نقوم بهذه المهمة؟
أسئلة قد تبدو لكم غريبة أو بديهية، لكنها، برأي، تصب في صميم علمنا، وعلينا مواجهتها، إن أردنا أن نقوم به بالشكل الأفضل.
بالشكل العام وبخطوطه العريضة، التربية المسيحية هي عمل حيوي للكنيسة وتشارك في إعلان البشرى السارّة للجميع. فما هي ميزاتها؟ ما هي خصوصيتها؟ كيف يمكن تحديدها؟ أصل الكلمة يوناني «كاتيكِيو catekeo» تعني ترداد الصدى، صوت، كلمة تصدو من وادي إلى آخر تعبر المسافات بفضل قوة من يلفظها ولكن أيضاً بفضل الريح الذي يسمح بانتشار الموجات الصوتية.
والريح في الكتاب المقدس يرمز، كما نعلم، للروح القدس، الريح الذي يسمح لهذه الكلمة بأن تلتحق بالآخرين، أن تجتاز العقبات والمسافات بشكل أكبر بكثير ممّا نتخيل. ما يحي التربية المسيحية إذن هو اللقاء بين صدى كلمة الله وحياتنا الواقعية اليومية. وذلك لكون الكتاب المقدس هو حياة، لا بل أكثر من ذلك هو مرآة تكشف لنا حقيقة حياتنا وتحدد مكاننا من هذه الحقيقة.
فاللقاء التربوي المسيحي هو لقاء مع هذه الكلمة الحيّة بيننا وفينا. إنه خبرة علينا، من جهة أن نتشارك بخبراتنا أمام هذه الكلمة التي هي الكتاب المقدس. بهذه الطريقة يصبح اللقاء التربوي المسيحي لقاء حياة، وهذه الحياة تصبح، من لقاء إلى آخر، مسيرة حياة مسيحية.
ومن جهة أخرى، عندما نقول مسيرة نقول صعود وهبوط، تقدم وتراجع، فنكتشف أن الإيمان المسيحي ليس مجرد عقائد نتعلمها، بل حياة مدعوة للنمو من خلال الصعوبات والأزمات.
والبابا فرنسيس في إرشاده الرسول «فرح الإنجيل» يقول: «في التربية المسيحية أيضاً، الإعلان الأول أو قانون الإيمان الأول له دور أساسي وعليه أن يكون في مركز العمل التبشيري وكل مسعى للتجديد الكنسي. على فم المربي المسيحي يتردد دائماً قانون الإيمان الأول: يسوع يحبك، أعطى حياته ليخلّصك، والآن هو حيٌّ إلى جانبك كل يوم لينيرك ويقويك ويحررك».
اللقاء التربوي المسيحي مدعو ليتمحور حول هذه الخبرة الأساسية التي خارجاً عنها نبقى في مجال التنظير الذي لا فائدة منه ولا يحمل لنا جديداً. كم هو بعيد هذا الكلام عمّا اعتدنا عليه في التربية المسيحية. جميعنا نقول ونعلن إيماننا بحب الله لنا.
جميل هذا الكلام! لكن هل حاولنا أن نتبادل خبراتنا حول حب الله لنا؟ عادة نقول أن الله يحبني لأنه مثلاً وقع لي حادث كان يجب أن أموت ولم أموت. هذا الكلام هو مجرد تنظير، كلام حفظناه من التربية المسيحية!!
فهدف التربية المسيحية إذن هو وضع المربين والذين يشاركون في اللقاء ليس فقط على علاقة إنما باتحاد وحميمية مع المسيح الوحيد القادر أن يقودنا إلى حب الآب في الروح ويجعلنا نشترك بحياة الثالوث.
عندما نعيش اللقاء بهذه الطريقة يكون له بعض الانعكاسات المهمة: أولاً تبادل الخبرات يخرجنا من المثالية التي تشلنا، ويجعلنا نقبل الواقع بكل ما فيه من غنى وفقر، وحلو ومر، ونكون فاعلين فيه.
نقبل بأن المسيح لا يتعامل معنا بطريق سحرية «قم واحمل فراشك وامشي» يقول يسوع للمخلع. لم يحرره من الفراش الذي يرمز لكل ما كان يشله، إنما بين له أنه مع المسيح لم يعد هذا الفراش سبب شلل له، بل أصبح قادراً على حمله على كتفيه ومتابعة المسيرة.
ثانياً، هذا اللقاء مع المسيح ــــ الكلمة الحيّ بيننا يُخرجنا من ذاتنا للقاء الآخرين والانفتاح عليهم، لنحبهم ونحترمهم، وخاصة نحترمهم باختلافهم عنّا. يدفعنا باتجاه من هم بحاجة إلينا وخاصة الصغار والفقراء، ويجعلنا نعيش روح الخدمة، أفضل تعبير عن الحب.
والبابا فرنسيس، منذ لحظة اختياره أعلن بأن «الكنيسة اختارت الفقراء، كشكل خاص لأولوية في ممارسة المحبة المسيحية التي يشهد لها كل تقليد الكنيسة... لهذا السبب، أرغب بكنيسة فقيرة من أجل الفقراء. إن لديهم الكثير ليعلمونا إياه».
ثالثاً، إذا تم اللقاء التربوي بهذه الطريقة تنطلق منّا عفوياً صلاة الشكر عن هذا اللقاء، عن كل ما يعطينا إياه الله. شكر على كل الأشخاص الذين يضعهم على طريقنا، شكر على الانفتاح الذي يحققه فينا ومن خلالنا، شكر على كل الخبرات التي تشاركنا بها، الخ.
وبالتالي صلاة الشكر هذه من المفضل أن تأتي إلى حد ما بشكل عفوي، أي أن المربي عندما يشعر بأن اللقاء، بالمعنى الذي تحدثت عنه، قد بلغ ذروته، بإمكانه دعوة المشاركين لرفع صلاة الشكر. هذا يعني أن هذه الصلاة ليست بالضرورة ختام اللقاء. من الممكن أن نختم اللقاء بصلاة محفوظة، مثل الأبانا أو السلام أو.... لكن صلاة الشكر عليها هي أن تحدد مكانها إن صح التعبير.
بدون شك، ذروة صلاة الشكر هي الإفخارستيا، القداس حيث نشكر الله، ليس فقط على ما أعطانا ويعطينا، ليس فقط على حبه لنا، إنما نشكره حتى وبشكل خاص على ما وعدنا به ولم يتم بعد (خلاصنا وقيامتنا، الخ)، وهذا ما نسميه بالرجاء. فجوهر ومصدر صلاة الشكر يبقى بدون شك الرجاء. فلنعيش معاً، بشكل خاص اليوم، هذا الرجاء.
مفهوم الرمزية
الإنسان كائن لا يمكن أن نحده بتعريف ما. من الممكن أن نتحدث عنه أن نعرف الكثير عنه، ولكن من غير الممكن معرفته بشكل كلي وكامل وذلك لأسباب عديدة:
أولاً الإنسان أعمق من أن نحدده، أي إذا طرحنا السؤال: من هو الإنسان؟، أو ما هي الطبيعة الإنسانية، لا يمكنا أن نحصل على دواب واحد، بل على عدة أجوبة لأن الإنسان يعيش في مجالات متعددة: جسدية، روحية، عاطفية، عقلية الخ....
ثانياً الإنسان لا يعرف ما هي رغبته العميقة والحقيقية، لهذا السبب لا يستطيع
التعبير عنها إلاَّ من خلال الرمزية، أي بشكل غير مباشر وغير كامل خاصة. فما هي الرمزية؟
الرمزية تتميز بناحيتين: العلاقة بين الرمز والمرموز إليه هي علاقة اعتباطية أوجدها الإنسان لكي يستطيع التعبير عمَّا يريد.
كما أنها تتميز بعدم وجود تطابق بين الرمز والمرموز إليه: على صعيد الكلمة مثلاً: الحروف الأربعة ش ج ر ة لا تتطابق مع ماهية الشجرة، بمعنى آخر كان من الممكن للإنسان اختيار أية كلمة أخرى للتعبير عن الشجرة. إذن كلمة شجرة من جهة كلمة تم اختيارها اعتباطياً للتعبير عن الشجرة التي نراها أمامنا ونلمسها، ومن جهة أخرى كلمة شجرة لا تقول لنا كل شيء عن الشجرة.
كذلك الأمر جسدي يقول شيء عني، يعبر عن شيء من شخصيتي، لكنه لا يقول لي كل شيء عني لا يقول هويتي الحقيقية. نرى هذا الأمر بوضوح أكبر في لدى الأشخاص «مثلي الجنس»: جسدهم يقول بأنهم رجال أو نساء، وهويتهم الجنسية تعاكس الظاهر. المثل الأهم نراه لدى الكتاب والمفكرين.
فعندما يكتب كاتب كتاب ما، يُكتب عنه أكثر ممّا كتب كمحاولة لفهم ما أراد أن يقول. ممّا يعني أن ما يكتبه الأحرف التي يستعملها، تبقى رمز لما هو أعمق بكثير والذي يحاول الآخرون فهمه والوصول إلى ما يريد فعلاً أن يقول. وهذا الأمر ينطبق على كل نص أيّاً كانت طبيعته.
مثل آخر مهم: الإنسان لكونه لا يدرك، لا يعي رغبته الحقيقية والعميقة فهو يعبر عنها من خلال الحاجات: فكل الحاجات الإنسانية ليست بمجرد حاجات فقط، أو كل الحاجات الإنسانية ليست بحاجات فيزيولوجية بحتة، إنما تخبئ في طياتها ما هو أعمق وأكثر حقيقية ألا وهو الرغبة.
لهذا السبب، الإنسان، إلاَّ في حالات خاصة جداً، لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يمارس الجنس لوحده، لأنه في عمق هذه الحاجات هناك الرغبة والرغبة هي دائماً الرغبة في الآخر. فالرغبة، لكونها غير مدركة من قبل الإنسان فهو يعبر عنها من خلال الحاجة وهذه الأخيرة هي رمز لتلك الرغبة التي وحدها تعبر عن حقيقة الإنسان.
باختصار نقول لا وجود للإنسان بدون أو خارجاً عن الرمزية. وبالتالي كل ما يعيشه الإنسان على الصعيد المادي والحسي والملموس، يبقى رمزاً لما هو أعمق: الرغبة. وهذه الأخيرة هي من المجال الروحي وليس المادي، مما يجعلنا نقول بأن الإنسان هو كائن روحاني. هذا لا يعني مطلقاً أنه يصلي بدون توقف، إنما هو أعمق مما يبدو عليه، كائن روحاني، حضاري الخ.
بهذا المعنى تقول لنا العلوم الإنسانية بأن الإنسان مسيرة وعبور من الطبيعية (من يعيش بحسب قانون الأقوى) إلى الحضاري (من يحترم الآخر كآخر، يصغي إليه، يحبه ويحترمه اختلافه عنه). وبولس الرسول يقول الأمر عينه بلغة روحانية فيقول: على الإنسان أن يعبر من الإنسان الترابي إلى الإنسان الروحاني (أي من الإنسان الذي يعيش بحسب أهوائه ونزواته، إلى الإنسان الذي يعيش بحسب الروح القدس) والنتيجة إلى حد ما واحدة.
بعض التساؤلات حول وجودنا المسيحي
لاشك أنه في الظروف الحالية التي يعبر بها وطننا الغالي سوريا، ونظرا لتطورات الأمور، نلاحظ تصاعد قوي للخوف والقلق من المستقبل لدى الجميع وبشكل خاص لدى المسيحيين. وكثيراً ما نسمع الأسئلة عينها لدى الأغلبية:
ما هو مصيرنا كمسيحيين؟ هل نبحث عن مأوى لنا في مكان ما خارج الوطن؟ هل يمكننا التحدث في هذه الظروف عن الرجاء؟ الخ.
اعتاد المسيحيون الاتكال على الكهنة في اتخاذ قراراتهم المهمة لحياتهم، واليوم بشكل خاص ازداد هذا الطلب على الكهنة. في الواقع في مثل هذه الظروف لا يمكن لأحد أن يقرر بدلاً عن أحد. هذا النوع من القرارات يبقى شخصي محض ولا يمكن لغير المعني بها أن يوعز بما يجب القيام به.
ومع ذلك، وبالرغم من أنه يبقى قرار شخصي محض، من الممكن اقتراح بعض الخطوط العريضة التي قد تساعد على التفكير من جهة، وعلى طرح التساؤلات الصحيحة من جهة أخرى وهذا هو الأهم.
كنتيجة لهذا الخوف، يظهر عن الكثيرين ميل إلى الانغلاق والتقوقع والانحباس، في خشية على النفس، قد يتغلب على الاهتمام بمصير الوطن، كما قد يصل في بعض الأحيان إلى تبرير ممارسة العنف والقتل، تبرير بعيد كلّ البعد عن جوهر إيماننا المسيحي.
لا يمكننا تخطي هذا الخوف إلاَّ من خلال الإيمان بالعيش المشترك، والقيمة الإيجابيّة لكل آخر. وهذا الإيمان يترسّخ بالرجاء. رجاء يدفعنا إلى أن نعيش ما نرجوه على أنه قد تمّ. فمبادرات للحوار، الشفّافة منها بمختلف أشكالها، هي من العلامات الحسّية للرجاء. بالطبع الحوار هنا لا يعني الحوار «السفسطائي» «النظري - العقائدي»، بل بكل بساطة من خلال موقف منفتح على الآخر وقبوله باختلافه عنّا وعن رؤيتنا للأمور، وتحقيق العيش المشترك.
إنّ «العيش المشترك لا يكمن في قبول سلبيّ لوجود الآخر، والتعايش "جنباً إلى جنب"، بل بالمشاركة الوطنية الحقيقيّة، حيث لكل فرد دوره الفعّال في المجتمع». هذا العيش المشترك ليس قبولاً لواقع حاليّ، ولا رضوخاً لحتميّات تاريخيّة، بل هو اختيار أراده الله ليكون علامة وشهادة على محبته الشاملة وأبوّته لجميع الخلائق.
لذلك نحن مدعوين اليوم بشكل خاصّ إلى ممارسة النقد الذاتي: «هل أشعر بأنني قادر على قبول الآخر كما هو باختلافه عنيّ، وماذا يمكنني القيام به للتقدم بهذا الاتجاه؟ هل أرفض العنف بالرغم من أنّ الظروف بشكل عام، وبعض المواقف والتصرفات بشكل خاصّ، قد تدفعني إمّا لممارسة العنف أو لتبريره، وماذا يمكنني القيام به للتقدم بهذا الاتجاه؟ هل أؤمن بوحدة الوطن بمختلف مكوّناته؟»
عندما نقرأ الكتاب المقدس، من الملفت للانتباه مدى تكرار عبارة «لا تخف، لا تخافوا». فلندع الله، من خلال الروح القدس أن يساعدنا للتغلب على مخاوفنا وتنمية ثقتنا بأن الله معنا ولا يمكن أن يتخلى عنّا أبداً، فنتحول إلى أداة تواصل وتسامح وسلام بين الجميع في خدمة بناء مجتمعنا المدني.
انعكاس الأزمة على الحضور المسيحي
أريد أن أتوقف معكم اليوم حول وجودنا ودورنا كمسيحيين في سوريا على ضوء الأزمة التي تعبر بها البلاد. بمعنى آخر سوف أحاول التفكير معكم بما نعيشه اليوم وما هو مقدمين عليه في مرحلة ما بعد الحرب حتى ولو بدأ منذ الآن. سوف أتوقف على ثلاثة قضايا: الوضع العائلي، الوضع الكنسي وأخيراً الوضع الأخلاقي.
الوضع العائلي: كما نعلم بسبب الأزمة، كثير من العائلات تشتت اليوم: إمّا الأب في مكان وبقية العائلة في مكان آخر. أو الأبناء حيث ذهب كل واحد بطريقه. وبالتالي هذا الأمر له، بالضرورة، انعكاس على مفهوم العائلة ودورها اليوم. كما أن طلبات الطلاق بارتفاع كبير، مع ظاهرة الزواج «الخطيفة»، كما نسميه عادة. والسؤال: كيف يمكن مواجهة وعيش هذا الواقع؟ كيف يمكن للعائلة أن تبقى عائلة بغض النظر عن هذا التشتت أو أحياناً الضياع حتى؟
بدون شك ليس بالأمر السهل الإجابة على هذه التساؤلات، لكن علينا على الأقلّ أن نتوقف عليها ونحاول التفكير بها. لا شك أنه من الضروري ألا نستسلم ونعتبر هذا الوضع على أنه نهائي. من هنا أهمية التواصل والحفاظ على العلاقات العائلية بالرغم من البعد الحاصل بين أفراد العائلة الواحدة.
خصوصاً أن وسائل الاتصال اليوم عديدة ومتوفرة بسهولة كبيرة. هذا التواصل يعني استمرارية الحوار بين أفراد العائلة والتمييز معاً بخصوص القرارات التي قد يكون على أفرادها اتخاذها. من المهم ألا ننسى بأن البعد لا يلغي التواصل وخاصة لا يلغي الحب الموجود بين الأشخاص، لأن الحب، حتى ولو تطلب الوجود الجسدي، فهو أيضاً يتجاوزه.
الأزمة الأخلاقية: من الطبيعي، إن صح التعبير، أن ينتج عن الحروب ظاهرة فساد أخلاقي. لهذه الظاهرة أشكال متعددة. مثلاً، اليوم وبسبب كل المساعدات التي تُقدّم للناس، أصبح الإنسان السوري يفضل الاكتفاء بهذه المساعدات ولا يريد أن يعمل! هذه الظاهرة هي أخلاقية بامتياز. واليوم عندما نبحث عن أشخاص للعمل من الصعب جداً، إن لم نقل من المستحيل، أن نجد من يبحث عن العمل. في المحيط المسيحي، وهذا ليس بجديد، إمّا أن يكون مدير عام أو لا داعي للعمل.
أسسنا جمعية أهلية بهدف مساعدة الناس، بشكل عام، والمسيحيين بشكل خاص، لتجذريهم في الوطن، من خلال خلق فرص عمل: دورات تأهيلية متنوعة، خلق مشاريع صغيرة، مساعدة الطلاب في دراستهم. مع الأسف الشديد، الطلب ضعيف جداً ولدى المسيحيين شبه معدوم. (في دورة إعداد مساعدات سنية صبية واحدة مسيحية والباقي غير مسيحيات)، والدميع وجد عمل مباشرة بعد نهاية الدورة! بالإضافة إلى غياب الضمير.
وجه آخر لهذه الظاهرة، الكثير من الناس يعتقدون بأن كل شيء مسموح، كل شيء مباح ولم يعد هناك الكثير من الروادع. مثلاً، حتى ولو أنها بدأت قبل الأزمة، لكنها الآن تفاقمت، ألا وهي ظاهرة المساكنة مثلاً.
بسبب سفر شباننا إلى الخارج، فنحن مقدمون على خلل مخيف بين الذكور والإناث. وبالتالي من المحتمل أن نجد أنفسنا أمام ارتفاع لا يستهان به من الزواجات المختلطة. فالبنات يريدون أن يتزوجوا وهذا أمر طبيعي وحق. لكن عدم التوازن بين الجنسين في المجتمع المسيحي سوف يدفع العديد من الفتيات للزواج من غير المسيحيين.
الأزمة الكنسية: كلنا يعلم بأننا نعيش اليوم أزمة كنسية حقيقية. هذه الأزمة لها عدّة أوجه: أولاً هناك رفض كبير للسلطة الكنيسة، مع شيء من فقدان الثقة بها. هناك شعور بأن الكنيسة لم يكن لها موقف واضح، أو بالأحرى موقف مساعد للمسيحيين في هذه الأزمة. بالإضافة إلى ظهور حالة رفض لله وللإيمان المسيحي، وفي أغلب الأحيان، بحجة مواقف الكهنة والمسؤولين في الكنيسة. وما ضاعف الأمر هو، بدون شك، المساعدات الإنسانية التي تقدمها الكنيسة. لأن المسيحيين لديهم القناعة بأن الكنيسة تساعد غير المسيحيين وتهمل أبنائها.
إذا كان هذا هو الواقع، فما هو موقفنا منه؟ ماذا يمكننا القيام به لكي نخفف، قدر المستطاع، نتائجه السلبية؟
بداية أقول أنه على كل واحد وواحدة منّا بغض النظر عن كوننا مربين، أن يكون لنا دور فعال في هذه الحالة. علينا أن نمد الجسور بين الناس، أو بالأحرى أن نكون نحن الجسور التي تربط الناس ببعضها، وذلك من خلال انفتاحنا على الجميع لكي نسمح للقاء بينهما أن يتم. أي أن يقبلوا اختلافات بعضهم البعض. بناء الجسور، أن نكون جسور، بدون شك هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق بدون صعوبات، بدون ألم، ولا ننسى أن كل ما يعمل في أجل السلام يُقتل.
نحن مدعوين لتعزيز العيش المشترك مع كل مكونات المجتمع ولا نكتفي بالعيش جنباً إلى جنب. العيش المشترك يعني العبور من الموقف الطائفي أو العنصري، إلى موقف المواطنة. بشكل عام انتماءنا أولاً لطائفتنا وثانياً للمسيحية وأخيراً للوطن. هذا ما جعلنا نقع في الخوف الذي يكبلنا منذ بداية الأزمة ونعتبر أن ما يحدث الآن في بلدنا هو موجه ضدنا كمسيحيين.
نحن مدعوين أيضاً للحفاظ على الإيمان الذي يعطينا الرجاء، فلا ننسى أن الإيمان المسيحي لا معنى له بدون الرجاء. والرجاء لا يعني حلّ الأزمة، إلغاء الصعوبات، إنما الإيمان بأن ما يحدث الآن لن تكون له الكلمة الأخيرة. الرجاء يعني أن ما ننتظره قد تم. ففي الإفخارستيا، نحن نشكر الله على قيامتنا مع أننا لم نقم بعد.
نحن مدعوين لصيانة ضمائرنا ولا نقع في الفخ الذي يقول لنا بأن كل شيء مسموح. والمحافظة على مكانة العائلة في المجتمع وأهميتها.
هذه هي دعوتنا كمواطنين سوريين أولاً، وكمسيحيين ثانية، وأخيراً كمربين. جوهر التربية المسيحية هو تربية الضمير. وبالتالي علينا كمربين أن نسهر على تربية ضمائر من نعمل معهم، وذلك من خلال تربيتهم على الإنجيل بالمفهوم الصحيح، كما لمسنا في دورات الصيف هذه السنة. فالمفهوم الصحيح للإنجيل يعني أن نأخذ مسؤوليتنا في المجتمع والكنيسة.
إذا كانت السلطة الكنسية ليست على المستوى الذي نطلبه، فهذا لا يُبرّر تخلينا عنها. فالكنيسة، بطريقة أو بأخرى هي أمنا، وما من أحد يتخلى عن أمه مهما تصرفت ومهما كانت أخطاؤها. التزامكم في التربية المسيحية هو مسؤولية كنسية، والكنيسة تعترف بها، وبالتالي عليكم ممارستها كما يجب، وهذا يعطيكم الحق بأن تلعبوا دوركم في هذه المؤسسة. لذلك من المهم أن نضع أمام نصب أعيننا بأن الكنيسة هي نحن وليست السلطة الكنسية. بالإضافة، وهذا برأيي، مهم للغاية، وهو أن الكنيسة هي مؤسسة إلهية وإنسانية ممّا يعني أنه من الطبيعي أن تخطأ، لكن هذا الخطأ علينا أن نناضل ضده ونعمل على تغييره وهذا الأمر يتطلب الكثير من الوقت.
دور ومكانة الآخر في حياتي
للتحدث عن الآخر، لا بد من الانطلاق من الإنسان. على السؤال من هو الإنسان يمكننا الإجابة بأن الإنسان هو كائن مختلف قيد البناء والتحقيق. أي أن الإنسان أولاً هو كائن مختلف وواحد. الكتاب المقدس يقول بأن الله خلق الإنسان ذكراً وأنثى.
ذكر وأنثى، يعني أنهما متساويين في الجوهر الواحد ا
لذي هو الأنسنة ومختلفان في طريقة عيشهما وتجسيدهما لهذا الجوهر الواحد: المرأة تعيش كل شيء في حياتها من خلال أنوثتها (طرقة اللباس، الجلوس، التصرف، الخ)، والرجل من خلال ذكورته.
عندما نقول متساويان ومختلفان، هذا لا يعني أنه أمر قد تم، قد تحقق، بل هو قيد التحقيق. هذا يعني أن الإنسان لم يصبح بعد إنسان، إنه في طريقه نحو تحقيق أنسته. لو كان الأمر قد تحقق، فلا يكن هناك من حروب وظلم واستغلال، الخ.
العلوم الإنسانية تقول لنا ما يقوله الكتاب المقدس، لكن بلغتها الخاصة. بالنسبة لها، الإنسان كائن مزدوج الجنس (ذكر وأنثى)، وهذه الازدواجية ليست فقط خارجة، بل داخلية، أي لدى كل إنسان هناك الجنس الآخر: لدى الرجل أنوثة، ولدى المرأة ذكورة، جل ما هنالك كل منهما تتغلب لديه هويته الجنسية الأصلية، وعندما يكون هناك خلل بين الهويتين نكون أمام مثلي الجنس، أو رجل مخنث أو امرأة مسترجلة كما نقول في اللغة العامية.
بالطبع هذا الاختلاف الجنسي الواضح بين الرجل والمرأة، موجود بين كل إنسان وآخر حتى من الجنس نفسه، فكل إنسان هو كائن فريد. المهم في الأمر، إذا أراد الإنسان أن يحقق إنسانيته، فهو ملزم بالعبور من خلال الآخر: لا يمكنني أن أفرح، أو أحزن، أو أنجح، الخ لوحدي.
هذا وهم! والمشكلة هي أننا لا نقبل الاختلاف، لأننا نعيشه كمصدر للخلاف. لهذا السبب، باللغة العربية نستعمل كلمة اختلاف بالمعنيين: الاختلاف الذي هو أمر طبيعي، والخلاف. بينما الاختلاف هو أساس الحياة: فلا وجود للخلق خارجاً عن الاختلاف: في الكتاب المقدس، خلق الله العالم والإنسان على أساس الاختلاف (ليل/ نهار. سماء/ أرض. مياه ويبس، ذكر وأنثى، الخ).
وبالتالي في كل مرة نحاول فيها إلغاء الاختلاف، نكون في صدد السير نحو الموت. والاختلاف يعني أن الإنسان هو، في النهاية، علاقة. وهذا الرفض للاختلاف هو سبب كل المشاكل في العلاقات بين الناس. من أبسط صعوبة، إلى أكبرها تنبع من رفضنا للاختلاف.
كلنا نعلم كيف يتكلم الرجال عن النساء وبالعكس، وإذا نظرنا إلى المشاكل الزوجية نراها أيضاً نابعة من رفض كل الطرفين لاختلاف بعضهما عن بعض. فمن هو هذا الآخر الذي عليَّ قبوله كما هو، قبول اختلافه. وماذا يعني قبول الاختلاف؟
الآخر هو بدون شك إنسان، لأن كل إنسان هو مختلف عني. وبالتالي عليَّ قبوله كما هو، لا يحق لي أن أفرض عليه أن يكون كما أريده أن يكون، في هذه الحالة ألغي شخصيته كلية. مع الأخذ بعين الاعتبار استحالة أن يكون كما أريده أنا أن يكون.
العلوم الإنسانية تقول بأن الآخر هو إنسان كما أنا إنسان، وبالتالي لا يحق لي أن أتعامل معه كشيء، كوسيلة لتحقيق ما أريد. والإنجيل يقول أن الإنسان كائن مقدس لا يحق لي أن أمس به حتى بالكلام: «قيل لكم لا تزني، أما أنا فأقول لكم من نظر إلى امرأة واشتهاها فقد زنى بها في قلبه».
يبقى السؤال ماذا يعني قبول اختلاف الآخر، قبوله كما هو؟ هذا لا يعني حكما أن أقبل تصرفاته السيئة، مهما كانت سيئة، لكن الإنسان أكبر من أعماله، وبالتالي أقبله كما هو وأرفض أعماله السيئة، وبشكل خاص لا أعادله بأعماله. كيف يمكنني قبول اختلاف الآخر؟
أولاً علي أن أبني علاقاتي بالشكل الصحيح، قدر المستطاع بالطبع. هذا يعني أن أحب الآخر ليس من أجلي بل من أجله هو، وهذا ما نسميه علاقة الرغبة: أحبه حتى ولو لم يلبي لي ما أريده منه أو أتوقعه منه.
لكن للأسف نحن نبني في أغلب الأحيان علاقاتنا على أساس الحاجة وليس الرغبة: أحب الآخر وأتوجه له عندما أكون بحاجة له، وفي حال لم يلبي لي حاجتي أرفضه. لكي أحقق هذا الأمر يكفي أن أقوم بمراجعة علاقاتي لكي أجد أنني أتألم ممن يعاملني على أساس الحاجة (مما يعني الغاء فرديتي وتحويلي إلى مجرد شيء أو وسيلة أستعملها متى وكيفما أشاء)، ومن جهة أخرى أنا أتعامل مع الآخرين بنفس الطريقة.
ثانياً ما يساعدني على قبول الآخر هو الإصغاء له لكي أكتشفه على حقيقته، كما هو، وبالتالي أكتشف ما هو إيجابي وجميل لديه. بالإضافة إلى بناء علاقتي معه على أساس الحوار لا الجدل. الجدل يعني أنني دائماً على حق، أملك الحقيقة، وعلى الآخر أن يقبلها ويتبناها، بينما في الحوار يسعى كل طرف لاكتشاف ما هو حقيقي وجميل لدى الآخر، بهذه الطريقة يتم الالتقاء بالحقيقة بيننا ويتم قبولنا لبعض كل واحد كما هو.
في الحوار أقبل أن يضع الآخر طريقة تفكيري، وفهمي للأمور، بما فيها إيماني موضع تساءل لكي أتقدم نحو الأكثر حقيقية: الإلحاد مثلاً ساعد الكنيسة على تنقية مفاهيمها من كل ما هو غريب عن الإيمان المسيحي. والكنيسة البروتستنتية ساعدت الكنيسة الكاثوليكية لتعود أكثر إلى الكتاب المقدس.
بالخلاصة نقول أن الآخر هو كائن مقدس لا يحق لي المساس به. لا بل علي احترامه وحبه وأن أصغي إليه. الآخر هو مقياس حقيقتي لأنه يكشف لي حقيقتي، مقياس لحريتي لأنه بمقدار ما يكون له حضور في حياتي أكون حرا (من نفسي ومن عبوديتي لذاتي)، لأنني بذلك أخرج من ذاتي للقاء الآخر المختلف عني.
من خلال الآخر أعرف نفسي وأصبح أكثر رحمة وأكثر إنسانية (أنظر الفصل 15 من أعمال الرسل: زيارة بطرس لقائد المئة قيرينيوس حيث اكتشف بطرس أنه ليس أفضل من قائد المئة أو من أي إنسان غير يهودي). فلكي أبني علاقتي مع الآخر، لا بد أن أبنيها على الاختلاف لأنني بجوهري مختلف (جنسين). مثال الابن الضال (... فرآه أبوه وهو بعيدا ً فتحركت أحشاؤه «وهي صفة أنثوية»... )
من أنت أيها الإنسان 13
2- الاقتصاد: لنأتي إلى المجال السياسي. لا شك أننا نلقي على عاتق هذا المجال الكثير من المهمات. فنقول بأنه حامي الوحدة الاجتماعية. كما أن له مهمة قهرية أو قسري، أو أيضاً أن هدفه هو تجديد أهداف الجماعة. ولكن الأنثروبولوجيا السياسية العصرية تقول بأن المجال السياسي مرتبط بعدم تماثل المجال الاجتماعي، أو مع عدم تناسقه، مع استحالة توافق المنافع الشخصية للفرد مع الجميع أو بين الجماعات.
فإذا كان هناك من سياسية فليس بهدف تحقيق وحدة المجتمع،
أو الوصول إلى التناسب الاجتماعي. إنما بسبب استحالة الوصول إلى ذلك. هناك سياسة لأن المجتمع منقسم على ذاته: فالساسة ليست مكان الوحدة الاجتماعية، ليس أكثر مما نستطيع أن نحلم بزوالها إلاَّ إذا حلمنا بشكل لا واع بمجتمع متجانس ودكتاتوري.
هذا الانشقاق الاجتماعي يضع الفاعلين الاجتماعيين في موقف مختلف من السلطة. فإذا كان هناك سياسة بسبب الانقسام الاجتماعي، فهذا يعني أن المجتمع ليس بتنظيم ظريف ينظم ذاته بذاته: فآنذاك موقف المجموعات الاجتماعية والأفراد من السلطة هي غير متماثلة: فهناك حتماً بناء أو تركيب بين الوصية والطاعة، بين السلطة ومن ليس له السلطة. هناك سياسة لأنه لا بد من تعايش الاختلافات مع بعضها البعض.
لا بد من تفادي وقوع المجتمع في عدم التمييز، في الفوضى المطلقة. هناك سياسة لأنه من الأساس توجد اختلافات وليست وحدة وأعتقد بأن هذا الأمر مهم جداً بالنسبة لحياة الرهبانية: هناك رؤساء لأن هناك صراعات ضمن الجماعة، أو ببساطة أكبر هناك اختلافات، والتناغم بينها ليس أمراً عفوياً.
من ناحية أخرى يمكننا القول بأن أحد أدوار السياسة هو ضمان نقل الوصية أو الإرث الاجتماعي، والتي بفضلها يستطيع الأفراد أن يتبنوا إنسانيتهم. لهذا السبب على السياسة أن تؤمن دور المنظم والمدبر لكي لا يقع المجتمع في الفوضى وعدم التمييز. فهو، بالتأكيد، ليس مخترع هذه الوصية: دوره يكمن في نقلها والسهر على بقاء المجتمع. عليه أن يضمن، إن صح التعبير، على عمل عالم الرمزية بمحاولته إبعاد الانقطاع في هذا العالم، والعنف الذي يمكن أن يظهر في أية لحظة ضد هذه الرمزية.
في هذا المنظور العلاقة بين البيولوجي والاجتماعي، بين الطبيعي والحضاري، بين الفرد والمجتمع تطرح مشكلة لها تأثيرها ونتائجها على المجال الاقتصادي: فالسؤال هل هناك من حاجات طبيعية مثبّتة بالجسد ومرتبطة بالطبيعية الإنسانية، لدرجة أنه يمكننا القول بأن الاقتصاد السليم هو من يجيب على هذه الحاجات؟ بمعنى آخر، هل هناك حاجات طبيعية يستطيع الاقتصاد السليم الإجابة عليها، أم إنها موجودة بشكل مسبق ودائماً اجتماعية؟
فالاقتصاد الحر يفترض بأن الفرد قادر على تقدير حاجاته ومعرفتها من خلال الحسابات، أي مضمون اختياراته: مثلاً هذا الفرد يفضل شراء سيارة على شراء براد. فمن خلال حساباته يستطيع الإنسان أن يرضي حاجاته بأقل سعر ممكن وأن يقدرها بالنسبة لبعضها البعض. هذا الأمر يفترض بأن الحاجات موجودة هنا وأن الاقتصاد يملك بما يسمح بالتعبير عن هذه الحاجات.
من أنت أيها الإنسان 12
القسم الثاني: بعض النتائج
نظراً لكون الجسد هو في آنٍ معاً مكان العلاقات التي من خلالها يتأنسن الإنسان، ونظراً لكون الجسد هو المركز في نظر الأنثروبولوجيا، يمكننا اعتباره كمحور العلاقات الثلاثية القاطعة من وجهة نظر الأنثروبولوجيا: العلاقة مع الجسد الآخر المجنّس، ومع الذات كجسد مجنّس أيضاً: الجنس.
علاقة الجسد كجملة من الاحتياجات في محيط طبيعي وإنساني، أهل لكي
يلبي هذه الاحتياجات أو لا: الناحية الاقتصادية. العلاقة مع الأجساد الناطقة: سياسة. ثلاثة أماكن أنثروبولوجية أساسية، كل واحد منها تجتازه رغبة، رغبة اللقاء بالآخر، كما يجتازه أيضاً الكلام. هذه الأماكن الثلاثة نراها منظمة في الحياة الرهبانية: الفقر، الطاعة والعفة.
1- الجنس: فلسفة الجنس أو أنثروبولوجيا الجنس تكشف لنا اليوم أهمية عالم العلاقات. فكل ما قلناه حتى الآن يفترض بالطبع هذه العلاقة. هذا يجعلنا نخرج من المنظور القائل بأن هناك وقائع مستقلّة، كما لو أن الجنس ملكية فردية ومفردة، خارجة عن كل علاقة مع الآخر، أو ضمن مجال منفصل. لقد سبق وقلت وأكرر ذلك لأن الأمر مهم جداً: كل قرد لا يتبنى جنسه البيولوجي إلاَّ من خلال علاقة اجتماعية محددة.
نتبنى مسؤولية جنسنا (وهذه مسيرة لا تنتهي) في مجتمع ما، من خلال التصورات التي ينقلها لنا المجتمع عن كل من المرأة والرجل. هذه التصورات تكون إلى حد ما متناسقة أو إلى حد ما متناقضة: وبشكل فردي، علينا أن نتبنى هذا الجنس من خلال علاقة أبوية محددة بشكل واضح قدر الإمكان. مع هذا الأب ومع هذه الأم الذين لهم تاريخهم الخاص وطريقتهم في عيش جسدهم.
لهذا السبب لا يمكن للفرد أن يتبنى جنسه إلاَّ من خلال خيال محدد وبطريقة ما، هذا الخيال هو المكان الأعمق للفردية. ولكن علينا أيضاً أن نفهم بأن هذا الدخول في الرمزية يفترض بدء أو تكوين أي يفترض تاريخ. من المؤكد أنه عندما نتحدث عن عملية، عن ولادة، فهذا يعني بالضرورة وجود مفاجئات، «حوادث على الطريق كما يُقال».
إنها عملية إلى حد ما ناجحة. هذا يعني أن لا وجود لموديل كامل وبالتالي لا وجود لنجاح تام، لأن هذا التاريخ يترك حتماً أثاره وذلك لسبب بسيط جداً: نحن نتبنى شيئاً فوضوياً وغير مميز موجود في داخلنا، فكيف ستتم عملية تنظيمه وتوجيهه؟ سوف تتم إلى حد ما بشكل مرضي، كما أنها سوف تجزم بشكل مؤلم بدون شك. هذا التاريخ يترك إذاً أثاره التي ترافق الفرد طوال حياته.
هذا يبين لنا بأن الجنس، بالمعنى الشمل للكلمة هو مجموعة العلاقات التي يعشها الإنسان مع ذاته ومع الآخر ومع العالم. ولكن الواقع الجنسي لا يمكن «حلّه» بشكل نهائي بمجرد أن بلغنا سن البلوغ أو الحياة الأخلاقية أو أي أمر آخر. كل علاقة إنسانية تحمل طابع التماهي الذي عشناه بخصوص جنسنا. والتصورات التي تماهينا معها.
فكل علاقة تحمل رغبة، رغبة في أن أكون إنسان معترف عليه من قبل الآخرين، بالحنين بأن هذا الاعتراف غير كاف، وبهذا المعنى يمكننا القول بأن كل شيء هو إلى حد ما جنسي. فالتبادل الذي نعيشه الآن بيننا، طريقتي في التحدث في اللباس والطعام الخ. كلها محملة بالعاطفة التي قد تعجب البعض وتغيظ البعض الآخر. هذا يعني بأن هناك أشياء أمور تحدث وتبنى علاقاتنا وإلى حد ما هذه الأمور وهذه الأشياء تفلت من سيطرة الوعي وتحدد إصغاءنا.
العملية التي تحدثنا عنها والتي من خلالها يتم التماهي مع الجنس البيولوجي تفترض دائماً، في مكان ما، فصل، قطع، نقص وقمع؛ وليس هناك من وصول إلى الرمزية دون كبت، بما أن أنسنة الحيوان البشري تفترض اختيار النزوات ووضع نظاما لها. لهذا السبب السيطرة على الجنس تفترض وجود القاعدة. ولكن علينا الانتباه جيداً: إنها تفترض وجود القاعدة حتى للإرضاء الجنسي، لأن الإنسان الذي ليس برجل ولا بامرأة، ولا الحائر هو من يستطيع أن يعيش علاقات جنسية مرضية.
بل على العكس الإنسان الذي يستطيع أن يتبنى جنسه إلى حد ما بشكل جيد أو إلى حد ما بشكل سيء الإنسان، من خلال عملية التماهي هو الذي يستطيع أن يدخل في علاقة جنسية جيدة. علينا معرفة ذلك: القاعدة هي الشرط الأساسي للدخول في الشمولية وفي علاقات مفرحة وناجحة. لا بد من إمكانية تحديد مكاني بالحقيقة ضمن العلاقة.
ولهذا السبب لا بد من القطع مع شيء من النرجسية التي تريد أن يكون الفرد كل شيء. هذا يجعلنا نعي بأننا لسنا الإنسانية، ولكننا مجرد أفراد، هذا الرجل أو هذه المرأة. هذا الفرد من هذا المجتمع: بهذا المعنى لا نعيش إنسانيتنا إلاَّ من خلال علاقاتنا مع كل الإنسانيات الأخرى وفي نفس الوقت مع التأصل الخاص.
أي علينا التخلي بشكل نهائي عن أسطورة الإنسانة الكاملة التي علينا تحقيقها أو الطبيعة التي علينا أن نتطابق معها. لأنه لا وجود لصعود كامل ومستمر؛ بل بإمكاننا القول بأن هناك مراحل، وهذا يعود إلى إعادة توزيع النزوات، ويحثنا مجدداً إلى مهمتنا باتجاه الأنسنة. مثلاً رجل في سن الأربعين يجد نفسه عاطلاً عن العمل، هذا الأمر ظاهرياً طبيعي لكن له تأثيره على علاقته مع جنسه.
لأن كل علاقاته الإنسانية مع ذاته ومع الآخرين تغيرت، ولأن صورته عن ذاته أمام زوجته وأولاده قد تغيرت. لذلك عليه أن يتبنى مجدداً وبشكل آخر جنسه ضمن هذا المحيط الجديد ليجد التوازن مجدداً. لا بد لتبني جديد لكل إنسانيته في حالة جديدة يجد نفسه فيها. كما أنه لا يمكننا القول بأن هناك شيء من «التخزين» السابق يضمن نجاح العملية.
علينا التحدث أيضاً على أهمية الكلام. فالكلام ليس مجرد الكلمات التي نلفظها إن صح التعبير. هذا ليس سوى وجه من أوجه الكلام. الكلام هو جزء من اللغة، من العلامات، من الحركات، كل هذه العلاقات العاطفية التي تحمل قواعد معها، عادات، إشارات، طرق في التعامل، وكل ما هو في الجسد ومن خلال الجسد يتكلم للآخر.
فاللقاء مع الكلام الذي بدوره يعبر دائماً من خلال العاطفة، هو أمر بنّاء. إنه هكذا قبل أي شيء من أجل الطفل، لأنه يسمح له بالخروج من عدم التمييز ومن النرجسية كما أنه الشرط الوحيد للوصول إلى الهوية الشخصية. كما أنه يمكننا القول بأم الكلام هو المكان الذي يتم فيه تبني الطبيعة البيولوجية، وهذا أمر مهم من وجهة النظر الدينية.
فالتحدث عن الجنس والتعبير عنه هو إحدى الطرق التي من خلالها يتم تبني الإنسان له. فالكلام بنّاء لكونه مُستَقبَل: قيل لي بأنني طفل صغير وهذا ما سمح لي بأن أكتشف ذلك. فالإنسان يجد نفسه بالكلام الذي يستقبله ويأخذه على عاتقه ويجعله كلامه أي يصبح ملكه. يمكننا القول بأن لا وجود لجنس إنساني ومؤنسن خارجاً عن الكلام. نحن نعتقد بأن الجنس هو من مجال الصمت، وهذا خطأ كبير وخطير، لأنه بمقدار ما نعتقد بأننا في الصمت بمقدار ما يتكلم الجنس.
من أنت أيها الإنسان 11
أولاً في حال زال المرجع إلى الطبيعة الإنسانية كنتيجة للمعطيات الأكثر صحة للأنثروبولوجيا العصرية، فهذا يعني أن الإنسان هو واقع بدون محتوى، أو أنه يُنسب كليّة للمحيط أو للحضارة المعطاة تاريخياً. هذا لا يعني أبداً الوصول إلى عم التمييز المطلق. وهذا يعود إلى سببين. أولاً العالم الرمزي الذي من خلاله يصل الإنسان إلى إنسانيته هو عالم ذات بنية قوية وواضحة.
وإذا لم يتم العبور الذي تحدثنا عنه مطولاً لن يكون هناك من وصول للإنسان إلى إنسانيته. ثانياً عالم الرمزية هو عالم القواعد أو القوانين، قواعد تتغير حسب المجتمعات ولكن لا وجود لمجتمع بدون قواعد (قد تزعج هذه الفكرة من يفكر بأن القواعد هي ضد الحرية ولكن هذا أمر مرفوض من وجهة نظر الأنثروبولوجيا). كما أنه من الممكن أن نكتشف في داخل هذه القواعد قانونهم الساسي، قاعدة القواعد والتي سمّاها العالم ليفي شتروس باسم قانون منع المحرمات، قانون يسمح للفرد بأن يتماهى مع ذاته وفي نفس الوقت يحد ويضع شروط التبادل الاجتماعي.
ثانياً في حال شددنا على العالم الرمزي، فهذا لا يعني أبداً أننا ننفي مكانة ودور وأهمية الطبيعة البيولوجية التي علينا أخذها على عاتقنا اجتماعياً. فالجسد الإنساني هو مكان تنظيم البيولوجي الذي لا يتعلق ولا بشكل من الأشكال بالقواعد الاجتماعية، حتى ولو كانت هذه التنظيمات تتم وتُحمل اجتماعياً من قبل الإنسان.
فالإنسان ليس نتيجة الحضارة، ولكن في نفس الوقت ليست الطبيعة البيولوجية هي التي تحدد الطبيعة الإنسانية بقوانينها التي علينا إطاعتها واحترامها كما هي. بل بالعكس علينا القول بأن عدم التمييز الطبيعي، انسحاب الطبيعة واستعداد البيولوجي، عدم تنظيمه الداخلي، كلّها تدعو النظم الاجتماعية: خارجاً عن ذلك تصبح الحيوانية الإنسانية لا تُطاق، لا يمكن أن تُعاش.
من أنت أيها الإنسان 10
5- الطبيعة الإنسانية والعالم الرمزي
أين نحن إذن من الطبيعة الإنسانية، وأين نحن من الجوهر الإنساني؟ القبول بأن أنسنة الإنسان تتم من خلال الرمزية، وأنه يأخذ جسده على عاتقه من خلال التصورات الاجتماعية، يضع موضع تساؤل كل محاولة لفهم الإنسان فردياً. كما أنها تحطم الازدواجية القائلة بأن هناك الفرد الجيد من جهة والمجتمع السيئ من جهة أُخرى.
هذه الأفكار وهمية تماماً لأنه كما
رأينا لا يصل الإنسان إلى الأخذ بعين الاعتبار كل من جنسه وجسده إلاَّ لأنه التقى بمجتمع سمح له بتحقيق ذلك. إن قبلنا بأن الإنسان يصل إلى أعمق ما في إنسانيته من خلال العالم الرمزي، هذا الأمر يضع موضع تساؤل فكرة وجود طبيعة إنسانية ثابتة ومستقرة في كل مكان وزمان. فتحقيق وعيش الذكورة والأنوثة مرتبط بالتصورات التي تتأثر بدورها بالمحيط الثقافي والتاريخي. فلا وجود لامرأة خالدة ولا لرجل خالد.، كما أن لا وجود لتطابق بين الرمزي والبيولوجي. وهنا نلفت الانتباه إلى أمرين مهمين:
أولاً الدخول في عالم الرمزية يتطلب انقطاع بالنسبة لعدم التمييز البيولوجي. فالدخول في عالم القواعد والنظم يفرض على البيولوجي شيئاً من التنظيم والتعديل: فالإنسان لا يلبي حاجاته العضوية كيفما يشاء ولا أينما يشاء. فالتربية على القواعد، الدخول في عالم الرمزية يولّد بالضرورة صدمات كبيرة إذ أن النزوات البيولوجية أو النفسية ترى ذاتها مقيّدة إلى حد ما.
وهنا تكمن إمكانية الوقوع في الشعور بالذنب، فالفرد قد يستقبل المنع على أنه تذنيب موجه له نظراً للنزوات التي يعتقد بأنها سيئة. فليس من السيئ أن يكون لدى الإنسان حاجات فيزيولوجية ولكن إذا ضربنا الطفل في كل مرّة يُظهر فيها هذه الحاجات فهذا يؤدي به إلى صدمة بخصوص جسده وانغلاق ضمن علاقة مرضية مع ذاته ومع المحيط الخارجي وعالم القواعد.
ثانياً إذا كان الأمر هكذا فهذا يعني أن تماهي الفرد مع الرمزي غير تام، ولا يمكن أن يكون وإلاَّ وقعنا في الجنون. فاستيعاب الفرد لذكورته أو لأنوثته يبقى نسبياً وبطريقته الخاصة التي قد تكون ناجحة إلى حد ما. فلا ننسى أنه في المجتمع الواحد هناك صور متعددة للمرأة وللرجل دون وجود انسجام بينها، فهي تختلف كثيراً بحسب المحيط.
هذه التصورات محمولة من قبل الأهل الذين يستوعبونها أيضاً إلى حد ما بشكل جيد. هذا التماهي النسبي يفتح المجال أمام الهامشية. والهامشية تتم في حال كان لدى الفرد تكوين بيولوجي يحتوي على مقاومات لا تسمح له بالدخول في التصورات الاجتماعية، أو أن هذا الدمج لم يتم بشكل جيد من قبل المجتمع ذاته. هذا الدمج يتم من خلال الخيال والخيال لا يمكن أبداً إقصاؤه إنما من الممكن حدّه.
ملاحظتين بخصوص هذا القسم الأول:
من أنت أيها الإنسان 9
1 – لا يمكن للفرد أن يأخذ على عاتقة جسده الفيزيولوجي إلا من خلال المجتمع أو التقليد الاجتماعي. هذا يعني أنه لا يصل إلى تحقيق ذلك إلا من خلال عالم القوانين. يمكننا القول بأن هذا هو الثمن الذي علينا أن ندفعه لكوننا لا نجد في جسدنا السلوك أو التصرفات الغريزية الملائمة.
يمكننا القول أيضا أن هناك إنسانية بمجرد وجود القوانين أو نماذج جاهزة والاكتشافات الكبرى للأنثروبولوجيا تمت من خلال اكتشاف الأدوات. وأهمية هذه الأخيرة تكمن في أنها تتميز بوجود نموذج. وخلافا لما نعتد ببساطة، هذه الأدوات ليست نتيجة لمحاولات متكررة، مترددة قاموا بها هؤلاء البدائيين وانتهوا، بعد زمن طويل، باكتشاف وفهم كيفية صنع المنجل: نلاحظ في الواقع أن هذه الأدوات تتميز دائما بوجود قاعدة.
إذن هناك إنسانية عندما يكون هناك قوانين، ممنوعات، وبالتالي عندما نكون في عالم المثل، هناك أقدمية، وبإمكاننا القول أولوية التقليد الاجتماعي على الفردية وبالتالي على البيولوجي. لا يسيطر الفرد على جسده أو لا يأخذه على عاتقه، لا يمتلكه إلا من خلال وساطة القانون المعطى له من قبل المجتمع. من الذي يعلّم الطفل السير؟ أباه أو أمه، الذين ينقلون له كيفية التعامل مع جسده. إذا تقنية وقواعد للتصرف.
كيف يتعلم أن يرضي حاجاته الغذائية؟ من خلال قاعدة تعطى له، والتي تختلف بحسب المحيط الحضاري الذي يولد فيه. وهكذا يتعلم التحكم بجسده، أو أ يطلب أن يلبي حاجاته الفيزيولوجية، بحسب القواعد المحددة، المتنوعة بحسب المكان والزمان والمجتمع. بمعنى آخر الطبيعي مأخوذ من قبل الاجتماعي ويمكن أن يعاش فقط من خلاله، بنفس الطريقة كيف يتعلم الطفل الكلام إلا من خلال دخوله في عالم وقواعد اللغة التي تقدم له؟
2- يمكننا القول إذاً بأن أنسنة الحيوان – الإنسان تتم من خلال عملية الدخول في عالم الرمزية. من المهم جداً أن لا نقيم معارضة بين طبيعة بيولوجية منظمة بشكل كامل وحر، سيدة نفسها، وبين مجتمع يُنظر إليه على أنه خارجي ومُضاف، وإلى حد ما يبلبل النظم الطبيعية والعفوية. لا وجود لطبيعة تعمل في حالة كاملة، من جهة، ولمجتمع يعاكس إلى حد ما هذه الطبيعة من جهة أُخرى.
الواقع يقول لنا بأن ما يوجد في الحقيقة هو بيولوجيا: لا اختلاف، نقص، استعداد، فراغ، فوضى، عدم تمييز؛ ومن جهة أُخرى هناك المجتمع. فالعبور من عالم العلاقات هو الذي ينظم ويبني عدم الاختلاف. علينا أن نكون واضحين بهذا الخصوص: العبور والانتقال يعني الفصل أو القطع بالنسبة للطبيعة التي بحد ذاتها لا تعاش.
للطبيعة قوانينها ولكن ليس لدرجة تمنع كل توجيه لها، أو لامتلاكها أو لتربيتها والسيطرة عليها. هذا الملاك لا يعني أبداً بأن جسم الإنسان هو نتيجة المجتمع وما يفعله به؛ إنما هذا يعني أن الجسم الإنساني لا يعاش إلاًّ بمقدار ما يتم إنعاشه اجتماعيا. هذا القطع معاصر إلى حد ما مع الدخول في مرحلة الكلام والدخول في عالم الرمزية.
ففي مرحلة الأوديب مثلاً هناك قطع لا بد منه مع النرجسية، قطع مع البيولوجي المنغلق على ذاته. ومن جهته كلود لفي ستروس في كتابه «البني الأولية للقربة» يتحدث عن المحرمات كممنوعات تتميز بها المجتمعات الإنسانية. فهو يقول ما يقوله فرويد إنما بلغته، أو بالأحرى بلغة الأنثروبولوجيا.
فكلا الاثنين يقولون بأنه على الإنسان أن يأخذ جنسه على عاتقه والذي لا يمكن أن يكون إنسانياً، رجولة أو أنوثة، إلاَّ من خلال التماهي الذي يحققه الفرد انطلاقاً من الصور التي يحملها له المجتمع من خلال أبيه وأمه، مما يسمح له بالتمييز بين الرجل والأنثى. فالطفل، يلاحظ فرويد، يلتقي بهذه الأمور من خلال العلاقات المميزة التي يعيشها مع أهله: من خلال كلامهم، حركاتهم، تصرفاتهم والعادات المفروضة، فيصل الطفل شيئاً فشيئاً إلى «لعبة» العلاقات الاجتماعية، بواسطة تماهيه مع فرديته وخاصيته البيولوجية (صبي أو بنت).
من هنا يحصل الطفل على هويته: فهو إمّا صبي أو بنت، ابن أو بنت أبيه وأمه، وبالتالي يفهم أن هناك أمور تقوم فيها الأنثى ولا يقوم هو بها وبالعكس. يكتشف أيضاً أنه ليس الأب ولا الأم مما يسمح له بإقامة علاقات صحيحة معهم، ومع المجتمع. كما يكتشف ذكورته مقابل الأنوثة.
المهم هو أن عالم الرمزية هو عالم بنّاء لكونه يحتوي على قواعد أو نظم. ولكن كلمة قاعدة ونظام هنا ليس لهما أي بعد قانوني، إنما تعني مجمل التصورات أو التخيلات التي تُثبت الأشياء وتحمينا من الوقوع في الفوضى التامة: فالصبي ليس بفتاة والأب ليس الأم والأخت الصغيرة ليست بنت العم أو بنت الجيران.
فالدخول في عالم الرمزية يعطي ثباتا واستقرارا للأشياء ويفتح المجال أمام الاختلافات. عالم الرمزية هو عالم فيه لكل شيء مكانه مما يسمح بوجود علاقات وتبادل بين البشر بما أنه من الممكن تمييز العناصر عن بعضها البعض. فعندما تُلغى القواعد أو عندما توضع موضع تساءل بشكل جذري؛ عندما تتحول صورة الرجل والمرأة، صورة الأب والأم، هذا التحول له أثر كبير على الصعيد العاطفي للطفل وبالنهاية يلمس الجميع.
من أنت أيها الإنسان 8
- استعداد بيولوجي والمحيط الاجتماعي
يمكننا القول إذن بأن الجسم الإنساني لا يطاق، لا يمكن أن يعاش فيزيولوجيا. فهذه الهشاشة الإنسانية هي إذن في نفس الوقت استعداد. إنها تضع الشرط الأساسي للأمور الأخرى التي تأتي لتسد هذا النقص، وهنا يأتي دور المجتمع، أو دور الانتقال الاجتماعي للنقص. في الواقع إن تعلم السلوك الاجتماعي حتى البسيط منه، يفترض وجود تقليد، مجموعة من القواعد التي بفضلها يستطيع الفرد أن يرد اجتماعيا على حاجاته العضوية والتحريض الخارجي.
بمعنى آخر يأخذ المجتمع مكان استحالة الفرد في إيجاد التصرف أو السلوك المناسب. أي أن المجتمع يلقن الفرد التصرف المناسب، الأمر الذي تعجز عنه الغريزة. بهذه الطريقة يساعده المجتمع على أخذ جسده على عاتقه. من هنا أهمية - وذلك منذ بدء البشرية - وجود ذاكرة وراثية، ذاكرة غير مندرجة في الجسد الإنساني، ولكنها حاضرة من خلال ذاكرة اجتماعية. إنها ذاكرة مثبتة بشكل تقنية، عادات، طريقة في التعامل، وكل أنواع القوانين والرموز، ذاكرة يستقبلها الفرد من المجموعة والتي بفضلها يستطيع الإجابة على التحريض الداخلية والخارجية.
لدينا مثلا معطى لنا من قبل العالم الاجتماعي مارسيل موس «في مقالة عنوانها تقنيات الأجساد». إنه يحلل كيف أن الإنسان يتملك جسده من خلال تقنيات خاصة يتلقاها من المجتمع. فقد أدرك هذا الأمر أثناء الحرب إذ كان موجودا مع بعض الجنود من آسيا الوسطى.
فقد لاحظ متعجبا أن هؤلاء الآسيويين يستطيعون أن يناموا في وضعية القرفصاء واليدين مقفلتين كما لو كانوا في أسرتهم. بعد عدة محاولات من قبله باءت بالفشل استخلص أن وضعية الجسم أثناء النوم ليست أمرا طبيعيا، إنما هي نتيجة فن اجتماعي يتلقنه الفرد شيئا فشيئا ومعطى من خلال تربية اجتماعية محددة
فبينما نعتقد بأن علاقتنا مع أجسادنا هي علاقة مباشرة، عفوية، طبيعية، نلاحظ في الواقع أن هذا الأمر غير صحيح نهائيا: فنحن نعتبر دائما على أننا تربينا مسبقا عن طريق تقنيات تأتينا من المجتمع. بإمكاننا الإكثار من الأمثلة: طريقة اللباس، الأكل الخ.. ومن الملفت للنظر هو أنه حتى في الأمور الأكثر حميمة وشخصية لا وجود لعلاقة مباشرة مع الجسد. هذا الأمر له أهمية كبيرة جدا. سوف نتكلم عن اثنين منها:
من أنت أيها الإنسان 7
3 - الوضعية العامودية والمحيط:
ومع ذلك هذه الوضعية العامودية التي تميز الإنسان لا تحتوي فقط على نواحي إيجابية. إنها تحدث استقلالية بالنسبة للمحيط كما أنها تسمح بتأقلم أكبر. ولكن هناك الوجه الآخر للموضوع: بينما كل نوع من أنواع الحيوانات يعتبر على أنه متأقلم بشكل جيد مع المحيط، بينما كل نوع من أنواع الحيوانات يملك بداخله التنظيمات الضرورية والكافية للإجابة على الإستثارات سواء أكانت آتية من المحيط أم من داخله، يبدو بأن الأمر مختلف بالنسبة للإنسان.
إحدى الأسباب هي بالتحديد الاستقلالية والحركية التي تحدثنا عنها الآن. في الواقع لم يتبع الإنسان التطور المتخصص «كما هو الحال لدى بقية الأنواع، ولكن بطريقة ما، وعلى عكس هذه الأنواع، يجد الجسم الإنساني نفسه في وضع هش للغاية وغير متأقلم بالنسبة لبقية الأنواع. هذا يعتبر عنصرا مهما جدا ويجعلنا نتساءل ونعيد النظر بمفهومنا للتطور.
هذا لا يعني أن ننقد فكرة التطور، إنما أن نعيد النظر في أفكارنا أقله كوننا نعتقد بأن الإنسان يجد في نفسه كل الصفات التي نتمناها، الصفات العليا والبارعة، من أجل التأقلم ومن أجل حياته الخاصة، وأن هذا يجعله في موضع متفوق بالنسبة للحيوان.
بينما في الواقع يبدو أن العكس هو الصحيح، فإذا ما نظرنا إلى العلاقة بين الجسم والمحيط نلاحظ بأن الحيوان أكثر تجهيزا وتأقلما من الإنسان للإجابة على استثارات المحيط. فمن وجهة النظر هذه تبدو تعقيدات الدماغ البشري كعائق وكضعف بالنسبة لإمكانية تأقلم العقل (أو من يقوم مقامه) أمام السقاية أو التمساح الذي يبدو بأنه منظم بشكل يسمح له بالإجابة بشكل عفوي ومباشر لإستثارات المحيط الخارجي. ما يوضح لنا هذا الأمر هو بالطبع موضوع الغريزة.
علماء الأنثروبولوجي يؤكدون على نسبية عدم تحديد الغريزة بالطبع لدى الحيوان، فكم بالأحرى لدى الإنسان. أقول نسبية الغريزة لدى الحيوان لأنه خلافا لما نعتد، الحيوان ليس مبرمجا بشكل مباشر ولا يجد في نفسه، بشكل كلي، هذه التصرفات المتأقلمة والعفوية والتي تسمى غريزة أو الغرائز. إنما هنام مكانا للتربية ضمن مجال الغريزة. فالإنسان يجد نفسه، إلى حد ما، في موقف ضعيف أو خطر.
فلكي نعي ذلك يكفي التفكير بطفل متروك لذاته لعدة أيام: لا يجد في نفسه ما يسمح له بتمييز الطعام الجيد من الطعام الفاسد، كما أنه لا يميز الحيوانات الأليفة من الحيوانات المفترسة. إنه ببساطة في موقف الموت.
إننا نكتشف هكذا بأن الإنسان مستعد لكل شيء ولكن لا خير فيه، إن صح التعبير، لأن الأمور تنقلب رأسا على عقب: فالطفل غير متأقلم وإذا ما ترك لذاته فيجد نفسه في حالة خطر مخيفة، ولكن هذه الحالة هي في نفس الوقت المناسبة من أجل تأقلم متعدد الأشكال وأرض خصبة من أجل تربية متعددة الأوجه.
فالحيوان، من هذه الناحية، يوجد من حالة أفضل، فهو يجد بسرعة كبيرة إلى حد ما التصرف المناسب للمحيط. ولكنه عندما يتم تثبيت ذلك التصرف تنتهي الأمور: فما عليه سوى أن يكرر التصرف عينه في نفس الظروف وذلك طوال حياته ودون أي تغير ممكن. وهكذا نلاحظ بأن هشاشة كل من اليدين والدماغ، الذين بحد ذاتهم لا يهيئون لأي شيء كان، لهم وجه آخر: إمكانية الاستعداد لكل شيء. يمكننا القول إذا بأن الإنسان متخصص بشكل عال جدا ولكن على صعيد العموميات. هذا هو وضع النقص والاستعداد بعدين أساسيين سوف نلتقي بهما في كل مكان.
من أنت أيها الإنسان 6
2 - بنية الجسد
اعتبار الجسد الإنساني في علاقته مع المحيط، يقود إلى الاعتراف بحركيته وتحرره النسبي بالنسبة للمحيط كأمر نموذجي. ولكني أركز على كلمة نسبية «التحرر» إذ أننا شبه مهوسين بالبحث عن درجات تعتبر كاجتياز مطلق وجذري، مثلا الدرجة بين الحيوانية والإنسانية، بين الطبيعي والمرضي، بين الوعي واللاوعي الخ..
هذا المنظار يعتبر باطلا. فالمشكلة لم تعد في إيجاد عتبة
جذرية أو لا يمكن تجاوزها، إنما في إيجاد الاختلافات وهذا هو المهم. فبالنتيجة علينا أن لا نعطي لحركية الجسم صفة مطلقة: فالمهم هو أن نفهم نسبية فرادتها «بالنسبة لبقية الأحياء. والحال هذه الحركية مرتبطة بالنسبة للجسم الإنساني بوضعية الوقوف. إنها مرتبطة بقامة الجسد.
هذا ما يجعلنا نفهم بأن ما يهم الأنثروبولوجيا الحديثة هو هذه القامة الجسدية ككل وليس ناحية أو عضو ما من الجسد: علينا التوقف على أهمية وضعية الوقوف لدى الإنسان لكي نفهم التغيرات التي فرضتها هذه الوضعية بالذات. فالأمر الأساسي هو أن الإنسان أخذ وضعية الوقوف على الأرجل ولهذا السبب نقول بأن نبالة الإنسان تكمن في أرجله وليس فقط في العقل أو الدماغ. وهذا له أهمية كبيرة بالنسبة للحياة الدينية (الرهبانية).
وضعية الوقوف هذه حررت اليد. على عكس الحيوان الذي يسير على الأربع، وضعية الوقوف حررت اليد. وهذا أمر مهم للغاية، فاليد حررت من مهمة التنقل من أجل العديد من النشاطات الأخرى. إنه موضوع اندهاش بالنسبة لعالم الأنثروبولوجيا أن يكون هذا العضو المتعدد الأوجه مستعد للقيام بأي شيء دون أن يكون موجها أو مبرمجا لأي نشاط محدد، هذا العضو قادر على القيام بنشاطات عدة.
هذا التحرر مهم أيضا لأنه مرتبط بتقويم الوجه - والأمران مرتبطان ببعض - مما يدخل تعديلا في علاقة الجسد الإنساني مع المحيط وخاصة بما يخص حاسة الشم (وهنا كما تلاحظون لسنا بعيدين عن الجنس). تحرر حاسة الشم لأنه لدى الحيوان، الوجه، الأنف، الخرطوم، كلها تسمح له بالتوجه، بتحديد موقعه من المجموعة ذاتها ومن المحيط الكوني أيضا.
فمنذ اللحظة التي أصبح فيها الإنسان واقفا، لم يعد للوجه من وظيفة للدلالة على الرائحة أو على المحيط. من هنا تم تغير شكل الفم أيضا الذي لم يعد مجندا بشكل كلي لنشاطات الشفعة، للتحقيق، للسحق بما أن اليد قد أصبحت مستعدة، جاهزة. وفي نفس الوقت أصبح الفم جاهزا للأمور الأخرى، وفي الواقع من أجل الكلام.
هذا الأمر مهم للغاية لأن هذا التغير ولّد مسافة بين الإنسان والمحيط، أخذ الإنسان بعدا مع المحيط وبالتالي لم تعد علاقته مع المحيط علاقة مباشرة، أي ولدت إمكانية الاتصال مع المحيط عن بعد من خلال الكلام.
تحرر اليد، تحرر الوجه، هذه التحررات أحدثت تغيرات هامة على صعيد تشكل الجسد الإنساني وعلى الصعيد الفيزيولوجي، بشكل خاص بما يخص الدماغ. لأنه على ما يبدو أنه مع وصول الإنسان إلى وضعية الوقوف، تم تطور الدماغ شيئا فشيئا: المنطقة القفوية امتلأت تدريجيا: الكعكة المحجرية «المنطقة الجبهية امتدت أي أن الدماغ انتشر باتجاه الأمام ونحو الخلف.
بهذه الطريقة تم تحرر منطقة كاملة ومنطقة عذراء إلى حد ما وهي القشرة الدماغية الوسطية، هذا يولّد منطقة بيضاء جاهزة لترابط جديد للخلايا العصبية. ويبدو أن هذه المنطقة ستكون مكان ولادة العديد من المراكز وبشكل خاص مركز النطق لدى الإنسان.
نلاحظ إذن ترابطا قويا بين الوقوف على الأرجل وتحرر اليد والوجه مع امتداد الدماغ. كل هذا يقدم للإنسان إمكانيات جديدة عصبية. هذا يعني أنه إذا أردنا أن نبحث عن ميزة للإنسان لا يمكننا البحث عنها في عضو معين وبشكل خاص لا يمكننا البحث عنها في الدماغ. فهذا الأخير هو نتيجة لتطور ميكانيكي وتشكلي لجسم الإنسان. فالحركة الفيزيولوجية سبقت الكلام وجعلته ممكنا.
من أنت أيها الإنسان 5
الفصل الثاني: انتقال المعضلات
كما يبدو واضحا من خلال ماقلناه حتى الآن، علم الأنثروبولوجيا يشكل ورشة واسعة جدا لدرجة أنه بإمكاننا لا بل من المفضل التحدث عن انتروبولوجيات عصرية. نقول هذا لكي نوضح أن ما سيتبع الآن في هذا الجزء الثاني من موضوعنا لا يفي بالطبع بكل الموضوع والمعلومات، لذلك قمنا باختيارات لابد منها وبحسب درجة أهميتها بنظرنا.
هذا الفصل مكون من جزئين:
الأول عرض عام لخلاصة ومعطيات علم الأنثروبولوجيا الحديثة دون أن نربطها بشكل مباشر مع موضوعنا. والجزء الثاني سيكون ممحورا حول نتائج هذه المعطيات على حياتنا العامة والدينية بشكل خاص.
القسم الأول يتمحور إدن حول فكرة أساسية ومهمة جدا بخصوص موضوعنا وهي أن أنسنة الإنسان تتم من خلال من خلال دخوله في عالم الرمزية. أما القسم الثاني فيدور حول بعض النتائج التي تلمس المحاور الأساسية للحياة الإنسانية: الجنس، الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية.
القسم الأول: أنسنة الإنسان والبعد الرمزي
1 - نقطة الانطلاق: الأنثروبولوجيا الفيزيولوجية
هذه الأنثروبولوجيا تركز على تحليل الجسد من خلال تأصله الكوني ; كما أنها تركز على الجسد من خلال ترسخه ضمن سلالة الأحياء وتحاول بالنتيجة فهم الواقع البيولوجي الإنساني في علاقاته المعقدة مع كل ما هو حي وبشكل خاص بعلاقته مع العالم الحيواني، لكي تفهم ما يميز الجسد الإنساني، وبالتالي الإنسان ذاته.
هنا أيضا سوف أعطي بعض الخلاصات السريعة لكي نلمس مكانة وأهمية العالم الرمزي.
كل علم ينطلق من مسلمة أو بديهية معينة. والأنثروبولوجيا الحديثة تنطلق من البديهية التالية: البحث عما يميز الجسد الإنساني – ما يميزه كإنسان - هذا التمييز لا يكمن في عضو ما موجود في هذا الجسد وبصفته خاص جدا بالإنسان كانسان، من خلال تعقيداته مثلا، أو من خلال نوعيته، إنما من خلال ميزته ضمن منظار العلاقة.
أي أن الأنثروبولوجيا الحديثة تفهم الإنسان من خلال علاقاته مع محيطه. هذا المنظار مهم جدا وجديد أيضا بالنسبة لما كان يتم في الماضي القريب، إذ لا نعتبر هنا الجسد الإنساني بحد ذاته منفصلا عن محيطه وبالتالي نسعى لتمييز ما يميزه كنوعية أو كموهبة خاصة ; بل نأخذ بالأحرى بعين الاعتبار العلاقة.
وهكذا منذ البدء نجد أنفسنا ضمن منظار خاص جدا، منطار العلاقة. ونتساءل آنذاك حول ما يميز الجسد الإنساني في علاقته مع المحيط. هذا ما تحمله الينا بشكل خاص الأنثروبولوجيا الفيزيائية.
وجهة النظر هذه تلفت الانتباه إلى الجسد ككل، وانطلاقا من علاقته مع محيط معتبر بدوره ككل أيضا. سنتوقف إذن على وظيفة وعمل الجسد الإنساني بالنسبة لمحيطه. أي أننا نجد أنفسنا في وجهة نطر وظيفية، وانطلاقا من هنا نحاول البحث عن الاختلاف. بهذا المعنى نقول بأن الأنثروبولوجيا الفيزيائية تتطور تحت شكل الأنثروبولوجيا التفاضلية: ما لذي يميز الإنسان عن الحيوان أو عن المحيط ; وسنحاول استيعاب هذا الاختلاف من خلال الطريقة التي يحدد موقعه وعلاقته بالنسبة للمحيط وليس من خلال نوعية جوهرية أو من خلال فوقية معينة.
من أنت أيها الإنسان 4
3 - انتقال المشكلة إلى الحياة الدينية
1 - يبدو أن الحياة الدينية (الرهبانية) تفترض أن الإنسان الفاعل أهل لاتخاذ القرارات العقلانية، المبررة عن طريق العقل والمنورة من قبل الإيمان. هذه القرارات تستطيع أن تنظم وتقرر الإرادة. بينما الانثروبولوجيات الحديثة تبين لنا كثافة العاطفة، اللاوعي، وأمور عديدة معقدة ومتشابكة.
هذه الأمور كلها لا يمكننا اعتبارها كمرادف للعقل، كنوع من المجال يمكننا السيطرة عليه مرة واحدة والانتقال بعدها إلى مجال العقل الواضح، إلى مجال اليقين، بل علينا فهم ذلك كمجال موجود داخل العقل عينه. من وجهة النظر هذه، العقل الذي يدعي التحرر من العاطفة هو الذي
يجد نفسه أسيرا لها كلية.
2 - الحياة الدينية (الرهبانية) تهدف مبدئيا للوصول إلى الكمال، أو إذا أردنا أن نكون متواضعين، تطمح لبلوغ هذه الحالة. دون شك من خلال الكثير من الصعوبات، ولكن مع الادعاء بالخروج من الوهم، من التقريب، والقطع بالنسبة لكل التسويات البسيطة للحياة العادية. بينما الانثروبولوجيات الحديثة تفهمنا بأن الوهم هو واقع لا يمكن الخروج منه.
ليس الوهم بفترة زمنية معينة نتجاوزها من أجل الوصول إلى الحق، فالادعاء بالخروج من الوهم هو الوهم بحد ذاته، أو الخروج منه يعني الوقوع في اللامعقول، أو حتى في الجنون. يمكننا قول ذلك بخصوص الإيديولوجيات: المجموعة التي تدعي الخروج من الإيديولوجية هي مجموعة تفني ذاتها، تنفجر وتموت.
هنا يمكننا التحدث عن الطاعة في الحياة الرهبانية، إذ أن الخطورة تلمس أكثر المسؤول مما تلمس المرؤوس إن صح التعبير، بالرغم من أن علاقتهم هي موضع تساؤل. ماذا يعني الادعاء بأن (الرئيس يقوم مقام الحق؟ هل هناك مكانا للحق؟ هل من الممكن وجود أحد ما يكون المترجم الحقيقي لإرادة الله أو أن يكون وسيطه؟ أليس من الجنون الادعاء بالتماهي مع مكان الحق أو أن يقوم مقامه؟
3 - نلاحظ بأن الأنثروبولوجيا الحديثة تفهمنا بأن الواقع الإنساني في أساساه منقسم، غير موحد ولا يمكن ولا يمكن توحيده، إنه منقسم مع ذاته وأن هذا الانقسام يشكل مكان أنسنة الإنسان، لدرجة أن الأنسنة مشبوه بها في اللحظة التي نعتقد فيها أننا تجاوزنا هذا الانقسام. بهذا المعنى يمكننا القول بأن الأنثروبولوجيا الحديثة هي أنثروبولوجيا تفاضلية «بمعنى أنها لا تسعى فقط إلى التمييز بين الإنسان والحيوان إنما تظهر لنا بأن الإنسان يعيش دائما بتمييز مع ذاته، باختلاف مع ذاته.
هذا هو نقص الإنسان: اختلاف بين الرجل والمرأة، اختلاف بالنسبة لجسده ونفسيته (كل إنسان هو مزدوج الجنس)، اختلاف بين الرجل والآخر، اختلاف اجتماعي داخل المجتمع الواحد أو بين المجتمعات. بهذا المعنى الإنسان هو واقع معقد لا وجود له إلا من خلال الاختلاف، الواحد مع الآخر أبدا الواحد دون الآخر.
ولكن أين نحن من الرغبة في الفصل؟ أين نحن من العفة؟ ألا تشكل خطرا، خطر كبت، قمع جزء مهم من ذاتنا وهل يستطيع الرجل أن يعيش دون المرأة أو بالعكس؟ بشكل أكثر عمقا هل يستطيع الرجل، الذكر «أن يعيش كرجل إذا رفض الاعتراف بأنوثته، والمرأة برجولتها؟
أليس من الوهم الادعاء بعيش كل من العاطفة والجنس معتصمين بعلاقات حصرية تستثني الجنس الآخر؟ ألسنا في الحقيقة ضحية ما كبتناه واعتقدنا أننا قد ح صنّا ذاتنا ضده؟ ألم نعد مجددا إلى النرجسية بعد أن اعتقدنا مطولا بأننا خرجنا منها؟ ألم نعد إلى حضن الأم بدخولنا الحياة الرهبانية؟
4 - هذه النقلات حساسة جدا وبشكل خاص على صعيد الممارسة. وإحدى الفخوخ التي نقع فيها في دورة كهذه هو الاعتقاد بأنه يمكننا حل المعضلة بالنظرية. بينما كل التساؤلات المطروحة سابقا لا تكشف حدتها إلا على صعيد التطبيق العملي، من خلال العلاقات الحياتية.
فالتطبيق النظري للنظرية الفرويدية شيء والدخول في المغامرة التحليلية شيء آخر، لأن الفرد يكتشف هنا مسيرة نفسية لم يسيطر عليها، علاقات عديدة غير متوازنة كما كان يعتقد، علاقة مشوهة مع الله الخ....
كذلك الأمر بخصوص الناحية الاجتماعية: الاكتشاف النظري للمشاكل المتعلقة بالسلطة شيء واستقبال النقد المتعلق بممارستي للسلطة في جماعتي الرهبانية شيء آخر.
من أنت أيها الإنسان 3
مقابل هذه الميزات الأربع للأنثروبولوجيا الكلاسيكية، يمكننا أن نقيم ميزات أربع للأنثروبولوجيا المعاصرة أو الحديثة:
1 – الأنثروبولوجيا الحديثة تركز على فكرة التكوين والسلالة في محاولتها لفهم الواقع الإنساني. هذا يعني أن الكائن البشري يبدو جوهريا كواقعة في قيد التطور، في قيد البناء وبنيويا مبنى لكي يتطور من خلال سلسلة معقدة من العلاقات، وبشكل خاص من خلال التاريخ (تاريخ الجسد ولكن أيضا من خلال تاريخ العلاقات مع المحيط)، والجزء الكبير من هذا التاريخ ومن هذا التطور ليس للإنسان من سلطة عليه.
الأنثروبولوجيا الحديثة تهتم أكثر بتحليل عملية أو مسيرة التطور
الفيزيولوجية، البيولوجية، النفسية والاجتماعية التي تبني مستقبل الإنسان، إنما هذه العملية تتم على الصعيد اللاواعي أو بمعنى آخر هذه العملية تتم في الإنسان دون أن يدري بها. هذا بالطبع يضع حقائق الأنثروبولوجيا الكلاسيكية موضع تساؤل.
2 - التركيز على السلالة يذهب بعيدا: هذا لا يعني أنها صيرورة مؤقتة كموحلة من مراحل التطور، على مثال الإسقالة التي نبنيها خلال مرحلة البناء والتي نتخلى عنها في النهاية لكونها أصبحت غير مفيدة. في الواقع التكوين هو دائما آني، معاصر لكل تاريخ الفرد، بمعنى أنه يترك آثارا على الأقل، أو بشكل أعمق، يمنع الإنسان من الاعتقاد بأن الفرد قد بلغ يوما ما أو يبلغ يوما ما نقطة الوصول: كما يقول فرويد إن الطفولة معاصرة للبلوغ.
فالوحدة (وحدة الفرد) إذا وجدت، علينا دائما أن نسعى لبلوغها، والنهاية، إن كان هناك من نهاية، لا يمكن بلوغها بشكل كلي على الإطلاق، والعقل ليس بملكة معينة نبلغها في عمر ما، عندما نحرج من ضبابية العاطفة، علينا أن نريد العقل ونسعى باتجاهه وهذا يتم من خلال ومع وجود النزوات المختلفة، والرغبات التي تسكننا والتي قد تعاكس ممارستنا له.
هذا الأمر له دوره على الصعيد النفسي، كما يوضح لنا ما سبق، ولكن أيضا على الصعيد الاجتماعي: فالارتباط بطبقة اجتماعية معينة أو بثقافة أو حضارة ما، هذا الارتباط يبقى قوي لدرجة أنه يبدو لنا من الوهم محاولة التحرر منه بشكل كلي يسمح لنا بلوغ الإنسان الشامل.
3 - لهذا السبب الأنثروبولوجيا الحديثة بما فيها من التركيز على أهمية اللاوعي الفردي والجماعي، وبما فيها من التركيز على التكوين الذي لا ينتهي أبدا، هذه الأنثروبولوجيا لها ناحية نقدية مهمة وقد تبدو في الكثير من الأحيان هدامة. ما وراء الثابت تظهر لنا المتحرك ; وراء الفاعل، تظهر لنا العمليات المعقدة التي من خلالها يسعى هذا الفاعل لكي يحقق ذاته.
هكذا تبدو لنا هذه الانثروبولوجيات وكأنها تضع مكان الثابت الشبه وهمي الذي نجده لدى الانثروبولوجيات الكلاسيكية، تضع لنا المتحرك أو بالأحرى عدم الثبات المدوخ. فأين نحن من الطبيعة الإنسانية الممكن تحديدها، إذا كان الإنسان لا يصل إلى ذاته إلا بطريقة إشكالية أو مشكوك بها، وبشكل يبقى المستقبل حاضرا في المرحلة التي وصل إليها؟ أين نحن من سيادة الإنسان على ذاته، أو من عقل سيد أفكاره واختياراته؟
4 - في الحقيقة هذه الانثروبولوجيات تقدم ذاتها تحت شكل نقدي: نقد للفاعل، للمثالية الأخلاقية، للإيديولوجيات الاجتماعية. باختصار نقد لكل النظريات والمحاولات التي تدعي الوصول إلى موضوعها (الإنسان) بدون ثقل أو بدون كثافة، أو على الأقل تدعي إلغاء هذا الثقل أو هذه الكثافة أو السيطرة عليها بشكل كلي.
هذه الانثروبولوجيات هي نقدية خاصة لأنها ت تنزع الإنسان من القمة التي يضع نفسه فيها ، سواء بالنسبة للكون ( ونذكر بأن الأرض ليست مركز الكون) ، سواء بالنسبة لأنواع الحيوان ( ونحن نعلم جيدا بأن الإنسان أقل تأقلما مع المحيط من الحيوان) ، أو سواء بالنسبة للنموذج أو الموديل الأوروبي للبشرية ( أو للعقل).
وتظهر لنا لأي درجة تناسبت سيطرة العقل والتنوير مع تاريخ الاستغلال والتخريب، وذلك بالنسبة للإنسان في عمق فرديته الأكثر حميمية (ونكتشف هنا الهوة التي تدعى اللاوعي والتي لا يمكن للعقل الواعي السيطرة عليه أو أقله يبدو محدود بالنسبة له وعاجز).
من أنت أيها الإنسان 2
2 - ميزات الأنثروبولوجيا الحديثة
من المؤكد أن الإنسان، منذ البدء، اهتم بنفسه، تساءل حول مصيره، حول ما يميزه عن باقي الكائنات الحية، الطبيعية والفائقة الطبيعة. بهذا المعنى يمكننا القول بأن الأنثروبولوجيا قديمة قدم تساؤلات الإنسان حول ذاته.
هذه الأنثروبولوجيا نراها في الأساطير الكبيرة للأديان القديمة، في الملاحم والأعمال الشعرية في الحضارات القديمة، في الأعمال الضخمة للفلسفة اليونانية واللاهوت المسيحي في القرون الأولى يحمل في طياته بطريقة أو بأخرى أنثروبولوجيا، خصوصا أن محورها الأساسي هو
التفكير في الخلاص، أو في طبيعة المسيح. بإمكاننا تصنيف هذه المجموعة الواسعة والمتشعبة تحت أسم الأنثروبولوجيا القديمة أو الكلاسيكية أو التقليدية وذلك لكي نميزها عن الأنثروبولوجيا العصرية أو الحديثة حيث العقلانية التجريبية، العلمية هي الطاغية.
فإذا قبلنا هذا التصنيف الفظ إلى حد ما يمكننا محاولة إعطاء الخطوط العريضة لكل من الأنثروبولوجيا الكلاسيكية والعصرية.
أربع ميزات الأنثروبولوجيا الكلاسيكية
1 - قبل كل شيء يمكننا القول بأنها أنثروبولوجيا آتية من العلى (كما نتحدث في علم المسيح عن علم المسيح الآتي من العلى). تعريف الإنسان هنا يأتي انطلاقا من المعطيات الآتية من التقليد، أو من الدين، أو من خلال التفكير المجرد والنظري.
هكذا يعرف الإنسان هنا مثلا على أنه حيوان عاقل، ولكن العقل هو الذي يميزه، أو قد نقول مع الفيلسوف أرسطو، أن الإنسان كائن سياسي، بمعنى أنه مؤهل للكلام، أو على أنه صورة الله. في كل هذه الحالات، تعريف «الإنسان ينطلق من نموذج، موديل، أو من مثال أعلى ما. لكي نوضح الفكرة يكفي أن نفكر بما قاله القديس أغوسطينوس: معرفتك يا الله تعني معرفة ذاتي».
فالصورة لا تستطيع أن تعرف ذاتها أو أن تفهم ذاتها بذاتها، لكونها أساسا مجرد صورة لمثال أو لموديل أو لنموذج ما الذي يشكل حقيقتها. لذلك على الإنسان أن يمر بالله لكي يعرف ذاته كإنسان.
أو إذا قبلنا التعريف القائل بأن الإنسان هو حيوان عاقل، ما يميزه إذن هو العقل وجود نموذج ما (العقل، الله....) يفترض أن الطبيعة الإنسانية الغامضة تملك جوهرا واضحا، يمكن الاستدلال عليه ويمكن تحديده: إنها تملك هدفا واضحا يسمح لنا بأن نقيسها بالنسبة إليه. الإنسان خلق ليصبح عقلا، أو أبنا لله: له نهاية، هدف (التطويبات مثلا) يسمح لنا أن نوحد ونوجه الوجود الإنساني.
2 - من الواضح أن هذه الأنثروبولوجيا تتضمن إلزاما ازدواجية إلى حد ما قوية. إذا كان الإنسان من ناحية ما هو حيوان، إنما طبيعته الأساسية ليست هنا، بل من ناحية العقل حساس دون شك، ولكنه في أعماقه عقلاني. مكتوب له الموت، ولكنه جوهريا مدعو للحياة المتألهة الخالدة، الخ... هذه الأنثروبولوجيا تفترض نظرة ازدواجية للطبيعة الإنسانية، نظرة مفهومة من خلال صراع بين المحسوس والعقلاني، بين الجسد والروح، بين الفرد والمجتمع، بين الموت والحياة الخ....
3 - في هذه النظرة، دون شك، يبدو أن الإنسان واضحا. يملك جوهرا من السهل تحديده، إنه بحد ذاته طبيعة غنية جوهرية، يمكننا أن نصفها بصفات عدة. وهذا يسمح لنا تحديد الوسيلة التي من خلالها يستطيع الإنسان بلوغ هدفه: بإمكانه (عليه) أن يبلغ نهايته (إتمام ذاته) وهذا السعي ممكن، لا بل هو الأمر الوحيد الذي له معنى: إتمام فيزيولوجي ولا شك، ولكنه نفسي أيضا، أخلاقي وروحي. من الممكن حصر الواقع الإنساني بشكل يسمح لنا التمييز بين هذا الواقع وكل ما هو خارجه، لدرجة أن الفردية الإنسانية محددة بشكل كبير حتى أنها قد تكون جامدة ومعروفة مرة واحدة إلى الأبد.
4 - هذه النظرية لها وجه تطوري: الإنسان يعتبر في قمة الكائنات الحية وبشكل خاص الحيوانية. ولكن بالإمكان إقامة تصنيف داخل البشرية التي تسعى لبلوغ العقل. هذا التصنيف الأخير قد يقودنا للوقوع بشيء من الفاشية والعنصرية.
من أنت أيها الإنسان: مقدمة
الفصل الأول: مقدمة عامة للنظرة الأنتروبولوجية.
1 - طبيعة الأنثروبولوجيا:
كما يشير الاسم، علم الأنثروبولوجيا هو خطاب حول الإنسان. ولكن بمجرد أن نقول ذلك، تبدأ الصعوبات. فالصعوبة الأولى تعود، دون شك، إلى كون صاحب هذا الخطاب حول الإنسان هو الإنسان عينه. هل من الممكن في هذه الحالة أن يكون الإنسان موضوعيا؟ هل بإمكانه أن ينسى أنه يتكلم عن ذاته؟
وهل من المستحسن أن ينسى هذه النظرة التي يحملها عن ذاته، عن طبيعته الإنسانية؟ ألا يشكل هذا النسيان فخا غالبا ما يقع فيه علماء الطبيعة والتجريبيين إذ أنهم ينسوا بأن الإنسان ليس موضوعا كباقي الموضوعات لكونه، على خلاف الآخرين، يعتبر ذاته موضوع ذاته؟ هكذا نلاحظ أنه وراء هذه الصعوبة الأساسية في علم الأنثروبولوجيا تكمن صعوبات أخرى.
إنه لمن الواضح أن الإنسان كموضوع ليس بهذا الوضوح. ولهذا السبب يبدو أنه من المفضل لا بل من الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار مختلف النظرات أو النظريات التي تخص الإنسان وتحاول فهمه. والسؤال: أية نظرية يجب تبنيها أكثر من غيرها؟ هل هناك بعض النقاط التي يمكنها أن تساعدنا على فهم أفضل لطبيعة الإنسان؟ وكيف يمكننا تحديد الأفضلية؟
على أي أساس تبنى دون الوقوع بالمقارنات ما بين مختلف النظريات؟ ألا يعني ذلك أن الموضوع واضح إذ أننا نفترض أن الإنسان معروف من قبلنا، وأننا نعلم مسبقا أية وجهة نظر المناسبة لفهمه واستيعابه؟
لمحة مختصرة عن تاريخية هذا الأمر تسمح لنا بأن نلمس بشكل واقعي أصل وأساس هذه الصعوبات. يبدو أن علم الأنثروبولوجيا ظهر في القرن السادس عشر لكي يقوم بوصف علمي للإنسان، وخاصة ليحلل واقعه النفسي ــــ الفيزيولوجي. هكذا تطور علم خاص جديد وأصبح يدرس في كليات الطب والفلسفة معا.
ولكن هذا الانتساب المزدوج (طب/فلسفة) يكشف لنا صعوبة أخرى: هذه النظرة إلى الإنسان تتعلق بالعلم أم بالفلسفة، بالاختبار أم بالتجريد، بالتحليل التجريبي أو بالتحديد النظري؟ في الواقع الأنثروبولوجيا أتت من تمايز وحتى من تعارضها مع النظرة المجردة للإنسان.
إنها تريد أن تلقي نظرة تجريبية، وتبعد كل اعتبار ميتافيزيقي أو أخلاقي يحدد مسبقا نهاية أو هدف الواقع الإنساني. لابد من قول بعض الأمور الفكرية حول الإنسان ولكن علينا أن نختبرها حسيا. هذه النظرية تبقى سارية المفعول لغاية القرن التاسع عشر، حيث تعني العلم الفيزيولوجي للكائن البشري. هذه الدراسة تنطلق من دراسة الجماجم البشرية.
هذه الطريقة لدراسة الإنسان، بالرغم من أنها طريقة علمية وصحيحة (بما أن الإنسان هو أيضا واقعة فيزيولوجية ملموسة، يمكن تحليلها)، هذه الطريقة سرعان ما بدت محدودة: فالإنسان ليس فقط تشريح.
إننا ندرك آنذاك أنه إذا أردنا أن نمارس علم الإنسان باتجاه الخط الأولي للأنثروبولوجيا، علينا القبول بأن الواقع الإنساني متعدد الأوجه، أو بإمكاننا دراسته من أوجه متعددة ومختلفة: فيزيولوجية، اجتماعية، عرقية، نفسية، دينية الخ...وهكذا ظهرت أنواع عدة من الدراسات كلها تحمل الاسم عينه.
لدرجة أنه ليوجد حتى الآن من اتفاق بين الباحثين والعلماء في هذا المجال على تعريف موحد لما هي الأنثروبولوجيا. ولكن بإمكاننا القول أن هناك اتجاهين ضمن هذه الدراسة:
الأنثروبولوجيا الفيزيولوجية هي دراسة ترتكز على علم المتحجرات الإنسانية من جهة، وعلى علم البيولوجيا الإنسانية من جهة أخرى. إنها تدرس الإنسان في ماضيه البيولوجي وانطلاقا من هذا الماضي تلقي الأضواء على الحاضر.
الأنثروبولوجيا الثقافية أو الحضارية إنها تتطابق مع علم الأجناس البشرية. مع أن مؤسس هذا العلم؛ كلود ليفي ستروس «يحتفظ بعلم الأنثروبولوجيا لدراسة المجتمعات التي لا تملك الكتابة.
في الواقع هذا لا يعني أن هناك تعارض بين الأنثروبولوجيا الفيزيولوجية والأنثروبولوجيا الثقافية إنما، بحسب الحالات هو اختلاف في النظرة الجوهرية، ولكن انطلاقا من هنا وجهتي النظر هذه تتكاملان: الأنثروبولوجيا الفيزيولوجية لا تهمل في النهاية الناحية الحضارية أو الثقافية.
ماذا يمكننا أن نستخلص الآن؟ جوهريا الأنثروبولوجيا الفلسفية، أو اللاهوتية التي تدعي الإجابة على السؤال: من هو الإنسان؟ «عليها بالضرورة أن تأخذ بعين الاعتبار مختلف أنواع العلوم الإنسانية والتي تحمل الاسم عينه: الأنثروبولوجيا. ما قلناه حتى الآن يبين لنا بأن المهمة ليست بالأمر السهل لا بل تحمل شيئا من المستحيل وهذا لسبب أساسي ومهم جدا: كيف يمكن الادعاء بفهم واستيعاب الإنسان في الوقت الذي لا يمكن أن يكون الإنسان موضوع ذاته وبشكل موضوعي تماما.
هذه الملاحظة مهمة لأنها تجعلنا نلمس تناقضا جوهريا يمس الإنسان. والصعوبة تكبر لكون هذه العلوم الإنسانية لا تملك نظرة موحدة فيما بينها أو لا تشكل بحد ذاتها معرفة موحدة، كما أنه لا يمكننا أن نجمع مختلف الخلاصات النابعة عنها لأنها تؤدي بنا إلى متاهة نحن بغنى عنها. فالتحدث عن الإنسان يعني القبول بوجود حقول تحليل مختلفة، طرق لمعالجة الموضوع متعددة.
فعلى السؤال: من هو الإنسان؟ «لابد من التخلي عن الرغبة في الحصول على جواب واحد كاف ومرضي. هذا الأمر يبدو للبعض على أنه محبط، وقد يأخذ شكل من أشكال استقالة الفكر الإنساني في البحث. ولكن من الممكن أن نتساءل فيما إذا لم يكن العكس هو الصحيح: القبول بغنى وتنوع الواقع الإنساني هو أكثر احتراما، لهذا السر الذي يدعى الإنسان، من إعطاء خطاب موحد حتى ولو كان مسيحيا.
علينا إذن أن نقبل هذا الواقع ونعيش حزننا محاولين التخلي عن الحنين إلى انتروبولوجيات واحدة موحدة، مسيحية شاملة نستطيع أن نجدها في الكتب المقدسة (كما لو أن الكتب المقدسة تعطينا الجواب الوحيد والتلقائي للسؤال الذي نطرحه عليها)، أو في علم المسيح. فبمقدار ما نقبل تعددية الخطابات التي يقولها الإنسان عن ذاته اليوم نستطيع آنذاك أن نسبر عمق السر الذي يسكنه.
معنى الجسد الإنساني
الجسد بين التمجيد وعدم التقدير
البعد الأنثروبولوجي:
توجد قناعة منتشرة بأن الكنيسة لم تُقدر بالكفاية قيمة الجسد، لا بل أكثر من ذلك فقد ذهبت، من خلال تاريخها، إلى احتقار الجسد وأنها كانت تقمع بشكل كبير بعداً مهماً من كيان الإنسان ألا وهو الجنس.
الكنيسة متهمة بأنها تعتبر الجسد "chair" المكان المفضل للخطيئة. بينما لا نرى هذا في الإنجيل بتاتاً. تتهم بأنها أكثرت من أعداد الممنوعات، كما أنها تتهم أيضاً بأنها أهملت أو أغفلت القيمة الإيجابية للذة ودورها المهم في بناء الإنسان.
كل هذه الاتهامات فيها شيء من الصحة. وإذا أصغينا لهذه المحاكمة، نستخلص بأن الجنس، خلال عشرون قرناً، لم يكن بالنسبة للمسيحيين سوى ثمرة ممنوعة، لا يمكن استهلاكها إلاً من أجل الإنجاب.
الواقع والحقيقة ليسوا بهذه السهولة. في سنة 1985 ظهر كتاب اسمه "الثمرة الممنوعة" كتبة أربعة من أساتذة الجامعة في فرنسا يحاولون فيه تبرئة الكنيسة من هذه الاتهامات الثقيلة، مبينين بأن الأخلاقيات المسيحية أخذت الكثير من الديانات القديمة بالإضافة إلى أن هناك ما نسميه "بالأخلاق البرجوازية" إن صح التعبير والتي ليس أقل قساوة من أخلاقيات الكنيسة.
صورة الجسد الممجدة:
مهما كان الأمر علينا أن تساءل: ماذا نلاحظ اليوم؟ بسبب ردة فعل قوية، ولأن الأخلاق المسيحية لم تعد هي النموذج (في المجتمع الغربي)، ولأسباب أخرى نعرفها أو نجهلها، نلاحظ أن مجتمع اليوم، المجتمع الاستهلاكي، الرأي العام ووسائل الاتصال، والدعايات، كلها تعطي أهمية كبيرة جداً للجسد، أو أكثر تحديداً لصورة الجسد.
ولكن ليست أية صورة ما يلفت النظر في كل هذه الوسائل هو التركيز على جمال وشباب الجسد. جسد جميل ومرغوب. جسد لذة لا يمكن تلبيتها تماماً، جسد لا يعرف الكبر أو العجز أو الشيخوخة، جسد جاهز دائماً للاستمتاع ولجعل الآخر يستمتع بدوره.
وليس من باب الصدفة أن نلاحظ، في الوقت نفسه، ظهور نظريات وتقنيات متعددة ومتنوعة موضوعها هو الجسد. كلها تهدف لخلق الانسجام الكامل بين الجسد والروح. رقص حديث، يوغا، «فنون حربية» … كلها تهدف للانسجام ولوحدة الجسد. ولكن ما هو الموضوع في الحقيقة؟ استغلال، وجرد كل المصادر والطاقات المخفية في الجسد وادمج بشكل متجانس الأحاسيس، مما يولد لذة وسلام.
في إحدى الكتب التي تعالج هذه التقنيات نقرأ ما يلي: «إذا وعيتم لجسدكم تلاحظون أنه يتغير، يصبح فعال وجميل، وبالتالي يتغير تفكيركم». «أياً كنتم، إذا أردتم أن تتحولوا فبدأوا بجسدكم».
نلاحظ أنه يتحدث عن جسد بريء للغاية ودون أي غموض، دون وجود شعرة من الشذوذ؛ فالهدف هو السيطرة على كل المشاعر السلبية: الحسد والغيرة والغضب الخ. لا بل هناك أفضل: حتى الخطايا المميتة يمكن إقصاؤها بفضل هذه التقنيات.
من خلال هذا التفكير هناك ما يجب علينا أن نصغي إليه. لأننا جميعاً نرغب في تحقيق الوحدة، تلك الوحدة التي تبقى هشة ولا يمكن بلوغ كمالها، وحدة بين متطلبات الجسد ونداءات الروح. كما أن في أعماقنا وعد، مباح به أو لا يزال خفي، وعد بالهروب من محدودية الزمن والشيخوخة، والألم، وأخيراً الموت. وبالمناسبة تطور الطب اليوم يعكس لنا مجدداً هذه الصورة لعالم ألغي فيه كل من الألم والموت.
ومع ذلك، فنون الجسد هذه، صور الدعايات التي تعرف كيف تمسنا في أعماقنا، تطرح سؤالاً مهماً: ماهي غاية هذه التقنيات؟ بإمكاننا التعبير عنها بكل بساطة؟
جسد لماذا ولمن؟
منذ البدء والإنسان يهتم بالجسد، ولكننا اليوم في بداية هذا القرن، الذي أطلقت فيه طريقة جديدة في التربية الرياضية والتي تدعى بالتربية الطبيعية، نحن على نقيض قول (هيبير: Hébert) «أن أكون قوياً لكي أخدم بشكل أفضل». بينما شعار اليوم هو أن أكون مرتاحاً مع ذاتي (جسدي).
إنه لطبيعي ومستحسن أن يكون الإنسان منسجماً مع ذاته. خصوصاً أن انسجام الإنسان مع ذاته، سكن الإنسان لجسده لهم تأثيرات إيجابية على علاقاته مع الآخرين.
ولكن في هذه التقنيات التي نوهنا إليها يتم التركيز على ألذات وعلى اللذة الذاتية. فالتعبير بحد ذاته «أن أكون مرتاحاً مع ذاتي» (جسدي) يشير جيداً إلى أن المهم في الأمر كله هو ذاتي، داخلي أنا وليس ما هو في الخارج. فالتركيز والانتباه على ألذات بهذه الطريقة، هذا النوع من التناغم مع ألذات يتطابق مع النزعة إلى الفردية، ولكن هذا لا يعني أن نتخلى عن هذا البحث عن ألذات إنما علينا أن نصغي إليه.
كما أننا نلاحظ بأن المجتمع الذي يلجأ، من خلال هذه الصور والتقنيات، لتمجيد الجسد، يسعى في نفس الوقت لنفي أو لإخفاء الجسد المتألم والجسد الذي يكبر وفي النهاية الموت. اليوم نخبئ الموت إلاَّ إذا كان مهيب.
بالمقابل، ومنذ بضع سنين، ظهرت مواقف حقيقية بالنسبة للشيخوخة وللألم. يمكننا هنا التفكير بالتقنيات المتعلقة بالعلاج المؤقت أو بالعلاج المهدئ، بالإضافة إلى كل أنواع العلاجات التي تهدئ الألم دون أن ننسى ظاهرة مرافقة من يقتربون من الموت. هذا العمل إيجابي للغاية، لأن السعي إلى الموت الرحيم يرتبط غالباً بالخوف من الموت بآلام رهيبة لا تحتمل.
يبقى أن نلفت الانتباه إلى أن وسائل الإعلام تنسى أو بالأحرى تتناسى أمراً مهماً للغاية: هذا الجسد الممجد، هذا الجسد المعروض من أجل الاستمتاع، هو أيضاً جسد متألم وعلينا أن نأخذ على عاتقنا الوجهين.
أعتقد أنه بسبب هذا التمجيد للجسد من قبل المجتمع، إنسان اليوم لم يعد مستعداً لقبول شيخوخة جسده الحتمية، وأن هذا الجسد قد يتغير ويصبح جسداً مجروحاً، مائتاً وأقل رغبة أو بالأحرى غير مرغوب نهائياً. وهذا الأمر يتم في الوقت الذي نسعى فيه لإطالة عمر الإنسان.
بعد أن عرضناً هذا التمجيد للجسد يبقى السؤال: أي مكان للجسد بين التمجيد وعدم التقدير؟ كيف يمكن إقامة علاقة صحيحة مع جسدي وجسد الآخر؟ وما الذي يستطيع أن يؤسس أو يبني حقيقية هذه العلاقة؟ هذه الأسئلة تفترض سؤالاً سابقاً لها.
ما هو الجسد؟
* شيئاً من بين الأشياء: الجسد، ظاهرياً هو شيء من بين الأشياء، وككل شيء محدود، كامد أو كثيف، محدد؛ شيء من الممكن وصفه، تحليله جسدياً، كيميائياً، بيولوجياً.
جسدي يفرض عليّ حدود معينة. هو قبل كل شيء ما يمنعني أن أكون في مكانين في آن معاً.
بالإضافة إلى أن جسدي يحدد ما هو في الداخل وما هو في الخارج وعلى الحدود هناك جلدي – هذا «الكيس من الجلد» إن صح التعبير يحتويني، يغلق عليَّ، يفصلني، يعزلني ولكن – في نفس الوقت هو إمكانيتي في الاتصال مع كل من هو ليس أنا، مع العالم ومع الآخرين. ومع الله، إذا كان لهذا معنى بالنسبة لي. هذا التباين يكمن إذاً في كون جسدي هو ما يغلقني على ذاتي ويفصلني عن الآخرين، وفي نفس الوقت هو الوسيلة التي من خلالها أتصل معهم. باختصار جسدي هو مساحتي الاجتماعية (وجودي الاجتماعي) إن صح التعبير. والمختصين بأمراض الجلد يدركون تماماً العلاقة بين بعض أمراض الجلد والمشاكل المتعلقة بالعلاقة مع الآخرين.
محدود في المكان، علينا أن لا ننسى أن الجسد محدود في الزمن أيضاً، وبذلك يصبح تاريخ. يمكننا القول بأن تاريخنا الشخصي يوجد في جسدنا بقدر ما نعيش ونصنع هذا التاريخ. تجعداتنا التي تزداد مع الزمن هي إحدى العلامات الواضحة لهذا التاريخ. جسدي هو إذن حضوري في العالم، بمعنى آخر خارجاً عن جسدي ليس لي من وجود إنساني. إنه الوسيلة الرائعة لحضوري للعالم والتي دفعت صاحب المزمور إلى القول:" عجيبة أعمالك" وهو يتكلم عن صنع الله له.
فما هو الجسد إذن؟ إنه الوسيلة التي بها ومن خلالها يعيش الإنسان وجوداً شخصياً، ويمارس ويظهر حريته في علاقاته مع ذاته ومع الآخرين ومع العالم وأخيراً مع الله. إنه ما يجعل من الإنسان كائن ذو علاقة – وأعتقد أنه لا نستطيع أن نقول شيئاً أكثر جوهرياً من ذلك عن الإنسان.
فبجسده ومن خلال جسده يحب الإنسان، ويستمتع، ويتألم ويعمل، ويصلي. باختصار كل شيء يمر عبر الجسد.
شيء ليس كباقي الأشياء:
ظاهرياً الجسد هو شيء من بين الأشياء، ومع ذلك ليس كباقي الأشياء، ولكنه واقع خاص ومميز. هذه الميزات تظهر أقله بطريقتين مختلفتين:
1- بالطريقة التي أتكلم فيها عن جسدي. لا أستطيع القول «أنني جسدي» ولا «أنني أملك جسداً». لأنه من المؤكد بأنني أكثر من جسدي، حتى ولو أنني لا أوجد خارجاً عنه. كما أنني لا أستطيع القول «أنني أملك جسداً» لآن جسدي ليس خارجاً عني: لا أعلم ما يمكن أن يكون الفاعل هنا.
2- ما يميز الجسد الإنساني وما يجعله فريداً يظهر من خلال العلاقة مع الجسد الميت، وهذا في كل الحضارات الإنسانية بمختلف أشكالها. هنا يمكننا التوقف على ظاهرتين:
هناك كلمة تستعمل للتعبير عن الجسد الميت: الجثة. بالمقابل الجسد الذي تحول إلى جثة أصبح موضوع للدفن.
هاتين الظاهرتين تبين لنا بأن الموضوع ليس فقط موضوع جسد، وأنه مع ذلك يمس واقع إنساني: لم يعد سوى غنيمة، كما أنه لم يعد مركز للعلاقات. لم يعد جسداً لأنه لم يعد حياً ومع ذلك يبقى واقع إنساني. ولكن ليس لأي كان: بالنسبة لم كانوا على علاقة معه، وأن هذه العلاقة كانت قوية وحميمة. بالنسبة لمن عرفوا هذا الميت، الغنيمة تلخص كل تاريخه، وكل الاختبارات التي عاشوها معه. إنها الأثر المؤقت.
من المعروف أن الإنسان هو الحيوان الذي يدفن موتاه. هذه المقولة المهمة على صعيد البحث التاريخي وخاصة مرحلة ما قبل التاريخ، لها أهمية قاطعة على الصعيد الأنثروبولوجي: الإنسان هو الحيوان الذي يتذكر من عاش معهم، ويتفاعل معهم كمن، بطريقة أو بأخرى، لا يزالون حاضرين معه.
فالطقس الشامل للدفن يقول لنا أمرين: مأساة الوجود الإنساني، والرجاء الخفي للأحياء. المأساة، لأنه مهما كان هادئاً وخفيفاً وطبيعياً يبقى الموت قطع، نهاية مطلقة للكائن المحبوب. فالموت يدشن، مرحلة جديدة، مرحلة ما «لم يعد» تلك المرحلة التي بدورها تحدد مرحلة «ما قبل» ومرحلة «ما بعد». إنه الفشل بحد ذاته للوجود الإنساني، إنه فعلاً التعاسة الشاملة والتي لا يمكن مداواتها. ولهذا السبب، برأي، نراه وراء كل أنواع مخاوفنا. ولكن بالمقابل الاحترام الكبير للجثة من خلال مراسم الدفن يعبر عن رجاء يقول لنا بأن كل شيء لم ينتهي.
بحسب التقاليد الدينية يستسلم الأحياء للفكرة القائلة بأن المتوفي يحيا دائماً، حتى ولو كان وجوداً أدنى، هزيلاً، حياة ظل أو حياة شبح. بحسب بعض الثقافات أو الحضارات يقدم للميت طعاماً، أو نسعى بشتى الوسائل للحفاظ على الجسد من التلاشي لأكبر فترة زمنية ممكنة. هذه الطقوس تسمى بالتحنيط أو بالتصبير. ما نقوله هنا عن الجسد الميت محفور في عمق كل كائن بشري. هذا ما توضحه ردود فعل البشر حول اغتصاب القبور، أو في حال اكتشاف مقابر جماعية وهذا الأمر لا يعود إلى الماضي البعيد. فالرعب الذي يولده هذا الأمر، الاحترام العفوي للجسد الميت يجعلوننا نقول أنا هنا بعد شامل قد تم لمسه.
يمكننا أن نضيف إلى ذلك كل الصور التلفزيونية التي نشاهدها يومياً وخاصة عندما، بمناسبة وجود معارك أو حروب، يعرضون لنا بعض الجثث البريئة (ولكن ليس لكل الناس) والمتروكة على الأرصفة. إنسان أصبح مجرد شيء بسبب عنف إنسان آخر أو بسبب بعض الناس. ولكن بالحقيقة لم يصبح بالفعل مجرد شيء لأنه عادة إما يغطى الوجه أن يوضع الميت على بطنه. إنها صور سخيفة وغير محتملة في آن معاً. شخصياً في هذه الحالة أفكر بأن هذا الإنسان كان طفلاً صغيراً مرغوباً ومنتظراً ومحبوباً وأن أهله قاموا بالكثير لكي ينمو ويكبر. أفكر بكمية الحب والانتباه والسهر الذي يتطلبه تحقيق إنسان ما. أفكر بالذين أحبهم وأحبوه. في كل الأحوال وبدون أي شك، هذا الجسد ليس شيئاً كباقي الأشياء، وعندما يصبح مجرد جثة هذا الأمر يظهر أكثر.
لقد قلت أن جسدي هو حضوري للعالم أو في العالم، والحضور ليس شيئاً إنه من المجال الروحي. إنه يمر من خلال الجسد، ولكن يمكنه أحياناً التخلي عنه أو تجاوزه. فعندما يكون المتحابان بعيدين عن بعضهما البعض يبقان متحابين، حتى ولو كان الحب يتطلب الحضور الكلي، أي جسد وروح.
لهذا السبب أعدل التعريف الذي أعطيته في البداية عن الجسد وأقول: جسدي هوالوسيلة التي من خلالها يعبر عن ذاته في العالم، يصنع العالم ويتأثر ويتحول من قبل العالم.
الجسد كوسيلة للروح:
الآن سوف أتوقف على بعض الأماكن المميزة التي تبين على أن الجسد هو وسيلة للروح… وأعتقد أنه علينا أن نقول أكثر من ذلك: الجسد معطى لنا لكي يظهر الروح.
اليد: اليد هي نهاية عضو أمامي، ولكن لدى الإنسان وبسبب وضعية الوقوف، اليد حرة لأعمال متعددة.. غير السير على الأربعة. حتى ولو أننا بدأنا جميعا من هنا.
القديس والمعلم توما الأكويني يقول لنا شيئاً مذهلاً: «ما يكوّن الإنسان هو الروح واليد». لا شك بأن اليد هي إحدى العلامات الهامة على الذكاء. فبواسطة اليد يسيطر ويتحكم الإنسان بالعالم: واللغة تعبر تماماً عن ذلك، عندما تتحدث عن وضع اليد أو الاستيلاء على كل شيء. أكثر تحديداً الإنسان هو صانع العالم من خلال الأدوات، التي يصنعها والتي تعتبر امتداد ليده.
يمكننا القول بأن اليد هي عملة للروح. فبفعل اليد كل إنتاج الإنسان من علم أو فن أو ثقافة هم امتداد لجسد الإنسان. العالم المتحضر والمؤَنّسن، هو بالفعل جسد الإنسان المتمدد، المنتشر في العالم، ليس فقط لأننا متجذرين في هذا العالم من خلال ما يوجد لدينا من بيولوجي أو من غريزي، من خلال الجزء الحيواني الذي فينا، إنما لأن هذه هي دعوتنا: عملية إتمام الخلق تركت للإنسان لكي يجعل من عالم الطبيعة عالم حضاري، وهذا من خلال اليد، حيث يظهر الإنسان على أنه روح خلاق.
الوجه: كلمة وجه خاصة بالإنسان: الوجه هو الوجه الإنساني. علماء الأنثروبولوجيا يوضحون لنا بأن اليد هي التي سمحت لوجه الإنسان أن يظهر. بالنسبة للحيوان، ما هو محوري ومهم، هو ما يسمح له بالأكل، بما أن الأكل هو ضرورة حياتية. من هنا أتت أهمية وضرورة الفك، والمنقار، كلها أعضاء تدل على وجود عنف من أجل الهجوم على الطعام. لأن الحيوان لا يملك يد لكي يأخذ الطعام بها. ما هو خاص بالإنسان في وضعية الوقوف، هو أن اليد يمكنها أن تأخذ الطعام وأن الوجه محرر من أجل وظائف أخرى غير الأكل. بتحضر الإنسان يصبح الخطم وجهاً، كلمة لا تستعمل إلا للإنسان.
التحدث عن الوجه، يعني التحدث عن شيء يتعلق بالإنسان: بشكل خاص الضحك وبالطبع الكلام.
لن أتكلم عن الكلام، إلاّ لكي أقول بأن الإنسان هو الوحيد الناطق، أي أنه ينطق بمجموعة منظمة من الأصوات مرتبطة بسلسلة من المعاني. فالكلام هو عبارة عن نظام رمزي من الأصوات مرتبط بنظام من المعاني. فمن خلال الكلام يتأنسن الطفل الصغير: فالأمهات والرضع يعرفون جيداً هذا الأمر بما أنهن يتحدثن بشكل عفوي تماماً مع أطفالهن أو تغنين لهم بعض الأغاني. من خلال الكلمة ينفتح الإنسان على عالم اللقاء، على عالم العلاقة الإنسانية وعلى الحوار. ولكن أيضاً على عالم الفكر، لأن كل الأمور مترابطة: لا يمكن للإنسان أن يفكر إن لم يكن قادر على الكلام. لا وجود لفكر مفكر أو متبصر إلاّ حيث توجد اللغة. «واللغة هي الإمكانية التي يمتلكها البشر في الاتصال بينهم والتعبير عن فكرهم من خلال العلامات الصوتية» هذه العلامات ينتجها الجسد.
الجنس: الجنس الإنساني هو، بالإضافة إلى نواحيه الأخرى، لغة الجسد التي تقول أكثر من الجسد. فالجسد المجنَّس معطى لنا لكي يستطيع الروح أن يعبر عن ذاته من خلاله. ولكن الجنس قد يكون المكان الذي فيه تظهر بشكل أوضح هشاشة وحدتنا الإنسانية: وحدة الجسد والروح. لأن الغريزة تعبر عن ذاتها من خلاله بشكل قوي جداً قد تخنق فيه الروح. لهذا السبب أنسنة الجنس هي عملية لا يمكن أن تنتهي إطلاقاً.
وحدة الشخص الإنساني:
ما يبدو من خلال هذه الأفكار التي تحدثنا عنها هو أننا واحد بدون انفصال جسد وروح.
علينا التركيز على هذه الفكرة، لأنه شئنا أم أبينا، يبقى فكرنا متأثر بالفكر اليوناني القديم: الإنسان كائن مزدوج وليس موحد (جسد فان وروح خالدة).
كل الفكر الغربي خاصة الذي أثر بنا بما فيه الكفاية والذي تأثر بدوره بالفكر اليوناني القديم، علمنا هذا "الانفصال" بين الجسد والروح، مع شيء من عدم الثقة بالجسد، أو النظرة السلبية له، لكونه معتبر مصدر فوضى، أو ضعف، وبالفكر المسيحي مصدر للخطيئة. فالروح أو النفس عليها أن تخرج من الجسد، سجنها، وإلاّ تبقى سجينة لهذا الجسد الذي يقودها للظلمات.
بينما الفكر السامي، فكر الكتاب المقدس بعيد تماماً عن هذا المعتقد. في نظر الكتاب المقدس، الجسد ليس بعنصر خارجي يمكن للروح الاستعاضة عنه. فالجسد هو جزء أساسي وجوهري من كياننا الإنساني. والفيلسوف نيتشه يقول «لدي كلمتين أقولها لمن يفكر سلباً بالجسد. ليبدؤوا بالتخلي عنه…ثم ليأتوا ويتحدثون معي».
إذا قارنا بين وحدتنا والكلام يمكننا القول بأن الجسد والروح مترابطين بعضهم ببعض على صعيد الوجود، كارتباط الصوت والمعنى على صعيد اللغة. فالروح لا يوجد أبداً بدون جسد – والجسد بدون الروح يصبح جثة. كل ما هو متعلق بوجودنا الإنساني يعبر من خلال الجسد. كل شيء مرموز له من خلال الجسد. في أعمالنا الأكثر روحية الجسد حاضر ويفرض علينا متطلباته، حدوده، ولكنه يجعل هذه الأعمال ممكنة أيضاً. فليس الروح هو الذي يصلي، الإنسان بكليته هو الذي يصلي.
على ما أعتقد المسيحيين بدءوا يكتشفون دور الجسد في التعبير الديني الطقسي والإيماني. وبشكل عام إنهم يخرجون من نوع من الازدواجية، أو من ملائكية خطيرة يعبر عنها المفكر الفرنسي باسكال: «من أراد أن يكون ملاكاً كان غبياً».
فوحدتنا إذن هي دائماً هشة، مشكوك بها، علينا دائماً أن نصنعها، ولكن لا يمكننا التخلي عن هذه المهمة. لأن المهمة، ومن خلال كل التعقيدات التي تمسنا، هي أن نجعل الروح يقود المسيرة. ما هو مصيري في الموضوع هو تحقيق ذاتنا، شخصيتنا، في النهاية تحقيق نمونا الصحيح. إنها مهمة أو عمل ولكنها أيضاً اختيار: إذا لم نعمل بصبر لكي يكون الروح فينا هو الذي يقودنا، نستسلم آنذاك لنزواتنا مع كل ما تحمله من فوضى: مستبقين قليلاً الموضوع يمكننا أن نذكر قول القديس أغوسطينوس: «إن لم تصبحوا روحانيين حتى في عمق أجسادكم، تصبحون جسديين في صميم روحكم».
بعض الأفكار الكتابية:
الجسد في العهد القديم: إنسان العهد القديم لا يعرف المعارضة بين الجسد والروح. والمزمور 84 يقول : «ما أحب مساكنك يا رب القوات تشتاق وتذوب نفسي إلى ديار الرب». فالرغبة في رؤية الله في الجسد نجتاز مجمل الكتاب المقدس. بعض الأمثلة:
- أيوب يتحدث عن القيامة على أنها قيامة الإنسان بمجمله: «فاديَّ حيٌّ وسيقوم الأخير على التراب. وبعد أن يكون جلدي قد تمزَّق أعاين الله في جسدي» (أي 19، 26).
- موسى يطلب إلى الله: «أرني وجهك»
- وفيليب يقول ليسوع: «أرنا الآب ويسوع يجيبه بالكلمات عينها: من رآني فقد رأى الآب».
هذا يعني أنه بالنسبة لفيليب ولنا أيضاً ليس هناك وسيلة أخرى لرؤية الآب سوى رؤية يسوع نفسه. ولكن بالنسبة لنا يسوع اختفى، حجب عن عيوننا، عيون الجسد. ما من أحد يستطيع أن يلتقي به يوماً على إحدى مفارق الطرق. علينا إذن أن نجدد نظرتنا لكي نراه حيث يبدو أنه غير موجود، بينما يقول لنا بأنه حاضر فيها: في كل إنسان وبشكل خاص في الإنسان الضعيف، في الأكثر فقراً؛ أي في الجسد المتألم. حضور الله في الإنسان المريض يجعلنا نفكر في موت المفكر الفرنسي باسكال (Blaise Pascal) الذي، بسبب آرائه اللاهوتية رفضت المناولة له لدى اقترابه من الموت. فطلب أن يوضع بجانبه مريض فقير ويكون له نفس العلاج الذي يخضع به باسكال قائلاً: «بسبب عدم استطاعته المشاركة (الاتحاد) بجسد المسيح، فإنه على الأقل يتحد مع أحد أعضائه المتألم». في الحقيقة نلمس هنا المعنى المسيحي المرهف لمعنى الجسد المتألم، وما هو جسد المسيح السري.
- في تصوراتنا عن الإنسان نضع بسهولة كبيرة ردود الفعل والصلاة على الصعيد العقلي، بينما إنسان الكتاب المقدس يقول «بأن الله فاحص القلوب والكلى» (مز 7، 10).
دائماً في الكتاب المقدس، يُستعمل الجسد البشري يطرق مختلفة للتحدث عن الله. يتحدث لنا عن ذراع الله الذي يحقق المآثر، وعن صوته الذي ينادي ويعزي، وعن قلبه لكي يقول حبه، وحنانه واستطاعته على المغفرة.
دون شك التحدث عن الله بهذه الطريقة، يشكل خطر الوقوع في تشبيه الله بالإنسان، أن نصنع من الله على صورتنا.... ولكن هل يمكن للإنسان التحدث عن الله بطريقة أخرى غير الكلمات الإنسانية، وانطلاقاً من خبرته كإنسان؟
ولكن في الحقيقة كاتب الإنجيل ليس بمغفل وبالتالي لا يأخذ هذه الصور بحرفيتها ولا على أنها الواقع. حدثين يوضحان لنا هذه الناحية:
- للحماية من الوقوع بهذا النوع من التشبيه، يمنع العهد القديم كل صور عن الله، كل تصور حسي عن الله يحاول أن يعطي لله هيئة جسد إنساني. والوصايا تقول لنا:«لا تصنع لك منحوتاً ولا صورة شيء مما في السماء من فوق، ولا مما في الأرض من أسفل، ولا مما في المياه من تحت الأرض» (خر 20، 4). فالهدف في النهاية هو حماية تعالي الله، غيريته المطلقة بالنسبة للإنسان؛ إنه الآخر يحد ذاته.
- الحدث الثاني، الطريقة التي يعبر عنها الكتاب المقدس عن كيفية خلق الله للعالم. خلافاً للأساطير القديمة حيث الآلهة تخلق بالولادة ومن مادة مسبقة الوجود، بينما إله الكتاب المقدس ليس بمنجب؛ إنه الخالق، خارجاُ عن كل جنس. لم يولد الإنسان: شعبه هو شعب مُتبنى.
عملية الخلق كما يقدمها لنا سفر التكوين تقول لنا أمراً آخر: جسد الإنسان الذي خرج من الطين- وهذا يبين لنا أصلنا الترابي، الكوني – هذا الجسد المائت ككل ما هو حي يتميز بما يلي: المخلوق الوحيد الذي قيل فيه أنه مخلوق على صورة الله كمثاله مما يشير إلى وجود دعوة، ورسالة: لم يخلق الله إنساناً محققاً، بل إنسان يجب تحقيقه، مسلم لحكمته الشخصية كما يقول لنا سفر الحكمة. إنسان خلاًّق، مثل الله نفسه، ولكن قبل كل شيء خلاًّق لذاته. إنسان يبلغ ذروة إنسانيته في يسوع. فليس آدم هو الإنسان الكامل. فالإنسان الكامل. آدم، يقول بولس الرسول، ليس سوى ظل ما سيأتي. فالإنسان الكامل، الإنسان المُحقًّق، هو ما يسميه بولس آدم الجديد: يسوع المسيح. وآباء الكنيسة اليونان يقولون بخصوص المقارنة بين آدم ويسوع: عندما خلق الله الإنسان كان يفكر بالمسيح، على أنه الإتمام الناجح للبدء الذي يشكله آدم.
الجسد في العهد الجديد:
العهد الجديد يساعدنا على تجديد موقع الجسد الإنساني في الكتاب المقدس وكرامته.
أقول بداية أن احتقار أو ازدراء الجسد الذي كان موجوداً لدى المسيحيين أمر غريب جداً، بما أنه لا وجود لدين آخر يعطي للجسد الأهمية التي يعطيها الإيمان المسيحي، بما أنه لا يكتفي بالقول بأن جسدنا مخلوق من قبل الله، بل أن الله لم يتردد في أخذ جسدنا كما هو، بضعفه، وبمحدوديته، وبهشاشته، وبموته. أخذه لا ليتركه لنفسه (لنفس الإنسان) بل لكي يؤلهه. بهذا المعنى يقول لنا القديس إيريناوس أحد آباء الكنيسة: «المسيح هو الله الذي صار إنساناً لكي يصبح الإنسان إلهاً».
فالمسيح القائم من بين الأموات كشف كامل للإنسان. إنه يقول للإنسان دعوته. إنه يعلمنا من أين نأتي وإلى أين نذهب. وبشكل خاص يقول لنا ما هي دعوة أجسادنا: إلى ماذا هي مدعوة؟
ظهورات القائم من بين الأموات: بداية أقول بأن هذه الروايات لها وضع خاص ومختلف عمًّا روي لنا عن يسوع التاريخي. فالقيامة ليست حدث تاريخي بالمعنى الحصري للكلمة، بما أن القائم من الموت، من خلال القيامة، لم يعد خاضع للتاريخ. وبالتالي من المفضل التحدث عن حدث خارج التاريخ.
ما هو تاريخي بالمعنى الدقيق للكلمة هو خبرة وشهادة الرسل: نساء ورجال عاشوا مع يسوع واعتبروه المسيح يشهدوا بأنهم رأوه بعد موته على الصليب. وقالوه بقوة وهم مستعدون للموت بدلاُ من أن ينكروا إيمانهم بيسوع الحي.
في روايات القيامة، معرفة يسوع القائم والاعتراف به على أنه هو ليس بالأمر البديهي، ولا المباشر. لماذا؟ لأنه يعني الانطلاق من اختبار حسي ملموس (النظر واللمس والسمع) والوصول إلى معرفة إيمانية؛ مما يتطلب مفهوماً جديداً لما قاله يسوع التاريخي، ولتصرفاته السابقة، ولتنبؤاته عن موته. هذه الناحية واضحة جداً في رواية تلميذي عمَّاوس.
قلت معرفة، لأن يسوع لا يظهر إلاَّ للرجال والنساء الذين عرفوه سابقاً. وهذا يساعدنا لكي نفهم أسباب الظهورات. بالإضافة إلى أن المعرفة في الكتاب المقدس لا تعني مطلقاً معرفة عقلية، إنما علاقة وخبرة حياتية: «فعرف الإنسان حواء امرأته فحملت وولدت قاين» (تك 4، 1) «كيف يكون لي هذا وأنا لا أعرف رجلاً» تجيب مريم الملاك جبرائيل.
وظيفة الظهورات: هناك شيء من الضرورة للظهورات، حتى ولو كان زمنها محدود جداً.
في الحقيقة حتى ولو كان عمل القيامة لا يمكن إدراكه والوصول إليه، فالموضوع هو السماح لهؤلاء الناس بأن يشهدوا لحدث القيامة. فالموضوع هو إمكانية استيعاب الأمر بأن المسيح حي ما وراء الموت، وأن القائم في يوم الفصح هو عينه المصلوب في يوم الجمعة العظيمة. فالظهورات تلعب دور الجسر، همزة الوصل، استمرارية الهوية، بين الموت والقيامة للإنسان نفسه: يسوع الناصري.
إذن لا بد ليسوع من أن يظهر ذاته، ويسمعونه، ويلمسونه، هو الذي فلت من سيطرة التاريخ والعالم، يظهر ذاته لرجال ونساء لا يزالون هم في التاريخ. من هنا يأتي هذا الأسلوب الغريب للظهورات كما يرويه لنا الإنجيل.
إنه يظهر لتلاميذه وهذا مصدر مفاجأة ومصدر فرح أيضاً. (لو 24، 41) وهذا الأمر لا يخلو لديهم من الشك: ويسوع يرفع هذا الشك من خلال تكراره لأعمال معروفة من قبلهم مبيناً لهم أن له جسداً وليس بشبح. يطلب طعاماً ويأكل أمامهم شيء من السمك المشوي. ليس فقط لديه جسد، بل هو مصلوب يوم الجمعة.
فالقائم من الموت هو نفسه المصلوب، لكنه لا يخضع للعوامل المكانية ـ الزمانية: موجود حيث يريد وعندما يريد. لا تقول لنا الروايات بأنه كان يدخل ويخرج، بل كان يظهر ويختفي. يظهر والأبواب مغلقة.
لهذه الروايات ناحية أخرى: هناك غموض حول هوية القائم. من المركبة يعتقد التلاميذ أنه أحد سكان المنطقة الغير معروف، ومريم المجدلية تعتقد أنه البستاني، وتلميذي عمَّاوس لم يعرفاه وهو معهم في الطريق.
لماذا هذه الصعوبة في معرفته؟ لوقا يقول «بأن أعينهم حجبت عن معرفته». كان لا بد من القراءة المطولة للكتب المقدسة مع أعمال تقسيم الخبز في المنزل لكي يصلا إلى معرفته. وعندما عرفاه، أي عندما أصبح إيمانهم حياً من جديد، اختفى مجدداً: الآن يعرفان بأنه حيُّ. فالوقت الآن هو للشهادة. وهذا ما يفعلونه: يذهبون مسرعين لملاقاة الجماعة وإعلان النبأ.
هذا يبين لنا بأن الإيمان بيسوع يتطلب اهتداء، تحول في النظر: لا يمكن معرفته كما هو إلاَّ بعيون الإيمان، ولهذا السبب مريم أمه لم تشعر بالضرورة للذهاب إلى القبر. وهذا الأمر ينطبق حتى على مرحلة ما قبل القيامة: كثيرون راؤه لكنهم لم يؤمنوا به.
هذا الغموض في الهوية يقول لنا أمراً آخر: أن يظهر بمظهر أحد السكان، أم بمظهر البستاني، هذا يعني أننا مدعوون لمعرفته في كل إنسان. علينا أن نكتشفه في الآخرين وأن نكتشف الآخرين به.
الجسد الروحاني: فجسد القائم من الموت لا يخضع إذن لقيود المكان الزمان، فبإمكاننا القول بأنه جسد له مواصفات الروح والذي، كالروح، يفلت منا. وبولس الرسول يتحدث عن الجسد الروحاني (soma pneumatikon). لغة صعبة، ولكن هذا أفضل تعبير عن الوحدة بين الروح والجسد. جسد حقق الوحدة المطلقة بين الجسد والروح وبالتالي يعيش كلية انطلاقاً من الروح. بهذا المعنى هو جسد روحاني. هذه الوحدة هي وحدة القائم من بين الأموات. ونحن مدعوون لتحقيقها في حياتنا.
والأب فرنسوا فاريون يتجرأ ويقول بأن هناك جسد إنساني، جسد متجلي، متحول، روحاني دون شك لكنه جسد إنساني ضمن الثالوث. علينا في الحقيقة التأمل مراراً في هذه الأمور، بما أن الوعي المسيحي مملوء من التصورات الغير متجسدة. بينما تجسد الله، نزوله في جسد إنساني هو أمر لا يمكن التراجع عنه.
فالتأكيد على أن المسيح حيُّ إلى الأبد، هذا يعني التأكيد على كرامة الجسد الإنساني بشكل مطلق، التأكيد على الاحترام الذي علينا أن نكنه لهذا الجسد. هذا يعني أن جسدنا، الذي هو، منذ الآن، بطريقة مخفية أو غير كاملة، هيكل الروح، هذا الجسد مدعو لكي يعيش كلية من هذا الروح.
هذا يعني أيضاً أن عبارة قيامة الأجساد غير كافية، لأن القيامة الموعودين بها هي قيامة شخصنا بكليته، جسد وروح.
علينا إذن القول أنه في القيامة، سيكون جسدنا مُتمماً، مُحققاً ــــــ وأنه سيكون بشكل كلي، ولو بطريقة لا يمكننا تصورها، وسيلة حضور ــــــ حضور لله وحضور لبعضنا البعض، من خلال علاقة لا تعرف الظل، علاقة واتحاد كامل، حيث علاقاتنا ـ سواء علاقة حب أو صداقة ـ ما هي سوى البداية، ( بالرغم من أنها تعطينا شيء من الطعم المسبق لما ستكونه العلاقة الناجحة تماماً). هذا يعني اتحاد متبادل الذي يعبر عنه القديس يوحنا من خلال علاقة يسوع مع أبيه: «الآب فيًّ وأنا في الآب».
الجسد المتألم كشف للحرية: لنفكر الآن بالجسد المتألم بصفته كشف عن الحرية، حرية الإنسان، انطلاقاُ من يسوع أمام الآلام، آلامه هو وآلام البشر.
يسوع ليس بإنسان غير اعتيادي (ليس سوبرمان) إنما إنسان مثلنا، مع جسد كجسدنا، يتعب، هش، ومائت. جسده هو أيضاً جسد متألم، حتى ولو كانت الآلام لا قيمة لها بحد ذاتها. وعلينا التشديد على هذه الناحية، نظراُ لما تربينا عليه في السابق بخصوص الآلام وأهميتها في حياة المسيحي.
ما هو مهم في موت المسيح، قيمة موت المسيح لا تكمن في كمية الآلام التي تحملها، إذ يمكننا أن نتخيل أعظم منها. ما يعطي قيمة لهذا الموت، هو أنه بالرغم من معرفته له على أنه أمر حتمي، من هذا الموت الذي سيمارس عليه من قبل البشر، والذي هو نتيجة طبيعية لما قاله وفعله، من هذا الموت الذي هو بحد ذاته جريمة، يجعل المسيح منه (من هذا الموت) عطاء حراً. في اللحظة التي ستنتزع منه حياته نسمعه يقول: «إذا كان الآب يحبني فلآني أبذل نفسي.. حياتي ما من أحد يستطيع أن يسلبني إياها، فلي أن أبذلها ولي أن أستردها وهذا الأمر تلقيته من أبي». من هذه الحياة المبذولة بحرية يجعل علامة لحب أعظم، لأكبر حب ممكن أن نشاهده أو نسع به. إذا كان بالفعل لا قيمة للآلام بحد ذاتها، يسوع يبين لنا ما يمكن أن نصنع منها عندما توجد ومهما كانت الظروف.
علينا أن نفهم هذا بشكل جيد: على مثال المسيح، كل جسد متألم، مريض أو مجروح يكشف لنا بأن الإنسان هو حرية.
إذا أصبت بمرض خطير، أو داهمني السن، ماذا أعمل؟ هل سأثور؟ هل سأناضل؟ كيف يمكنني أن آخذ هذا الأمر على عاتقي؟ هل سأستسلم على أنه قدر لا يمكن مقاومته؟ أم سأحاول أن أعطي معنى لما ليس له، من معنى؟
في رأي، ما هو مكشوف في حالات الجسد المتألم هو عظمة الحرية التي ليس لها من ثمن. عظمة الإنسان معبر عنها هنا، أي أن المعنى لا يكمن في الأشياء، إنما علينا نحن أن نعطي المعنى، لما ليس له معنى.
لم يكن لدى المسيح أي تواطئ مع الألم أو مع الموت، الذي عاش أمامه قلق كبير جداً. بالمقابل كل مرة يأتون إليه بالمرضى كان يشفيهم.
في الحقيقة هناك حالتان تنتزعان من يسوع العجائب: آلام البشر والثقة التي تعطى له. لا يستطيع يسوع أن يتحمل آلام البشر، مبيناً بذلك أن الألم هو شر البشر وشر الله، والذي لا بد من النضال ضده ومهما كلف الأمر.
لهذا السبب يشفي. معنى هذه الشفاءات واضح: الإنسان خلق من أجل الصحة وليس من أجل المرض، من أجل السعادة وليس من أجل الشقاء. صحيح أن يسوع انسحب شيئا فشيئاً من هذه الأعاجيب نظراُ لأستعمل واستغلال الناس لها. إنه يقوم بها ليقول لنا لماذا أتى بيننا: أتى بيننا ليحي الإنسان. وإذا رفض أحياناً القيام بها فلكي يقول لنا بأن جوهر رسالته لا يكمن هنا. وأنه لم يأت ليبني عالماً عجائبياً يعفي من الألم ومن الموت. برفضه القيام بالعجائب، يرجع البشر لمسؤوليتهم – مسؤولية تزداد بسبب الرفض: هذا الرفض يعني أن شفاء الإنسان، لباس الإنسان، إطعام الإنسان، هم من مهام البشر، كذلك الأمر بالنسبة للنضال ضد قوى الشر. وأنه على هذا المستوى لا يمكننا أن ننتظر العجائب.
دون شك القبول بأن هؤلاء الأشخاص المخدومين والذين تم شفائهم والمحبوبين (لعازر وكل من شفاهم المسيح) هم أيضاً معرضين للموت، هذا يعني القبول بأننا لسنا الله.
خلاصة: مقابل هذا التمجيد للجسد وعدم التقدير هذا، إذا سألنا الإنجيل نرى بأنه إذا تجسد الكلمة، إذا أخذ جسدنا البشري، فليس من أجل استعراض غنى الجسد الإنساني إنما لكي يلتقي بالإنسان، ولكي يُرى ويُسمَع ويُلمس من قبل الفقراء والصغار. الإنجيلي يوحنا يشدد: «ذاك الذي سمعناه ذاك الذي رأيناه بعينينا ذاك الذي تأملناه ولمسته أيدينا من كلمة الحياة لأن الحياة ظهرت فرأينا ونشهد وبشرناكم بتلك الحياة» (1 يو 1،1).
جسد يسوع يسمح لنا بأن نجيب على السؤال: جسد لمن ولماذا؟ بكل يقين جسد المسيح هو جسد من أجل الآخر، وسيلة حضور أخوي للبشر، جسد معرض، جسد مبذول، ليس فقط وسيلة حضور، إنما هو سر حضوره المقدم لنا.
هذا ما يجب أن يكونه جسد كل واحد منا. بالنسبة للذين غطسوا في ماء العماد وشاركوا رمزياً في موت المسيح، معنى الجسد هو أن يكون سر اللقاء: في الحب، وفي الصداقة، وفي الخدمة.
بالطبع هذا لا يعني أن نكون غير مكترثين بأن يكون الجسد جميلاً متناسقاً، لأن جمال الجسد ليس جمال شيء، بل جمال حياة، والذي من خلاله يقول لنا الروح شيئاً مما هو، أيضاً لأن هذا الجمال مؤقت وبالنتيجة أكثر قيمة لأنه هش وضعيف.
إنما الجسد الهرم والجسد المعاق والجسد المريض بإمكانه أيضاً أن يكون وسيلة حضور، ويكشف جماله الحقيقي: أن يكون سر اللقاء الأخوي كما أن الروح يكشف عن ذاته حتى من خلال ضعف الجسد.
هل الشجاعة أمر مكتسب؟
بشكل عام نحمي أطفالنا بطريقة مُبالغة. وباسم أمنهم العاطفي، والذي نعلم إلى أي حد هو مهم ولا بدّ منه، نُجنّبهم المخاوف والمخاطر. أو على الأقلّ نحاول تحقيق ذلك. تخفيف الخطر إلى درجة الصغر أصبح هوس العديد من الأهل. «لدي الشعور بأنني مهما عملت لا أحمي أطفالي كما يجب؛ عندما يكونوا أطفالاً هذا أمر طبيعي ولكن في سن المراهقة أكتشف مخاطر جديدة تلزمني بتحذيرهم واستمراري في حمايتهم» تقول إحدى الأمهات. كثير من الأمهات
تعتقد بأن المخاطر والصعوبات التي يتعرض لها شباب اليوم هي أكثر أهمية من التي واجهوها هم عندما كانوا في سنهم. فهل أصبح العالم أكثر خطورة من السابق وبالتالي يتطلب جواباً أقوى وجهوداً نوعية؟ من الصعب الجواب على هذا السؤال. على مرّ السنين بعض المخاطر والعصوبات تختفي لتظهر مكانها أنواع أُخرى. كاستعمال وسائل النقل أو اختيار نوع الدراسة أو الدخول إلى ساحة العمل الخ.
إنّ أهمية «المعركة» تختلف بحسب الظروف والأماكن. ما هو مصدر خطر في مكان قد لا يكون هكذا في مكان آخر، بما فيه مساعدة الطفل على التغلب على مخاوفه ومن أجل مواجهة أفضل لمخاطر الحياة. مثلاً بالنسبة للهاتف الخليوي: قد يكون مصدر أمان: « إذا وقعت في مشكلة يمكنني الاتصال مع أهلي»، كما قد يكون مصدر خطر: «إذا كنت أقود دراجتي أو سيارتي يمكنني الاتصال بصديقي/ صديقتي».
مهما كان الأمر، تبرير الموقف الحامي بطريقة زائدة للأهل بسبب وجود مخاطر وصعوبات يواجهها الطفل هو موقف غير سليم. لأنه إن كان من واجب الأهل أن يحموا أبنائهم، عليهم أيضاً وخاصة أن يُنمّوا لديهم إمكانية التغلب على مخاوفهم. والإنسان الشجاع هو الذي يعي وجود الخطر أو الصعوبة التي عليه التغلب عليها دون أن يقع في الشلل بسبب الخوف والشعور بالعجز.
إنّ حقل التمرس هنا كبير، على قدر المخاوف التي تهاجمهم عندما يواجهون صعوبات ومحن الحياة. لاشك أن الطفل يحتاج إلى الشجاعة ليقبل النوم في غرفة جديدة أو عندما لا تكون أمه حاضرة لتطمئنه! كما يحتاج المراهق إلى جرعة قوية ليثبت اختلافه في بعض الحالات. كما هو حال العديد من الشباب، لكي لا يستسلموا، أمام «السير الذاتية» التي تتراكم دون جواب، أو أمام المرض الذي قد يقضي على مستقبلهم! كيف يمكننا مساعدتهم ليكونوا أقوياء ومصممين على الحياة؟
في الحقيقة الشجاعة تُكتسب في كل سنّ وبنفس الطريقة. فالموضوع هو خوض المعركة ضد الذات، ضد جزء من الذات الذي يخاف وليس لديه الرغبة بالقيام بما هو ممّل برأيه، ويخاف الموت ولا يجرؤ على مواجهة نظرة الآخرين أو الألم النفسي. ولكن علينا الانتباه إلى أهمية الناحية النفسية في هذه المعركة الداخلية. من المهم جداً تجنب الأهل الذين يرغبون في جعل أبنائهم شجعان، باللعب على الوتر الوحيد للخير والشر. كما تقول إحدى السيدات: «غالباً، في أغلب الأحيان، كان أهلي يقولون لي: أنت بالفعل لست شجاعة. ولم أكن أفهم معنى كلمة شجاعة. كانوا يلقنونني باستمرار دروس في الأخلاق: ليس من الجيد أن تتركي نفسك هكذا، أن لا تقومي بالجهود اللازمة، أن تبكي من لا شيء، لديك كلّ ما يلزم لتكوني سعيدة...».
إعادة اكتشاف أهمية الشجاعة: هذه المرأة التي، بعد اجتيازها للعديد من المحن ككل إنسان، أصبحت سيدة كبيرة سعيدة وجريئة في العديد من المجالات: السفر والالتزام السياسي وفي الجمعيات بالإضافة إلى التكوين الثقافي، هذه السيدة لم تكن في طفولتها سوى مجرد فتاة صغيرة خجولة، هشة، قلقة وثقتها بنفسها ضعيفة... كل ما يلزم لكي تقع أمام صعوبة صغيرة لكونها لا تملك القوة اللازمة في داخلها لكي تنهض بنفسها.
فالطلب من الطفل أن يكون شجاعاً لا يفيد بشيء في الواقع. أكثر ما يحتاجه الطفل أمام الصعوبة هو التشجيع والدفع إلى الأمام. تشجيع الطفل يعني أن نُظهر له ثقتنا به وبإمكانياته للتغلب على العقبات، وخاصة توجيهه باتجاه غناه الداخلي الذي يساعده على الثقة بنفسه. ولكن أيضاً هذا يعني أن ندربه وننشئه على القيم الأخلاقية والروحية التي يستطيع أن يسند عليها جهوده. لأنه تقريبا في كل حالات الشجاعة الحقيقية والمُشرّفة، تقوم هذه المعركة ضد الذات باسم القيم الأخلاقية القويّة. هذه هي حال الإطفائي الذي يتصرف بشجاعة باسم انقاذ الآخر، والجندي الذي يتغلب على خوفه من الموت باسم الدفاع عن الحرية والعدالة، والمسؤول السياسي الذي يخاطر بمهنته ليخدم الخير العام، وحال مَن تآكله المرض ويناضل بشجاعة ضده.
فما هي القيم اليوم التي تخدم وتلعب دور العتلة في جهود الشباب؟ لابد من إعطاء شباب اليوم معنى الشرف والفخر، مع تحذيرهم من مخاطر الانحراف باتجاه الاحتقار والعنف. لاشك أن المكافأة التي تعني الاعتراف، من قبل الآخر، بالجهود المبذولة هي الطريق الطبيعية للتشجيع. هنا يمكن التذكير بالمكافأة التي تُعطى في العديد من الانشطة الاجتماعية والدينية والرياضية والمدرسية الخ.
إنّ التضامن والعطاء للآخرين هم أيضاً من القيم القوية دون نسيان أهمية التربية على الخير العام. وهذا ما نراه اليوم لدى العديد من الشباب الذين يقومون بجهود لا تُقدر من أجل مساعدة المحتاجين والمتضررين من حوادث اليوم. فما الذي يحتاج إليه شبابنا اليوم لينظروا إلى الحياة، إلى حياتهم بصفاء وشجاعة؟ بدون شك هم بحاجة كبيرة للمثل الذي يقدمه لهم البالغون المناضلون والسعداء بانتصاراتهم الصغيرة التي تمت بسبب جهودهم المبذولة.
هل الشجاعة أمر مُكتسب؟
بشكل عام نحمي أطفالنا بطريقة مُبالغة. وباسم أمنهم العاطفي، والذي نعلم إلى أي حد هو مهم ولا بدّ منه، نُجنّبهم المخاوف والمخاطر. أو على الأقلّ نحاول تحقيق ذلك. تخفيف الخطر إلى درجة الصغر أصبح هوس العديد من الأهل. «لدي الشعور بأنني مهما عملت لا أحمي أطفالي كما يجب؛ عندما يكونوا أطفالاً هذا أمر طبيعي ولكن في سن المراهقة أكتشف مخاطر جديدة تلزمني بتحذيرهم واستمراري في حمايتهم» تقول إحدى الأمهات. كثير من الأمهات تعتقد بأن المخاطر والصعوبات التي يتعرض لها شباب اليوم هي أكثر أهمية من التي واجهوها هم عندما كانوا في سنهم. فهل أصبح العالم أكثر خطورة من السابق وبالتالي يتطلب جواباً أقوى وجهوداً نوعية؟ من الصعب الجواب على هذا السؤال. على مرّ السنين بعض المخاطر والعصوبات تختفي لتظهر مكانها أنواع أُخرى. كاستعمال وسائل النقل أو اختيار نوع الدراسة أو الدخول إلى ساحة العمل الخ.
إنّ أهمية «المعركة» تختلف بحسب الظروف والأماكن. ما هو مصدر خطر في مكان قد لا يكون هكذا في مكان آخر، بما فيه مساعدة الطفل على التغلب على مخاوفه ومن أجل مواجهة أفضل لمخاطر الحياة. مثلاً بالنسبة للهاتف الخليوي: قد يكون مصدر أمان: « إذا وقعت في مشكلة يمكنني الاتصال مع أهلي»، كما قد يكون مصدر خطر: «إذا كنت أقود دراجتي أو سيارتي يمكنني الاتصال بصديقي/ صديقتي».
مهما كان الأمر، تبرير الموقف الحامي بطريقة زائدة للأهل بسبب وجود مخاطر وصعوبات يواجهها الطفل هو موقف غير سليم. لأنه إن كان من واجب الأهل أن يحموا أبنائهم، عليهم أيضاً وخاصة أن يُنمّوا لديهم إمكانية التغلب على مخاوفهم. والإنسان الشجاع هو الذي يعي وجود الخطر أو الصعوبة التي عليه التغلب عليها دون أن يقع في الشلل بسبب الخوف والشعور بالعجز.
إنّ حقل التمرس هنا كبير، على قدر المخاوف التي تهاجمهم عندما يواجهون صعوبات ومحن الحياة. لاشك أن الطفل يحتاج إلى الشجاعة ليقبل النوم في غرفة جديدة أو عندما لا تكون أمه حاضرة لتطمئنه! كما يحتاج المراهق إلى جرعة قوية ليثبت اختلافه في بعض الحالات. كما هو حال العديد من الشباب، لكي لا يستسلموا، أمام «السير الذاتية» التي تتراكم دون جواب، أو أمام المرض الذي قد يقضي على مستقبلهم! كيف يمكننا مساعدتهم ليكونوا أقوياء ومصممين على الحياة؟
في الحقيقة الشجاعة تُكتسب في كل سنّ وبنفس الطريقة. فالموضوع هو خوض المعركة ضد الذات، ضد جزء من الذات الذي يخاف وليس لديه الرغبة بالقيام بما هو ممّل برأيه، ويخاف الموت ولا يجرؤ على مواجهة نظرة الآخرين أو الألم النفسي. ولكن علينا الانتباه إلى أهمية الناحية النفسية في هذه المعركة الداخلية. من المهم جداً تجنب الأهل الذين يرغبون في جعل أبنائهم شجعان، باللعب على الوتر الوحيد للخير والشر. كما تقول إحدى السيدات: «غالباً، في أغلب الأحيان، كان أهلي يقولون لي: أنت بالفعل لست شجاعة. ولم أكن أفهم معنى كلمة شجاعة. كانوا يلقنونني باستمرار دروس في الأخلاق: ليس من الجيد أن تتركي نفسك هكذا، أن لا تقومي بالجهود اللازمة، أن تبكي من لا شيء، لديك كلّ ما يلزم لتكوني سعيدة...».
إعادة اكتشاف أهمية الشجاعة: هذه المرأة التي، بعد اجتيازها للعديد من المحن ككل إنسان، أصبحت سيدة كبيرة سعيدة وجريئة في العديد من المجالات: السفر والالتزام السياسي وفي الجمعيات بالإضافة إلى التكوين الثقافي، هذه السيدة لم تكن في طفولتها سوى مجرد فتاة صغيرة خجولة، هشة، قلقة وثقتها بنفسها ضعيفة... كل ما يلزم لكي تقع أمام صعوبة صغيرة لكونها لا تملك القوة اللازمة في داخلها لكي تنهض بنفسها.
فالطلب من الطفل أن يكون شجاعاً لا يفيد بشيء في الواقع. أكثر ما يحتاجه الطفل أمام الصعوبة هو التشجيع والدفع إلى الأمام. تشجيع الطفل يعني أن نُظهر له ثقتنا به وبإمكانياته للتغلب على العقبات، وخاصة توجيهه باتجاه غناه الداخلي الذي يساعده على الثقة بنفسه. ولكن أيضاً هذا يعني أن ندربه وننشئه على القيم الأخلاقية والروحية التي يستطيع أن يسند عليها جهوده. لأنه تقريبا في كل حالات الشجاعة الحقيقية والمُشرّفة، تقوم هذه المعركة ضد الذات باسم القيم الأخلاقية القويّة. هذه هي حال الإطفائي الذي يتصرف بشجاعة باسم انقاذ الآخر، والجندي الذي يتغلب على خوفه من الموت باسم الدفاع عن الحرية والعدالة، والمسؤول السياسي الذي يخاطر بمهنته ليخدم الخير العام، وحال مَن تآكله المرض ويناضل بشجاعة ضده.
فما هي القيم اليوم التي تخدم وتلعب دور العتلة في جهود الشباب؟ لابد من إعطاء شباب اليوم معنى الشرف والفخر، مع تحذيرهم من مخاطر الانحراف باتجاه الاحتقار والعنف. لاشك أن المكافأة التي تعني الاعتراف، من قبل الآخر، بالجهود المبذولة هي الطريق الطبيعية للتشجيع. هنا يمكن التذكير بالمكافأة التي تُعطى في العديد من الانشطة الاجتماعية والدينية والرياضية والمدرسية الخ.
إنّ التضامن والعطاء للآخرين هم أيضاً من القيم القوية دون نسيان أهمية التربية على الخير العام. وهذا ما نراه اليوم لدى العديد من الشباب الذين يقومون بجهود لا تُقدر من أجل مساعدة المحتاجين والمتضررين من حوادث اليوم. فما الذي يحتاج إليه شبابنا اليوم لينظروا إلى الحياة، إلى حياتهم بصفاء وشجاعة؟ بدون شك هم بحاجة كبيرة للمثل الذي يقدمه لهم البالغون المناضلون والسعداء بانتصاراتهم الصغيرة التي تمت بسبب جهودهم المبذولة.
الحب والحقد
الحب والحقد موضوع مهم للغاية لأنه يلمس مجمل الحياة الإنسانية. إنهما يعبران عن حقيقة الحياة العاطفية، بالمعنى الشامل للكلمة، لابل يعبران عن الإنسانية الطبيعية إن صح التعبير. هذه الظواهر الإنسانية العاطفية لها مصدرين أساسيين: إنهما النزوتين البدائيتين لدى الإنسان: الجوع والحب. بمعنى آخر نزوة حفظ الذات والنزوة الجنسية. حياتنا بشكل عام هي في خدمة موضوع واحد ذو وجهين متلازمين: تأمين وسائل استمرارية الحياة وبالتالي الحصول على اللذة. هذه الأهداف تثير لدى الإنسان عواطف عميقة جداُ قد تكون بناءة للغاية وقد تكون خطيرة لدرجة كبيرة. ولهذا السبب نقول بأن التحدث عن العلاقة والتداخل العميق بين كل من نزوة حفظ الذات، اللذة، الحب والحقد يعني بكل بساطة وصف كل ظواهر الحياة الإنسانية.
بشكل عام نقول بأن الحقد هو قوة هدامة تسعى باتجاه الحرمان والموت، بينما الحب هو قوة تناغم ووحدة تسعى باتجاه الحياة واللذة. ولكن ارتباط العدوانية بالحقد هذا لا يعني أنها بالضرورة هدامة ومؤلمة بشكل كلي (كلنا نعلم أن العدوانية مهمة للإنسان لأنها وراء دينامية الإنسان الحياتية واليومية، تجعله يُثبت ذاته ووجوده مقابل
الآخرين وتسمح له بالدفاع عن ذاته عند الضرورة)، بالمقابل الحب المرتبط عادة بالرغبة بامكانه أن يكون عنيفاً وعدائياً لا بل هداماً أيضاً ( القول الشعبي يقول ومن الحب ما قتل).
ففي الحياة الهدف الأساسي هو الحياة، أي أن يحيا الإنسان ويحيا حياة ظريفة جيدة ومريحة. ولكن لكي يصل إلى تحقيق هذا الأمر يسعى للتخلص من كل ما هو هدام بداخله وبطرق عديدة لكي يصل في النهاية إلى تأمين الأمان وبالتالي اللذة في حياته. والمخرج الذي يجده الإنسان هو بشكل عام نتيجة التداخل بين قوة الحقد وقوة الحب من جهة وتأثير المجتمع من جهة أخرى.
العدوانية: من المعترف عليه أن العدوانية موجودة لدى الإنسان وأغلبية الحيوانات، غريزة العدوانية أقله للدفاع عن الذات. هذه العدوانية تعتبر طبيعية وموجودة ضمن الطبيعة الإنسانية إن صح التعبير. يكفي أن نراقب وضع الأطفال كيف يحاولون السيطرة على بعضهم البعض والدفاع عن الذات في نفس الوقت، كما يكفي أن نتأمل قليلاً في وضع البشرية بشكل عام لكي نفهم هذه الناحية البشرية. ولكن بالإضافة لتلك الظواهر الخارجية كلنا نختبر وجود الطبع السيئ، الحسد، الغيرة،الخ وكلها تعبر عن هذه الناحية: العدوانية. وكلنا نعلم، حتى ولو لم نعترف، أنها موجودة في داخلنا، وأغلبية المشاكل والصعوبات في العلاقات البشرية تعود لهذا الأمر. ممَّا يجعلنا نصرف الكثير من الوقت لتصحيح النتائج السلبية لهذه الأمور.
فالنزوات العدوانية، القاسية والأنانية، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باللذة والإرضاء، مع وجود شيء من الجاذبية التي لا تقاوم والإثارة القوية التي ترافق إرضاء وتلبية هذه النزوات. مثلاً كلنا نختبر اللذة الجامحة أو على الأقل الابتهاج الذي يرافق الإنسان الذي يقوم بملاحظة قوية أو جارحة أو كما نقول في اللغة الدارجة «يضع الآخر في خانة اليك». مشاهدة أفلام عنف، سماع قصص شنيعة ومرعبة، حوادث، بعض أنواع الرياضة الخ كلها تولد لدى الإنسان شيء من الإثارة وخاصة لدى من لم يتعلم كيف يحول باتجاه آخر هذه النزعة لديه. فالتغلب على بعض الصعوبات، الاستمرار في المسيرة الشخصية، كلها حالات تترافق، لدى العديد من الناس، بشيء من التمجيد وتواد اللذة. هذه اللذة التي قد ترتبط بسهولة بنزوات عدوانية تبين لنا قوة هذه الأخيرة التي ليس من السهل مقاومتها. ولكن بالمقابل نعلم جيداُ أن هناك بعض أشكال العدوانية تلعب دوراً مهماً للغاية في النضال من أجل البقاء.
في كل ما يمس العمل، وفي اللذة أيضاً، هناك نوعية معينة من العدوانية لدى الإنسان (وجود إنسانية عالية) لا تسمح له بأن يفرض وجوده. وكذلك الأمر في حالة العدائية. في النهاية نقول بأن نزوات حفظ البقاء ونزوات الحب، إن أردنا تلبيتهم لا بد لهم من القليل من العدوانية، فالعدوانية حاضرة، وهي جزء لا يتجزأ من هذه النزوات التي نتحدث عنها، عندما تعمل في الحياة اليومية.
بالرغم من معرفتنا بوجود نزوات أو مشاعر عدوانية بداخلنا ولدى الآخرين، فإننا ننكر هذه الحقيقة أو على الأقل لا نعطيها قيمتها بل نخفف كثيراً من أهميتها. بشكل عام وكوسيلة دفاعية نبعد قدر المستطاع هذه الأمور عن مساحة نظرنا لنخفف من الخوف الذي قد تولده في أعماقنا هذه الأمور ولكن دون أن يعطي هذا الابتعاد أي فوائد ملموسة. وبالتالي التحليل النفسي بين لنا بوضوح نتائج هذه الأمور علينا، نتائج ذات معنى، أكثر أهمية وأكثر ديناميكية مما نعتقد عامة.
في العديد من الحالات نلاحظ وجود هذه المشاعر لدى أناس ليسوا مسرورين ولا راضين عن حياتهم بشكل عام. سواء لعدم استطاعتهم الحصول على بعض الأمور الضرورية أو تحقيق لذة معينة فيعيشون الشعور بالحرمان. بالطبع كلنا نعلم أن محاولة سرقة أو اعتداء أو ما شابه كلها تولد لدى الإنسان العدوانية. بالإضافة أيضاً إلى الشعور بالحرمان بشكل عام سواء اقتصادي أم نفسي، أو علاقة تبعية بالنسبة للمحيط يعيشها الإنسان على أنها خطرة لكونها قد تولد الحرمان، كلها تحيي لدى الإنسان مشاعر العدوانية.
هنا علينا التنويه لأمر مهم جداً: في حياتنا اليومية نعيش ونختبر جميعاً بطرق متعددة علاقات تبعية: هذه الحالة هي بكل بساطة اسمها الحب. هنا الرغبة هي التي تربطنا بالآخرين. من الواضح جداً في هذه الحالة أن تبعيتنا لهم هي شرط أساسي في الحياة وفي كل نواحيها أو أوجهها: أكانت الرغبة في البقاء أو حفظ الذات، سواء كانت نزوات الجنس أو البحث عن اللذة. هذا يعني أنه في الحياة اليومية والطبيعية، المشاركة، والانتظار، التخلي عن شيء ما من أجل الآخرين هم ضروريين لدرجة ما. وبالرغم من أن هذه الأمور قد تكون ضرورية من أجل الأمان العام في المجتمع، فمن الممكن أن الأمان الفردي يشعر ذاته مهدد وفي خطر. لهذا السبب العلاقات التبعية تحيي لدى الإنسان المقاومة والشعور بالعدوانية.
هذه الأمور، نرى جذورها في الطفولة الأولى حيث يختبر الرضيع تبعيته لأمه لدرجة أنه يشعر بالخطر ويصبح عدوانياً ويحقد أيضاً على الأم في حال تأخرت على تلبية رغباته بكل أشكالها. إنها الخبرة الأولى لنا للموت أو لما يشبه الموت، إنه اختبار إلغاء الوجود. هذه الخبرة تسمح للإنسان بأن يعي الحب (تحت شكل الرغبة) والاعتراف بالتبعية (تحت شكل الحاجة) ومعها شعور بالألم وبالخطر وبالتهدم الداخلي والخارجي.
الحقد، والعدوانية، الغيرة، والرغبة في التملك، كل هذه المشاعر التي نعيشها نحن البالغين ونعبر عنها، تعود إلى هذه الخبرة الأولى للرضيع ولضرورة السيطرة عليها في حال أردنا الاستمرار في الحياة والحصول على بعض اللذة في ومن الحياة.
الإسقاط: أول وسيلة يستعملها الإنسان لضمان الأمان في حياته وبالتالي لإبعاد المشاعر السلبية أو السيئة من داخله (الألم، الخوف من الاعتداء، أو الخوف من العجز الخ) هي الإسقاط. بفضل هذه الآلية، كل المشاعر التي يعيشها الإنسان على أنها مؤلمة أو سيئة تلفظ إلى الخارج؛ فيفترض أنها موجودة خارجاً عنه. بشكل عام نشجب هذه المشاعر، ونرفضها على أنها نابعة من أعماقنا؛ فنتخلص منها بإسقاطها على آخر «مثلاً أحقد وأضطهد أحد ما فأقول إنه هو من يحقد عليَّ ويضطهدني». وبقدر ما نعترف بوجودها بداخلنا، نقول لأنفسنا بأنها أتت من الخارج وعليها أن تعود من حيث أتت. دون شك هذه هي ردة الفعل الأولى والأكثر عفوية لدى الرضيع، وهي التي تبقى لدينا نحن البالغين، مع الفارق أنه باستطاعتنا، ولكن فقط ضمن حدود معينة، أو نخفف من أهميتها في حياتنا وتصرفاتنا لكوننا نصبح أكثر واقعية ومنطقية.
في الحياة اليومية المثل الذي نصادفه في أغلب الأحيان هو من خلال العبارة التي تتكرر كثيراً :« وأنت أيضاً». عندما يطلق علينا إنسان ما صفة معينة سلبية ردة فعلنا تكون بشكل شبه سيستيماتيكي :«وأنت أيضاً». ولكن هناك أمثلة أبسط وبدون أي استفزاز مثلاً الإنسان الذي يرى أخطاء الآخرين ولا يراها فيه « ألم يقل لنا المسيح أنظر إلى الخشبة التي في عينك قبل أن تنظر إلى القذى في عين أخيك؟». كل ما يعيشه الإنسان في العمل اتجاه من يشغل عمل لا يشغله هو. لدينا أيضاً مثل قيادة السيارات الخ.
فالعملية تتم على مرحلتين إن صح التعبير: أولاً نؤمّن ذواتنا ضد الخطر الخارجي بفعل الإسقاط الذي تحدثنا عنه، والخطوة الثانية تكمن في تحرير عدوانيتنا بشكل دفاعي ضد هذا الخطر الهدام: فالعدوانية الأولى والتي تشكل خطراً قد تم طردها من الذات وحدد مكانها على أنها سيئة للغاية، ثم يتحول من أسقطت عليه هذه المشاعر إلى هدف تفرغ فيه العدوانية التي تتشكل فيما بعد. فالعدوانية والحقد الذين «يغليان» بداخلنا نشعر باستحالة السيطرة عليهم. ولدى خبرتنا الأولى بها نعتقد أنها تنفجر بأعماقنا. كما أنه فيما بعد نرى بعض الناس يعيشون مثلها ولا يستطيعون التفكير بأمور بسيطة بديهية. ونحن في حياتنا اليومية نعتقد أنه لا يجب أن تمسنا هذه الأمور وبالتالي علينا أن نفرغ بسرعة هذه العدوانية وذاك الحقد في مكان آخر. فالطفل الذي يحقد بدرجة كبيرة إنسان يحبه، نراه يضرب طفلاً آخر أو يفرغ عدوانيته ضد لعبته المفضلة. موظف يحمل الحقد ضد مديره في العمل يضرب امرأته… هذا ما نسميه بآلية كبش الفداء.
هذه الأعمال العدوانية تشكل (بشكل خاص بالنسبة للاوعي) طرق غير خطرة إلى حد ما لتفريغ الحقد والرغبة في الانتقام، والذي يعتبر تعبيرها الأول الرغبة في سرقة أو هدم الإنسان الذي نرتبط به أي نعيش معه علاقة تبعية. هذا الإنسان هو أيضاً أو يمكن أن يكون الإنسان المحبوب والمرغوب. بهذه الطريقة نقسم الآخرين إلى قسمين: الجيدين والسيئين. هناك من يعجبوننا ونحبهم وهناك من لا نحبهم ونكرههم؛ نحاول هكذا أن نعزل ونحدد كل من الحب والحقد ونمنعهم من أن يتداخلوا ببعضهم البعض.
التشتت أو التوزيع: هذه الآلية تسمح لنا بأن نعي أهمية عامل التوزيع في حياتنا العاطفية، عامل توزيع كل من الحب والحقد. هذه الأهمية هي عينها في كل مجالات الحياة الإنسانية. الحقد موزع بحرية أكبر من الحب لكنه مكبوت أكثر في جذوره بأعماقنا ويفلت عادة من السيطرة بدرجات مختلفة. والسبب هو أنه جزء كبير من نزوات العدوانية، لدى الناس الطبيعيين والمتزنين إلى حد ما نفسياً، مستعمل بداخلهم إمّا للمقاومة وإمّا للتحكم ولتنظيم كثافة وهدف كل الانفعالات والعواطف سواء كان مصدرها الحب والرغبة في الانسجام، أم كان مصدرها روح الانتقام والهدم.
هذه الطريقة الأساسية للتوزيع ولتحديد المشاعر الخطيرة لها نتائج متنوعة وعديدة. فالطفل عندما يغضب ويتألم من الرغبة في الخراب، يشعر بأن العالم الخارجي، أي قبل كل شيء، أمه، تعيش المشاعر عينها من الغضب والألم. فهو يلحظ هذه المشاعر السيئة بداخله كما لو أنها من أمه، وليس على أنها منه. وبالتالي هذه المشاعر الجيدة والسيئة تساهم بدرجة كبيرة بتكوين أفكاره عن العالم الخارجي، وعن ما هو جيد أو سيئ فعلياً في محيطه. ولكن قد يحدث أن ما هو جيد قد يراه على أنه سيئ وبالعكس، وبطريقة كلية مما يجعل مستحيلاً المحافظة على معنى حقيقي للواقع. هذا ما يحدث في حالة الجنون. كما أن هذه الضرورة الجوهرية في تحديد (مكانياً) لدى الإنسان الأكثر محبوباً والأكثر مرغوبا، الأشياء السيئة والمؤلمة،ً قد تذهب إلى أبعد مما تؤدي إلى رفضه والتحييد عنه. هذا مثل عن الصعوبات الكبيرة التي قد تنشأ في هذه المرحلة.
الرفض: التحييد إلى حد ما عن شيء مرغوب لكي نجده بسهولة أكبر في مكان آخر، هذه آلية أخرى أساسية للنمو النفسي. من وجهة النظر النفسية، لا وجود للنمو دون العبور بشعور من عدم الرضا عن حليب الأم، عن ثديها، وعن البيبرونة. بانعطافنا عن أهدافنا وبتقسيم هذه الأهداف وبتوزيعها في مكان آخر، الحاجات النابعة من الجوع والرغبة الجنسية تنفصل عن الأم. شيئاً فشيئاً، يتم إيجاد الطعام الذي يبحث عنه في مكان آخر من أجل الجسد ومن أجل لذة الطعام والشراب؛ كذلك الأمر بالنسبة للذة التي انعطفت عن الأم سيتم اكتشافها في مكان آخر.
في الحالات الطبيعية، عملية الانفصال عن الأم بطيئة وتدريجية؛ ولكن قبول البديل عنها وعن ثديها، حتى لدى الرّضع، قد يتطور بطريقة مفاجئة ومرضية. رفض الأم المباشر جداً مع شيء من الشعور باليأس، بالإضافة إلى عدم التقدير،- يكون له نتائج بعيدة- لكل الأشياء المحبوبة والمرغوبة. لدى بعض الأشخاص، عدم التقدير هذا قد يكون أساس عدم الثقة بما هو جيد مما يدفعهم على للحذر مما يجدونه جيداً وتجنب الأشياء الجيدة. بالمقابل، خيبة الأمل وروح الانتقام يدفعهم لجرح وهدم هذه لأن الحقد والرغبة في الانتقام قد يرافقون عملية الانعطاف عن الأشياء المحبوبة بقوة.
عدم التقدير والاحتقار:
الحب وآليته
الموضوع الأول لحب الرضيع، كموضوع حقده الأول هو في النهاية الأم. فهي مرغوبة ومحقود عليها بنفس القوة التي يعيش فيها حاجاته البدائية. في البداية يحب أمه في اللحظة التي تلبي فيها حاجاته. ولكن عندما لا تلبى هذه الحاجات تنقلب الحالة عكسياً: فالعدوانية والحقد يظهرون على الساحة. فالرضيع يصبح مسكون إن صح التعبير بمشاعر أو بميل لهدم الأم والتي هي موضوع كل رغباته ومرتبطة في أعماقه بكل ما يختبره من مشاعر: جيدة أم سيئة. كما أن الحقد والعدوانية هما، على ما يبدو، وراء آلام يعيشها الرضيع أو الطفل: صعوبة التنفس أو الاختناق وغيرها من المشاعر المشابهة، والتي يعشها على أ،ه هدامة له وبالتالي تقوي العدوانية، والحزن والخوف.
فتلبية رغبات الرضيع من قبل الأم هي الوسيلة المباشرة والجوهرية لتهدئة وتخفيف هذه الحالات المؤلمة من الجوع والحقد والخوف. وبالتالي الشعور المؤقت بالأمان الناتج عن التلبية هذه يرفع كثيراً الشعور بالرضى والاكتفاء. هكذا نلاحظ أن الشعور الطمأنينة والأمان يصبح، في كل مرة يشعر فيها الإنسان بأنه محبوب، عنصر مهم للشعور بالاكتفاء والرضى.
عدم التلبية يفتح الباب أمام الرضيع لعمل المخيلة: فهو يستطيع مثلاً أن يتخيل بأن ثدي الأم هنا ويرضع منه في الوقت الذي تكون فيه الأم بعيدة عنه. فالتخيلات الجيدة تترافق أيضاً مع التلبية الحقيقية لرغباته، بينما التخيلات السلبية أو الهدامة فهي مرتبطة بالشعور بالإحباط وبالعدوانية والحقد الذات تنتجان عنه. عندما يشعر بالإحباط اتجاه الثدي، فهو يهاجم الثدي بالمخيلة بالطبع؛ وفي حال كانت التلبية فهو يحب الثدي ويترافق هذا الشعور بتخيلات إيجابية. في تخيلاته العدوانية يريد الرضيع أن يعض ويمزق الأم والثدي معاً وأن يهدمهما بطرق أخرى.
هذه التخيلات تولد تخيلات من نوع آخر: تخيلات إصلاحية. الرضيع إذا شعر أنه آلم أمه وهدمها فإنه سوف يسعى لإصلاح الأمر وإعادة القطع إلى بعضها البعض. ولكن هذا الإصلاح لا يلغي بشكل كلي شعوره بهدم الموضوع الذي يحبه جداً وبحاجة ماسة إليه.
الشعور بالذنب اللاواعي: هذا الشعور يولد أيضاً لدى الرضيع الشعور بالذنب. شعور لا واعي بالطبع. هذا الشعور نختبره نحن البالغين أيضاً في حال عشنا شيء من الحقد اتجاه إنسان نحبه. وبما أن هذا الشعور مؤلم وصعب جداُ، نحاول إخفاءه، رميه وراءنا. ولكنه يعبر عن ذاته بطرق عديدة ومختلفة ويشكل صعوبة في علاقاتنا الشخصية. مثلاً هناك أشخاص يتألمون كثيراً في حال لم ينالوا رضى الآخرين حنى ولو لم يكن لهم من علاقة معهم أن أية معرفة بهم. والسبب هو أنه في اللاوعي لديهم، لا يستحقون اعتبار الآخرين، واستقبال «بارد» أو متحفظ يؤكد لهم مشاعرهم. وهناك من (لأسباب غير موضوعية) غير مسرورين من أنفسهم: يعطون أسباب متنوعة ومختلفة جداً، مثلاً شكلهم، عملهم أو إمكانياتهم بشكل عام الخ. بعض هذه المظاهر معروفة جداً وتصنف بشكل عان تحت اسم «الشعور بالنقص».
والتحليل النفسي أثبت أن هذا النوع من المشاعر هو أعمق بكثير مما نعتقد بشكل عام وهم دائماً مرتبطين بشعور لاواعي بالذنب. فالأسباب التي تجعل الناس بحاجة ماسة للمديح والشكر من قبل الآخرين، يعود إلى حاجتهم للبرهان بأنهم محبوبين وأنهم يستحقون أن يحبوا. هذا الشعور يأتي بدوره من خوفهم اللاواعي بأن يكونوا غير أهل بأن يحبوا كما يجب وبشكل خاص يأتي هذا الشعور من عدم إمكانيتهم السيطرة على نزواتهم العدوانية اتجاه الآخرين: يخافون أن يكونوا خطرين على الإنسان الذي يحبونه.
الحب والصراعات مع الأهل: الأوديب ومشاعر الحب والحقد في آن معاً.
البنت تحب أباها وتريد أن تأخذ مكان أمها بالقرب منه. إنها تغار من أخوتها وتريد أن يعطيها أبوها أطفالاً لها. هذه المشاعر وهذه الأمنيات وتلك الخيالات تترافق بمنافسة، وبعدوانية وبحقد اتجاه الأم، بالإضافة إلى كل ما عاشته من إحباطات بخصوص الثدي.
ومع ذلك في عمق البنت، هناك خيالات (هواميات) ورغبات جنسية تبقى حية وموجهة باتجاه الأم، وبتأثير منها ترغب أيضاً أن تأخذ مكان والدها بالقرب من أمها. قد يحدث أن تتطور هذه المشاعر أكثر من رغباتها باتجاه والدها. وهكذا نرى بالقرب من الحب الموجه باتجاه الأبوين، هناك أيضاً وفي نفس الوقت منافسة باتجاههم. هذا المزيج سوف يظهر في العلاقة مع الأخوة والأخوات. فالرغبات والخيالات المتعلقة بالأم وبالأخوات سيكونون فيما بعد أساس العلاقات المثلية.
كذلك الأمر بالنسبة للصبي الذي يعيش مشاعر جنسية وتناسلية باتجاه الأم ومشاعر حقد باتجاه الأب المعتبر على أنه خصم. ولكن لدى الصبي أيضاً مشاعر جنسية تناسلية باتجاه الأب مما يشكل أساس العلاقات المثلية في المستقبل. هذه الحالات تؤدي إلى صراعات عديدة لأن البنت بالرغم من أنها تكره أمها فهي تحبها أيضاً؛ كذلك الأمر الصبي يحب أباه ويريد أن يحميه من نزعاته وميوله العدوانية. بالإضافة إلى أن الموضوع الأساسي للرغبات الجنسية : الأم لدى الصبي والأب لدى البنت، تحيي لديهم حقد وانتقام لأن هذه الرغبات لم يتم إرضاؤها.
كما أن الطفل غيور بالعمق من أخوته وأخواته بمقدار ما هم منافسين في الحب الأبوي. إنه يحبهم أيضاً وهكذا تظهر من جديد الصراعات العنيفة بين النزوات العدوانية والحب.
هذه الصراعات تولد شعور بالذنب وهنا أيضاً، أمنيات بالقيام بتصرفات جيدة وإيجابية. هذا الخليط من المشاعر له نتائج مهمة ليس فقط في علاقاتنا مع أخوتنا وأخواتنا، ولكن أيضاً، وبما أن علاقاتنا مع الآخرين تبنى بنفس الطريقة، مواقفنا الاجتماعية، مشاعرنا من حب وذنب.
الحب والشعور بالذنب والرغبة في الإصلاح:
كما سبق وقلت، كجواب على حب وعناية الأم، تتولد، بشكل عفوي مباشر لدى الرضيع مشاعر الحب والامتنان. فلديه توجد مشاعر أو ميول هدامة، وفي نفس الوقت قوة الحب، قوى تسعى للحفاظ على الحياة. فالتعبير الأول للحب لديه يظهر من خلال تعلقه بثدي الأم، الذي يتحول لاحقاً إلى حب لشخصها. والخبرة تبين لنا أنه عندما تستيقظ لدى الرضيع كل من مشاعر الحب والحقد، وعندما يظهر قلق فقدان الشخص المحبوب (الأم)، تتحقق خطوة مهمة باتجاه النمو. تتدخل آنذاك مشاعر الذنب والقلق، بصفتها عنصر جديد في الحب. وتصبح جزء لا يتجزأ من الحب الذي تؤثر فيه نوعاً وكماً.
كما أننا نلاحظ لدى الطفل الصغير قلق باتجاه الأم التي ليست مجرد علامة تبعية اتجاه شخص صديق محبوب مساعد. في اللاوعي لدى الطفل ولدى الإنسان البالغ، وإلى جانب النزوات الهدامة، هناك حاجة عميقة للتضحية بالذات من أجل إصلاح الأشخاص المحبوبين والذين أساءنا إليهم أو هدمناهم خيالياً. فالحاجة لإسعاد الناس مرتبطة في أعماقنا الإنسانية بشعور قوي بالمسؤولية وبالقلق اتجاههم، هذا الشعور يظهر، يعبر عن ذاته تحت شكل التعاطف الحقيقي معهم وجاهزية فهمهم كما هم.
التماهي والإصلاح: أن نكون خيرين هذا يعني أن نكون قادرين أن نضع أنفسنا مكان الآخرين، أن نتماهى معهم. هذه القدرة على التماهي مع شخص آخر تعتبر من أهم العناصر في العلاقات الإنسانية بشكل عام. إنها في نفس الوقت شرط أساسي لحب حقيقي وكثيف. إذا كنا قادرين على التماهي مع الشخص المحبوب، فلا يمكننا إلاَّ أن نهمل، وفي بعض الحالات أن نضحي بمشاعرنا ورغباتنا وأن نعطي الأولوية، لفترة زمنية معينة، لمصالح ومشاعر الآخر. وبما أنه بتماهينا مع الآخرين نشاركهم المساعدة والرضى الذين قدمناها لهم، فبذلك نربح أن صح التعبير ما ضحينا به (الأم التي تهتم بمنزلها). بهذه الطريقة نلعب دور الأهل إلى حد ما. نتصرف كما كنا نشعر ما يقوم به أهلنا عندما كنا أطفالاً – أو كما كنا نتمنا أن يتصرفون. ولكن في نفس الوقت، نلعب الدور الذي كنا نتمنا أن نلعبه في الماضي، دور الطفل الجيد اتجاه أهله، دور نلعبه الآن في الحاضر. بهذه الطريقة ومن خلال انعكاس الحالة، أي بتصرفنا اتجاه الآخر كأهل جيدين، نخلق مجدداً ولكن وهمياً، أو خيالياً، الحب والطيبة التي تمنيناها لدى أهلنا وتمتعنا بها ولا نزال. بالمقابل، التصرف مع الآخرين كالأهل الجيدين، قد تكون طريقة للتخلص من الاحباطات وآلام الماضي. الشعور بالغيظ اتجاه أهلنا لأنهم حرمونا، الحقد والرغبة في الانتقام الذين ولدوا من هذا الشعور بالغيظ، الشعور بالذنب واليأس النابع من هذا الحقد وتلك الرغبة في الانتقام – لأننا أسأنا لأهل نحبهم – كل ذلك ممكن إلغاؤه خيالياً لكوننا نلعب دور الأهل الجيدين المحبين ودور الأطفال المحبين.
معرفة الذات والثقة فيها
طُلبّ منيّ التحدث عن موضوع معرفة الذات. لذلك، بداية أقول أنه مجرد طلب الموضوع هذا يعني أننا لا نعرف أنفسنا. أليس من الغريب أن لا نعرفها؟ ولماذا لا نعرفها؟ ما الذي يمنعنا من معرفتا لذاتنا؟ وكيف يمكن أن نعرفها؟ وقبل كل شيء هل من الضروري أن أعرف ذاتي؟
أن لا أعرف ذاتي، هذا يعني أنني غريباً عنها وهذا أمر منطقي جداً. لا يمكنني أن أكون سعيداً
وأنا غريب عن ذاتي. حتى الغربة الخارجية، أي عندما يضطر الإنسان للاغتراب ومهما انخرط في المجتمع الجديد يبقى غريباً وبالتالي يعيش في حنين مستمر لمجتمعه الأم وبالتالي لا يكون سعيداً، إلاَّ في حالات نادرة والتي غالباً تتم عندما يهاجر الإنسان وهو في سن صغير إلى حدّ ما.
فالغربة عن ذاتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً في كل ما أعيشه: لا يمكنني أن أجد معنى لحياتي، وقراراتي كلها لن تكون صحيحة، لأن القرار الصحيح، بالطبع كل شيء يبقى نسبي، أي لا وجود لقرارات صحيحة كليّة، ينبع من معرفة الذات بمعنى أخر، القرار الصحيح هو وسيلة من بين الوسائل ولا شك، لكنه وسيلة مهمة جداً لتحقيق ذاتي وبالتالي لأجد المعنى لحياتي ووجودي. فهل يمكنني أن أحقق ما لا أعرفه؟
إذن معرفة الذات أمر ليس فقط مهم بل حيوي وحياتي. فمسيرة الإنسان الإنسانية والنفسية والعاطفية هي مسيرة من الذات إلى الآخر، ومن اللاتمييز إلى الهوية الشخصية. من الذات إلى الآخر، أي أنه لا يمكنني أن أعرف ذاتي خارجاً عن الآخر وسوف نرى ذلك لاحقاً.
إذا قبلنا بأهمية معرفتنا لذاتنا، فالسؤال، ما الذي يمنعني من معرفتي لذاتي؟ حتماً الأسباب عديدة ولكن سوف أتوقف معكم على الأهم منها. بشكل عام التربية لها دور كبير في هذا المجال. إنَّ تربيتنا بشكل عام غير تشجيعية، ولا تساعد على خلق ونمو الثقة بالنفس التي ترتبط بطريقة أو بأخرى بمعرفة الذات. غير تشجيعية لكونها تركّز على اكتشاف سلبياتنا وسلبيات الآخرين والتوقف عليها ممَا يشلّنا، بينما المُفترض هو العكس، التدرب على اكتشاف الإيجابيات والسعي لتنميتها والتغاضي إلى حد ما عن السلبيات التي نعرفها عن ظهر قلب. بهذا المعنى أقول بأن أفضل طريقة لنقد الذات والآخرين هي التشجيع. بالطبع تشجيع الإيجابيات الموجودة لديه.
قد يعترض البعض قائلاً بأن هذه الطريقة ستقود حتماً إلى التكبّر (بخاف إذا عملت هيك يكبر راسي)! نجيب بأنه طالما أعرف سلبياتي فليس هناك من خطر! أولاّ هذا الاعتراض هو في النهاية تعبير من خلال إيجاد التبرير اللازم لكي لا أواجه ذاتي وخاصة ما لا أحبه فيها. ثانياً، كل هذه الأمور تجعل من النادر ما يعيش الإنسان ذاته، من جهة لكونه لا يعرفها، ومن جهة أُخرى، وبسبب عدم ثقته بذاته، يسعى دائماً لإرضاء الآخرين والمجتمع. فيصبح الموضوع دائرة مغلقة لا بد من كسرها.
هذه النقطة مهمة للغاية. غالباً نعيش الآخرين والمجتمع ولا نعيش ذاتنا، وذلك لعدم ثقتنا بذاتنا. فنسعى دائماً لإرضاء الجميع ما عدا ذاتنا. نعتقد بذلك أننا نرضيها لكن في الواقع ما من شيء يرضيها سوى عيشنا لها بكل بساطة. أن أعيش ذاتي هذا يعني الوصول إلى انسجام معها، إلى أن أسكنها وهذا مصدر سعادتي الحقيقية، كما أنه يجعلني إنسان خلاّق، أي أن الهوّة بين كلامي وأفعالي تصبح ضئيلة جداً، وتكون أقوالي إلى حد لا بأس به، عمل.
إذا قبلنا بذلك يبقى السؤال: كيف يمكنني أن أعرف ذاتي بشكل أفضل؟ بداية السرعة في هذا الموضوع تعطّل العملية، لأنّ معرفة الذات تتطلب الكثير من الوقت نظراً لكل ما قلناه سابقاً وتغيير ما تربينا عليه ليس بالأمر السهل ولا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها. فلكي أعرف ذاتي عليّ بكل بساطة أن آخذ الوقت لكي أكون مع ذاتي. أحاول أن أقرأ تاريخي الشخصي دون توتر ولا خوف آخذاً بعين الاعتبار أن هذه العملية تأخذ مسيرة الحياة بمجملها ولهذا السبب قلنا بأن السرعة سيئة. قراءة تاريخي قد تأخذ الحياة بمجملها لأن لديّ دفاعات منها واعية ومنها لا واعية تمنعني من تذكّر الكثير من الوقت وإزالة هذه الدفاعات يتطلب الكثير من الوقت. هذه القراءة تضعني حتماً أمام أمور إيجابية وأُخرى قد تكون سلبية بقوّة.
هنا عليّ أولاً أن أقبل وأحبّ ذاتي كما هي متوقفاً على الإيجابيات، ولكن خصوصاً عليّ قبول سلبياتي وجروحات الماضي التي قد تكون كبيرة ولكن هذا أمر طبيعي، فما من أحد تاريخه أبيض كالثلج! عندما أقبل وأحبّ ذاتي كما أنا أتحرر من سلبيات وجروحات الماضي، أتجاوزها ولا تعود تعيق مسيرتي بشكل لا واع بالطبع. هناك طريقة أُخرى مهمة: خلال عشر دقائق لا أكثر أقوم بقراءة يومي دون السعي لأتذكر كل تفصيل فهذا يعيق العملية لا بل يوقفها بكل بساطة. هاتين القراءتين تجعلني أعرف ذاتي بشكل أفضل وكما قلنا تحررني.
النظرة الخارجية تكون دائماً أكثر موضوعية. لهذا السبب عندما آخذ بعين الاعتبار ما يقوله الآخر عن ذاتي يساعدني على فهمها بشكل أفضل. قد يبالغ الآخر فليكن! ولكن حتماً هناك الكثير من الصواب فيما يقوله عني وبالتالي من الضروري أخذه على مجمل الجد وهذا عامل مهم في معرفتي لذاتي. بينما في الواقع ردة الفعل المباشرة والعفوية أمام هذا الأمر تكون الدفاع والتبرير وهذا خطأ فادح.
إذا كنت مؤمناً فلا شك بأن الإنجيل إن عرفت كيف أقرأه يساعدني كثيراً في هذا المجال. هذا يعني أن الإنجيل يقول لي من هو الإنسان وأين أنا من إنسانيتي. فكل الشخصيات التي نراها في الإنجيل، بالرغم من وجودها تاريخيا، فهي في الوقت نفسه، وهذا هو المهم، تمثل مواقف أو ردود أفعال عشناها أو نعيشها أو سنعيشها لاحقاً. بهذه الطريقة الإنجيل هو عامل مهم في مسيرة معرفتي لذاتي. بالطبع الباب مفتوح لكل أنواع الوسائل المساعدة في هذا المجال وكل فرد يختار الوسيلة التي تناسبه.
باختصار، معرفة الذات تتطلب الوقوف مع الذات ومواجهتها بكل بساطة وصراحة ودون خوف. المهم أن أقبلها كما هي ساعياً لتنمية الإيجابيات على حساب السلبيات. وخصوصاً أن لا داعٍ مطلقاً للسرعة (ما حدا راكد وراي). نتيجة هذه المعرفة هي الانسجام مع الذات وهذا مصدر سعادة وفرح كبيرين، يجعل من أقوالي إلى حد لا بأس به عمل وأخيراً هذه المعرفة تقودني إلى الحرية. فالحرية الحقيقة، خلافاً لما نعتقده بشكل عام ليست الحرية الخارجية إنما الحرية الداخلية وبشكل خاص الحرية أمام سلبياتي وجروحات الماضي.
الأمراض النفسجسدية
موضوع الأمراض النفسجسدية موضوع يصعب التحدث عنه بوضوح وتأكيد لأنه لايزال قيد البحث. المختصين في هذا الميدان، بالرغم من أنه ليس بميدان جديد لكونه يعود إلى ما قبل العشرينات، هؤلاء المختصين لم يصلوا بعد إلى اتفاق وتحديد واضح لهذا الميدان، بالإضافة إلى تأخر دخول التحليل النفسي في مجال البحث. بشكل عام يمكننا القول بأن العلاقة بين النفسي والجسدي أكيدة والأمثلة عديدة جداً (الأمراض التي تمس الجهاز الهضمي والتنفسي، أمراض الحساسية وآلام الرأس). ولكن بأي شكل توجد هذه العلاقة
وكيف يمكن تحديدها، هذا أمر معقد ومن الصعب حصره. السؤال الأساسي المطروح في هذا المجال هو ذو وجهين:
* هل يمكن تحديد «بنية نفسية» وراء كل مرض نفسجسدي؟
* ما معنى كلمة أمراض نفسجسدية؟
هذين الوجهين للسؤال يعودان إلى ضرورة التمييز بين ما نسميه «بالاهتداء» والذي نراه سواء في الأمراض المذكورة أعلاه (هضمي، تنفسي، تحسسي الخ) أو لدى الإنسان الهستيري، وبين ما يدعى فعلاً بالأمراض نفسجسدية.
الاهتداء: أحد عوارض الهستيريا هو الاهتداء، حيث يُظهر الإنسان الهستيري بعض أشكال الشلل الذي يصيب أحد أعضاء جسده (شلل عضو معين، فقدان النظر، كوما الخ) لكنها مؤقته.
بمعنى آخر، هل هناك خصوصية في الموضوع؟ مثلاً هل هناك فارق بين مرض السكري العادي أو «الطبيعي» إن صح التعبير وبين مرض السكري – النفسي؟ أم يكفي بأن نكون أطباء ذوي ثقافة نفسية عامة؟
في الأمراض النفسجسدية كل الجسد ملموس بطريقة أو بأخرى وبشكل واقعي على خلاف العُصاب حتى ولو كان لهذا الأخير بعض التعابير الجسدية.
فالأمراض النفسجسدية تُدخل عنصراً مهماُ ألا وهو «تاريخ الجسد» نفسه. وكما يقول أحدهم: «جسدي هو تاريخي وأعمر مني كثيراً».
الإنسان ذو الأمراض التحسسية له بدون شك نوع معين من العلاقة مع الموضوع (العالم) ولكن هذا لا يعني مطلقاً أنه النوع الوحيد، ولا أنه النوع أو الطريقة الغالبة في علاقاته مع العالم. وهذا يعقد الأمر كثيراً كما تلاحظون. فالدخول المتأخر للجسد في المجال التحليلي النفسي يوضح تأخر هذا الموضوع أيضاً. بينما في الأمراض النفسية، التي تظهر أغلبيتها في سن البلوغ (المراهقة)، نستطيع أن نرى آثارها في الماضي البعيد، فالأمراض النفسجسدية تأتي فجأة وكأنها حادث أو حدث فجائي يصعب جداً تحديد روابطه مع الماضي.
من السهل جداً أن نفهم العوارض الجسدية: استفراغ الرضيع، آلام البطن، الطفل الذي لا يأكل أو الذي يأكل بنهم كبير؛ بينما من الصعب جداً أن نسمع (بما أن التحليل النفسي مبني على الإصغاء للمُحَلّل) كيف تم بناء أو تكوين مرض ما في سن البلوغ مع عوارضه الجسدية. فمن الخطأ إذن الاعتقاد بأن الأمراض النفسجسدية هي بكل بساطة عبارة عن شكل من أشكال العًصاب النفسي وأن الآلية المرضية هي تطبيق بين الاثنين. هناك الكثير من الناس يطابقون بين كل مرض جسدي وبين الهستيريا.
مثل: 4 نساء منهن متزوجات أعمارهن: 21، 27، 29، 41. على الصعيد النفسي، اثنان منهن قلقات، واحدة تشعر بقلق جسدي: «يد تخنقني»، خصوصاً عندما تكون لوحدها؛ أشعر بأنني ضائعة ولدي شعور بأنني سوف أقع. هذه المرأة لديها عُصاب مهم «أضجر كل النهار، لا أملك القوة، أتعب كثيراً، وأكرر عبارات دون أن أفهمها كما لو كان لدي هموم كثيرة». الثانية تخجل وتحمّر كثيراُ، القلق كبير لدى الاستيقاظ. الأولى تعيش هوس في المساء: ترى في غرفتها صوراً كثيرة ومختلفة.
2 منهن لديهن أزمة رجفان مع تأثير على الوعي لفترة طويلة. واحدة منهن لديها أزمة هذيان حركي – نفسي تظهر في كل مرة تعيش شيء من المعاكسة.
على الصعيد الجسدي: لدى الأربعة يوجد تضخم في الغدة الدرقية: رجفان في الأطراف، ضعف جسدي (نحف) وتسرع في القلب.
فأي صعيد هو المسبب للآخر؟ الجواب ليس بالأمر السهل خصوصاُ عندما نعلم بأن مرض تضخم الغدة الدرقية يأخذ مسيرة طويلة. بالمقابل الماضي النفسي لهؤلاء النسوة يحمل العديد من الصعوبات. فالعلاقة السببية (سبب / نتيجة) أمر من الصعب تحديده، ممّا لا يسمح لنا بالتحدث عن شيء من اليقين بخصوص هذه الحالات وانطلاقاُ منها عن الأمراض النفسجسدية بشكل عام.
هل هناك وجود فعلي للأمراض النفسجسدية مقابل أمراض ليست نفسجسدية أو هل من الممكن القول بأن كل الأمراض هي النفسجسدية؟ 3 حالات مختلفة قد تساعدنا على الإجابة.
* حالة إصابة عضو معيّن، عضو صامت خفي: البنكرياس.
* حالة العلاقة بين النفسي والجسدي قوية جداً: الحساسية بشكل عام ومرض الربو بشكل خاص.
* عارض يمكن عزله ويبقى معزولاً أو قد يتحول إلى مرض: التعب.
أمراض البنكرياس: في كل أنواع الأمراض التي تلمس البنكرياس، نلاحظ وجود الإدمان على الكحول كعامل أساسي. لكن السؤال: هل هذا الإدمان المزمن يشبه، بما يخص شخصية المريض، الإدمان لدى المريض المصاب بتشمع الكبد؟ 3 أنواع من مرض البنكرياس:
1- أمراض البنكرياس الحادة: يفقد المريض مراجعه المكانية والزمنية، بالإضافة إلى هذيان حركي – نفسي مع تعرق ورجفان.
2- سرطان البنكرياس: يعيش المريض انهيار عصبي، مع وجود كآبة قوية لدرجة يُعتقد فيها بأن المريض هو مريض نفسي وأن السرطان أُكتشف فيما بعد عن طريق الصدفة.
3- أمراض البنكرياس المزمنة: هل هناك شخصية محددة مرتبطة بهذه الأمراض؟
على الصعيد السريري: نجد أمامنا إنسان مُحبط وأحياناً غبي، خلل عقلي، غير متأقلم مع المجتمع، غير ثابت. ومرضى البنكرياس المزمن ينفذون أفكارهم (قال، سرقة، الخ)، مع وجود استعداد كبير للإدمان بسبب آلامهم يقعون بسهولة في الإدمان، وبشكل خاص على المورفين بالرغم من أن الكحول تبقى العامل الأول والأساسي في الإدمان. أمّا الفارق بينهم وبين المصابين بتشمع للكبد مثلاً فهو، أن المدمنين بسبب البنكرياس لا يبحثون عن علاج ضد الإدمان على عكس المتشمعين. بشكل عام هم مرضى ذات بنية انهيارية على عكس المتشمعين. وهم مرضى «انهياريين» مع خلل كبير على الصعيد الجنسي، يصحبه انخفاض في الشعور الجنسي. بعض المرضى لديهم شيئاً من أعراض الانفصام.
على الصعيد النفسي – الجسدي: لم يتم التوصل إلى تحديد خاصيّة معينة بالشخصية. كل ما نلاحظه هو وجود عدوانية مخبئة ويصعب التعبير عنها بالإضافة إلى صعوبة قبول الاحباطات. وبالرغم من الرغبة الظاهرة بالاستقلالية، توجد حاجة كبيرة في التعلق. الصعوبة كما تلاحظون تكمن دائماً في وجود بعض العناصر النفسية ولكنها غير كافية لتحديد الشخصية النفسية لهؤلاء المرضى لكون هذه العناصر توجد في العديد من الأمراض النفسية.
2- الأمراض التحسسية: هذا النوع من الأمراض يضعنا أمام مشكلتين أساسيتين نواجههم في المجال المرضي بشكل عام:
* الأمراض النفسجسدية لا تخضع للرمزية. باستعماله لجسده كمكان للتعبير، يضع المريض مباشرة الواقع موضع تساؤل دون المرور بالوسائل أو بالطرق الملتوية التي تؤدي إلى العُصاب أو الذهان.
** في الأمراض النفسجسدية ننتقل دائماً بين العاطفة والهستيريا والأمراض الجسدية، حيث، بنفس القيمة والأهمية، الخلفية التي تخيّم على مخيلتنا، شئنا أم أبينا، هي خلفية الاهتداء.
أكثرية المختصين يركزون على أهمية العلاقة مع الأم. وبشكل خاص يتحدثون عن رفض الأم لرضيعها؛ هذا الرفض يعبّر عن ذاته من خلال حماية كبيرة، زائدة عن الحد الطبيعي.
فرويد عالج حالة فتاة من هذا النوع وتدعى «دوري». بالنسبة لها كان المرض سلاحاً لجلب اهتمام وحب الأهل لها لأنها كانت تشعر بأنهم يحبون أخواتها أكثر منها، ومن ثم، بعد الزواج، ونظراً لبخل الزوج على الصعيدين العاطفي والمادي، أصبح المرض سلاحاً مزدوجاً: تلزمه بالاهتمام بها عاطفياً وتنتقم منه مادياً لأنه ملزم بدفع مبالغ من المال لعلاجها.
من المؤكد وجود بعد رمزي مهم في مرض الحساسية: ليس المهم الأكل الذي يولّد الحساسية بقدر رمزية الأكل. مثلاً تم الاختبار على مجموعة من الناس الذين يتحسسون للحليب. فأعطيت لهم حبوباً تحتوي على مادة الحليب فتحسسوا بنفس القوة كما لو أنهم شربوا كمية من الحليب، علماً بأن الحبوب لم تكن تحتوي على مادة الحليب.
فالعوامل النفسية تساعد لا بل تسبب بشكل مباشر أزمة تحسس، ولهذا السبب هناك من شُفي بشكل مذهل إلى حد ما عن طريق المهدئات، بالإضافة إلى وجود، بشكل شبه دائم، علاقة بين الأمراض التحسسية والأمراض النفسية. وهناك من يعيش أزمة تحسسية بدون سبب أو أقلّه دون إمكانية معرفة السبب النفسي الكامن ورائها. لذلك طُرح السؤال وتوجه البحث بشكل واضح جداً حول إمكانية تحديد شخصية نفسية تحسسية. لذلك تم الاختبار التالي:
مجموعتين من مرضى الربو، واحدة منها تُعالج لدى طبيب عام وأُخرى في إحدى مشافي الأمراض النفسية. مجموعة منهم عُصابيين وأُخرى طبيعية. كل مجموعة مقسّمة إلى مجموعتين بحسب الجنس وأُخضعوا إلى تحقيق يسمح بتحديد درجة القلق والانهيار، عدم التأقلم والحساسية الزائدة وأخيراً الغضب أو العصبية. نلاحظ ما يلي:
لدى الرجال: مرضى الربو المُعالَجين لدى طبيب عام مختلفين عن العُصابيين؛ بينما المُعالَجين في المشفى فهم يشبهون العُصابيين، سوى أنهم أقلّ انفعالية منهم.
لدى النساء: لا وجود لفارق بين المجموعتين (طبيب عام، المشفى). إنما مرضى الربو المُعالَجين في المشفى هم أقرب إلى العُصابيين من مرضى الربو المُعالَجين لدى الطبيب العام.
نلاحظ إذن عدم وجود شخصية محددة. البعض منهم هوسيين والبعض الآخر هستيريين والبعض الآخر الاثنين معاً. البعض عُصابيين والآخرين يملكون بعض مظاهر العُصاب. من هنا تأتي أهمية التركيز والبحث عن الماضي، بشكل خاص علاقة الأم برضيعها:
• الفصل مع الأم هو العامل الأساسي.
• أزمة الربو لها قيمة صرخة مكبوتة باتجاه الأم.
• أمهات مرضى الربو هو أمهات رافضات لأولادهنّ.
• أغلبية هؤلاء الأمهات يرفضن الاستقلالية المبكّرة لأولادهن.
• الربو يظهر غالباً في الطفولة الأولى.
• أغلب مرضى الربو لديهم صعوبة في اتخاذ قرار الزواج.
• لدى تحقيق التحرر من الأم يصبح هؤلاء المرضى أكثر مقاومة للتحسس.
• درجة الحساسية للربو تتعلق بالحالة الانفعالية للإنسان.
المهم هنا هو أن رفض الأم يولّد لدى الطفل حاجة كبيرة للحب لا يمكن تلبيتها، يأتي على أثرها خوف من فقدانها (الأم) بالإضافة إلى عدوانية كبيرة اتجاه الأم. لا يمكن التعبير عنها خوفاً من أن تتحقق وتُفقد الأم. قمة هذا الصراع الثلاثي تكمن في أزمة الربو. هذه الأخيرة هي بمثابة نداء استغاثة لم يتم أو لم يكن من الممكن التعبير عنه كلامياً. بالإضافة إلى أن الأب غائب كليّة أي أنه ليس برجل بكل معنى الكلمة. فالعدوانية «الخارجية» هي الطريقة المشتركة للتعبير لدى الأطفال، أمّا الأطفال المصابين بالربو فهم أناس يوجهون عدوانيتهم ضد الذات.
3- التعب: هناك نوع من التعب يتعلق بالعُصاب، وهناك نوع آخر يمكن عزله كتعب مستقلّ إن صح التعبير. هذا النوع من التعب هو الذي يهم موضوعنا.
يظهر التعب من خلال نقص في الطاقة النفسية والجسدية. وكلنا نعلم بأن كلمة طاقة تعني الكثير. نقص في الشهية: «ما لي نفس آكل»، نقص في القوّة: «ما لي حيل اتحرك». ولكن سواء كان هذا النقص يمس الشهية أم القوّة، المهم هو أنه يلمس شيئاً من الطاقة وخصوصاً أنه يُعاش على أنه كذلك.
الإنسان التعب يشعر بجسده ولكن ليس بالضرورة بطريقة مؤلمة. لا بل يمكن للتعب أن يكون لذيذاً، وبهذا المعنى نقول بأن هناك تعب سليم يشعر الإنسان من خلاله بأنه يسكن جسده.
التعب ظاهرة متفشية تلمس الجسد والعقل بمجمله وليست مرتبطة بعضو محدد. كما أن العب متفشي أيضاً بخصوص الهدف: بشكل عام الإنسان يتعب بسبب القيام بعمل ما ويختفي فوراً أمام عمل آخر.
التعب يكون في الكثير من الأحيان عاملاً إيجابياً بمعنى أنه يسمح للإنسان بأن يبتعد عن المحيط عندما يريد ذلك. أي أن التعب قد يكون وسيلة للهروب ممّا يفيد المعني به. بهذا المعنى التعب ليس مدعاة قلق وهذا ما يميّزه.
مثل: رجل عمره 38 من سنة متزوج، نشيط جداً. صناعي ابن صناعي ويتابع إدارة مصنع والده. ما يزعجه هو الإحساس بالتعب بشكل كثيف في بعض الأحيان: عليّ إدارة مجلس الإدارة وحتى كتابة رسائل صغيرة. إنه رجل ذو بنية رهابية، ولكن مشكلته لا تكمن هنا، ثم يقول في إحدى الجلسات: «عندما أكون تعباً يكفي أن أتخيل ذاتي في أحضان والدتي وهي ترضعني».
مثل آخر: رجل متزوج ذو ميول جنسية مثلية. يشعر بالتعب بشكل شبه منتظم لدى ذهابه إلى النوم وعندما يريد أن يقوم بعلاقة جنسية مع زوجته. هنا أيضاً لكي يرتاح يتخيل ذاته أثناء علاقته الزوجية في مشاهد جنسية مثلية.
الذهان والأمراض النفسجسدية
من الملاحظ أن هناك علاقة قوية بين الذهان والأمراض النفسجسدية (نذكر بأن الذهاني ليس بالضرورة مريض إنما هو ذو بنية ذهانية). والملفت للنظر هو غياب الاضطرابات النفسية الذهانية فور ظهور أعراض جسدية وبالعكس. هذا يقودنا للقول بوجود علامات جسدية منذ الطفولة دون أن تشكل برهاناً قطعياً.
مثل: رجل عمره 43 سنة. بدأت اضطراباته الجسدية (نزيف حاد) سنتين قبل بدء التحليل النفسي. عالج هذه الاضطرابات الجسدية وتمت السيطرة عليها بسرعة ولكن ظهرت آنذاك اضطرابات نفسية: مزاج انهياري، أفكار متكررة وكئيبة تتمحور حول مشكلة الطلاق من زوجته وعمله حيث ينتقل من فشل إلى آخر. يزول الانيار بفضل العلاج التحليلي النفسي لتظهر مجدداَ الاضطرابات الجسدية. يتم بعد ذلك علاجاً مزدوجاً: تحليلي نفسي وطبي. تزول الأمراض الجسدية بينما تستمر الحالة النفسية.
مثل 2: رجل عمره 55 سنة. لديه نزيف حاد متطور على مدار سنتين. بدأت هذه الأعراض بفترة قليلة بعد طلاقه من زوجته، كما أنه يعبّر جيداً عن الألم الذي عاشه بسبب هذا الطلاق: لقد كان بالنسبة له تمزق كبير. بعد الانفصال أصيب بحالة انهيار نفسي متميّز مع تعب جسدي ونفسي، وعجز شبه كليّ عن العمل وفقدان الاهتمام. وعندما ظهر النزيف، أُعيد له شيء من التوازن العصبي، وبالتالي بالرغم من قوة النزيف كان يتابع عمله بنشاط إلى حد ما طبيعي. أُقيمت له معالجة نفسية وجسدية معاً فاختفى النزيف ولكن ظهرت حالة ذهانية خطيرة مع أفكار هذيانية.
هناك أيضاً بعض حالات الانفصام تُعالج على الصعيد النفسي ولدى انتهاء العلاج يُصاب المريض بالسرطان.
فالعلاقة بين الانفصام والأمراض النفسجسدية معروفة منز زمن بعيد: نهاية قرحة معدية وبداية هذيان حاد دون وجود بنية محددة: مريض ربو يتوقف الربو لديه ثم يفقد صوابه كما فقد أزماته التحسسية.
مثل 3: أم 58 سنة تعمل في مجال الخياطة وتعاني نزيف حاد. بدأت الأعراض الجسدية في سن 28. تزوجت مرتين، الأولى في سن 18 وولدت طفلاً ميت، وولدت آخر عمره الآن 37 سنة وهو بصحة جيدة. طلقت بعد سنتين زواج بسبب ادمان الزوج. تزوجت ثانية ولكن للأسف الزوج الثاني ليس أفضل من الأول. توفي الزوج بعد 15 سنة زواج. لها منه 7 أولاد، واحدة فقط طبيعية وهي البكر عمرها الآن 34 سنة. 3 منهم ماتوا و3 أحياء 20، 26، 27 سنة. والدة الأم كانت قد دخلت المستشفى بسبب جنون العظمة. السيدة جامدة، هوسية وذات دفاعات قوية. الملفت للنظر هو وجود علاقة بين أزماتها النفسجسدية وحالتها العاطفية: الأولى ظهرت بسبب الطلاق والأزمة الثانية بسبب اضطرابات الأولاد النفسية.
هنا تظهر أهمية اللغة: بما أن البنية النفسية للأم هي بنية هوسية (لدي طبع قوي والكثير من الإرادة كما أنني أنظم كل شيء). لا يمكنها التعبير عن ما تعيشه من خلال اللغة (الرمزية) فهي تعبّر من خلال جسدها، بما أنه لا يمكنها الهذيان، فهي تهذي من خلال جسدها. إنها تعبّر عن رفضها برفض جسدي مهم (نزيف حاد).
فالعلاقة بين الذهان بشكل عام، والانفصام بشكل خاص، والأمراض النفسجسدية أصبح أمراً شبه محتم. إنما نوعية العلاقة غير محددة. البعض ذهب بعيداً في تحليله للأمور وتساءلوا فيما إذا كان من الممكن اعتبار الانفصام كمرض نفسجسدي للجملة العصبية! لكن الفوارق مهمة:
* أمهات الأطفال الذهانيين يميلون للاحتفاظ بأولادهن ضمن علاقة تبعية، اندماجية قوية وذلك إرضاءً لنزواتهن العائدة إلى مرحلة ما قبل التناسلية. إلى حد ما، لا يقبلن أولادهن إلاَّ مرضى ويرفضونهم إذا كانوا بصحة جيدة.
أمّا أمهات الأطفال المصابين بأمراض نفسجسدية فهم رافضات منذ البداية لأولادهن.
فالطفل الذهاني ينتهي بقبول المكافئات لنزواته ومتطلباته الطفولية. ولكن عندما يشعر بخطر قد يمس هذه العلاقة فإنه يعبّر عن طريق الجسد. فعندما يحدث خللاً ما على الصعيد العاطفي، الاضطرابات النفسجسدية والذهان يكونوا مرتبطين.
الخلاصة: الجسد يقدم ذاته، إن صح التعبير، بأشكال ثلاث: عُصابي، ذهاني، أو نفسجسدي. ما يميز هذا الأخير هو أن العناصر التي سمحت أو فتحت الباب أمام البعد النفسجسدي بقيت على الصعيد اللاواعي بشكل مختلف عن العناصر التي بلغت الرمزية ثم تم كبتها بشكل قد تؤدي به إلى العُصاب. من هنا تأتي أهمية التوازن الداخلي. إذن هل الأمراض النفسجسدية حقيقة؟ نعم ولا! نعم، بحيث أن الارتباط بين الاثنين وأولوية البعد النفسي ودوره كمسبب للأمراض الجسدية بات أمراً أكيداً. لا، بمعنى أنه لم يتم حتى الآن إيجاد بنية نفسية محددة وراء كل مرض جسدي.
الإصغاء والحوار ودورهم في حياة الإنسان
الإصغاء موضوع مهم للغاية في حياة الإنسان. كل الناس يبحثون عن أذن تصغي إليهم، لكن للأسف نادراً ما نجدها؛ لأننا نميل للكلام أكثر منه للصمت والإصغاء، وخاصة نميل للتكلم عن ذاتنا للإشادة بإنجازاتنا الشخصية. ليس من العبث أننا نملك لسان واحد وأذنين اثنين. والمثل الصيني يقول بأن الإنسان يلزمه سنة من حياته ليتعلم
الكلام وما تبقى منها ليتعلم الصمت والإصغاء. فلماذا الإصغاء مهم وما هو دوره في حياة الإنسان؟
بداية أقول أن هناك فرق مهم بين السمع والإصغاء. فالأول أمر مفروض علي: اسمع موسيقى تأتي من بعيد، أسمع ضجيج الشارع الخ؛ بينما الإصغاء فهو موضوع حرية: أختار أن أصغي أو لا.
ثانياً الإصغاء هو موقف، بمعنى إمّا أنني إنسان مصغي أو لا؛ أي أنني مستعد لأصغي لأي إنسان يطلب مني ذلك دون تميز أو إقصاء لأحد. الإصغاء بهذا المعنى هو كالحب بالمعنى الشامل للكلمة، أي أنني إنسان محب أو لا! فالإصغاء هو أفضل تعبير عن الحب «ما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبائه».
لكي أصغي عليّ قبل كل شيء أن أموت عن رغبتي في الكلام، لأكون كلي الإصغاء إلى الآخر، وهذا يتطلب مني أيضاً أن أوقف التفكير. عادة عندما يتكلم إنسان ما يكون الآخر «المصغي؟» في صدد تحضير جوابه. فأين الإصغاء في هذه الحالة؟
عندما أصغي للآخر، عليَّ أن أصغي إليه انطلاقاً منه وليس انطلاقاً من ذاتي، أي أن أُعطي الأهمية ذاتها التي يعطيها لما يقول؛ قد يكون الموضوع الذي يتحدث عنه مألوف لديّ، أسمعه من العديد من الناس، أو لا يعني لي الكثير؛ فلا يحق لي أن أقول له بأن هذا الموضوع سطحي أو مشكلتك بسيطة ولا داع لتضخيمها. هذه الطريقة هي الأفضل لكي لا يعود ثانية هذا الإنسان. الإصغاء يعني أن أُصغي للآخر انطلاقاً منه ممّا يسمح لي بأن أفهمه بشكل أفضل وخاصة أفهم لغته، فلكل إنسان لغته. قد نستغرب هذا الكلام ولكن كيف يمكن أن نفهم سوء التفاهم الذي يعمّ العلاقات الإنسانية في حين أن الناس يتكلمون اللغة عينها «أنا ما قلت هيك، أنت فهمتني غلط، يمكن ما وضحت فكرتي بالكفاية الخ»، هذه الكلمات نسمعها في كل الأحاديث التي نشارك بها: قد نستعمل الكلمات نفسها لكن في الكثير من الأحيان لا نضع المحتوى ذاته وراءها. مثلاُ الحب، الفرح، الاحترام، الدفاع عن النفس الخ.
لا يمكنني أن أُصغي للآخر إن لم أكن مصغي لذاتي أولاً. الإصغاء للذات مهم لمعرفة ذاتي. بشكل عام نحن لا نعرف ذاتنا، فلكي أعرفها عليّ أن أُصغي إليها. فالإصغاء لذاتي يجعلني أسكن ذاتي، أوحد ذاتي المنقسمة. هذا الانقسام يظهر من خلال الفارق الكبير بين ما نقول، ما نتمناه، ما نريده وبين أعمالنا وتصرفاتنا التي تتناقض معها في أغلب الأحيان. هذا السكن وتلك الوحدة مع الذات تجعل مني إنسان خلاق، تحقق- نسبياً بالطبع إذ لا يمكن تحقيقها بالكامل لأسباب لا يمكن مناقشتها الآن- بين أقوالي وأفعالي. وهذا هو الخلق الحقيقي. في علم الألسنيات تدعى هذه الظاهرة «بالكلام الفعال: أعلنكم زوج وزوجة، أعمدك باسم الآب والابن والروح القدس».
أن أسكن ذاتي، أن أوحد ذاتي، هذا يعني أن أكون خلاّقاً وبالتالي أن أكون سعيداً؛ فالسعادة لا يمكن لأحد أن يعطينا إياها، لأن «السعادة تنبع من الداخل» من هذه الوحدة مع الذات. في النهاية أقول أن الإصغاء هو أساس كل حوار بين الناس.
غالباً نخلط بين الجدل والحوار. في الجدل أسعى لإقناع الآخر برأيي، أيّ أقول له، من وراء الكلمات بالطبع، أنك على خطأ وأنا على حق، أنا من يملك الحقيقة. وكلنا نعلم ما تكون نهاية هذا النوع من الجدل. بينما الحوار الحقيقي، يتطلب أولاً إصغاء حقيقي للآخر، مع كل أهمية اللغة التي تحدثنا عنها، وخاصة الانطلاق من القناعة بأنَّ ما من أحد يملك الحقيقة؛ وكل إنسان يملك شيء منها؛ فالحقيقة نصنعها بالبحث عنها.
هذا يعني أنه عندما نتحاور على كل طرف أن يبحث عن ما هو حقيقي وصحيح في كلام الآخر؛ وخاصة القبول بأن يضعني كلام الآخر ويضع أفكاري ومعتقداتي، أو مفهومي لمعتقداتي موضع تساؤل. بهذه لطريقة نقوم ببحث مشترك باتجاه ما هو أكثر حقيقية وهذا الأمر يقودنا لقبول واحترام اختلافاتنا بعضنا عن بعض. وهذا هو أساس كل ديمقراطية. هذا الأمر صعب جداً تحقيقه لأننا جميعاً نميل لفرض قناعاتنا ورفضنا للاختلاف.
مصداقية هذا الأمر تظهر بشكل خاص في ما اعتدنا أن نسميه بحوار الأديان أو بحوار الحضارات. المشكلة أن كل طرف ينطلق من القناعة بأن الآخر على خطأ وبالتالي لا بد من العمل على «اهتداءه». الكل يتكلم عن الله لكن كل طرف له مفهوم مختلف عن الله. لكننا ننسى نقاط التشابه، النقاط التي يمكنها أن تجمعنا وتوحدنا فالوحدة الحقيقية هي الوحدة في ومن خلال الاختلاف وإلاَّ نقع في الاندماجية التي تعني ذوبان أحد الأطراف بالآخر أي الموت.
الخوف، القلق والرهاب
الخوف هو الشعور بوجود خطر خارجي أو داخلي. فالخوف يولّد انفعال عاطفي مقابل هذا الخطر. هذا الخوف يجتاح الجسد بكليّته، فيتعّرق الإنسان ويجف لسانه. ويشعر بضيق في التنفس وتسرّع في دقات القلب وشلل في الأرجل الخ. هناك أيضاً الخوف من «شيء، حيوان، إنسان...» والخوف على « وأخاف على أهلي، أخي، صديقي الخ». فالخوف هو عبارة عن قلق انتقل من ساحة اللاوعي إلى الوعي وإذا تم كبته قد يصبح قلق. بمعنى آخر الخوف هو قلق
تحوّل إلى خوف من موضوع معيّن، بينما موضوع القلق يبقى مجهول.
القلق هو إذن شعور بالاضطراب أمام خطر داخلي مجهول. فجهل موضوع القلق يجعل كل من القلق وموضوعه أمر لا واعي. مثلا الإنسان المثالي يشعر بالقلق دون أن يعلم لماذا. فالمثالي يكبت كل ما هو غير مثالي في داخله ويحاول أن يخرجه خارجاً عنه من هنا يأتي الصراع بين الوعي واللاوعي لدى الإنسان المثالي. والقلق كالخوف مرتبط أيضا ببوادر جسدية.
أحيانا هناك قلق ضمن الخوف. مثلاً: أب يضرب زوجته ممّا فيولد خوف لدى الطفل أكبر من حجم الموضوع. هنا يلد لدى الطفل خوف من قتل الأم من قبل الأب، ولكن تُكبت هذه الفكرة المخيفة. ويولد لديه في نفس الوقت رغبة في قتل الأب ولكن هذه الفكرة تعتبر مخيفة أيضاً بالنسبة للطفل فيكبتها. بالمقابل يخاف الطفل من ردة فعل الأب عليه في حال حاول قتل الأب فيحدث هنا أيضا كبت ثالث. وفي حال لسبب ما شعر الطفل أمام هذا الأمر بالذنب فيتمنى أن يكون مكان الأم وهنا أيضا لدينا كبت رابع. هذا الكبت المتعدد يزيد من شدة وقوة القلق.
أنواع الخوف: هناك خوف من شخص معين وهناك خوف من الجماعة وهناك خوف من الذات.
الخوف من شخص: مثلا هناك من يخاف من الله لأنه تربى على الخوف منه: «الله بيقتلك، بيزعل منك بيقطع لسانك الخ». للأسف كثيرا ما نستعمل الله لكي نخيف الآخرين ونسيطر عليهم خاصة الأطفال.
وهناك خوف من الرجل لدى الفتاة وبشكل خاص على الصعيد الجنسي. بالمقابل وخلافا لما نعتقد هناك العديد من الرجال الذين يخافون من المرأة، ويخجلون منها بالإضافة إلى الخوف من الجنس.
الخوف من الجماعة أو المجتمع: هناك ما يمكن أن نسميه بعين الجماعة التي تراقب « تصرفاتنا» ونخاف منها. هذا الأمر نعيشه بشكل لاواع. أن لا نكون على مستوى ما تتوقعه منّا هذه العين، خاصة عندما نكون في حالة ضعف مثلاً أو فشل أو فقر أو نقص ما. من هنا يأتي الخوف من نظرة وحكم الآخرين علينا. ولكن وراء هذا الخوف هناك خوف أعمق: الخوف من أن نجد أنفسنا وحيدين وقد تخلى عنّا الآخرون، فيتولد شعور بالعزلة والظلم وبالتالي خوف من الموت. هناك خمسة مواقف ممكنة أمام هذا الخوف:
1- شعور بأننا خسرنا كل شيء ممّا يؤدي إلى عدوانية عامة ضد الآخرين.
2- شعور بأن الآخرين تخلوا عنّا، تركونا وحيداً. فالنتيجة شعور بالكآبة، شعور بالحزن وفي الحالات المرضية قد يؤدي إلى الانتحار.
3- شعور بأن الآخرين تخلوا عنّا، تركونا وحيدين. هنا نعيش نوع من التراجع باتجاه الطفولة: نمرض لجذب اهتمام الآخرين بنا. أو دخول في « الكنيسة، الحياة الرهبانية» والتي ترمز إلى حضن الأم، حيث لا وجود للنقص بتاتاً، أو إقامة علاقات جنسية متكررة وعابرة دون إمكانية التسلط عليها ....».
4- شعور بأن الآخرين تخلوا عنّا، تركونا وحيدين. إذن سنقوم بالمستحيل لكي نرضي الآخرين. فنتكيف معهم ومع مطالب المجتمع ونصبح في تساؤل شبه مستمر حول إمكانية الخروج من الخطأ.
هذه الأنواع الأربعة ممكن أن نصفها على أنها خوف على الذات من الآخرين أو من المجتمع.
5- بسبب التربية وفي مرحلة تعليم القيم الأخلاقية والدينية للطفل تصبح «عين المجتمع» داخلية، جزء من كياننا (لاوعي) وبالتالي نحكم على ذاتنا بشكل قاس، نحتقر ذاتنا وهذا يولد لدينا خوف وقلق كبيرين جدا لأنه لم يبق شيء.
الخوف والقلق كعنصر طبيعي: أثناء مسيرة نموه ينتقل الإنسان من مرحلة إلى أخرى. وكل انتقال يتطلب التخلي عن المرحلة السابقة لكي يتم الدخول بالمرحلة القادمة. هذا الانتقال وذاك التخلي هو مصدر قلق لدى الطفل: قلق التخلي. ثم هناك أنواع أخرى من القلق الطبيعي وهي:
قلق الحمل: هل سيولد الطفل طبيعي أم مشوّه، هل سيكون جميلاً أم لا، قلق الولادة، قلق الثدي: أكل الأم، الأم تحاول أكل الابن. هذا نراه في الحكايات الشعبية حيث يتم التحدث عن الذئب الذي يأكل الطفل؛ قلق غياب الأم لفترة طويلة إلى حد ما، قلق الظلام، قلق الفطام، قلق الخصاء، قلق من الأنا العليا أي من المقاييس الاجتماعية: إذا قدمت هذه المقاييس بشكل قاس فإنه سيصبح قاس جدا مع ذاته خاصة في حالات الفشل.
خوف من العبور إذن ولهذا السبب على الأهل أن يبينوا للطفل بأن العبور من مرحلة إلى أخرى هو أمر جيد جيدا : الفطام نُفهم الطفل بأنه قد أصبح كبيراً وقادراً على أن يأكل كالكبار مثلاً؛ المشي: لم تعد بحاجة إلى الإنسان البالغ لكي تتنقل من مكان إلى آخر، إنك أصبحت مستقلاً لكن هناك خوف من الاستقلالية في بعض الحالات. فإذا كانت الأم لا تشجع الاستقلالية سيخاف الطفل منها خوفا على مشاعر الأم.
إذا كان العبور جيد فالقلق يكون طبيعي وإيجابي وبالتالي خلاّق. من هنا تتأتي أهمية التربية السليمة.
التربية الغير سليمة: التربية في مجتمعنا غير سليمة بشكل عام لأنها لا تشجع على الاستقلالية وبالتالي تولد الخوف والقلق. مثال: أب ينتظر من الابن أن يكون مثالياً ممّا يولد الخوف لديه من الأهل، خوف من عدم تحقيق أماني الأهل، خوف أمام المجتمع الذي يمثل إن صح التعبير الأهل. هنا التربية اجتماعية أكثر من أن تكون نفسية. في هذه الحالة الخوف متبادل بين الأب وابنه: الأب يريد أن يغنج ابنه لكي لا يشعر بالنقص: أنا سأعطيه وسأؤمن له كل ما يريده. بالمقابل الابن يحاول أن يكون مثالي ويرضي الأب وهذا يولد قلق كبير لدى الطفل. ليس المهم كيف سيكون هذا الطفل، بل المهم من سيكون هذا الطفل. المهم أن لا يكون مجرد انعكاس للأب ولهذا السبب على الأب أن يحترم خصوصية الابن، وإلا سيكون هذا الأخير قاس جدا مع ذاته وسيسعى بشتى الوسائل لإرضاء الأهل والله. هذا الموقف لا يخلو من العدوانية لدى الطفل اتجاه أهله ويعيش خوفاً من هذه العدوانية. لذلك يسعى لمراعاتهم وتحقيق إرادتهم والحصول عللا رضاهم. ولكن لا يمكن للابن أن يستمر في هذه المثالية القاتلة فالأساليب التربوية غير السليمة تركز كثيرا على التأنيب والتذنيب: «أنا زعلان منك، أنا كتير كويس معك وأنت بالعكس، ضيعان ماربينا الخ..» كلها تولد شعور بالذنب قد يكون قاتل. «أنا زعلان منك وإنشاء الله بيصير لي شيء من وراك». والمشكلة الكبرة والخطيرة جداً هي في حال حدث شيء ما من هذا النوع (موت الأب مثلا ).
الولد يشعر بعدوانية اتجاه الأهل بسبب شعوره بالظلم ولكنه يخاف من ردة فعل الأب فيتولد لديه ما نسميه بالخوف من الخصي أو عقدة الخصي. كما أن الخوف من عدوانية الطفل اتجاه الأب تولد لدى الطفل الشعور بالذنب: «البابا كتير منيح معي...» هذا الخوف المكبوت والقلق على صعيد الوعي يؤدي إلى شيء من المثالية :« سأكون كما تريد يا أبي»، فالمثالية في أغلب الأحيان هي عبارة عن ستار للخوف والقلق. أو فجأة يتحول الولد إلى ولد كسول. فالكسل هو عدوانية ضد الأهل، عقاب للأهل، لكن في النهاية يعاقب ذاته من حيث لا يدري. هذا الأمر قد يصل إلى حلقة مفرغة تؤدي إلى المرض أو الجنون لدى كل من الأب والابن. قد نقول بأن هذه التربية قديمة ولكننا ننسى بأننا نستعملها نحن أيضا مع بعضنا البعض: مثلا «أنا زعلان منك». بهذه الجملة أستعمل الآخر الذي لا يريد أو لا يناسبه أن أكون زعلان منه وكل استعمال للآخر هو بطريقة أو بأخرى قتل له. أما ردة الفعل السليمة فهي أن أقول «اتركه يزعل شو بدي أعمله» إنما في أغلب الأحيان أخاف أن يحصل له شيء. أحيانا أمام هذه الجملة أخاف من ردة فعلي: «خلي يموت»، هذا يؤدي إلى خوف وكبت وبالتالي إلى القلق. خوف من شيء أحبه، خوف من رغبتي في قتل الأب، خوف من عدوانيتي فأسعى لإرضائه قائلا أنني أحبه كثيرا . عندما يقول لي الآخر «أنا زعلان منك» أسعى لإرضائه خوفا من شعوره بالعزلة، هذا الشعور يذكرني بذاتي مع شعوري بأنني إنسان متروك. فأرى نفسي به. مثلا : فتاة مبسوطة من الشاب الذي يهتم بها ثم تغار من عمله. ولكن لديها خوف من أن يتركها وخوف من تركها له لأنه سيصبح متروك وترى ذاتها به. لذلك لديها خوف كبير فتعيش بالتالي علاقة تملكية معه. علاقة ثنائية كما هي الحال بين الطفل والأم.
الخوف والعدوانية: الخوف يأتي من الخطر والخطر من العدوانية: عدوانيتي وعدوانية الآخر. فما العمل؟ عدوانيتي : أشعر بعدوانية فأعبر عنها، هذه الحالة سليمة تماما. ولكن بشكل عام أنا أحوّل هذه العدوانية باتجاه شخص آخر باتجاه الأب باتجاه الأم أو باتجاه الزوجة الخ أو إلى حيوان.
مثل: شخص لديه عدوانية ضد الأب فيحولها ضد الحصان. ما ذا يحصل عندما تكبت العدوانية؟ قد تتوجه إلى الذات أو قد تتوجه، بالطبع بشكل لاواع، إلى الخارج مثل القاضي، الشرطي الخ أو تبقى مكبوتة.
مثل: عدوانية ضد الأب مقابلها عدوانية من الأب باتجاه الابن مما هذا الموقف يولد حب مبالغ باتجاه الأب، وهذه المبالغة هي بمثابة تعويض ولكنها تولد في نفس الوقت قلق قهري لأنني أخاف من أن تكشف الحقيقة. أو أضع هذه العدوانية بالآخر: أسقط عدوانيتي على الأب. فأدخل في حلقة مفرغة وصعبة على النحو التالي: اسقط عدوانيتي على الأب فيصبح هذا الأخير بنظري، عدواني ضدي دون أن تُلغى عدوانيتي ضده بالإضافة إلى عدوانيتي ضد الأب في الأب ضدي. هذا يتحول إلى مرض اتجاه عدوانيتي في الآخر ضدي أر رعب ضد الآخر الذي وضعت عدوانيتي فيه.
خوفي من عدوانية الآخر: أمام هذا الخوف من عدوانية الآخر قد أهرب منه وأعبر عنها. أو أخاف منها وأسقطها على موضوع آخر: الحصان.
الخوف المرضي: الرهاب.، الرعب.( Phobie).الرهاب هو خوف شديد غير منطقي وقهري من شخص معين أو من شيء ما. واقترابي منه يولد لدي خوف شديد لا سيطرة لي عليه. أرتعب من لمس الآخر لي مثلا. أرتعب أذا قبلني (الأم وبنتها). وغالبا أمام الحيوان ومن الظلام. فما هو السبب؟ هذه الظاهرة تشير إلى وجود أزمة داخلية، شعور عدواني خطر، كالجنس أو غيره.... فأرمي هذه المشاعر إلى الخارج لكي أرتاح، لأن التهديد الداخلي يبقى مجهول وبالتالي مخيف أكثر. أما الخوف من الشارع، من الحيوان مثلا، فيمكن السيطرة عليه بسهولة أكثر أقله عن طريق تفادي وجوده. بهذه الطريقة يصبح الخوف موضوعي أكثر؛ وبتحديد الموضوع يتحول من قلق إلى خوف أقله ظاهريا.
مثل: شاب عدواني ضد الأب مقابل خوف الابن من الخصاء (ضرب، تعذيب..). فيسقط عدوانيته ضد الأب على الحصان. فيصبح الخوف، خوف من عدوانية الأب ومن عدوانيته ضد الأب فينتهي بالخوف من أن الحصان سيعضه، تعبير رمزي عن الخصاء، فيتجنب الحصان الذي يشعر أمامه بالرعب. لماذا هذه الشدة في الرعب؟ لأن الأب لا يمكن أن يكون أبا، فإسقاط الأمر على الحصان يعطي راحة أكبر من عدوانية الأب ضد ابنه.
مثل: هانس الصغير(حالة تكلم عنها فرويد) يخاف من الشارع خوفا من الحصان. يسقط عدوانتيه على الأب فتصبح عدوانية الأب مضاعفة. على صعيد الوعي هناك خوف شديد من عدوانية الأب. أما على صعيد اللاوعي فالخوف الشديد هو من عدوانيته هو (الابن). فيتم اسقاط الاثنين معا على الحصان الذي يمثل الأب والابن من هنا تأتي شدة الرعب.
مثال: فتاة تخاف من الشارع خوفاً من شعورها بنزوات جنسية فتأخذ معها ابنها أو ابنتها الخ.. تخاف من مشاعرها الجنسية ولكنها تكبتها لأنها ممنوعة أخلاقياً، وسيئة النتائج (ايدز الخ). الأنا العليا تقول بأن الشارع ممنوع إذن هناك خوف من الشارع وبالتالي وجود شخص آخر إلى جانبها يعطيها ضمان. أو تسقط هذا الخوف على حيوان ما بدلاً من الشارع.
مثال: شخص متزوج وزوجته تسافر لأسباب ما وهو يذهب إلى بيت أخيه من أجل ابنه الصغير. هذا الرجل يميل إلى زوجة أخيه ولكنه يكبت هذه الفكرة لأنه يرفضها تماما. وبما أن الولد هو السبب في ذلك فيتولد لديه خوف من ابنه وبالتالي خوف من الغريب ليصل إلى الخوف من كل شيء. فيسقط رغباته الجنسية على ابنه فيخاف من الابن لأنه يعيش قبلة الابن له على أنها قبلة زوجة أخيه له.
الحسد، الغيرة والنميمة
الحسد والنميمة
موضوع الحسد والنميمة مرتبط بطريقة أو بأخرى بموضوع الغيرة أيضاً. لذلك سوف أتحدث عن هذه الأبعاد الثلاث. ولكن في البداية أقول بأن هذا الموضوع، ككل المواضيع النفسية تعود إلى المراحل الأولى من الطفولة، لا بل تعود إلى مرحلة الحمل. علاقة الطفل بالأم في المرحلة الأولى من الطفولة نختصرها بعبارة علاقة الطفل «بالثدي». بالطبع علينا أن نأخذ كلمة الثدي بالمعنى المجازي والرمزي للكلمة بمعنى أن الثدي يمثل ويعبر عن الأم على صعيد الاهتمام الجسدي العاطفي.
أثناء مرحلة الحمل، يعيش الطفل ذاته على أنه جزء لا يتجزأ من الأم. إنه يشكل وحدة متماسكة معها، بالإضافة إلى أنها تؤمّن له كل ما يلزم وتجيب على كل رغباته. وهذا هو المهم بالنسبة له وبالنسبة
لموضوعنا أيضاً. لدى الولادة – التي تشكل بحد ذاتها مصدر قلق – يعتقد الرضيع أن هذه المرحلة سوف تستمر، بمعنى أنه خارجا عنه سيجد مصدراً ( الأم) يلبي له كل حاجاته ورغباته كما كان الأمر في الحالة السابقة. فالثدي الجيد (الأم الجيدة) يصبح جزأ منه في داخله، يشكل جزء من الأنا. فالطفل الذي كان في داخل الأم، ها هو الآن يدخل الأم في أعماقه إن صح التعبير.
دون شك حالة الجنين في مرحلة الحمل تترافق بشعور من الوحدة والأمان مع الأم. ولكن استمرارية هذه الحالة وثباتها يتعلق بأمور عديدة تعود في أغلبها إلى الأم؛ إلى حالتها الجسدية والنفسية. من هنا نقول بأن الحنين إلى رحم الأم يخفي وراءه ميل إلى المثالية. هذا الحنين يعود إلى القلق الذي ينتج عن الولادة، ممّا يجعلنا نقول بأن هذه المظاهر الأولى للقلق تعود إلى الاختبارات السلبية الأولى في مرحلة الحمل حيث تتمازج مع الشعور بالأمان الذي تحدثنا عنه. من هنا تنبع ازدواجية العلاقة مع الأم : الثدي الجيد والثدي السيئ، أو الأم الجيدة والأم السيئة.
فالشروط الخارجية تلعب دوراً كبيراً و حيوياً في العلاقة الأولى مع الأم. فولادة صعبة مثلاً تؤدي إلى نقص في الأكسيجين لدى المولود الجديد، قد تعيق تأقلمه مع العالم الخارجي. والعلاقة الأولى مع الأم تتعرقل. في هذه الحالة إمكانية إيجاد مصادر مكافأة تتأثر. والمولود الجديد يجد صعوبة في «إدخال» موضوع أولي جيد وحقيقي. فإمكانية قبول الحليب بلذة « وإدخال » الثدي الجيد ترتبط آنذاك بعوامل عديدة تعود إلى درجة تأقلم الرضاعة واهتمام الأم، فيما إذا كانت الأم ترضع بلذة وبحب، أم كانت الأم قلقة ولديها صعوبة نفسية في إرضاع رضيعها.
ولكن لا بد من وجود الاحباطات لأنه مهما حاولت الأم وبذلت كل إمكانياتها لتأمين علاقة تامة وكاملة مع رضيعها، لا يمكنها الاجابة على حاجاته ورغباته كما يريد. بمعنى آخر لا يمكنها إعادة تلك الوحدة التي كانت موجودة في مرحلة الحمل. فالرضيع يحلم «بثدي» لا ينفذ وحاضر بشكل كلي وكامل، وهذا الميل وذاك الحلم يعود إلى ما أسميناه «قلق الولادة». هذا القلق يولد لدى الرضيع نزوات هدّامة. فهو يبحث من خلال تلك العلاقة المثالية مع الأم لإبعاد هذه النزوات عنه؛ وهذه الاختبارات السلبية في العلاقة الأولى مع الأم والتي تمتزج مع الاختبارات الايجابية تشكل أساس الازدواجية في العلاقة : الثدي الجيد والثدي السيئ. هذا يعني امكانية فقدان واستعادة الثدي الجيد مرة أخرى. بمعنى آخر إمكانية القبول بأن الأم هي جيدة وسيئة في آن معاً. وهذا يشكل أساس الصراع بين الحب والحقد.
بالإضافة إلى أن الحرمان كما نعلم يزيد من الشراهة والشعور بالاضطهاد، وكما أن لدى الطفل أو المولود الجديد الشعور بأن الثدي لا يمكن استهلاكه وتفريغه تماماً وهنا تكمن رغبته الكبرى، هذا يساعدنا لكي نفهم ولادة الحسد لدى الطفل. فالثدي الذي يحرم الطفل يتحول إلى ثدي سيئ لكونه يحتفظ لذاته بالحليب، كما أنه يحتفظ بالحب والاهتمام أيضاً. من هنا يبدأ الطفل بالحقد والحسد بخصوص هذا الثدي البخيل والشحيح.
وبالمقابل، الثدي الجيد هو أيضاً موضوع حسد. فسهولة اعطائه الحليب – وبالتالي مكافأة واعطاء الرضى للمولود الجديد – هي التي تصبح موضوع الحسد، كما لو أن هذه العطية لا يمكن الوصول إليها. هذه الحالة نراها في التحليل عندما يأتي الإنسان المحلَّل ويسمع تأويل المحلِّل، هذا التأويل اعطاه راحة كبيرة وأعاد إليه الثقة. ومع ذلك نلاحظ أن هذا المحلَّل يبدأ بنقد هذا التأويل ومحاولة تخريبه. والنقد قد يتمحور حول بعض التفاصيل : التأويل أتى متأخراً، أو التأويل كان طويلاً، أو مختصر كثيراً. فالحسود يصعب عليه كثيراً إن لم نقل ليس بإمكانه الاعتراف بنجاح التحليل بالرغم من كل النتائج الايجابية النابعة منه. فما يميز موقف الحسود هو نقد حتى العطايا والأمور الجيدة التي تقدم له.
فالحسد يعيق امكانية الطفل في اكتشاف الثدي الجيد وادخاله في الأنا. ففي الحسد يعيش الطفل الثدي على أنه قد حرمه من السعادة، ومن المكافأة والتشجيع. فيعيش الطفل الثدي آنذاك كمصدر لإحباطاته.
لذلك علينا أن نميز بين الحسد والغيرة والشراهة. فالحسد هو الشعور بالغضب الذي يعيشه الإنسان عندما يشعر بالخوف، خوف من أن يمتلك الآخر ما يتمناه هو وأن يستمتع به. فالحسد يدفع الفرد إلى التسلط على هذا الموضوع (Objet) أو إلى هدمه. أمّا الغيرة فتستند إلى الحسد ولكن بينما الحسد يمس علاقة حصرية، أي علاقة بين شخصين فقط «أحسد الآخر على ما هو عليه، على ما يمتلكه أو على جماله الخ»، ويعود إلى العلاقة الحصرية الأولى مع الأم كما سبق وشرحناها؛ الغيرة تتطلب وجود ثلاثة أشخاص، وتمس جوهرياً الحب الذي يشعر من يغار بأن هذا الحب يجب أن يكون له وأنه قد انتزع منه (الطفل يغار من أخيه الصغير لأنه يعتقد بأن أهله يحبونه أكثر منه). وكما يقول القول الشعبي، بأن الغيرة هي الشعور الذي يختبره الرجل أو المرأة بالحرمان من الشخص المحبوب من قبل إنسان آخر.
أما النهم أو الشراهة فهو العلامة على وجود رغبة ملحة لا تعرف الشبع، هذه الرغبة تتجاوز ما يحتاج إليه الفرد، كما أنها تتجاوز ما يمكن للموضوع أن يعطي أو يجيب على هذه الرغبة. على الصعيد اللاواعي، الإنسان النهم أو الشره يبحث على تفريغ واستهلاك وأكل الثدي، أي أن هدفه هو الهدم والتخريب. بينما الحسد لا يسعى فقط إلى ضرر واتلاف الثدي، بل يسعى أيضاً إلى إدخال كل ما هو سيئ لديه في ثدي الأم وهدمه. أي أنه يهدم امكانياته الخلاقة. وفي نفس الوقت الحسد هنا يشكل وسيلة دفاع مهمة.
بقدر ما يرتبط الحسد والشراهة بعضهم ببعض، بقدر ما نجد فارقاً مهماً بينهما: فالشراهة ترتبط بالإدخال، الحسد يرتبط بالإسقاط. الغيرة تستيقظ لدى الإنسان عندما يأتي آخر ويسلبه « الخير، أو ما هو جيد»: الحب الذي يمتلكه. فالحب هنا هو الثدي، الأم عينها، إنه الكائن المحبوب والذي سلبه الآخر. كما أن الغيرة هي الخوف من فقدان ما نملك. الحسد هو الخوف من أن نرى إنسان آخر يملك ما نرغب في امتلاكه. رغبة ولذة الآخر تؤلم الحسود الذي لا يشعر بالامتلاء، لا يشعر بالرضى إلاٌ من خلال تعاسة الآخرين. لهذا السبب كل سعي لإرضاء الإنسان الحسود يبوء إلزاماً بالفشل. بينما الغيرة هي شغف شريف أو مخجل وهذا يعود إلى الموضوع. في الحالة الأولى، أي الغيرة الشريفة تعبر عن ذاتها من خلال منافسة نابعة من الخوف. أما في الحالة الثانية، أي الغيرة المخجلة فإنها تظهر من خلال شراهة مصدرها الخوف. بينما الحسد يبقى شغف خسيس، يحمل في طياته أسواء أنواع الشغف.
بشكل عام موقف الناس من الغيرة يختلف عن الحسد. فالجريمة العاطفية النابعة من الغيرة، تلقى عقاباً مخففاً في بعض البلدان، وهذا نابع من الشعور العام بأن قتل المنافس يحمل معه حب الخائن. هذا يعني أن حب ما هو جيد موجود في أعماق الإنسان وأن الموضوع المحبوب لا يتعرض للضرر كما يتعرض له في حالة الحسد. فالحسد والغيرة متأصلان في الإنسان. ولكن الحسود لا يمكنه الوصول إلى الاكتفاء، لأن الحسد المتأصل في أعماقه، يجد دائماً موضوع ما يتضافر عليه (converger). مما يبين لنا بوضوح مدى ارتباط كل من الحسد والغيرة والشراهة بعضهما ببعض.
والنميمة فهي مرتبطة أيضاً بالحسد والغيرة. ولكنها ترتبط بالحسد أكثر. فالنميمة تعني الرغبة في الوصول إلى ما أرغب به من خلال تخريب وتشويه صورة الآخر لدى الناس. هذا الأمر يعود إلى نقص كبير في الثقة بالذات وبحب الآخرين لي.
ولكن علينا أن نعي جيداً أن تصور علاقة كاملة وتامة بين الأم والطفل هذا أمر وهمي، خيالي ولا علاقة له بالواقع. بالإضافة إلى أن النقص في العلاقة أمر مهم جداً. لأن هذا النقص يولد لدى الطفل الرغبة في الكلام، وتعبير الإنسان عن رغباته أمر مهم جداً. والتعبير عنها بحد ذاتها يدل عن وجود نقص ما. وفي التحليل نسمع في بعض الأحيان شكوى الاهتمام الزائد من قبل الأم والذي لم يكن يسمح للطفل بالتعبير عن رغباته. وهذا ما نسمعه كثيراً من قبل بعض المسيحيين الذين، من أجل تبرير عدم ممارستهم للصلاة، يتساءلون عن ضرورة الصلاة بما أن الله يعلم ما نحن بحاجة إليه. بالمقابل النقص يعتبر عامل مهم جداً في الابداع والتسامي.
بما أن الحسد لا يمكن إرضاءه، والحسود لا يمكنه الشعور بالرضى، لهذا السبب الحسد أمر ملح وبشدة. فالحسد يولد القلق والخوف من التخريب والدمار، اللذان يضاعفان من شدة النهم والشراهة والنزعة إلى الخراب. بهذا المعنى هذه العلاقة الثالوثية تشكل نوعاً من حلقة فارغة.
الحسد يولد الشعور بالذنب.
أمثلة: امرأة كانت ظروفها وأوضاعها سيئة عندما كانت طفلة، بالتالي فهي تتهم ماضيها بغياب الشعور بالأمل والرجاء لديها لا بالحاضر ولا بالمستقبل. هذه السيدة اتصلت يوماً لتلغي الجلسة لأنها تتألم كثيراً من كتفها. ثم تتصل في الغد لتخبرني بأنها لا تزال تتألم. وفي النهاية تأتي في اليوم الثالث لتقول بأن لا أحد اتصل بها واهتم بها وأن الألم تضاعف فجأة وشعرت ببرد شديد مع رغبة كبيرة في أن يأتي أحد ما يغطي لها كتفها ويدفئها ثم يذهب. ثم تذكر يوماً من طفولتها حيث كانت ترغب في الاهتمام بها ولكنها لم تجد أحد. فهذه الرغبة المزدوجة: طلب الاهتمام وابعاده في نفس الوقت ( اعطاء الدفء والذهاب) يميز نوعية علاقاتها مع الآخرين. وهذا يعود إلى وجود كل من الحسد والحقد اتجاه الموضوع الذي يعطي الرضى. بالإضافة إلى أنها عاشت علاقات عدة انتهت بالفشل مما ثبّت لديها الشعور بأن العاطفة التي تبحث عنها لا يمكن أن تتحقق.
باختصار نقول بأن الحسد يمس العلاقة الحصرية بين شخصين، بينما الغيرة تتطلب وجود ثلاثة أشخاص. الحسد قد يؤدي إلى القتل أمّا الغيرة فلا. الغيرة الطبيعية، أي عندما تكون ضمن الحدود الطبيعية فهي مهمة وضرورية لأنها مصدر طموحات الإنسان؛ فالإنسان الذي لا يغار هو إنسان بدون طموح. أمّ النميمة ففي أكثر الأحيان تنبع من عدم الثقة بالنفس: مثلاً، عندما أسمع انتقادات تخص إنسان صديق لي أشعر أمامه بعدم الثقة، أو أعتبره أهمّ مني أو أكثر شعبية أو نجاحاً مني ففي هذه الحالة أشارك في الانتقاد، في النمّ عليه مع الآخرين ممّا يشكل وسيلة دفاع لنفسي. ولا يعني ذلك أنني لا أعتبره صديق لي، وخاصة مشاركتي في هذه الحالة لا تنبع من قناعة مني بهذه الانتقادات.
كيف يمكن الخروج من الحسد والنميمة والغيرة؟ الأمر يعود إلى مدى قوة الموضوع. قد تكفي العودة إلى الذات، إلى الماضي الشخصي. وقد يحتاج المعني بالأمر إلى طلب مساعدة من إنسان مختص.
دور الأب في نظر التحليل النفسي
« العقدة الأساسية في أمراض العصاب» و « نقطة التقاطع» للرغبة الطفولية ( بمعنى أن اللاوعي هو الطفولة الحاضرة فينا) : فالجنس الطفولي يبلغ قمته فيها، والجنس البالغ فيها يتقرر مع كل اختلافاته وطرقه المسدودة، بالإضافة إلى قاعدته وقانونه. نقطة تقاطع أيضاُ بالنسبة لما يسميه فرويد « قلق في الحضارة : Malaise dans la civilization» ولمجمل الانتاج الحضاري بما فيه بدايات الدين، والأخلاق والمجتمع والفن ( طوطم والتابو).
1 – عقدة الأوديب وقدرنا: أين نجد اليوم آثار هذه الجريمة القديمة والتي أصبحت منسية اليوم من الذاكرة الإنسانية ؟
أوديب : ابن ملك تيبيس «Thèbes» محكوم عليه من قبل آية إلهية بأن يقتل أباه وأن يتزوج من أمه. تخلى عنه أبوه منذ ولادته خوفاً من تحقيق الآية الإلهية ثم تم استقباله من قبل ملك قورنتس، وقد علم فيما بعد بوجود هذه الآية الإلهية فهرب من والداه بالتبني. وشاءت الصدف أن يلتقي بأبيه الذي لا يعرفه ويقتله، وعلى أبواب تيبيس يستطيع أن يحل اللغز الذي عرضه عليه « أبو الهول» وكانت المكافأة أن يتزوج من أمه «جوكاست» التي لم يكن يعرفها. ويصبح بالتالي ملك تيبيس إلى جانب أمه بدلاً من أبيه لايوس. ملزم بأن يتحقق من قدره بسبب مرض الطاعون الذي اجتاح المدينة، تظهر الحقيقة بفظاظتها : فتتحقق الآية بالرغم منه فيقتل أبيه ويقتلع عينيه ويعود مجدداُ للتسكع.
وطاعون مجتمعنا أو «قلق حضارتنا» كما يسميه فرويد يلزمنا بالتحقيق عينه ( وفرويد كان يقارن بين مسيرة أسطورة سوفوكل « SOPHOCLE» ومسيرة التحليل النفسي). هذا التحقيق يدور حول الآثار الشبه منسية والتي تتحكم بقدرنا، آثار لجريمة مجهولة تتآكل حاضر كل واحد منا: هذا ما يجب علينا أن نرى في أوديب، ليس وجه مشابه لنا، إنما هوية القدر. هوية قدرنا. فما هو هذا القدر؟
2- أوديب اليوم: عقدة أوديب ليست غريبة عنا ونراها حاضرة في الطفولة التي تحدد مستقبلنا. وفي الحقيقة مرحلة الأوديب هي مفتاح المستقبل النفسي للإنسان. ما يهمنا الآن هو دور الأب فيه هذه المرحلة المصيرية بالنسبة للطفل. مرحلة الأوديب تبدأ في الأشهر الأولى للطفولة ولكنها تبلغ ذروتها حوالي السبع سنوات. ما لذي يميز هذه المرحلة من نمو الإنسان؟
في هذه المرحلة يميل الصبي إلى أمه ويريد أن يتزوج معها وينجب منها أطفالاً. قد يعبر عن هذه الرغبة في الكلام وقد يعبر عنها من خلال تصرفاته: فمثلاً يبقى متمسك بأمه لا يريد أن يبعد عنها ولو للحظة، ومستعد لتلبية كل ما تطلبه منه أما الأب فيتحول إلى خصم لدود بالنسبة له ويسعى للتخلص منه بهدف الحصول على أمه، وهذا ما نسميه« بقتل الأب». كذلك الفتاة تميل إلى الأب وتريد أن تتزوجه. بالنسبة للفتاة هذا الميل ينبع من رغبتها في الحصول على العضو الذكري الذي تعتبر نفسها منه محرومة، وتعيش نفسها على أنها «مخصية» ( أي أنها صبي تم إحصاؤه . بالطبع كل هذه الأمور التي نتحدث عنها تتم بشكل لاواع) .
فدور الأب هنا يكمن في منع تحقيق هذه الرغبات وذلك من خلال حضوره ونوعية هذا الحضور. بتصرفاته يفهم أولاده بأنه متزوج مع الأم وأن على الطفل عندما يكبر أن يصبح على مثال أبيه والفتاة على مثال أمها، وبإمكانه أن يختار من بين كل نساء العالم زوجة له ما عدا أمه. وكذلك الأمر بالنسبة للفتاة.
ما هي نتائج هذه المرحلة وكيفية الخروج منها ؟ أولاً هذا الأمر يتعلق من جهة بمقدار أهمية وقوة الرواسب الأوديبية لدى الأهل ومدى تجاوب الأولاد مع موقف الأهل من جهة أخرى. إذا كانت الرواسب الأوديبية قوية لدى الأهل فإنهم سيقعون في «لعبة أو فخ» الطفل: والنتيجة أن الأب قد يذهب به الأمر لإقامة علاقات جنسية مع ابنته وهذا الأمر للأسف موجود في مجتمعاتنا أكثر مما نعتقد. أو قد يكون مجرد تعلق قوي بين الطرفين لدرجة أن الأب يعيش مع ابنته علاقة شبه زوجية : فهو يخرج معها للمطاعم والحفلات المسائية الراقصة وغيرها بينما الأم تبقى وحيدة في المنزل وبالتالي تعيش الأم ابنتها على أنها «ضرتها».
بالنسبة لعلاقة الأم مع ابنها الأمر متشابه تماماً ما عدا غياب امكانية قيام علاقة جنسية بينهما (بين الأم وابنها) إلاٌ في حالات مرضية جداً. ولكن يتعلق الابن بأمه والام من جهتها تعمل كل ما بوسعها لتمكن هذا التعلق. والنتيجة أن الابن في هذه الحالة يبقى أسير تعلقه بأمه ولا يمكنه الانتقال إلى مرحلة الزواج. فمثلاً شاب في عمره 25 سنة يقول أنه يرغب في الزواج لكنه لا يستطيع تحقيق ذلك لكونه عاجز عن تصور ذاته في علاقة جنسية مع فتاة ما بينما بإمكانه وبسهولة كبيرة أن يتصور ذاته في علاقة مع أمه. هذه الحالة هي بالطبع مرضية ولكنها توضح لنا الوضع الطبيعي. وهذا الشاب حاول أكثر من مرة أن يقتل أباه بالمعنى الحرفي للكلمة. وعندما لم يستطع تحقيق ذلك انتهى بقتل ذاته.
هذه الحالة مرضية ولكنها، كما قلت توضح لنا الحقيقة والواقع. ففي الواقع، كما رأينا جميعنا نعبر من خلال المرحلة الأوديبية. وهذا أمر طبيعي جداً. ولكن المهم هو الخروج السليم منها. فالخروج السليم منها يعود إلى الاهل وبشكل خاص إلى الأب.
3- الخروج السليم وأهميته : الخروج السليم من مرحلة الأوديب له أهمية كبيرة جداً. هذا يعني أولاً أن الطفل فهم أنه لا يمكن له أن يحقق رغباته بشكل مباشر مع من يريد وفي المكان الذي يريد وبالطريقة التي تحلو له. وهذا الأمر على كل الأصعدة وليس فقط في المجال الجنسي. ثانياً هذا الخروج السليم يفتح أمام الطفل أبواب المستقبل: «في المستقبل ستكون على مثال أباك رجلاً تتزوج من المرأة التي تختارها ماعدا أمك»، وأخيراً وليس أخرا هذا الخروج السليم يُدخل الطفل في عالم الكبار أو عالم الإنسان بمعنى أنه يدخل في عالم الرمزية. والرمزية، كما نعلم هي ما يميز الإنسان. فلا وجود للإنسان خارج الرمزية. فكما رأينا في الحالة المرضية التي ذكرنا آنفاً. بعدم دخوله في عالم الرمزية حاول هذا الشاب أن يقتل فعلياً. ولكن في حال الدخول في الرمزية بسبب الخروج السليم من هذه المرحلة، يقتل الطفل أباه بشكل رمزيً، من خلال تجاهله له أثناء هذه المرحلة، ومن خلال رفضه لتلبية طلبات أبيه الخ. وعندما يكبر سوف يعيش ويتعامل مع الآخرين على الصعيد الرمزي أيضاً.
4- ما هي أهمية الرمزية؟ الرمزية، كما قلنا هي ما يميز الإنسان. أي أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش كإنسان خارجاً عن عالم الرمزية. فهو لا يستطيع أن يقول ذاته أن يعبر عنها بشكل كلي، لكونه أشمل بكثير من أن يعبر عنها من خلال الكلمات ( فاللغة هي قمة الرمزية)، ثانياً لكون الإنسان – وبسبب وجود اللاواعي - لا يعرف ذاته تماماً، وأخيراً الرمزية تعني أن الإنسان هو في مسيرة مستمرة في معرفته لذاته وللآخرين وأن هذه المسيرة لا تنتهي. بمعنى آخر الرمزية تعني أن الإنسان يبقى مشروع قيد التحقيق.
هكذا نلاحظ أن التحليل النفسي وضّح لنا أهمية ومكانة دور الأب في العلاقة الثالوثية العائلية وفي مستقبل الطفل. ومن خلال المرحلة الأوديبية رأينا عمق الإنسان وكيف أنه لا يمكننا أن نحجّمه ببساطة. والكتاب المقدس يقول: «بأن الإنسان خلق على صورة الله كمثاله»؟
5- فرويد ومفهوم الأب في الدين: من خلال دراسته للمرحلة الأوديبية وللدين يستخلص فرويد على أن الدين هو مجرد وهم وأن الله-الأب هو مجرد إسقاط من قبل الإنسان؛ إسقاط صورة مضخمة عن الأب آملاً أن يحقق له هذا الأب القادر على كل شيء كل رغباته. للأسف لا يسمح لنا المجال هنا لتوضيح هذه الخلاصة لفرويد، ولكن بإمكاننا القول بأن فرويد لم يدرس الكتابات الدينية، إنما اكتفى بتحليل كيفية عيش الإنسان للدين وخاصة الذين كانوا يأتونه للعلاج. فهل موقف فرويد مرفوض؟ هل يمكننا القول أن فيه شيء من الصحة؟ فرويد يقول بأن الدين هو «عصاب جماعي ينتج من الكبت الحضاري» . كما أنه يقول بأن الطقوس الدينية هي طقوس «وسواسية» مرتبطة ونابعة من الشعور بالذنب وبالتالي تهدف إلى التخفيف من هذا الشعور.
من الممكن أن يعيش الإنسان الطقوس الدينية بهذه الطريقة. من الممكن أن يكون الدين لدى بعض الناس وسيلة دفاعية. كما أنه من الممكن أن يكون الله-الأب لدى البعض هو إسقاط صورة مضخمة عن الأب القادر على كل شيء. ولكن هذا لا يعني على الإطلاق بأن الدين هو هكذا. بالإضافة، وهذا الأمر مهم للغاية، إلى أن الدين ليس من مجال التحليل ولا من اختصاصه إن صح التعبير. وفرويد يقول بنفسه هذا الأمر. وهو دخل على المجال الديني إلى حد ما عن طريق الصدفة من خلال دراسته لتاريخ الحضارة الإنسانية. ولهذا السبب نلاحظ أن المحللين بعد فرويد لم يعودوا إلى هذا الموضوع نهائياً. ولكن يبقى التحليل النفسي وسيلة مهمة تساعدنا في فهم ذواتنا والتخلص من الكثير من «عقدنا ومشاكلنا» كما أن باستطاعته مساعدتنا لكي نعني أكثر طريقة ودوافع عيشنا للدين، وتنقية إيماننا مما قد يعود لدوافع نفسية لا واعية أو للميول الخرافية التي قد تكون موجودة لدينا.
فإذا عاش الإنسان، الذي يمثله هنا الأب، بالفعل على صورة الله كمثاله، فإنه آنذاك، على مثال الله، سوف يمنع أبناءه من تحقيق رغباتهم بشكل مباشر وبالطريقة التي تحلو لهم وبدون أي رادع وذلك حفاظاً على حياتهم ومستقبلهم. وهذا ما نراه في الفصل 3 من سفر التكوين حيث الله يحذر الإنسان من الأكل من شجرة المعرفة والتي ترمز بدورها إلى تحقيق الرغبات دون أي رادع ودون أية قواعد أو شروط بما أن المعرفة في الكتاب المقدس تعني الخبرة والعلاقة. وبالتالي الأكل من شجرة المعرفة يعني اختبار كلية الخير والشر. ومن يختبر كلية الشر يموت حتماً. ومن يحقق رغباته بشكل مباشر يموت رمزياً بمعنى أنه لا يدخل في عالم الإنسان، في عالم الرمزية الذي تحدثنا عنه.
العلاقة بين الحبّ والجنس
كثيراً ما نسمع من الشباب اليوم وهم يطالبون بما يُسمى بالحرية الجنسية. والبالغين، في أغلب الأحيان، لا يعرفون بما يجيبون فيكتفوا برفض الفكرة جملة وتفصيلاً. أريد أن أقول في البداية، بأن ما سأعرضه هنا قد يرفضه الشباب وأنا أتفهم تماماً هذا الأمر فالشباب هم شباب وقد يصعب عليهم قبول كلامي.
لن أتكلم من باب الأخلاق، فأنا لست برجل أخلاق، بمعنى أنني لست هنا لكي أقول ما هو المسموح وما هو الممنوع. ما أقوله هو مجرد عرض إنساني ـــــــــ نفسي انطلاقاً ممّا أسمعه من خلال إصغائي للعديد من الشبان والبالغين بهذا الخصوص. كما أن الهدف هنا تسليط الأضواء على المعنى الإنساني للجنس.
اعتدنا القول بأن الجنس هو حاجة لدى الإنسان كالأكل
والشرب والنوم وهذا صحيح. لكن ما مكانة الحاجة لدى الإنسان؟ إذا نظرنا إلى حاجات الإنسان سرعان ما نلاحظ بأنه لا يوجد من حاجات بحت فيزيولوجية لدى الإنسان، فالحاجة لديه مسكونة بالرغبة التي تشكل حقيقة الإنسان. والرغبة لدى الإنسان هي دائماً الرغبة في الآخر، فالآخر هو الوحيد الذي يمليني ويعطي معنى لوجودي. مثلاً، إلاَّ في حالات نادرة لا يأكل الإنسان ولا يشرب ولا يمارس الجنس وحده، بل دائماً مع الآخرين. وكلنا نعلم أهمية الموائد في حياة الإنسان على جميع الأصعدة. هنا نلمس كيف أن الرغبة في الآخر تعبر عن ذاتها من خلال الحاجة، فمن خلال تلبية الحاجة ألتقي بالآخر. وما يميّز الرغبة هو استحالة تلبيتها بشكل كامل وكليّ، بهذا المعنى نقول إنها مسكونة بالنقص وما يميّز الإنسان هو النقص بهذا المعنى. هذا يعني أن الجنس هو قبل كل شيء علاقة، علاقة مع آخر مختلف عني جذرياً ولا يحق لي إلغاء اختلافه، لا بل أكثر من ذلك إلغاء الاختلاف هو مجرد وهم ليس إلاَّ.
لنفكر أولاً بعبارة «الحرية الجنسية». هذه العبارة تعني أكثر من أمر واحد. أولاً هذه العبارة تطرح علينا سؤال مهم: أين هي الحرية عندما يفرض الموضوع ذاته عليّ. لا ننسى بأن الحريّة الحقيقية هي الحرية اتجاه الذات، اتجاه الأنا. ثانياً من يطالب بهذه الحرية الجنسية، يقوم بهذا الأمر انطلاقاً ممّا يسمعه أو يراه على شاشات التلفزة أو في الواقع الغربي. هل تساءل هؤلاء، أنه في الغرب عندما يعيش الشباب هذه الحرية، ففي أغلب الأحيان خوفاً من أن يصبحوا موضوع سخرية من قبل رفاقهم والمحيطين بهم؟ فأين الحرية في هذه الحالة؟
إذا طرحنا الآن السؤال عن العلاقة بين الحب والجنس، فماذا يمكننا أن نقول؟ كلمة الحب كلمة مطاطة إن صح التعبير، بمعنى أنه يمكننا أن نفهمها بطريقة مزاجية لما تحمله من معاني. البعض يعرف الحب بأن تضحية، احترام، عطاء، الخ. وهذا صحيح ولاشك! لكن برأيِّ أن أهم صفة للحب هي الاستمرارية. فالحب ليس الانجذاب ولا المشاعر ولا العواطف بالرغم من أهميتها. الحبّ هو في النهاية قرار: قرار أي أننا قرّرنا أن نحب بعضنا بالإضافة إلى وجود المشاعر والانجذاب والعواطف التي، كما نعلم جميعاً لا تدوم، أو أقلّه لا تدوم بنفس الطريقة. فالذين يبنون حبهم عليها سرعان ما يشعرون بالخيبة: «أشعر الآن، بالرغم من أن زواجنا لا يزال حديثاً، بأنه لم يعد يحبني، في البداية كان يتذكر عيد زواجنا، كان يتذكر عيد ميلادي، الخ» واليوم ذهب هراءً كل ذلك!
إذا كان الحبّ هو استمرارية، فما هي العلاقة بينه وبين الجنس. الجنس هو التعبير العميق عن الحبّ. إنه تجسيد للحبّ. والحبّ هم كلمة، بمعنى أن الإنسان يعيش الحبّ أولاً بالكلمة: يعطي ذاته، يعرّيها بالكملة: يقول ذاته، إيجابياته وسلبياته الخ دون أن ننسى بأن الإنسان هو من نتاج الكملة ومدعو ليصبح كلمة، وهذا ليس بالأمر السهل. عندما يتم الأمر بهذه الطريقة يكون الجنس آنذاك تجسيد لهذه الكلمة.
فقبول النقص يعني من جهة قبول اختلاف الآخر، ومن جهة ثانية يعني أنه لا يحق لي استعماله لتلبية حاجتي لأنه في هذه الحالة أنزع عنه صفة الإنسان وأتعامل معه على أنه وسيلة، شيء ما استعمله كما أريد. وأخيراً قبول النقص هو الذي يسمح بعيش علاقة حقيقية من جهة، ويحمي هذه العلاقة من الوقوع في الاندماجية التي تلغي أحد الطرفين وبالتالي هي قاتلة. لأن ما من أحد يشبع الإنسان إلاَّ حضور الآخر في حياته.
من هنا نقول بأن العلاقات الجنسية العابرة لا تحمل شيئاً للإنسان سوى مجرد تلبية حاجة سطحية عابرة. ولهذا السبب سرعان ما يشعر من يعيشها بالفراغ والرغبة في التكرار. بينما من يعيش علاقات حقيقية بالمعنى الذي شرحناه، يشعر بشيء من الملء ولا يسعى إلى التكرار مباشرة.
فالخطر الأكبر في العلاقة الجنسية هو استعمال الآخر، جعل الآخر مجرد وسيلة، وبالتالي إلغاء وجود كإنسان. بالطبع هذه الناحية تتم بشكل لا واعٍ. وهذا موجود أيضاً في الحياة الزوجية، ممّا يعني أن أنسنة الجنس هي عملية لا يمكن أن تنتهي يوماً.
ورقة عمل للتحضير للزواج
ورقة عمل للتحضير للزواج
تهدف هذه الورقة للتحضير للزواج. فالفكرة الأساسية هي الأولى، أي مدى قبول الاختلاف بين الرجل والمرأة. وما تبقى منها فهي الأماكن التي تظهر فيها هذه الاختلافات بالإضافة إلى أنها تشكل شبكة الحياة الزوجية. فلكي تبلغ هدفها، على الطرفين أن يتحاورا بكل صراحة وبساطة بهذه النقاط للوصول إلى نقاط مشتركة تشكل حياتهما الزوجية المستقبلية، بالطبع دون إلغاء اختلافاتهما.
من أجل موضوعية أكبر من المفضل وجود طرف ثالث بينهما يثق به الطرفان، لكي يلفت انتباههما إلى بعض النقاط التي قد يغفلونها أو لم يواجهها بصراحة كافية ويطرح عليهما الأسئلة المناسبة.
ملاحظة: من الخطر جداً بناء الحياة الزوجية على التنازلات. المقصود هنا التنازلات التي تخص الأمور المهمة لكل واحد. فالتنازل عن أمور بسيطة هي أمر طبيعي وضروري للعيش المشترك.
1- كيف نتعامل مع اختلافاتنا (لكوننا رجل وامرأة، لكوننا نأتي من بيئتين وعائلتين مختلفتين ……ولكوننا كائنين كلها تجعل أن هناك العديد من الاختلافات بيننا )، بمعنى آخر كيف نجعل من هذه الاختلافات مصدر غنى بدلاً من مصدر خلافات ؟
2- أي نوع من العلاقات توجد بيني وبين أهلي ، بيني وبين أهل الشريك/الشريكة؟ علاقات ارتباط ؟ علاقات مريحة؟علاقات مشحونة؟ الخ…. هل أشعر بحرية اتجاه أهلي؟ وإلى أي حد؟
3- ما هي أهمية المال بالنسبة لنا كزوج وزوجة؟ إلى أي حد نعطيه الأولوية؟ هل العمل هو المهم لتأمين حياة كريمة للأطفال وللعائلة؟ أم أن هناك أمور أهم وما هي؟
4- وهل نريد بيتاً مفتوحاً، مستقبلاً أم بيتاً مكتف إلى حد ما بذاته: علاقات محدودة مثلاً.
5-ما مفهومنا "للكوبل" للزوج؟ وما هو دور كل واحد ضمن هذه الحلقة؟ ما رأيك في المرأة العاملة؟ إلى أي حد يمكن إعطاء الحرية لأحد الطرفين بمعنى آخر إلى أي حد يمكن لأحد الأطراف أن يحقق موهبة ما لديه أو أن يعيش شيئاً ما يحبه ويريد أن ينميه؟
6- أي مفهوم لدي (لدينا) عن تنظيم الحياة اليومية: ترتيب المنزل، النظافة (البيت، الشخصية، الأولاد، الخ). من المهم هنا التحدث عن عادات كل واحد، عادات تربى كل منهما عليها، فهي تلعب دوراً مهماً في الحياة المشتركة لاحقاً.
7-ما عدد الأطفال الذي ترغبون به؟ هل أنتم متفقون على هذا الأمر؟ أي نوع من التربية تريدون ممارستها معهم؟
8—ما مفهومك للعلاقة الجنسية؟ ما هي أهميتها؟ كيف يمكن التعامل معها في حال وجود رغبة لدى طرف واحد فقط؟
9- هل للإيمان المسيحي أهمية بالنسبة لك؟ ما هي؟ وما هو دوره في العلاقة بينكما وفي تربية الأطفال؟
10- بالطبع يبقى المجال مفتوح بحسب الأمور التي تعيشونها أثناء مرافقتكم لبعض.
الأسس الصحيحة للزواج
ما هي الأسس الصحيحة للزواج؟
الزواج مؤسسة وككل مؤسسة لها أسسها التي تسمح لها بالنجاح من جهة وبالاستمرارية من جهة أخرى. فالعامود الفقري للزواج إن صح التعبير هو بدون شك، قبول الاختلافات المتعددة الموجودة بين الرجل والمرأة: الاختلافات الاجتماعية والبيئية والتربوية، لكن يبقى الاختلاف الأساسي والأهم هو بكل بساطة الاختلاف الجنسي. الاختلاف الجنسي بمعنى المُجنّس (الذكورة والأنوثة)، والذي ينعكس على نفسية كل منهما، أي على طريقة تفكير كلّ منهما وعلى علاقاتهما بشكل عام. فالرجل لا يتعامل مع الآخرين ولا مع الأشياء كالمرأة وبالعكس. بمعنى آخر الرجل يتعامل مع الأمور من خلال ذكوريته والمرأة من خلال أنوثتها.
هذا الاختلاف الجنسي - المُجنّس ينعكس على مفهوم الحياة، ومفهوم الزوج والحياة الزوجية، على مفهوم العلاقة الزوجية والعلاقة مع الأولاد، والنظرة إلى ترتيب المنزل، على العلاقة مع الأهل، مع المال، الخ؛ وطالما لم يتم هذا القبول لا يمكن لحياتهما ولعلاقتهما الزوجية أن تكون ناجحة، ممّا يجعلنا نقول بأن إنجاح الحياة الزوجية هي مهمة تدوم طوال الحياة.
مثلاً: عندما يقع خلاف كبير بين الزوج والزوجة لدرجة المقاطعة الكلامية، كيف يتعامل الزوجين مع الموضوع لحلّ المشكلة؟ الرجل يعتقد بأن هذا الخلاف يتم حلّه
من خلال العلاقة الجنسية، في الوقت الذي لا تسمح له زوجته بأن يمسّها قبل أن تُحلّ المشكلة!! مثل آخر بخصوص التعامل مع موضوع الجنس والعلاقة الجنسية. بالنسبة للرجل من السهل جداً فصل العلاقة الجنسية عن الحبّ لأن الجنس لديه يتمحور حول الأعضاء الجنسية التناسلية، بينما عند المرأة الموضوع «متفشي» لديها، شامل وبالتالي مرتبط بقوة بالعاطفة. من هنا تأتي أهمية الكلام «المعسول» والبعد العاطفي في العلاقة الجنسية لديها، ولا يمكنها فصل العلاقة الجنسية عن الحبّ، إلاَّ في حالات خاصّة جداً.
إحدى نقاط الاختلاف المهمة أيضاً بين الاثنين نراها في التعامل مع الجسد الشخصي: المظهر الخارجي واللباس والماكياج الخ. كلها أمور أنثوية مهمة ويصعب كثيراً على الرجل قبولها ببساطة فيتم تراشق التهم بينهما؛ وكلنا نعلم جيداً الصفات التي يطلقها كل طرف على الآخر والتي تعبّر عن رفض اختلافهما. مثلاً لدى تأخر الزوج عن موعد معيّن فتتوجه التهمة عفوياً للمرأة بسبب اهتمامها بمظهرها الخارجي الذي يعتبره الرجل أمر تافه بالوقت الذي يفضل فيه المرأة الأكثر أنثوية وجمالاً!! فالرجل سريع وعملي ويعتبر أن تمضية بعض الوقت في المنزل والمشاركة في تربية الأولاد مضيعة وقت، وهذا الأمر يصعب كثيراً على المرأة قبوله.
بالمقابل لا يمكننا أن نتجاهل الأمور الأخرى المتعلقة بالتربية والتي زُرعت إن صح التعبير في كل من الرجل والمرأة وتزيد من الاختلاف وتعمّقه. بشكل عام نخاف الاختلاف ونعيشه على أنه خطر علينا: ففي اللغة العربية العامّية على الأقلّ، نستعمل كلمتي الاختلاف والخلاف بنفس المعنى في الوقت الذي نعلم فيه جيداً بأن الفارق كبير بينهما. نستعملهما بنفس المعنى لأننا نعتقد بأن الاختلاف هو حتماً سبب خلاف فنخافه ونهرب منه. بهذا المعنى نقول بأن الرجل والمرأة هما خطّان متوازيان لا يلتقيا. فيكف يمكن إذن تحقيق هذا اللقاء وما هو المفهوم الصحيح للحياة الزوجية؟
الوسيلة الأساسية لتحقيق هذا الأمر هو الحوار (انظر مقالة الإصغاء والحوار). فمن خلال الحوار والإصغاء المتبادل يصل الطرفين إلى قبول اختلافهما. هدف الحوار هو قبول كل طرف للطرف الآخر كما هو. لكن هذا لا يعني أبداً أن كل منهما يقف مكانه دون حراك، إنما يعني أنه بقدر ما يتم القبول يصبح إيجاد النقاط المشتركة بينهما ممكناً، وهذا هو الهدف الثاني للحوار. فمن خلال هذا الحوار يصل الاثنين إلى ما يمكن تسميته «بالخط الثالث» الذي يحتوي على عناصر ونواحي من المرأة، وكذلك أيضاً من الرجل بالإضافة إلى نقاط ونواحي اكتشفوهاً معاً واتفقوا عليها. هذا الخط الثالث هو، برأي، الحياة الزوجية والذي يرمز إليه الطفل. فهذا الأخير لديه عناصر من أمه وأخرى من أبيه كما أن لديه عناصر شخصية خاصة به. بهذا المعنى نقول أنه يرمز للخط الثالث لكنه ليس الخط الثالث.
في النهاية نقول بأن هذا الاختلاف موجود قبل كل شيء داخل كل إنسان، بما أن الإنسان هو كائن مزدوج الجنس. فبقدر ما يتم قبول الاختلاف الداخلي يتم قبول الاختلاف الخارجي.
هذه هي الأسس الصحيحة لبناء حياة زوجية متينة بشكل عام. يبقى السؤال: ماذا يعني «سر الزواج» كما نسميه في الكنيسة؟ وما الذي يضيفه على هذه الأسس؟
أولاً كلمة « سر» في الكنيسة لا تعني أمر مخفي، لا يمكن فهمه واستيعابه. فكلمة « سر» تعني أنه لا يمكن فهم الموضوع بشكل كليّ ولمرة واحدة وخاصة لا يمكن تحقيقه بشكل كليّ وكامل، لهذا السبب ترتكز الأسرار جميعهاً على الرموز. مثلاً الماء في المعمودية هي رمز الطهارة، وما من أحد يستطيع أن يرى الطهارة بحد ذاتها، الخ. بمعنى آخر من خلال الرموز (الأمور المرئية «الماء، الشمعة، الخ» يتم التعبير عن الأمور الغير مرئية).
ففي سر الزواج اعتدنا أن نقول بأن الكاهن هو من يقوم بالزواج، بينما الكنيسة تُفهمنا بأنه مجرد شاهد على هذا الزواج. كما أننا اعتدنا القول بأن الروح القدس هو الذي يحمي الزواج المسيحي من الطلاق. فكيف يمكننا فهم هذا الأمر في الوقت الذي تتضاعف فيه طلبات «إلغاء» الزواج في الكنيسة؟ الكتاب المقدس يقول لنا: «ما جمعه الله لا يفقرنه إنسان». إن فهمنا المعنى الصحيح لهذه الآية نفهم آنذاك ما سبق وقلناه حتى الآن.
«ما جمعه الله لا يفقرنه إنسان». يقول لنا الإنجيل بأن الله حبّ. وبالتالي إذا كان الحبّ هو الذي يجمع الزوجين فمن الطبيعي جداً أن لا يكون هناك من طلاق أو إلغاء زواج (الكاهن هنا هو إذن شاهد على هذا الحبً، على حضور الله في هذه العلاقة). عندما يجمع الحبّ الطرفان يتم آنذاك قبول اختلاف كل طرف من قبل الطرف الآخر ويتحقق القسم الثاني من الآية: «يصبح الاثنان جسداً واحداً»، أي يعيشان الوحدة في الروح دون إلغاء اختلافهما؛ وهذه الوحدة ما هي سوى صورة عن وحدة الله في اختلافه: الآب والابن والروح القدس. فعندما يحقق الزوجان وحجتهما بهذا المعنى، يحققان أنفسهما على صورة الله كمثاله.
مقابل تغيرات العصر أيّ تربية؟
بداية سوف أتحدث عن بعض الأسس في التربية ثم سأتوقف على بعض المواقف والحالات التي يواجهها الأهل بتكرار ويطلبون الحلول.
ملاحظة 1: كثير من الناس هنا يتحدثون عن التربية الحديثة مقابل التربية القديمة. وينسبون للتربية الحديثة أموراً خاطئة مئة بالمئة. لا وجود لتربية قديمة وأُخرى حديثة بمعنى أننا نحن أبناء اليوم أكثر فهماً من الذين سبقونا؛ جل ما هنالك تتطور أساليب التربية مقابل التغيرات التي تحدث لدى الأجيال اللاحقة.
ملاحظة2: في المجال الإنساني لا وجود لثوابت ولمطلقات، بمعنى أنه لا وجد لحلول كاملة ولا لقرارات صحيحة كليّة. كل اختيار، كل قرار له وجه سلبي ووجه إيجابي. هذا الأمر مهم للغاية لأنه يدعونا للخروج من المثالية القاتلة. كلنا بدون استثناء نريد أن نكون ويكون العالم مثالياً ولكن.... كما يقول الإنجيل القمح والزؤان مختلطان دائماً وفقط في يوم الحصاد يمكننا الفصل بينهما.
مسيرة كل إنسان هي مسيرة أي لا تعرف التوقف. وهذه المسير هي باتجاه تحقيق إنسانيته، أي باتجاه النضج والاستقلالية والمسؤولية والحرية. هذه المسيرة تعبر بمراحل وكل انتقال من مرحلة إلى أُخرى يتطلب تخلي من أجل ما هو أفضل: الخروج من الرحم لحياة أفضل حتى ولو اعتقد الإنسان العكس، الفطام من أجل حرية واستقلالية ونضج أكبر حتى ولو اعتقد الإنسان العكس وهكذا دواليك. لكن بما أن كل تخلي صعب ومؤلم، فهو بحد ذاته يترك أثر سلبي لدى الفرد ممّا يجعلنا نقول بأن لا وجود للمثالية ولا للإنسان التام. المسيح وحده إنسان تام.
هذه المسيرة تعبر وتتحقق من خلال ما نسميه بالآلية النفسية. هذه الآلية تعمل بتأرجح بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع. وهذا التأرجح يرافقنا طوال حياتنا. مبدأ اللذة يعني أن ألبي حاجاتي ورغباتي مباشرة مع رفض كل رفض أو كل عائق. بينما مبدأ اللذة يقبل الواقع، يقبل بأن الواقع لا يمكن أن يكون كما يريده الإنسان وبالتالي يقبل بتأجيل تلبية ما يريد: حاجاته ورغباته. جميعنا نختبر أحياناً بأننا أقرب إلى مبدأ اللذة (مثلاً صعوبة الانتظار، أو صعوبة تأقلمنا وقبولنا لواقعنا كما هو)، أي مبدأ الطفولة وأحياناً أُخرى أقرب لمبدأ الواقع. حياتنا الإنسانية هي بتأرجح مستمر بين الاثنين وأحياناً يتم ما يمكن تسميته بالتثبيت بمرحلة ما، مما يجعلنا نجد أنفسنا أمام أُناس بالغين سناً وجسداً لكن تصرفاتهم الشخصية أقرب بكثير وشبه دائم إلى بدأ اللذة.
قبول الواقع يعني أولاً أن أقبل بأنه عليَّ أنا أن أتأقلم معه وليس العكس: لن يكون الواقع كما أتمناه؛ ثانياً هذا يعني القبول بعدم الحصول على ما أريد وأتمناه، استحالة تلبية حاجاتي ورغباتي في الوقت والطريقة التي أريدها.
فالعائلة، والمدرسة والمجتمع عليهم مسؤولية مساعدة الطفل للانتقال باتجاه الواقع أكثر. هذا العبور يتم من خلال القانون. فالقانون، ليس أيّ قانون هو الذي يساعد الفرد على أن يصبح إنسان:يعرف ذاته، حدوده، يقبل الآخر على أنه غيره، مختلف تماماَ عنه الخ. قلت ليس أي قانون، فالقانون الذي أتحدث عنه هو الذي يساعد الفرد على العبور باتجاه الواقع: قبوله، التأقلم معه. قبوله أي أقبل بتقاليده مثلاً: إحدى الصعوبات التي يواجهها الشباب هنا تكمن في رغبتهم بعيش ما يشاهدونه ويسمعونه على الشاشات الغربية في مجتمعنا. إنهم غير قادرين على الاستيعاب بأنه لا يمكن عيش مجتمع ضمن مجتمع آخر، فكما أنت الشرقي لا يمكنك عيش الغرب هنا، لا يستطيع الغربي أن يعيش الشرق في مجتمعه.
القانون يساعد الإنسان على القبول باستحالة تلبية ما يريد، كما يريد، وبالطريقة التي يريدها ومع من يريد. وهذا أساسي جداً. هذا ما نسميه بقانون المحارم الذي يمنع وجود علاقات جسدية جنسية بين أفراد العائلة الواحدة بالطبع ما عدا الأهل. ولكن مع الأسف هذا الاختراق موجود بكثرة وفي كل المجتمعات.
كيف سيتم تحقيق هذا الأمر؟
قبل الجواب على هذا السؤال الجوهري، علينا التساؤل عن التغيرات التي يعيشها مجتمعنا اليوم. قد نقول بأن الستالايت والانترنت غيروا تفكير الجيل الحالي ولهم تأثير كبير عليهم وهذا أمر صحيح جداً ولا يمكن الشك به أبداً. ولكن في الحقيقة التغيرات التي طرأت هي جوهرياً «ولادية» بمعنى أن أطفال اليوم لديهم إمكانيات وطاقات لم تكن موجودة مثلاً عندما كنّا نحن بسنهم اليوم. عندما يتحدث الأهل عن أطفالهم يعبرون بكل وضوح عن اندهاشهم أمام حديثهم وأجوبتهم. وهذا لم يأتي لا من الانترنت ولا من أية وسيلة خارجية. ممّا يعني أنه لا يمكننا مساعدتهم للدخول في عالم البالغين ولا الوصول إلى الواقع إن لم نقبلهم كما هم «أبناء جيل اليوم» وخاصة دون أية مقارنة مع أنفسنا عندما كنّا بسنهم ولا إطلاق أحكام مسبقة عليهم؛ آنذاك نحن في طريق مسدود ولا مجال للحوار والثقة بيننا وبينهم. بالمناسبة كل مقارنة قاتل للطفل بشكل خاص وحتى للبالغ بشكل عام.
إذا قبلنا هذا الأمر الواقع، دورنا كمربين يكمن في بناء الثقة والحوار معهم. أولاً وقبل كل شيء الحوار مع أطفالنا وشبابنا ولكن بشكل خاص مع الأطفال هدفه معرفتهم، معرفة لغتهم وطريقة تفكيرهم ورؤيتهم للأمور (كل طفل يجب اعتباره والتعامل معه على أنه إنسان له عالمه ورغباته الخ.). لكي نستطيع بناء الحوار والثقة معهم. عندما نقول حوار وثقة هذا لا يلغي أبداً دور الأهل، بمعنى أنه لا يمنع من أن يكون الأهل أصحاب القرار، إنما علينا أن نوضح لهم لماذا نقبل أو لا نقبل بهذا التصرف أو هذا الطلب أو.... والثقة بمعنى أنني أُشعر الطفل باستعدادي للتحاور معه بكل شيء، بأي موضوع يشاء ودون حكم مسبق، مما يجعله ينفتح على أهله ويصارحهم ويشاركهم بما يعيشه ويختبره مع أصدقاءه، في المدرسة الخ. يصارحهم لا يعني أنه يصبح ورقة بيضاء أمامنا، هذا مجرد وهم لا بل غير صحي. فمن الطبيعي أن يحتفظ الطفل كالبالغ بأمور معينة لنفسه ولا يصارح بها إلاَّ لمن يريد أو لا يصارح بها مطلقاً (أن أقبل حميميته وعالمه الخاص)، وقبول هذه الناحية هي جزء مهم لبناء الثقة المتبادلة. بقدر ما أعطيه الثقة يبادلني إياها وبالعكس. وعندما نعطي الثقة علينا أن نعي مباشرة أنه لن يكون أمين لها بشكل كامل، وأعتقد أننا نختبر هذا الأمر نحن البالغين أيضاً: ما من أحد في الدنيا يستطيع الادعاء بأنه أمين للثقة المُعطاة له بشكل كامل. المهم أن لا تكون «خيانة» هذه الثقة عن قصد وسابق تصميم كما يقال.
من خلال الحوار أُساعد الطفل على القبول بأن عليه احترام البيت:قوانينه، تقاليده الخ... علينا أن لا نخاف من الرفض، سواء من رفضه لما نطلبه منه، أو رفضنا نحن لتلبية ما يريد، وهذه الناحية مهمة للغاية. اليوم أصبحت لازمة نسمعها دائماً من الأهل: «لا نرفض لهم شيء، كل ما يريدونه موجود»، هذا الموقف من الأهل هو أفضل طريقة ليجعلوا من أبناءهم ما نسميه بلغتنا «الطفل الملك»، أي يصبح هو من يقرر ويفرض قانونه في العائلة بدلاً من العكس.
فأن نطلب من الطفل الطاعة هذا أمر بديهي وعلينا أن لا نخاف منه أبداً. فالطاعة تختلف تماماً عن الخضوع والخنوع. فالخضوع يُحطّ من الإنسان، بينما الطاعة تنميه وتحرره. وبقدر ما يتعلم الطفل أن يطيع بقدر ما يكون قادراً على رفض الطاعة عند الضرورة وأمام قوانين غير عادلة، وبقدر ما نلبي له كل ما يريد، يبقى رافضاً لنا حباً بالرفض وفرض إرادته، وبقدر ما يكون ( وهذا أسواء) عاجزاً على مخالفة آراء أصدقاءه ومن هم حوله مع أنه غير مقتنع بها أو سيئة برأيه الشخصي. لا يمكننا تعلم عدم الطاعة أمام بعض القرارات، إن لم نتعلم الطاعة أولاً.
لا شك بأن الطاعة صعبة من الطرفين، لذلك علينا تعلمها، إنها تتطلب من البالغ أن يسيطر على ذاته لكي «لا يستغل» سلطته على الطفل، إنها تتم من خلال الكلام واللغة والحوار. فلأن الطفل مسموح له بشكل منتظم (يمكنه أن يطلب من البالغ إن كان مسموح له أن يقوم بهذا العمل أم لا) يأخذ المنع معنى. الخضوع يُحط، بينما الطاعة تنمي كما قلت. فالطفل الذي لم يتعلم الطاعة يعيش بقلق وضياع. في الماضي كنا نستقبل أطفال عُصابيين أو «مكبوحين، مثبطين» بسبب التربية القاسية، بينما اليوم نرى أطفالاً ضائعين وقلقين بسبب فقدان المرجعية. مهم أيضاً أن نجعل الأطفال يدركون أنهم في النهاية لا يطيعون أهلهم بل قوانين البيت وبالتالي قوانين المجتمع، أي القوانين المشتركة والمتفق عليها.
تربية حرية الطفل
أن نحب الطفل، هذا لا يعني أن نعطيه كل شيء، ولا القبول بكل ما يقوم به، ولا أن نكون كلية له. حبّ الطفل لا يعني فقط الاعتناء به، و الإصغاء له ولا اللعب معه والسهر على صحته وحياته الاجتماعية، ومساندته في الدراسة، ولا تنمية إمكانياته الخلاّقة ،حبّ الطفل يعني أيضاً تذكيره بأن سلطتكم عليه تأتي من القانون وأنكم لا تستطيعون أن تفرضوا عليه ما يحلو لكم.
تربية الطفل تعني أيضا فرض الحدود والممنوعات، وإعطاءه قواعد الحياة والحياة المشتركة ومساعدته في قبول القانون. معاقبته عند الضرورة بعمل إصلاح من قبله في حال مخالفته له. ولكن بالمقابل عدم نسيان تشجيعه وتهنئته في حال أطاع بحريته. لا يجوز إعلان عقاب لن نمارسه، والسماح له بأمور تتناسب مع سنه، أي لا تضعه في خطر ولا في عدم أمان.
التربية والحب لا يتعارضان مع عيش الطفل بعض الحرمان ولا خيبة الأمل التي تحملها له الحياة. التربية والحبّ يتطلبان أيضاً التعبير عن ثقتكم بإمكانياته ليتجاوز بشجاعة الفشل وتجارب الحياة؛ وعدم الهروب من الصراع معه (لا ينمو الإنسان إلاَّ من خلال الصراعات والأزمات، والمواجهة بين الطفل وسلطة الأهل هي التي ستسمح له ببناء شخصيته)؛ القبول بعدم نجاحه في كل شيء وأن يخيب ظنكم أحياناً؛ ممارسة المسامحة معه، أي إعادة الثقة إليه، أو ثقتكم به. تربية واحترام شخصيته، حريته وتمييزه للأمور ومسؤوليته. عدم مطالبته بتحقيق سعادتكم ولا أن تحققوها له بدلاً منه. تشجيعه لاحترام سلطة البالغين الآخرين الذين نأتمنهم عليه (الأساتذة، المنشطين، الخ.) أن نبين له ونقول له كيف أن القيم الروحية والأخلاقية تجعلنا أكثر سعادة من تملك الخيرات المادية.
لا أريد الإطالة في الكلام. هذه هي الأسس الأهم في التربية، يمكننا التحدث ساعات وساعات ولكن ليس المطلوب. سأتوقف الآن على بعض المواقف التي يواجهها الأهل وتربكهم.
عندما يتشبث الطفل في محل تجاري للحصول على شيء ما وأنتم غير مقتنعين به. لا تترددوا في عدم التلبية موضحين له لماذا. مثلاً لا أرى من ضرورة لشرائه الآن؛ لم أحسب حسابي لشرائه اليوم. من الطبيعي احترام رغبات الطفل، لكن هذا لا يعني أبداً الخضوع لها. فالأهل ليسوا «بابا نويل».
أمام الموبايل، الانترنت والتلفزيون: يقول الأهل بأنهم يعطون الطفل موبايل للاطمئنان عليه. شخصياً لا أؤمن بهذا التبرير؛ كثير من الناس لا يملكون هذه الوسيلة ولا يعيشون بقلق دائم بخصوص أطفاله. الأهم: تريدون تعليم أطفالكم الكذب! أعطوهم موبايل. دون التحدث عن أهمية تعليمهم كيفية استعماله وما هو الهدف منه. يتم تحديد مبلغ معين وفي حال تجاوزه يتم سحب الموبايل منه.
الانترنت: في البيت لا يجوز وضع الكمبيوتر في غرفة الطفل، بل في المكان المشترك بحيث يستطيع الأهل متابعة كيفية استعماله له وتحديد أوقات معينة لاستعماله كذلك التلفزيون.
الخروج والعودة إلى البيت: هنا أيضاً يتم تحدد ساعات معينة ولا يجوز التساهل كثيراً فيها فسرعان ما تصبح القاعدة. بالطبع كل هذه الأمور يجب أن تتم في الطفولة ولا يجوز انتظار مرحلة المراهقة لتحقيقها فيكون قد فاتنا القطار كما يُقال.
ترتيب الغرفة: من الضروري تعليم الطفل على مسؤوليته عن غرفته الخاصة إن وجدت مع القبول في الوقت نفسه بأنها تشكل مساحته الخاصة وبالتالي يستحسن عدم التدخل فيها. لا يجوز أبداً ترتيبها بدلاً منه. لا ننسى بأن الفوضى الخارجية دليل على فوضى داخلية وبالتالي أمام هذه الفوضى يمكننا القول له بشكل سؤال: ألا تعتقد بأنها تعبير عن فوضى داخلية لديك؟ بهذه الطريقة نحول ما هو سلبي بنظرنا إلى وسيلة لبناء الحوار والثقة.
بالنسبة للدراسة: كلنا عبرنا من هنا، وكلنا نعلم بأن ما من أحد إلاّ في حالات خاصة، كان يستيقظ فرحاً لذهابه إلى المدرسة. فلنكن واقعيين. من واجبنا السهر على دراستهم ولكن دون أن تصبح هاجساً:مهم جداً تدريب الطفل على الدراسة لوحده، ومن السيئ جداً حضور أحد الأهل أمامه، حتى دون أي تدخل، أثناء دراسته، لأنه لا حقاً لن يستطيع الدراسة إلاّ إذا كان أحد ما بالقرب منه ومن المفضل حتماً الأم.
في النهاية التربية تبقى فن. فن التوازن بين المتطرفات لكي نتعامل بتوازن مع أبناءنا وهذا دون شك ليس بالأمر السهل.
مفهوم الحرية من وجهة نظر الآباء والأبناء
العلاقة بين الآباء والأبناء تعيش صراعا منذ الأزل ولايمكننا , على ماأعتقد , أن نلغي هذا الصراع . فهذا الصراع يعود, في الحقيقة, الى كونهم من أجيال مختلفة وبالتالي المفهايم تختلف ,القيم في بعض الأحيان . دون شك العنصر أو الفكرة الحساسة في هذه العلاقة هو مفهوم الحرية . فالآباء يحدون من حرية أبنائهم اقتناعا منهم على أنهم يعملون من أجل مصلحة أبنائهم والأبناء يتلقون هذا الأمر على أنه حد لحريتهم لايقبلون به فهم بالغون أو على الأقل راشدون ولايتقبلون فكرة من يقرر عنهم . فهل هناك من امكانية للتوفيق بين الطرفين? أو هل هناك من امكانية بتجيير هذا الصراع نحو الأفضل? هذا ماسنتحدث عنه اليوم .
لكي نخوض في الموضوع كما يجب علينا أن نتساءل ما هي الحرية . هل الحرية هي أن أعمل ماأريد ? هل الحرية تعني المزاجية ? حتما لا ! في الحقيقة الحرية تعني قبل كل شيء أن يستطيع الانسان أن يحقق ذاته , أن يعيش حقيقته الداخلية والعميقة , الحرية تعني أن يكون الانسان حقيقيا , وأخيرا وليس آخرا الحرية تعني أ ن يكون الانسان حرا من كل مايمنعه أن يكون ذاته . فالانسان الحر هو انسان حر من كل شيء حتى من ذاته . فالعبودية الكبرى والأساسية هي في الحقيقة العبودية للذات . كل ما يفرض ذاته علي من متطلبات من ملذات ورغبات هي في النهاية آتية من الأنا . هذا المفهوم للحرية يعني أنه لعيش حريتي علي أن لاأمنع الآخر من تحقيق ذاته , علي باحترامه وافساح المجال أمامه ليمارس بدوره حريته . وكما يقول المثل الفلسفي :؛ تنتهي حريتي عندما تبدأ حرية الآخر «.
ولكن عمليا كيف يمكن ممارسة هذا الأمر بين الأبناء والأولاد ? لكي نجيب على هذا السؤال علينا أن نتسائل عن دور كل منهم . فالأ هل من هم وما هو دورهم ? في الحقيقة الأهل هم الوسيلة التي من خلالها تنتقل الحياة من جيل الى آخر, هم الوسيلة التي تؤمن استمرارية الحياة وهذا الأمر مهم جدا وليس بأمر بسيط أبدا .فغالبا ماننظر الى الوسيلة على أنها لاشيء بينما لها دور فعال ,مهم للغاية . فعندما ننقل أي شيء كان من خلال وسيلة ما هناك تفاعل لايمكننا الاستخفاف به بين الناقل والمنقول . وعلينا أن لاننسى بأن الحياة عطية , موهبة مجانية, علينا أن لاننسى بأ نلاأحد يستطيع أن يمتلك الحياة , فالحياة تتجاوزنا ومن بعيد, ودلهذا السبب أقول بأن لايحق لاأحد أن يملك أحدا ولايستطيع أحد أن يملك أحد . فالأولاد هم إذن عطية نستقبلها في حياتنا ولاأحد يستطيع أن يحدد امكانية الانجاب لديه أو عدمها .
في الواقع كل المشكلة تكمن هنا . فإذا كان لدى الأهل نزعة لامتلاك اهلهم, فهذا يعود في النهاية لكونهم لم يعقبلوا أو يعيشوا مجانية الحياة . هذا يظهر بشكل واضح من خلال كيفية انجاب الأولاد. فمن النادر مايخطط الأهل لمجيء الطفل وإن قاموا بذلك , فإنهم يقوموا يه من الناحية المادية وغالبا مايأتي الطفل ؛غلطة« . والأهم هو أن الطفل لايأتي من أجل ذاته بل من أجل أهله : ليخلدهم, ليؤمن استمرارية النسل والعائلة , لكي يؤكد الأهل للآخرين من خلاله قدرتهم على الانجاب . لهذا السبب يعيش الأهل عدم الانجاب على أنه كارثة أؤ غياب الذكر كذلك أيضا .
بينما الطفل هو مشروع قائم بحد ذاته , وعلى الأ ل انجاب الأولاد لأجل انفسهم (لأجل الأولاد) وليس من أجل الأهل . على الأهل أن يربوا أولادهم من أجل ذواتهم . بينما مايجري في الواقع هو العكس . غالبا مايسعى الأهل لتحقيق , ما لم يستطيعوا تحقيقه في حياتهم , من خلال أولادهم .
وإذا كانت العلاقة بين الأهل والأبناء مبنية على الحب , فالحب الحقيقي لايعرف الملكية . ؛ أولادكم ليسوا لكم أولادكم أولاد الحياة« يقول لنا الكاتب المعروف جبران خليل جبران . فلبناء علاقة جيدة بين الطرفين , لكي تكون الحرية محترمة من قبل كلا الطرفين علينا أن نضع نصب أعيننا مايلي :
) أهمية الفرد
) لافرح حقيقي , لانمو حقيقي انساني روحي عاطفي الخ.... إلا من خلال نمو وفرح الآخر
) هذا لايتم إلا من خلال الحوار والاصغاء
لذلك أقول الأمر نفسه للأبناء . فعلى الابناء أن يحترموا حرية أهلهم ومكانتهم , كما أن عليهم أن يستفيدوا من خبراتهم الواسعة . فبمجرد أو رفض الأولاد هذه الخبرات والآراء فهم بعيدين عن احترام حرية أهلهم . فممارسة الحرية بين الطرفين من خلال الحوار والاصغاء يسمح للولد أن ينموا على عملية التمييز . لذلك لابد للأهل من القبول في بعض الأحيان بضياع الابن , أو على الأقل بخيرات الولد لكي يستطيع فيما بعد أن يميز . لدينا مثلا رائعا بهذا الاتجاه ؤلا وهو مثل ؛ الابن الضال« .
فاحترام الحرية يكون قبل كل شيء بالاصغاء لهم, لما يعيشونه وخاصة خلق جو من الثقة بدلا من القمع أو أو على الأقل بدلا من النهي المستمر . فامكانية التعبير عن الذات, عن مايعيشه الانسان من ايجابي وسلبي هي الامكانية الأفضل للنمو النفسي والانساني والعاطفي . والاصغاء للولد بحب واحترام وخاصة بثقة يساعده على أن يحكم على مايعيش والتمييز بين ما هو جيد وسيء . فاذا كانت خبرته مرفوضة مسبقا فهذا يلغي كل امكانية التمييز والحكم وبالتالي امكانية النمو . لاخوف من الخبرات التي يقوم بها الأولاد إذا كان باب الحوار والثقة مفتوح أمامهم , وما من أخطر من اقفال هذا الباب في وجههم . ولكن لكي يكون الاصفاء جيد, لكي يتم خلق جو الحرية والثقة لابد للأهل من أن يصغوا الى أولادهم انطلاقا منهم ولي انطلاقا من ذواتهم أي الأهل . فتفكير الأولاد الزما مختلف بما أن الأجيال مختلفة والخبرات أيضا . وأنا أقول نفس الأمر للأولاد أيضا . عليهم أن لاينس,ا بأن أهلهم يملكون خبرة أو خبرات كبيرة لايدركونها وعليهم الاستفادة من خبرات أهلهم دون اطلاق احكام مسبقة : ؛ هم دقة قديمة ...جيلهم غير جيلنا....« .
قبول خبرات الأولاد هذا يعني القبول بالتجربة, أي بالضياع . ماذا أعني بالضياع ? أعني القبول بأن الولد قد بخطىء وهذا أمر طبيعي, أن يغامر, أن يعيش مغامرته لكي يمكنه فيما بعد التمييز واكتشاف الخطأ. لدينا مثلا من الانجيل يوضح لنا هذا الأمر بشكل جيد : مثل الابن الضال . فالأب لم يفتح فاه أمام طلب الابن بالحصول على حصته من المال . اعطاه اياها وتركه يغامر . لم يكن بامكان الابن اكتشاف النعيم والحب الذي كان يعيشهم بالقرب من ابيه إلا عندما ابتعد عنه محاولا العيش على اهوائه والقيام بخبراته . فالأب في هذا المثل قبل ضياع ابنه, لابل قبل أن يحتك ابنه بالموت (كاد أن يموت جوعا يقول لنا النص) وفي النهاية اكتشف بأن الحياة والحب الحقيقيين هم لدى ابيه ثم عاد اليه معترفا بخطأه . بينما الابن الأكبر الذي لم يترك اباه لم يكتشف خطأه واستمر به .
الانسان الحقيقي هو الانسان الذي اختبر الحياة واختبرته الحياة بدورها أيضا . طالما لم يختبر الانسان الجياة, طالما لم ي دعك الانسان ويعارك الحياة فهو ليس بانسان . ولكن للأسف الشديد في أيامنا هذه يسعى الأهل بشتى الوسائل لكي يبعدوا عن أولادهم الهموم والمشعور بالمسؤولية . هذه أفضل طريقة لكي يبقى الولد طفلا متكلا رافضا للاستقلالية .
هل هذا يعني أن على الأهل أن لايقولوا شيئا لأولادهم ويتركونهم لمزاجيتهم ? بالطبع لا . فأنا لم أقل هذا ولايمكنني أن أقول هكذا . على الأهل أن يفيدوا أولادهم بخبراتهم وعلى الأولاد أن يحترموا ويستفيدوا من خبرات أهلهم ولكن على هذا الأمر أن يتم بحرية . وهذا هو دور الحوار بين الطرفين . فالحرية لاتعني المزاجية وعدم المزاجية لايعني القمح في نفس الوقت . هذا هو التوازن الذي على الأهل والأولاد معا أن يجدونه .
في النهاية أقول بأن الحياة تيقى عطية وبمقدار ماأعيشا بالغعل على أنها عطية بمقدار ماأسيطيع أن علاقة غير تملكية مع الآخر بشكل عام ومع الأولاد بشكل خاص . لأنه عندما استقبل الحياة كذلك فأنا أكون حرا لاأخاف على شيء . وبمقدار ماأعيش على أنني المصدر بمقدار ماأكون في موقف دفاعي, قلق, لايسمح لي بقبول زختلاف الآرين عني وأولادي بشكل خاص . فأنا أسعى آنذاك لكي أحقق -مالام استطع تحقيقه في حياتي - من خلال أولادي . وتكون علاقتي امتلاكية مملؤة بالطراعات بيني وبين أولادي .
هل هذا يعني أنه بهذه الطريقة من الممكن الغاء الصراعات بشكل عام ,صراع الأجيال بشكل خاص ? حتما لا . لايمكن الغاء الصراعات , وليس الملوب الغاؤها فالصراعات تشكل دينامية الحياة وفي كل المجالات . المطلوب هو القبول بها والتعامل معها من خلال الحوار المستمر من اجل سعي افضل نحو الحقيقة . فالحقيقة لاأحد يملكها ولاتوجد في مكان ما, إنما الحقيقة نصنعها من خلال سعينا وبحثنا عهنا من خلال هذا الحوار الذي نوهنا عنه .
الأب رامي الياس اليسوعي
دمشق في 13/01.6991
مفهوم الجسد الإنساني الجزء الثاني
شيء ليس كباقي الأشياء.
ظاهرياً الجسد هو شيء من بين الأشياء، ومع ذلك ليس كباقي الأشياء، أنه واقع خاص ومميز. هذه الميزات تظهر أقله بطريقتين مختلفتين:
1. بالطريقة التي أتكلم فيها عن جسدي. فأنا لا أستطيع القول «بأنني جسدي» ولا «أنني أملك جسداً». فمن المؤكد بأنني أكثر من جسدي، حتى ولو أنني لا أوجد خارجاً عنه. كما أنني لا أستطيع القول «أنني أملك جسداً» لأن جسدي ليس خارجاً عني.
2. من خلال العلاقة مع الجسد الميت، فالإنسان يتميّز بكونه يدفن موتاه. وهذا في كل الحضارات الإنسانية بمختلف أشكالها. هنا يمكننا التوقف على ظاهرتين:
للتعبير عن الجسد الميت نستعمل كلمة الجثة.
الجسد الذي تحول إلى جثة أصبح موضوع للدفن.
هاتين الظاهرتين تبينان لنا بأن الموضوع ليس فقط موضوع جسد، فهو يمس واقع إنساني: الجسد الميت، لم يعد سوى غنيمة، كما أنه لم يعد مركز للعلاقات؛ لم يعد جسداً لأنه لم يعد حياً ومع ذلك يبقى واقع إنساني. ولكن ليس لأي كان: بالنسبة لمن كانوا على علاقة معه، وأن هذه العلاقة كانت قوية وحميمة، بالنسبة لمن عرفوا هذا الميت، الغنيمة تلخص كل تاريخه، وكل الاختبارات التي عاشوها معه.
من المعروف أن الإنسان هو الحيوان الذي يدفن موتاه. هذه المقولة المهمة على صعيد البحث التاريخي وخاصة مرحلة ما قبل التاريخ، لها أهمية قاطعة على الصعيد الأنثروبولوجي: الإنسان هو الحيوان الذي يتذكر من عاش معهم، ويتفاعل معهم كمن، بطريقة أو بأخرى، لا يزالوا حاضرين معه.
فالطقس الشامل للدفن يقول لنا أمرين: أولاً، مأساة الوجود الإنساني، وثانياً، الرجاء الخفي للأحياء. أولاً، المأساة ، لأنه مهما كان هادئاً وخفيفاً وطبيعياً يبقى الموت قطع، نهاية مطلقة للكائن المحبوب. فالموت يدشن، مرحلة جديدة، مرحلة ما «لم يعد». إنه الفشل بحد ذاته للوجود الإنساني، إنه فعلاً التعاسة الشاملة التي لا يمكن مداواتها، ولهذا السبب، برأي، نراه وراء كل أنواع مخاوفنا. إنما بالمقابل الاحترام الكبير للجثة من خلال مراسم الدفن يعبّر عن رجاء يقول لنا بأن كل شيء لم ينتهي.
بحسب التقاليد الدينية يستسلم الأحياء للفكرة القائلة بأن المتوفي يحيا دائماً، حتى ولو كان وجوداً أدنى، هزيلاً، حياة ظل أو حياة شبح. ما نقوله هنا عن الجسد الميت محفور في عمق كل كائن بشري، وتوضحه ردود فعل البشر حول اغتصاب القبور، أو في حال اكتشاف مقابر جماعية وهذا الأمر لا يعود إلى الماضي البعيد. فالرعب الذي يولده هذا الأمر، الاحترام العفوي للجسد الميت يجعلوننا نقول أنا هنا بعد شامل قد تم لمسه.
مختلف الأقنية التلفزيونية التي نشاهدها يومياً، تعرض لنا، بمناسبة الحروب والكوارث الطبيعية، بعض الجثث البريئة المتروكة على الأرصفة. هذه الجثة المعروضة تعبر عن إنسان أصبح مجرد شيء بسبب عنف إنسان آخر أو بسبب بعض الناس. إنها تعرض هذه الجثث تحت شكلين: إمّا بتغطية الوجه، وإمّا بوضعها على الوجه. هذه الطريقة في «العرض»، تبين لنا بأنه هذه الجثة ليست بمجرد شيء.
لقد قلت بأن جسدي هو حضوري للعالم أو في العالم، والحضور ليس من مجال الأشياء، إنه من المجال الروحي. إنه يعبر من خلال الجسد، ولكن يمكنه أحياناً التخلي عنه أو تجاوزه. فعندما يكون المتحابان بعيدان عن بعضهما البعض يبقان متحابين، حتى ولو كان الحب يتطلب الحضور الكلي، أي جسد وروح.
لهذا السبب أعدل التعريف الذي أعطيته في البداية عن الجسد وأقول: الجسد هو الوسيلة التي من خلالها يعبّر الإنسان عن ذاته في العالم، يصنع العالم ويتأثر ويتحول من قبل العالم.
الجسد كوسيلة للروح:
الآن سوف أتوقف على بعض الأماكن المميزة التي تبين على أن الجسد هو وسيلة للروح… وأعتقد أنه علينا أن نقول أكثر من ذلك: الجسد معطى لنا لكي يظهر الروح.
اليد: اليد هي نهاية عضو أمامي، ولكن لدى الإنسان وبسبب وضعية الوقوف، اليد حرة لأعمال متعددة.
القديس والمعلم توما الأكويني يقول لنا شيئاً مذهلاً: «ما يكِّون الإنسان هو الروح واليد». لا شك بأن اليد هي إحدى العلامات الهامة على الذكاء. فبواسطة اليد يسيطر ويتحكم الإنسان بالعالم: واللغة تعبر تماماً عن ذلك، عندما تتحدث عن وضع اليد أو الاستيلاء على كل شيء. فالأدوات التي يستعملها الإنسان تعتبر امتداد ليده. يمكننا القول بأن اليد هي عملة للروح.
الوجه: كلمة وجه خاصة بالإنسان: الوجه هو الوجه الإنساني. علماء الأنثروبولوجيا يوضحون لنا بأن اليد هي التي سمحت لوجه الإنسان أن يظهر. ما هو خاص بالإنسان في وضعية الوقوف، هو أن اليد يمكنها أن تأخذ الطعام وأن الوجه محرر من أجل وظائف أخرى غير الأكل. بتحضر الإنسان يصبح الخطم وجهاً، كلمة لا تستعمل إلا للإنسان.
التحدث عن الوجه، يعني التحدث عن شيء يتعلق بالإنسان: بشكل خاص الضحك وبالطبع الكلام.
لن أتكلم عن الكلام، إلاّ لكي أقول بأن الإنسان هو الوحيد الناطق، أي أنه ينطق بمجموعة منظمة من الأصوات مرتبطة بسلسلة من المعاني. فالكلام هو عبارة عن نظام رمزي من الأصوات مرتبط بنظام من المعاني. فمن خلال الكلام يتأنسن الطفل الصغير. من خلال الكلمة ينفتح الإنسان على عالم اللقاء، على عالم العلاقة الإنسانية وعلى الحوار. ولكن أيضاً على عالم الفكر، لأن كل الأمور مترابطة: لا يمكن للإنسان أن يفكر إن لم يكن قادر على الكلام. لا وجود لفكر مفكر أو متبصر إلاّ حيث توجد اللغة. « واللغة هي الإمكانية التي يمتلكها البشر في الاتصال بينهم والتعبير عن فكرهم من خلال العلامات الصوتية» هذه العلامات ينتجها الجسد.
الجنس: الجنس الإنساني هو، بالإضافة إلى نواحيه الأخرى، لغة الجسد التي تقول أكثر من الجسد. فالجسد المجنَّس معطى لنا لكي يستطيع الروح أن يعبر عن ذاته من خلاله. ولكن الجنس قد يكون المكان الذي فيه تظهر بشكل أوضح هشاشة وحدتنا الإنسانية: وحدة الجسد والروح. لأن الغريزة تعبر عن ذاتها من خلاله بشكل قوي جداً قد تخنق فيه الروح. لهذا السبب أنسنة الجنس هي عملية لا يمكن أن تنتهي إطلاقاً.
وحدة الشخص الإنساني
ما يبدو من خلال هذه الأفكار التي تحدثنا عنها هو أننا واحد بدون انفصال جسد وروح.
علينا التركيز على هذه الفكرة، لأنه شئنا أم أبينا، يبقى فكرنا متأثر بالفكر اليوناني القديم: الإنسان كائن مزدوج وليس موحد(جسد فان وروح خالدة).
كل الفكر الغربي خاصة الذي أثر بنا بما فيه الكفاية والذي تأثر بدوره بالفكر اليوناني القديم، علمنا هذا "الانفصال" بين الجسد والروح، مع شيء من عدم الثقة بالجسد، أو النظرة السلبية له، لكونه معتبر مصدر فوضى، أو ضعف، وبالفكر المسيحي مصدر للخطيئة. فالروح أو النفس عليها أن تخرج من الجسد، سجنها، وإلاّ تبقى سجينة لهذا الجسد الذي يقودها للظلمات.
بينما الفكر السامي، فكر الكتاب المقدس بعيد تماماً عن هذا المعتقد. في نظر الكتاب المقدس، الجسد ليس بعنصر خارجي يمكن للروح الاستعاضة عنه. فالجسد هو جزء أساسي وجوهري من كياننا الإنساني. والفيلسوف نيتشه يقول" لدي كلمتين أقولها لمن يفكر سلباً بالجسد. ليبدؤوا بالتخلي عنه…ثم ليأتوا ويتحدثون معي".
إذا قارنا بين وحدتنا والكلام يمكننا القول بأن الجسد والروح مترابطين بعضهم ببعض على صعيد الوجود، كارتباط الصوت والمعنى على صعيد اللغة. فالروح لا يوجد أبداً بدون جسد، والجسد بدون الروح يصبح جثة. كل ما هو متعلق بوجودنا الإنساني يعبر من خلال الجسد. كل شيء مرموز له من خلال الجسد. في أعمالنا الأكثر روحية الجسد حاضر ويفرض علينا متطلباته، حدوده، ولكنه يجعل هذه الأعمال ممكنة أيضاً. فليس الروح هو الذي يصلي، الإنسان بكليته هو الذي يصلي. والمفكر الفرنسي باسكال يقول: « من أراد أن يكون ملاكاً كان غبياً» «Qui veut faire l'ange, fait la bête»
فوحدتنا إذن هي دائماً هشة، مشكوك بها، علينا دائماً أن نصنعها، ولكن لا يمكننا التخلي عن هذه المهمة. لأن المهمة، ومن خلال كل التعقيدات التي تمسنا، هي أن نجعل الروح يقود المسيرة. والقديس أوغسطينوس يقول :«إن لم تصبحوا روحانيين حتى في عمق أجسادكم، تصبحون جسديين في صميم روحكم».
مفهوم الجسد الإنساني الجزء الأول
في البداية ومهما كان الأمر، علينا أن تساءل: ماذا نلاحظ اليوم على أرض الواقع؟ بسبب ردة الفعل القوية، ولأن الأخلاق المسيحية لم تعد هي النموذج (في المجتمع الغربي)، ولأسباب أخرى نعرفها أو نجهلها، نلاحظ أن مجتمع اليوم، المجتمع الاستهلاكي، الرأي العام ووسائل الاتصال، والدعايات، كلها تعطي أهمية كبيرة جداً للجسد، أو أكثر تحديداً لصورة الجسد.
ولكن ليست أية صورة. ما يلفت النظر في كل هذه الوسائل، هو التركيز على جمال وشباب الجسد. جسد جميل ومرغوب. جسد لذة لا يمكن تلبيتها تماماً، جسد لا يعرف الكبر أو العجز أو الشيخوخة، جسد جاهز دائماً للاستمتاع ولجعل الآخر يستمتع بدوره.
دون أن ننسى ظهور بعض التقنيات المتعددة والمتنوعة موضوعها هو الجسد وكلها تهدف لخلق الانسجام الكامل بين الجسد والروح: رقص حديث، يوغا، «فنون حربية». ولكن ما هو الموضوع الحقيقي؟ استغلال، وجرد كل المصادر والطاقات المخفية في الجسد، ودمج الأحاسيس، بشكل متجانس، مما يولد لذة وسلام.
في إحدى الكتب التي تعالج هذه التقنيات نقرأ ما يلي: «أياً كنتم، إذا أردتم أن تتحولوا فبدأوا بجسدكم». هذه العبارة تتحدث عن جسد بريء للغاية ودون أي غموض، لا مكان فيه لأي شذوذ كان؛ فالهدف هو السيطرة على كل المشاعر السلبية: الحسد والغيرة والغضب الخ.
هذه المواقف تدعونا لكي نصغي إليها جيداً وبالمعمق. جميعنا نرغب في تحقيق الوحدة، وحدة هشة ولا يمكن بلوغ كمالها، وحدة بين متطلبات الجسد ونداءات الروح. دون التحدث عن وجود وعد في أعماقنا، مباح به أو خفي، بالهروب من محدودية الزمن والشيخوخة، والألم، وأخيراً الموت. و تطور الطب اليوم يعكس لنا مجدداً هذه الصورة لعالم ألغي فيه كل من الألم والموت.
ومع ذلك، يبقى السؤال:ماهي غاية هذه التقنيات؟ هل من الممكن التعبير عنها بكل بساطة؟
جسد لماذا ولمن؟
منذ البدء والإنسان يهتم بالجسد، فالشعار الذي كان في الماضي: «أن أكون قوياً لكي أخدم بشكل أفضل». أضبح اليوم: «أن أكون مرتاحاً مع ذاتي» (جسدي). إنه لطبيعي ومستحسن أن يكون الإنسان منسجماً مع ذاته، خصوصاً أن انسجام الإنسان مع ذاته، سكن الإنسان لجسده، له تأثيرات إيجابية على علاقاته مع الآخرين.
هذهالتقنيات تركز على الذات وعلى اللذة الذاتية. فعبارة «أن أكون مرتاحاً مع ذاتي»(جسدي) تشير جيداً إلى أن الأولوية هي ذاتي،داخلي أنا وليس ما هو في الخارج. فالتركيز والانتباه على الذاتبهذه الطريقة، يتطابق مع النزعة إلى الفردية.
فالمجتمع الذي يلجأ،من خلال هذه الصور والتقنيات، لتمجيد الجسد، يسعى في نفس الوقت لنفي أو لإخفاء الجسد المتألم، الجسد الذي يكبر لكي ينتهي بالموت. اليوم نخبئ الموت إلاَّ إذا كان مهيب.
بالمقابل، ومنذ بضع سنين، ظهرت مواقف حقيقية بالنسبة للشيخوخة وللألم. يمكننا هنا التفكير بالتقنيات المتعلقة بالعلاج المؤقت أو بالعلاج المهدئ، بالإضافة إلى كل أنواع العلاجات التي تهدئ الألم دونأن ننسى ظاهرة مرافقة من يقتربون من الموت. هذا العمل إيجابي للغاية، لأن السعي إلى الموت الرحيم يرتبط غالباً بالخوف من الموت بآلام رهيبة لا تحتمل.
يبقى أن نلفت الانتباه إلى أن وسائل الإعلام تنسى أو بالأحرى تتناسى أمراً مهماً للغاية: هذا الجسد الممجد، هذا الجسد المعروض من أجل الاستمتاع، هو أيضاً جسد متألم وعلينا أن نأخذ على عاتقنا الوجهين.
أعتقد أنه بسبب هذا التمجيد للجسد من قبل المجتمع، إنسان اليوم لم يعد مستعداً لقبول شيخوخة جسده الحتمية، وأن هذا الجسد قد يتغير ويصبح جسداً مجروحاً، معرّض للموت وأقل رغبة أو بالأحرى غير مرغوب به نهائياً. وهذا الأمر يتم في الوقت الذي نسعى فيه لإطالة عمر الإنسان.
بعد أن عرضناً هذا التمجيد للجسد يبقى السؤال: أي مكان للجسد بين التمجيد وعدم التقدير؟ كيف يمكن إقامة علاقة صحيحة مع جسدي وجسد الآخر؟ وما الذي يستطيع أن يؤسس أو يبني حقيقية هذه العلاقة؟ هذه الأسئلة تفترض سؤالاً سابقاً لها.
ما هو الجسد؟
* شيء من بين الأشياء: الجسد، ظاهرياً هو مجرد شيء منبينالأشياء، وككل شيء محدود، كامد أو كثيف، محدد؛ من الممكن وصفه، تحليله جسدياً، كيميائياً، بيولوجياً. جسدي يفرض عليّ حدود معينة. لا يمكنني أن أكون في مكانين في آن معاً، كما أنه يحدد ما هو في الداخل وما هو في الخارج. جسدي يفصلني، يعزلني عن الآخرين ولكن – في نفس الوقت هو إمكانيتي للاتصال مع كل من هو ليس أنا، مع العالم ومع الآخرين، ومع الله. والمختصين بأمراض الجلد يدركون تماماً العلاقة بين بعض أمراض الجلد والمشاكل المتعلقة بالعلاقة مع الآخرين.
الجسد محدود في المكان، لكنه محدود في الزمان أيضاً، ولذلك يصبح تاريخ. يمكننا القول بأن تاريخنا الشخصي هو في جسدنابقدر ما نعيش ونصنع هذا التاريخ. تجعداتنا التي تزداد مع الزمن هي إحدى العلامات الواضحة لهذا التاريخ. باختصار جسدي هو إذن حضوري في العالم، وخارجاً عنه ليس لي من وجود إنساني.
فما هو الجسد إذن؟ إنه الوسيلة التي بها ومن خلالها يعيش الإنسان وجوداً شخصياً، ويمارس ويظهر حريته في علاقاته مع ذاته ومع الآخرين ومع العالم وأخيراً مع الله. باختصار كل شيء يعبر من الجسد.
كيف تتخذ القرارات المهمة في الحياة
موضوع القرار أو اتخاذ القرار في الحياة أمر مهم جدا. أولا لأننا معرّضون له في كل لحظة: هل أشتري هذا الشيء أم لا، هل أغيّر نوعية وطبيعة عملي؟ هل أختار الحياة الزوجية أم لا؟ أي نوع من الدراسة أو المهنة أختار؟ الخ. موضوع الاختيار إذن موضوع مطروح على كل إنسان وباستمرار ولا يمكننا القول بأن هذه العملية قد تنتهي يوما. لأنه ضمن القرارات التي تُتّخذ هناك قرارات داخلها لابد من التفكير حولها ( ضمن الحياة الزوجية القرارات أو إمكانية القرارات مطروحة دائما سواء بخصوص الأطفال « في أي مدرسة أسجل ابني. أية لغة نعلّمه الخ » أو بخصوص الزوجين وحياتهما الزوجية والمهنية والاجتماعية ). بشكل عام تؤخذ هذه القرارات بسرعة هائلة. والإنسان الناجح، إن صح التعبير، هو الذي يعطي لكل من هذه القرارات حقّها مهما كانت بسيطة ظاهريا. بشكل عام لا نعطي قراراتنا حتى الهامة منها ما تستحق من الوقت ومن الوسائل بشكل خاص.
كل قرار نتخذه مهما يكن من قرار يشكل مسؤولية شخصية ( هذا القرار قراري أنا). في الكثير من الأحيان نهرب من المسؤولية ونسعى للبحث عن أحد ما ليتخذ القرار مكاننا. لا أقصد بذلك الاستشارة التي لها أهميتها وسوف أتكلم عنها لاحقا ، إنما ما نلاحظه كثيراً هو هذا السعي لدفع الآخر لكي يأخذ القرار مكاننا ( شو رأيك شو لازم اعمل!!!.)
أن يطلب الإنسان استشارة آخر على إطلاع في مجال ما أو لديه خبرة كبيرة هذا أمر طبيعي وضروري، لابل يمكننا القول بأن عدم الاستشارة هو أمر غير مُحبذ، لأن ما من أحد عالم بكل الأمور. هذا النوع من القرارات التي ندعوها بالقرارات اليومية تتطلب دون شك التمييز: علينا التمييز بين الهدف والوسيلة والحرص على عدم خلطهما ببعض.
كل القرارات التي نأخذها ونعتبرها للأسف على أنها أهداف «دراسة، مهنة، زواج، حياة مكرّسة الخ»، هي في النهاية وسائل يُفترض أن تساعدنا للتقدم باتجاه الهدف. هذا الأخير هو من مجال المعنى والمعنى لا يمكن تحقيقه تماماً، السعادة مثلاً لا يمكننا الادعاء بلوغ كمال السعادة. بطريقة شبه أوتوماتيكية نأخذ الوسيلة على أنها هدف وهذا يجعل من قراراتنا غير صحيحة وتفتح باب الروتين لاحقاً على مصراعيه.
قبل كل شيء لابد من أخذ البعد اللازم: التوقف عن صخب الحياة اليومية والعادات التي أنا مأخوذ بها وبشكل خاص الامتناع عن الأحكام المسبقة. هذا التوقف أو الامتناع مهما كان قصيرا، يسمح لعملية الاختيار أن تبدء ولعميلة التمييز والقرار أن تتم.
ليست كل العادات سيئة. فالعادات الجيدة المبنية على المبادئ التي أعطيت في الطفولة ولها ايجابياتها، فهي تسهل عملية الاختيار وتسمح بعدم الإكثار من التساؤلات أثناء عملية اتخاذ القرار. كذلك الأمر بالنسبة للمبادئ الأساسية في الحياة والأحكام المسبقة. ولكن بإمكانها أن تؤدي الى شيء من الانغلاق على الذات باسم الفعالية وتنسينا بأن الإنسان هو كائن يوجد من خلال العلاقات ولا يمكنه تحقيق ذاته دون الآخر. وكما يقول أحدهم وهو على فراش الموت: لو أعطي لي أن أبداء بالحياة مجددا لركزت على الصداقة.
أول خطوة في التمييز بخصوص القرارات «اليومية» تكمن في أن أضع بين قوسين كل ما أعتبره على أنه يقين. قد يحدث طارئ ما يلزمني على القيام بذلك، ولكن في حالة التمييز لا بد من القيام بهذه المبادرة بحرية، إذا أردت أن أحقق تمييزا سليما.
فالسؤال إذن هو التالي: ما هو المقصود بالنسبة لي؟ لماذا أريد أن أتصرف بهذه الطريقة؟ لماذا أفضل هذا القرار عن غيره؟ هنا لابد من تدخل «التناوبية» أي عليَّ أن آخذ بعين الاعتبار البديل عن قراري إذ لا يمكنني أن أمارس الاختيار دون وجود عدد من الإمكانيات. بهذا المعنى نقول بأن كل اختيار هو أيضاً نفي لأنه في اللحظة التي أختار فيها شيء ما أتخلى عن شيء آخر. إذا لم أقبل هذا أو ذاك الالتزام أو المسؤولية أو العمل سيكون لدي الوقت الكافي واللازم لأكون مع أولادي. أن أكون بالقرب من هذا الإنسان المحتاج اليّ قد يمنعني من إتمام عملي والقيام بواجبي. فالتناوبية تخفف من أهمية الوسائل لتضعها في مكانها المناسب.
هذا الأمر يساعد أيضا في توضيح القصد أو الهدف بالمعنى الذي تكلمنا عنه. إنه «يتجاوز» الإمكانيات. إنه من مستوى «الأكثر». فالإنسان هو من مجال الأكثر، ولهذا السبب لا يكتفي أبداً يريد دائماً المزيد. وكلنا يعلم الى أي حد تستعمل الدعايات هذه الناحية: هذا المعجون يجعل أسنانك أكثر بياضا، هذا المنتج يعطيك متعة أكبر؛ الوقت الذي تربحه، نوعية العمل الذي تحققه الخ. هنا عليَّ أن أطرح على ذاتي السؤال: إذا قبلت هذه المسؤولية، أو هذا العمل فإلى أي «أكثر» سوف يقودني بالنسبة لمستقبلي؟ وبشكل خاص: هل هذا يجيب على رغبتي الأكثر عمقا ؟
فالإنسان هو كائن ذو رغبة. وكل حياتنا هي محاولة لتحقيق رغباتنا. وهذا الأمر يدفعنا للعمل ولأخذ القرارات: الرغبة في الحياة، في البقاء، في تجاوز ذاتنا الخ. وفي كل مرة نحقق هدف ما، نبحث عن آخر، نريد الذهاب الى أبعد. هذا يعني أنه وراء هذه الرغبات التي نسعى الى تحقيقها، تكمن رغبة واحدة أساسية، هي تحقيق الذات، أن أكون ذاتي، أن أكون فعلا إنسان بكل معنى الكلمة. هذه الرغبة الأساسية لا يمكن تحقيقها بالكامل وإلا ستكون النهاية.
فالتمييز يكمن إذن، أمام العديد من الإمكانيات الحقيقية، بأن نعي أولا ماهي رغبتنا العميقة والحقيقية، ما هو السبب الحقيقي لحياتنا، أو المعنى الحقيقي لها لكي نستطيع اختيار «الوسيلة المناسبة» ( الاختيار بين الزواج والبتولية، بين هذا الإنسان والآخر ليكون شريك أو شريكة المستقبل). هذه الرغبة العميقة تثير المخيلة من خلال الصور التي يجب الاختيار بينها. فهناك أولا الصور التي تنبع من «الهواميات»، نوع من المرايا التي تغلقنا في عالمنا الذاتي حيث «نرى ذاتنا في صدد التنفيذ». مثلا أرى أو أتخيّل ذاتي جيدا في هذه المسؤولية المعروضة عليّ، أو في موقف من يساعد الإنسان المحتاج الي الخ .
ولكن هناك صور أخرى رمزية، هذه الصور تخرجنا من ذواتنا وتدفعنا نحو الآخر من خلال رغبة تتعمق أكثر فأكثر. مثلا يمكن أن نرى ذاتنا في «العليقة المتقدة» أو نساعد الآخرين على التحرر ممّا يسلب لهم حريتهم الشخصية، أو في «عرس قانا الجليل» إذا أردنا أن نجمّل أعيادنا. تبقى الصورة الرمزية هي الصورة الحقيقية والتي لا تدفعنا الى التقليد، ولا تتركنا مرتاحين في إرضاءاتنا الشخصية، إنما تطرح علينا التساؤلات أو تضعنا موضع تساؤل، فتدفع بنا نحو علاقات جديدة، نحو «الأكثر»، تدفعنا الى الخروج من ذاتنا، وتجعلنا نعيش في بداية مستمرة .
فالاختيارات والقرارات اليومية تأخذ آنذاك معناها : إنها وسائل تسعى لتحقيق رغبتنا الحقيقية والعميقة. بعد اتخاذ القرار، لابد من مراقبة الذات، الشعور الداخلي العميق. فإذا كنت أعيش هذا القرار « بغصة قلب» أو بعد راحة، إذا كان هذا القرار يغلقني على ذاتي فهذا يعني أن هناك خطأ في القرار وأن التمييز لم يكن جيدا. وإذا كان العكس فهذا يعني أن التمييز كان ناجحاً وأنني اتخذت القرار المناسب. هذه الفترة بين اتخاذ القرار مع المراقبة الذاتية تسمى تثبيت القرار وهي في غاية الأهمية. في الحالات الأكثر أهمية، الاستعداد للتحدث عن القرار مع الآخرين، يعتبر مقياس مهم للغاية .
أما بالنسبة للقرارات المهمة والحاسمة كالزواج واختيار المهنة فالموضوع يختلف بعض الشيء ولكن بشكل مهم في نفس الوقت. بشكل عام يظهر الموضوع على النحو التالي : هناك غياب المراجع : لا أدري أين أنا من الأمور بشكل عام؛ وفي الوقت نفسه لديّ رغبة قوية وأريد الخروج من هذه الحالة، لا أريد البقاء على هذه الحالة. وأخيراً أشعر بعجز كبير في تبصر المستقبل، فأنا لا أعلم ماذا أفعل.
القاعدة الذهبية الأولى والتي قد تبدو سخيفة للكثيرين، ولكنها، بنظري مهمة جدا، هي الانطلاق من المبدأ بأن الحياة تُستَحق بأن تعاش. هذه القاعدة هي أساس الرغبة وبدون الرغبة لا يمكن اتخاذ أي قرار حقيقي وسليم. والقاعدة الثانية هي : أنا يعني أنا والآخر يعني الآخر، أي الحفاظ على الاختلاف حتى لا نقع في التقليد، ( علي أن أعي بأعماقي بأنني فريد وكل إنسان هو فريد ) وبرأي مشكلة المشاكل بالنسبة لنا هي التقليد ( تقليد الآخرين). إذن عليّ أن أميّز بين الأمور. لكي أختار، لكي أتخذ قرار عليّ أن أميّز بين الأمور المتعلقة بالحالة وبالقرار الذي عليّ اتخاذه. هذا يتطلب مني الاستعلام عن كل العناصر المتعلقة بالموضوع . وغالبا نقع في الفخ : كل الأمور لها نفس القيمة لأنها كلها لا قيمة لها. ونصل آنذاك الى الموقف التالي : هذا القرار جيد لأنه يعجبني وذاك القرار سيء لأنه لا يعجبني. فتكون القرارات التي أتخذها في هذه الحالة سريعة لا أساس لها.
ثانيا انطلاقا من التصنيف والأفضليات أقف لأخذ الوقت اللازم ثم أختار ما هو أفضل بالنسبة لي وهذا يتطلب مني شيئا من العزلة والعزلة عكس الانعزالية. العزلة ضرورية جدا لكي أستطيع أن أقيّم العناصر وأختار بينها. ماذا أُفضّل، ماذا أختار، وبأي شيء يلزمني هذا القرار؟ علي أن آخذ بعين الاعتبار شخصيتي، أفضلياتي، الأمور التي أرفضها وفي النهاية أقرر. أنا الذي يقرر في النهاية. أي اعتبر ذاتي كمصدر للقرار مقتنعا بأنني أملك القوة ومتطلبات الحرية والمسؤولية. فبين عدم الرغبة في الحصول على شيء والرغبة في الحصول على كل شيء الفارق بسيط جدا. آنذاك أختار وأقرر.
كل قرار يؤخذ، يؤخذ في لحظة معينة، هي لحظة الحاضر، اللحظة التي نحللها ونحلل عواملها وأوضاعها. ولكن عندما يتم القرار سوف يوجه المستقبل، فالمشاورة والتحليل يتطلبان الأخذ بعين الاعتبار هذا المستقبل. ولكن المشاورة والتحليل تتم في نفس الوقت انطلاقا من الماضي، هذا الماضي المرسّخ في الذاكرة، في اللاوعي. وهذا المحور، محور الماضي، الحاضر والمستقبل يجب أن يجتازه الوعي الإنساني قبل أن يأخذ القرار النهائي. والماضي غنيّ بالخبرات التي لها أهميتها في اتخاذ القرار الحالي.
ولكن كيف «ينخرط» هذا القرار أو هذا الاختيار ضمن الخط المشترك لتاريخي الشخصي؟ كل تاريخ شخصي له ترابطه المنطقي، تجانسه الخاص والذي يظهر من خلال مختلف الاختيارات والقرارات التي أخذت أثناء هذا التاريخ. وكل قرار أريد اتخاذه اليوم عليه أن يدخل ضمن هذا الترابط المنطقي، ضمن هذا الانسجام أو التجانس لتاريخي الشخصي وإلا لا يمكنه أن يكون قرارا سليما، لن يكون القرار الذي من خلاله أحقق ذاتي، أحقق هذه الرغبة العميقة الموجودة بداخلي.
علينا أن لا ننسى أمرا مهما بالنسبة لاتخاذ القرارات: وجود وأهمية الآخر. كل قرار مهما يكن يلمس الإنسان الآخر بطريقة أو بأخرى. بهذا المعنى نقول أن لاوجود لقرارات محض شخصية إن صح التعبير؛ لذلك عند اتخاذي للقرار عليّ أخذ هذه الناحية على محمل الجد. وإلا فقراري هو قرار أناني، نابع من انغلاقي على ذاتي وبالتالي هو قرار فاشل.
وفي النهاية أقول بأن لاوجود لقرار كليّ وكامل لأن العوامل اللاواعية موجودة، بالإضافة الى أنني لست حرا بشكل مطلق دون أن ننسى إمكانية عدم تحقيق ما أريد وبالشكل الذي أريد لأسباب متعددة ومتنوعة لا يمكننا الخوض بها هنا(مثلاً أريد التخصص في الخارج ولا أملك الموارد الماديّة الضرورية الخ). ومن جهة أخرى أقول بأن لاوجود لقرار يُتخذ لمرة واحدة، بمعنى أنه علي دائما إعادة إخاذ القرار على ضوء التطور الذي أعيشه على الصعيد الإنساني، والنفسي والاجتماعي.
بعض أسس التربية الصحيحة
موضوع التربية موضوع مهم وحساس لأنه يمس الإنسان بأعماقه كما أنه يحدد إلى حد كبير مستقبله. لذلك من الضروري توضيح الأسس الهامة في التربية لكي نعلم كيف نتصرف مع من نعمل معهم ويكون هذا التعامل أفضل ما يمكن.
قبل التحدث عن أسس التربية الصحيحة علينا أن نحدد ماهية التربية وما هو هدفها. فالتربية تهدف قبل كل شيء لمساعدة الإنسان على الخروج من ذاته باتجاه الآخر، والآخر المختلف عنه. بهذا المعنى نقول بأن التربية تسعى لبناء إنسان حضاري ناضج حر مستقل ومسؤول. حضاري يعني إنسان قادر على العيش المشترك مع الآخرين ضمن المجتمع بمختلف فئاته وبيئاته. إنسان أنه قادر على التأقلم مع المحيط الذي يوجد فيه بالطبع ضمن حدود معينة. إنسان لا يطلب من المحيط أن يتأقلم معه، مع رغباته وميوله، أحلامه وأمنياته، بل يسعى هو للتأقلم مع المحيط آخذاً بعين الاعتبار أنه لا يمكن أن تجري الأمور دائماً كما تحلو له. هذا التأقلم لا يعني أبداً الاستسلام للواقع، إنما يعني قبول الواقع كما هو، القبول باستقلالية الواقع عنه وعن رغباته وأحلامه، القبول بأن الواقع غير كامل ومليء بالنواقص والثغرات. وأنه مع ومن خلال هذا الواقع عليه أن يحقق إنسانيته. ويسعى لتغير ما يستطيع تغيره في محيطه؛ هذا القبول لا يلغي أبداً نضاله من أجل تطوير الواقع وجعله أكثر إنسانية، أكثر حضارة.
هذا يعني أيضاً أن هذا السعي لتطوير الواقع عليه أن يكون من أجل الخير العام وليس من أجل المنفعة الشخصية واستغلال من هم أقل غنى إنسانياً وفكرياً ومادياً. الإنسان الحضاري هو الذي يقبل الحدود وبالتالي يقبل وجود الآخر المختلف عنه ويتعامل معه، أو بالأحرى ينظم حياته آخذاً بعين اعتبار وجود الآخر في حياته أو بالقرب منه. فالإنسان الحضاري هو الإنسان الذي يرفض الانعزالية ويسعى للقاء الآخر. باختصار يمكننا القول بأن الإنسان الحضاري هو الإنسان الذي يدرك أنه لبلوغ إنسانيته، أو للتقدم باتجاه إنسانية أكبر عليه المرور من خلال المجتمع وأعرافه أو قوانينه. الإنسان الحضاري هو الإنسان الذي يقبل أن لا يحقق أو يلبي رغباته - مهما كانت هذه الرغبات – بشكل مباشر وبالطريقة التي تحلو له ومع من يحلو له تحقيقها. باختصار لا يقبل أن يستعمل الآخر ويحوله إلى وسيلة.
أما الإنسان الحر فهو الإنسان القادر على اتخاذ قراراته بذاته وتحمل نتائج هذه القرارات. إنه يعلم تماماً أن لا وجود للحرية المطلقة في حياته وأن عليه أيضاً أن يأخذ بعين الاعتبار وجود الآخر على حد القول الفلسفي الذي أصبح شائعاً: «تنتهي حريتي عندما تبدأ حرية الآخر». الإنسان الحر هو الإنسان الذي يعلم أن الحرية هي وسيلة للنمو ولكن هذا النمو لا يمكنه أن يكون أنانياً بمعنى أن يكون فردياً دون الأخذ بعين الاعتبار نمو الآخر، لا يمكنه أن يفرح بدون الآخر أو على حساب الآخر. الإنسان الحر يعلم تماماً أن الإنسان في جوهره علاقة لأنه مختلف (مزدوج الجنس وواحد) وبالتالي لا يستطيع أن يحقق ذاته دون الآخرين. إنه يعلم بأن الحرية الحقيقية هي الحرية اتجاه الذات: أن لا أكون عبداً لذاتي، لنزواتي ولرغباتي. فالإنسان الحر بهذا المعنى هو بالضرورة حضاري.
والإنسان الحر مسؤول لأن الحرية الحقيقية أو السليمة هي حرية مسؤولة. حرية مسؤولة عن رغباتها ونزواتها وكيفية التعامل معها. مسيحياً يمكننا القول أولاً بأن الله يريدنا أن نكون ناضجين ومسؤولين، فقد سلّمنا مسؤولية هذا العالم: «الفقراء هم معكم وبيمكن إلى الأبد»، كما أن المسيح النائم في المركبة التي تتخبطها الأمواج هو أفضل تعبير عن إرادته في أن نكون مسؤولين عن العالم، وعلينا نحن أن نواجه «عواصف العالم» واضعين يدنا بيده، لكن لا يمكن أن يأخذ مكاننا في هذه المواجهة كما نتمنى غالباً.
كيف يتم تحقيق هذا الأمر؟ قبل كل شيء علينا أن ندرك أن الإنسان الغير ناضج، الغير حر والغير مسؤول هو إنسان يسعى دائماً لاستعمال الآخرين لكي يضمن الشعور بالحب والتقدير من قبلهم. هذا الإنسان لا يمكنه أن يقبل وجود الآخرين وحضورهم بسلام، لأن حضورهم يشكل خطر عليه نظراً لعدم ثقته بنفسه. لهذا السبب على التربية أن تأخذ هذا الأمر بجدية كبيرة، أي عليها أن تسعى لتنمية الشعور بالثقة والحب لدى الفرد وذلك من خلال تشجيعه ومساعدته على تنمية إمكانياته وقدراته. بهذه الطريقة تكون علاقته مع المحيط إلى حد كبير علاقات سليمة وصحيحة. وهذا أمر مهم جداً إن لم نقل بأن الأمراض والمشاكل النفسية تمس هذه الناحية من حياة الإنسان. هنا أشدد على ضرورة إعطاء الأهمية لكل فرد في التربية المدرسية: ضرورة معرفة اسم الطفل أو الشاب، إحساسه بأن ما يقوله مهم وأن لديه ما يقوله لنا.
ففي البداية نقول أنه على الأم أن تساعد طفلها للحصول على هذه الثقة بالنفس وذلك من خلال اهتمامها به وخاصة حضورها المجاني له: هذا الأمر مهم جداً لغاية السنتين تقريباً، أي على الأم خلال هذه الفترة، أن تكون «أم جيدة» بكل معنى الكلمة، أي أن تكون حاضرة بدرجة كبيرة لطفلها وتلبيه قدر الإمكان في الوقت المناسب دون أن تتركه يعيش إحباطات وخاصة إحباطات كبيرة ولفترة طويلة. عليها أن تلبيه بأقصى سرعة ممكنة لأن عدم التلبية يعني للطفل تخلي الأم عنه وهذا أمر سيئ جداً. لأن الغياب بالنسبة له يعني الموت، لهذا السبب نلاحظ أنه عندما نخبئ شيء ما على الطفل ثم نعيده إليه تكون درجة الدهشة لديه كبيرة جداً لأنه في نظره عدم رؤية الشيء أو الشخص يعني موته أو على الأقل عدم إمكانية عودته.
إضافة إلى ذلك على الأم أن تحيط ابنها بجو من الحب والاهتمام، فكل ذلك يساعد الطفل على اكتساب الثقة بالنفس، إنه أساس النضج والاستقلالية النفسية بشكل عام. حضور الأم للطفل أمر مهم جداً. والحضور لا يعني الحضور الجسدي بقدر ما يعني الحضور الكلي أي أنها جاهزة للحوار معه، لتلبية حاجاته. مثل: الأم التي تعطي لعبة لطفلها. هل تعطيه إياها لتلهيه وتسكته وتبعده عنها؟ إذا كان الأمر كذلك فهذا سلبي. بينما الموقف السليم يكمن في إعطائه اللعبة وتشعره بأنها مستعدة لتوقيف أي عمل تقوم به في حال طلبها أو كان بحاجة إليها. كذلك الأمر بالنسبة للرضاعة مثلاً: عليها أن تكون حاضرة كليّة له (عيني الأم مرآة الطفل يرى من خلالها مدى حبها وقبولها له أو العكس) أن تحس به، تشعر ما يشعر به ترافقه في إحساساته المتنوعة.
باختصار إذن نقول بأن الطفل أثناء طفولته الأولى بحاجة إلى حضور كبير، إلى تعبير عن اهتمام وحب كبيرين لكي يستطيع أن يصل إلى الثقة بالنفس. هذا الاهتمام يشعره بأهميته وأنه إنسان محبوب من قبل الآخرين، بالإضافة إلى أنه في هذه المرحلة يعيش علاقة اندماجية مع الأم فكل ما تقوم به الأم يشعر على أنه هو الذي يقوم به، فهذا يعطيه الشعور بالقوة، لا بل يعطيه الشعور بكلية القدرة. آنذاك لم يعد أسير محبة الآخرين دون إلغاء أو الإنقاص من أهميتها. فمحبة الآخرين تكون وتبقى مهمة بالنسبة له، ولكن وجوده، معنى وجوده، أهميته الشخصية لا يتلقاها من الآخرين لأنه يملك ما يكفي من الشعور بالحب.
في الحقيقة يمكننا القول بأن التربية تبدأ منذ الحمل. بمعنى أنه في البداية على الطفل أن يكون مرغوباً من قبل الأهل، أن لا يأتي «غلطة» كما يحصل أحياناً. فالطفل مشروع يجب أن يقرره الأهل ويستعدوا لتحقيقه: تحضير مادي وتحضير نفسي وعاطفي. ففترة الحمل مهمة جداً، لأن كل ما تعيشه الأم جسدياً كان أم نفسياً وعاطفياً يعيشه الطفل. لهذا السبب عندما يقرر الأهل إنجاب طفل عليهم أن يتحضروا ويهيئوا له الجو المناسب، جو مستقبل ومحب، جو من الحضور الكبير.
إذن على أي أساس يجب أن يتم التعامل مع الطفل؟ أهم أساس يجب أن يأخذ بعين الاعتبار هو عدم المقارنة. نعتقد بأن المقارنة تدفع بالطفل إلى الأفضل: «انظر إلى أخيك أو أختك أو قريبك أو…أو… كيف يدرسون جيداً وهم أشطر منك». هذا الأمر يحطم الطفل بالحقيقة بدلاً من أن يشجعه. لذلك علينا أن نكون متيقظين ومنتبهين جيداً على هذه الناحية. علينا أن نربي الطفل على الثقة والاحترام والحرية. فمنذ البداية يجب أن تُبنى العلاقة معه على الثقة، نعبّر عن ثقتنا بإمكانياته، بأنه سيحاول دائماً باتجاه الأفضل، وبالتالي في حال أخطأ وهذا لا بد منه أن يحصل، فهذا ليس بأمر خطير أو سيئ للغاية.
في حال أخطأ نحاول من خلال الحوار معه أن نلفت انتباهه على أن تصرفه هذا كان غير سليم وأن بإمكانه أن يتصرف بشكل أفضل. أو مثلاً إذا أتى يوما ما من المدرسة ونتائجه غير مرضية. بدلاً من أن نوبخه ( وهذا له نتيجة سلبية عليه، لأنني أكون في صدد تحطيم ثقته بذاته) أقول له بأن النتيجة لا بأس بها أو غير منتظرة منه لأننا واثقون بأنه قادر على الأفضل. بهذه الطريقة أنمي ثقة الطفل بذاته، وأشجعه لكي ينمو ويتقدم.
هذه الطريقة تسعى وتهدف في النهاية إلى تنمية كل ما هو إيجابي لدى الطفل على حساب السلبي. من الضروري جداً أن أكون في موقف المشجع وليس في موقف المراقب أو موقف صاحب السلطة. مثلاُ عندما يعود الطفل من المدرسة لا يحق لي أن أطلب منه تقريراُ مفصلاً عما عاشه فيها. من الضروري، لكي أبدي له اهتمامي به، أن أطلب منه أن يحدثني عما فعل في المدرسة، كيف كان نهاره هناك وبالمقابل هو حر في أن يقول لي ما يريد ويحجب عني ما يريد الاحتفاظ به لنفسه. بهذه الطريقة أحترم حريته وأنمي الثقة بذاته، كما أفتح أمامه باب الحوار لأنه غير مرغم على قول ما يريد التعبير أو الإفصاح عنه. بينما موقف المراقب هو موقف مخيف للطفل ويدفعه إلى الكذب خوفاً من العقاب أو ما شابه…
في العلاقة معه لا بد من احترام حريته التي يعبّر عنها من خلال اختياراته وقراراته. من المهم جداً فسح المجال له للتعبير عن نفسه، عن خبرته دون حكم على ما يقول، أن أقبل بأن يكون له رأي مختلف عنّي وإن كنت بالغاً وأكبر خبرة منه وهذا أمر صعب ويتطلب منّي انفتاح ومرونة كبيرين.
هذا يعني أن أقبل بأن يختار الأمور التي تخصه مع الأخذ بعين الاعتبار وجود بعض الأمور التي لا يستطيع تقدير نتائجها وبالتالي علي أن أفرضها عليه: مثلاً طفل في الصف الثالث يقرر ترك المدرسة والانصراف إلى العمل. بالطبع لا يحق لي أن أقبل بهذا الأمر، لأنه لا يعي معنى وأهمية الدراسة بالنسبة له كانسان قبل كل شيء، بالإضافة إلى أنه من الشبه مؤكد بأنه سيلومني في المستقبل لو قبلت باختياره هذا. باختصار موضوع الاختيار يعني تربية الطفل على الاختيار، على إمكانية الاختيار والذي يجب أن يتم أيضاً من خلال الحوار والتوضيح. أهمية الاختيار تعود لكونها تنمي أيضاً الثقة لدى الطفل، بالإضافة إلى أنها تربي الطفل على تحمل المسؤولية ونتائج قراراته واختياراته. ولكن بالمقابل هذا لا يعني أبداً أن أترك الطفل يتصرف كما يحلو له وبالطريقة التي تحلو له.
من الممكن أن نقيم مقارنة جماعية بين مجموعتين أو أكثر فهذا ينمي الشعور بالانتماء للجماعة ويدفع للربح والنجاح دون أن يضع الطفل أمام هذا الشعور بالفشل.
برأي هذه من أهم القواعد في التربية إن لم نقل الأهم. أن نشعر الطفل، أو الإنسان بأهميته، بطاقاته ونقف معه موقف المشجع وليس موقف المحبط. مثلاً أحد الأهل لا يشجع ابنه: فهو دائماً بموقف الناقد والمقارن: « ها دا اللي طلع معك! شوف جارنا أديش شغلو أحسن». وعندما سألته لماذا لا تشجع ابنك على عمله أجابني: « أبونا إذا قلت له شغلك منيح أو ممتاز سوف يقع بالغرور ولن يتطور!». بالطبع هذا الكلام مرفوض تماماً. لأنه يحبط الآخر كلية ويشلّه.
«أولادكم ليسوا لكم أولادكم أولاد الحياة»
من هم الأهل ومن هم الأولاد؟
طلب مني التحدث عن العلاقة بين الأهل والأولاد والتركيز خاصة على مكانة الحرية، بالطبع حرية الأولاد. لهذا السبب اخترت عنوان من كتاب النبي لجبران خليل جبران الذي يتحدث بطريقة رائعة عن هذا الموضوع.
بالطبع هناك طرق متعددة للتحدث عن الموضوع، ولكن بداية لا بد من طرح السؤال: لماذا ننجب الأولاد؟ الجواب متعدد الأوجه دون شك، فقد نجيب بأننا ننجب الأولاد لأن هذا أمر طبيعي جداً، أي أنه من جملة الأمور الطبيعية، من يتزوج ينجب أولاداً، فالأولاد هم جزء من الحياة الزوجية، أو لأن الأهل يحبون الأولاد وهناك من يقول أيضاً بأن الأولاد يشكلون استمرارية الأهل فهم من يخلدوا ذكرى الأهل والعائلة وأخيراً وليس آخراً البعض يعتبر بأن الأولاد هم سند الأهل في نهاية حياتهم في شيخوختهم. فإذا حللنا هذه الأجوبة نلاحظ بأن الأولاد لا وجود لهم لأنفسهم، وهذا مدعاة للتساؤل. فمن هم الأولاد في النهاية ؟
للإجابة على هذا السؤال علينا تحديد مفهومنا للحياة وللإنسان معاً. فالحياة هي عطية من الله إذا كنا مؤمنين، أو من المطلق إن لم نكن مؤمنين، ولكن في كل الأحوال الحياة نستقبلها من آخر ولا أحد منّا بإمكانه الادعاء بأنه مصدر الحياة؛ فالحياة ليست ملكاً لأحد، والأولاد هم أيضاً من نتاج هذه الحياة التي أعطيت لهم بدورهم قبل أن يعطوها للآخرين، والأهل هم الوسيلة التي من خلالها تنتقل الحياة من جيل إلى آخر، لأنهم الوسيلة التي تؤمن استمرارية الحياة وهذا الأمر مهم جداً وليس بأمر بسيط أبداً. فغالبا نعتبر الوسيلة على أنها لا شيء بينما في الحقيقة لها دور فعال، مهم للغاية، فعندما ننقل أي شيء كان من خلال وسيلة ما هناك تفاعل لا يمكننا الاستخفاف به بين الناقل والمنقول.
والإنسان كائن حضاري، يتطور ويتكون ويصبح إنسانا من خلال الحضارة، والحضارة هي جملة التطورات والخبرات التي يعيشها الإنسان أثناء مسيرته الحياتية. فالقيم الأخلاقية والإنسانية التي تلقيناها بكل سهولة من مجتمعنا وأهلنا هي قيم حضارية تتفاعل مع كل ما تعيشه البشرية من تقلبات وتطورات. فالإنسان إذن في تطور مستمر ولا يمكننا أن نحدده بتعريف ثابت إلى الأبد، هذا يعقّد في بعض الأحيان العلاقات الإنسانية ولكنه في نفس الوقت بشكل غناها أيضا.
فإذا قبلنا هذا المبدأ بإمكاننا الآن الإجابة على السؤال من هم الأولاد. فالأولاد هم أيضا عطية، عطية من قبل الحياة، من قبل الله، وككل عطية يمكن للإنسان أن يستقبلها أو أن يرفضها، فالحرية متروكة له، بهذا المعنى يمكن للأهل أن يعطوا الحياة أو لا يعطوها؛ في هذه الحالة الأخيرة يكونوا رافضين تماما لمبدأ الحياة كهبة مجانية معطاة لهم. فلا يحق لأحد أن يملك أحداً، وهذا هو الحب. فالعلاقة الزوجية أو العائلية، إذا كانت بالفعل مبنية على الحب، تكون آنذاك علاقة بعيدة عن التملك؛ فالحب الحقيقي لا يعرف الملكية، إنه مجرد عطاء، قد تقولون لي هذا كلام نظري مثالي الخ.... هذا فيه شيء من الصحة ولكنه في نفس الوقت حقيقي وواقعي حتى ولو بدرجات مختلفة أو خفيفة، وكل منّا يختبر بطريقة أو بأخرى مجانيّة العطاء، والأهل ينادون دائماً بمجانية عطاءاتهم لأولادهم وهذا فيه الكثير من الصحة.
فالعلوم الإنسانية بشكل عام والتحليل النفسي بشكل خاص يقولون لنا بأن الطفل هو مشروع لابد للأهل من التحضير له، أي على الأهل أن يقرروا أولاً إنجاب الطفل وأن يستعدوا لاستقباله مادياً ونفسياً. فمجيء الطفل يُحدث الكثير من التغيرات في حياة الزوجين. فالتحضير مهم لكي يكون إنجاب الطفل له وليس من أجل الأهل؛ من أجل إرضاء شيء ما لديهم أو تعويض ما. فالإنجاب قد يُعاش كوسيلة لتخليد الأهل والإنسان يسعى دائماً للخلود، ممّا يجعل قبول عدم الإنجاب أمر صعب للغاية وفي هذه الحالة يتم أيضاً رفض التبني. فالتبني يشير إلى قبول عدم الإنجاب ويساعد على قبول الطفل لذاته وليس كوسيلة للأهل.
دون شك، رسالة الأهل بالقرب من أبنائهم ليست بالأمر السهل، فعندما نقول بأن الولد هو مشروع فهذا يعني أنه على الأهل أن يدركوا تماماً بأن أولادهم «ليسوا ملكا لهم» على حد قول الكاتب جبران خليل جبران. فالعلاقة الحقيقية الغير امتلاكية تقتضي من الأهل أن يربوا أولادهم من أجل أنفسهم أي من أجل الأولاد أنفسهم، وهذه هي أهم وأفضل رسالة يمكن للأهل أن يقوموا بها، قد تقولون لي بأن هذا أمر صعب لا بل إلى حد كبير مستحيل! القضية تتعلق بمفهوم كل إنسان لذاته، بمعنى هل أنا كزوج أو كزوجة أقبل أن أكون ملكا للآخر (زوجي أو زوجتي) لا أعتقد ولكن غالبا ما ننسى هذا الأمر، كل العلاقات الإنسانية هشة وحساسة وغالباً لا تستمر بهذا السبب، كل إنسان يبني علاقته مع الآخر ويسعى لامتلاكه ، في البداية يعيشون الكثير من المسايرة والمجاملة ولكن سرعان ما تظهر الحقيقة وتبدأ الاتهامات، لذلك أقول أنه علينا أن ندرك أمرين مهمين جداً في بناء كل علاقة إنسانية:
1) أهمية الفرد، استقلاليته، قبول اختلافه الخ....
2) لا وجود لنمو فردي ولا لفرح حقيقي إلا مع الآخرين: فأنا أنمو بمقدار ما أترك الآخر ينمو، وهذا الأمر يعني بالطبع الطرفين: الأهل والأولاد، وعملية النمو تتم بطرق عديدة لاشك ولكن أهمها هي احترام حرية الآخر، إفساح المجال له بالتعبير عن ذاته.
فاحترام الحرية يكون قبل كل شيء بالإصغاء لهم، لما يعيشونه وخاصة خلق جو من الثقة بدلا من القمع أو على الأقل بدلا من النهي المستمر، فإمكانية التعبير عن الذات، عمّا يعيشه الإنسان من ايجابي وسلبي هي الإمكانية الأفضل للنمو النفسي والإنساني والعاطفي. فالإصغاء للولد بحب واحترام وخاصة بثقة يساعده على أن يحكم على ما يعيش والتمييز بين ما هو جيد وسيء، فإذا كانت خبرته مرفوضة مسبقاً فهذا يلغي كل إمكانية التمييز والحكم وبالتالي إمكانية النمو. فلا داعٍ للخوف من الخبرات التي يقوم بها الأولاد إذا كان باب الحوار والثقة مفتوح أمامهم، وما من أخطر من إقفال هذا الباب في وجههم. ولكن لكي يكون الإصغاء جيد، لكي يتم خلق جو الحرية والثقة لابد للأهل من أن يصغوا إلى أولادهم انطلاقاً منهم وليس انطلاقا من ذواتهم أي الأهل. فتفكير الأولاد الزماً مختلف بما أن الأجيال مختلفة والخبرات أيضاً، وأنا أقول نفس الأمر للأولاد أيضا، عليهم ألا ينسوا بأن أهلهم يملكون خبرات كبيرة لا يدركونها وعليهم الاستفادة من خبرات أهلهم دون إطلاق أحكام مسبقة؛ «هم دقة قديمة، جيلهم غير جيلنا....».
قبول خبرات الأولاد هذا يعني القبول بالتجربة، أي بالضياع. ماذا أعني بالضياع؟ أعني القبول بأن الولد قد يخطئ وهذا أمر طبيعي، أن يغامر، أن يعيش مغامرته لكي يمكنه فيما بعد التمييز واكتشاف الخطأ، لدينا مثلاً من الإنجيل يوضح لنا هذا الأمر بشكل جيد: مثل الابن الضال، فالأب لم يفتح فاه أمام طلب الابن بالحصول على حصته من المال، أعطاه إياها وتركه يغامر، لم يكن بإمكان الابن اكتشاف النعيم والحب الذي كان يعيشهم بالقرب من أبيه إلا عندما ابتعد عنه محاولاً العيش على أهوائه والقيام بخبراته. والأب في هذا المثل قبل ضياع ابنه، لا بل قبل أن يحتك ابنه بالموت (كاد أن يموت جوعا يقول لنا النص) وفي النهاية اكتشف بأن الحياة والحب الحقيقيين هم لدى أبيه فعاد إليه معترفا بخطئه، بينما الابن الأكبر الذي لم يترك أباه لم يكتشف خطأه واستمر به.
الإنسان الحقيقي هو الإنسان الذي اختبر الحياة واختبرته الحياة بدورها أيضاً؛ طالما لم يختبر الإنسان الحياة، طالما لم يعارك الحياة فهو ليس بإنسان. ولكن للأسف الشديد في أيامنا هذه يسعى الأهل بشتى الوسائل لكي يبعدوا عن أولادهم الهموم والشعور بالمسؤولية، هذه أفضل طريقة لكي يبقى الولد طفلاً متكلاً رافضا للاستقلالية.
هل هذا يعني أنه على الأهل أن لا يقولوا شيئاً لأولادهم ويتركونهم لمزاجيتهم؟ بالطبع لا. على الأهل أن يفيدوا أولادهم بخبراتهم ونصائحهم وأن يوبخوهم عند الحاجة لما لا! وعلى الأولاد أن يحترموا ويستفيدوا من خبرات أهلهم ولكن على هذا الأمر أن يتم بحرية، وهذا هو دور الحوار بين الطرفين، فالحرية لا تعني المزاجية وعدم المزاجية لا يعني القمع في نفس الوقت، هذا هو التوازن الذي على الأهل والأولاد معا أن يجدونه.
في النهاية أقول بأن الحياة تبقى عطية وبمقدار ما أعيشها بالفعل على أنها عطية بمقدار ما تكون علاقاتي غير تملكية مع الآخرين بشكل عام ومع الأولاد بشكل خاص، لأنه عندما أستقبل الحياة كذلك فأنا أكون حراً لا أخاف على شيء. وعندما أعيش على أنني المصدر أكون في موقف دفاعي، قلق، لا يسمح لي بقبول اختلاف الآخرين عني وأولادي بشكل خاص؛ آنذاك أنا أسعى لكي أحقق – ما لم استطع تحقيقه في حياتي - من خلال أولادي، وتكون علاقتي امتلاكية مملوءة بالصراعات بيني وبينهم.
هل هذا يعني أنه من الممكن إلغاء الصراعات بشكل عام، صراع الأجيال بشكل خاص ؟ حتماً لا، لا يمكن إلغاء الصراعات، وليس المطلوب إلغاؤها فالصراعات تشكل دينامية الحياة وفي كل المجالات. المطلوب هو القبول بها والتعامل معها من خلال الحوار المستمر من أجل سعي أفضل نحو الحقيقة. فالحقيقة لا أحد يملكها ولا توجد في مكان ما، إنما الحقيقة نصنعها من خلال سعينا وبحثنا عنها من خلال هذا الحوار الذي نوهنا عنه.
التحليل النفسي والدين
مبدئيا ولكونه لا يشكل نظرة شاملة عن العالم، التحليل النفسي بنظر فرويد هو حيادي بالنسبة للدين. ولكن يؤكد فرويد بالمقابل بأنه «بما أن التحليل هو نظرية تمس اللاوعي النفسي فبالتالي بإمكانه أن يصبح أمر لا بد منه في خدمة كل أنواع العلوم التي تهتم بولادة الحضارة الإنسانية ومؤسساتها الكبيرة، كالدين والنظام الاجتماعي». فوجهة نظر التحليل النفسي بخصوص الدين هي نظرة الولادة الإنسانية للدين؛ فالتحليل يحاول أن يفهم الدين كقدر جماعي في تاريخ الحضارة وكآلية نفسية في علاقة الإنسان مع العالم.
1- من الإسقاط إلى كلية القدرة الرغبة: يعبر فرويد أن الدين هو الظاهرة النفسية الأكثر تعقيداً. ولكي يوضح سر هذا الأمر يبدأ يوضح أسس نظريته. ومع ذلك فالتحليل السرير البحت للدين أو للظواهر الدينية قليلة جداً إن لم نقل بأنها نادرة. في مجمل كتاباته نرى دراستين يمسان الدين: الأولى هي الهذيان الديني لشخص يدعى شريبير والثانية هي الهوس الشيطاني لشخص يدعى هايتسمان. هاتين الدراستين تمت في الحقيقة انطلاقاً في نصوص مكتوبة. في دراساته عن الدين لا يستند فرويد على خبراته السريرية إنما يكتفي بتطبيق تأويلاته على الأفكار والتصورات النظرية لأكثر من ظاهرة دينية. إنه ينطلق من المبدأ بأن الدين هو من إنتاج البشر وأن التحليل النفسي أو علم نفس الأعماق كما كان يُسمى آنذاك قادر على أن يعطي مفتاح تفسير سر أصول ومعنى الدين.
تأويله للدين مزدوج. متشرباً في روح العقلانية لعصر التنوير، يريد فرويد أن يشرح الدين ويساهم في تحقيق انتصار العقل على الدين. سواء بخصوص الدين أم بخصوص أن تعبير إنساني، يتبنى فرويد المبدأ النفسي الذي يعتبر بأن الإنسان يُظهر حقيقة ما تحت شكل متنقل، آخر، مختلف. هذا الأمر جعله يعتبر الدين على أنه إحدى الشهادات المهمة بخصوص الواقع النفسي. لا شك أن المعنى الحقيقي للدين لا يتوضح إلاَّ بفضل الأضواء التي يسلطها عليه التحليل النفسي. يسعى فرويد باستمرار لفهم الدين على ضوء التطورات التي علمته إياها خبرته في مجال علم النفس المرضي وفي نفس الوقت يريد أن يبين الفارق بين ظاهرة الدين والمرض النفسي بالمعنى الحصري للكلمة. ففي دراسته النفسية للأسطورة وفي كتابه مستقبل الوهم، ينظر إلى الدين من وجهة نظر الفرد ويشرحه بحسب نموذج الحلم كإنتاج للرغبة. وفي دراسات أخرى يعتبر الدين، بطريقة أكثر دقة، كحركة تحويل الفرد من قبل الحضارة ويمحوره حول تكوين القانون الأخلاقي تحت شعار الأب.
يحاول فرويد أن يرجع إلى الوراء باتجاه أصل الحضارة، من خلال توضيح ولادة الدين وبالتالي يتوقع أن يوضح ويشرح العمليات النفسية الأساسية التي يواجهها.
في البداية يعادل فرويد بين الدين والأسطورة، وبين الدين والخرافة ويعتبره على أنه مجرد إسقاط بالمعنى الواسع للكلمة. إنها عبارة عن تصورات لرغبات نزوية، غير واضحة على الصعيد النفسي العميق، ومنقولة، مسقطة على الخارج على شكل مشهد لتحقيق رغبات ممنوعة على الإنسان كثل غشاء المحارم مثلاً أو معاكسة للواقع كما هو حال الخلود.
نظرية التحليل النفسي للأسطورة، التي تفسر التصورات دينية كهوامات الرغبات، كما هو الحال في الأحلام، هذه النظرية تدشن إن صح التعبير التحليل النفسي للدين. لا شك بأن فكرة الإسقاط كان لها شعبية كبيرة في المفهوم الشعبي لنظريات التحليل النفسي التي تخص الدين. لكن في الحقيقة الإسقاط لم يعد مفتاح تفسير الدين في مؤلفات فرويد حول الدين لأن الإسقاط يفترض وجود علاقة أو اتصال أو شيء ما مشترك على صعيد المحتوى بين التصور اللاواعي والفكرة المُسقطة، تواصل، أو اشتراك لا نراه في التصور عن الله.
سر الدين بنظر فرويد يكمن في التأكيد على الله الأب الذي يعيش الإنسان معه علاقات رغبة، اقتناع بالاختيار، خضوع وشعور بالذنب. هكذا لا يرى فرويد في التصوف ظاهرة دينية بحتة إنما فهم ذاتي للمجال الخارج عن الأنا وعن ال هو. فالخبرة التصوفية هي نتيجة هدم أو عدم تكوين الأنا كمرجع واع مستقل، عدم تكوين يجعل قوى النزوات الموروثة والمكتسبة تحتل الشعور الذي يسمح بأن يختبر الإنسان نوع من الاندماجية مع الكل، ما قبل الوعي الشخصي المكون من خلال الإدراك واللغة.
على عكس التصوف، الدين يقدم الله الشخصي ذو طبيعة أبوية. فلكي يفهم ظاهرة الدين يحلل فرويد العلاقة مع الأب. ففي كتابه مستقبل الوهم يضع الدين ضمن إطار توجيه وتوجيه النزوات الشخصية.
فوجود الضرورة بقوة، القدرة العدائية للطبيعة، وخاصة الموت، الصراع الدائم الذي لا وجود لحل له بين الفرد والمجتمع، كلها تفرض على الرغبات إحباطات أو حرمانات بدون رحمة. مدفوعاً من قبل نزوات حفظ الذات ومن قبل البحث عن اللذة بسبب ميل النزوة البدائية للهروب من الألم، يبني الإنسان عالماً من الرغبات تم إرضاؤها، خارجاً أو ما وراء العالم الواقعي والضرورة. والنرجسية التي تشكل قاعدة نشاطه تقوده في الحقيقة للاعتقاد بأن هذه الرغبات يمكن إرضاؤها « كلية القدرة الوهمية للرغبة». أمام الصراع بين الرغبات والواقع، يحي الإنسان في أعماقه صورة الأب الكلي القدرة «القادر على كل شيء: يسوع يبين لنا العكس»، يحمي ويكافئ بعطف. هذه الصورة تأصلت في أعماقه كتصور لا وعي لدى خبراته العائلية للحرمان. في الواقع يسقط الطفل على الأب كلية قدرة رغبته النرجسية.
فالدين بهذه الطريقة هو في النهاية مجرد إيمان وهمي، بما أنه نابع من الرغبة التي ترفض الحدود التي تضعها لها ضرورة الواقع، كما أن الدين هو حنين للأب، لكونه إحياء للصورة النفسية الأب البدائي، أب كلي القدرة ويجيب على الرغبات المحرومة أو التي لم تلقى رضاها. فالتحليل النفسي يحمل للنقد القديم والعقلاني للدين ثلاث شروح: أولا العمليات النفسية البدائية «التعارض بين النزوة كمبدأ للذة ومبدأ الواقع»، ثانياً النرجسية «أصل فكرة كلية القدرة»، وأخيراً تكوين وحفظ التصورات اللاواعية «أصل فكرة الله في صورة القادر على كل شيء».
لكي يحكم على الرغبات التي تظهر في الدين على أنها وهمية، لا يستطيع فرويد أن يستعمل مقاييس علم الأمراض؛ لأن الدين ليس نفي للواقع كما هو الحال في الهذيان، ولا إرضاء بدلي كما هو الحال في العرض العصابي. فبالتالي يلجأ إلى مقاييس الواقع التي تأتيه من «التصور أو المفهوم العلمي» للعالم. فالوهم الديني يصبح آنذاك «شبه هلوسة». بصفته محلل نفسي لا يسعى فرويد لأخذ موقف مع أو ضد القيمة بالحقيقة للعقائد الدينية كما يقول في كتابه مستقبل الوهم.
1- الأب وعقدة الأوديب: حتى النهاية يبقى فرويد متمسك بأطروحة كتابه مستقبل الحقيقة. بنظره هذه الأطروحة لا تشكل سوى شرح جزئي وسطحي للدين، والتي يضعها إلى جانب تفسير التحليل النفسي لتاريخ الحضارة الممحور حول تكون وتطور عقدة الأوديب. يعترف فرويد بأن «كل ما هو على علاقة بإبداع الدين مطبوع بطابع العظمة وكل تفسيراتنا لا تكفي لتوضيحه كما يقول في كتابه موسى والتوحيد». فالدين ليس إبداع فردي، إنما قدر الإنسانية في ومن خلال مسيرة المستقبل. بعيداً عن أن يكون مجرد حنين للأب لدى الإنسان المحروم، الدين يمثل ويحقق الصراع، وعدم الاعتراف، والاعتراف بغير مكانه بالأب.
البعد الأنثروبولوجي الأساسي للدين يراه فرويد أولاً في الطقوس الدينية. يحلل نقاط التقارب بين الطقوس الدينية والطقوس الهوسية فيستخلص بأن الهوس هو نوع من الكاريكاتير للدين، لكن الدين هو عصاب جماعي للبشرية. فالإنسان الديني «يضع جانباً المحتوى العقلي» للطقس بطريقة لا يعد فيها للطقس سوى معنى رمزي بالمعنى التحليلي لكلمة رمزي؛ إنه عمل منقول ««déplacerينتج عن شعور بالذنب لا واعي. هذا الأخير يُفهم من خلال كبت النزوات الأولية التي يقوم بها الدين. فالدين هو أحد العوامل المهمة للتخلي التدريجي الذي يعتبر شرط للحضارة. فالدين هو عصاب جماعي بقدر ما أن الحضارة لا توجد إلاَّ من خلال الكبت ولا تنتشر إلاَّ من خلال الشعور بالذنب. في هذا المنظور لنفسي ـ التاريخي، الدين يحقق بشكل خاص الحقل الرمزي حيث يتم النقل «déplacement »الرمزي للحضارة.
لقد طور فرويد هذه الفكرة تدريجياً بتفسيره لتاريخ الدين معتبراً مصدره هو الصراع القاتل مع الأب البدائي ومن خلال الوعي المتلاحق لما يحدث في الداخل من تنقلات رمزية. في كتابه طوطم والتابو يحاول فرويد أن يحلل الدين على أنه نتيجة لكبت نزوات العدوانية. الطقوس السلبية تترجم الازدواجية العاطفية. في الجزء الأخير لكتابه يقترح فرويد تفسير أكثر جذرية من خلال نظرية قتل الأب البدائي. التابوية كاحترام الحيوان التابو هو اعتراف للأب تم نقله على الحيوان الذي ينوب عنه: فالمائدة الذبائحية، الطقس العرضي (العرض) هو في أنٍ معاً، قتل جديد منقول وتماهي مع الأب من خلال عملية الإدخال. ومن ثم يحاول فرويد أن يفهم الإيمان بالله الأب من خلال إعادة تكوين تحليلي نفسي لمختلف العمليات العاطفية التي، من الشعور بالذنب المكبوت والمنقول، يقودون للاعتراف بالأب وتضخيم هذا الأخير على صورة الأب المؤله.
في موسى والتوحيد يتابع ما بدأه في الطوطم والتابو، ينسب فرويد ديانة التوحيد العبراني لطقس آتون الذي فرضه الساميين على موسى المصري. فالجاذبية والاستهواء الذي ينبع من إله العبرانيين، طبيعته الضخمة، تطلبه الكبير لروحانية التخلي الحضاري والثقافي يشيروا في نظر فرويد إلى أن الله يمثل بشكل جيد جداً صورة أبوية ممجدة ومُصعدة، من خلالها آتون ليس سوى نقطة انطلاق. فمجيء هذا الإله لا يمكن فهمه إلاَّ من خلال الشعور بالذنب الموروث للقتل البدائي والمجدد من خلال قتل جديد إلا وهو قتل أب الشعب اليهودي موسى. بهذه الطريقة حلّ التوحيد اليهودي مكان الطوطمية ويتمم عملية النقل التي قامت بها هذه الأخيرة من خلال تصور الأب المقتول والمنقول في مخيلة العقلية الدينية. والمسيحية تنهي عملية الوعي بإعلانها الواضح للخطيئة الأصلية، لكنها تحقق في الوقت نفسه تواطئ جديد الذي حطّ دين الأب.
ففي طقوسه يضع الدين المسيحي الابن بدلاً من الأب. بصفته كشف عرضي للعصاب الهوسي الذي يشكل جزءا من الحضارة، الدين المسيحي يشكل إتمام الطواطئ للثورة البنوية والمصالحة مع الأب. ويستخلص فرويد بأن حقيقة الدين هي تاريخية؛ إنها تعبر بطريقة منقولة الصراع الأصلي الذي أنتج الحضارة.
2- معطيات التأويل الفرويدي: حكم القيمة الذي يطلقه فرويد على الدين هو بمقدار الازدواجية التي تمثل في عملية إعادة التكون التحليلي ـ التاريخي: الدين اليهودي يحقق روحانية عالية حضارية وأنبياءه هم شخصيات ووجوه كبيرة أبوية؛ لكن الدين اليهودي يبقى أسير عقدة أوديبية غير منتهية ولهذا السبب تُذنّب، وتجعل من الإنسان سلبي وخادم أمام الله الأب.
فالاعتراضات الموجهة لهذا التأويل للدين بحسب طوطم وتابو وموسى والتوحيد، هذه الاعتراضات تخص البعد التاريخي والتحليلي النفسي. من جهة يستند هذا التأويل على عدد من الأفكار العائدة لعلم الإتنولوجيا (دراسة العرق) وتاريخ الأديان وعلم تفسير الكتاب المقدس التي تبدو خاطئة بنظر هذه العلوم اليوم. بمحاولته تفسير الدين على أنه عصاب ضروري لحضارة في صدد تكوينها، كان عليه أن يقدم مخططاً تطورياَ للتاريخ يسقط على الحضارة نموذج تطور العصاب الفردي.
ومن جهة أخرى بتحقيقه هذه المقارنة انطلاقاً من علم الطب السريري يعادل بسرعة كبيرة بين الظواهر الحضارية والمعطيات اللاواعية. لا بل أكثر من ذلك، فهو يقترح بشكل غير مباشر فرضية معينة على أنها نتيجة التطور التاريخي (فقانون الأب مقدم على أنه نتيجة للكبت وأصله). أخيراً لا يأخذ فرويد بعين الاعتبار أبداً بعض المعطيات الضرورية للشهادات الدينية التي لا تدخل في تفكيره: الإدراك الرمزي والديني للعالم، لغة الطقوس وعقيدة وحي الآب والابن، الخ.
ومع ذلك ما حمله لنا هذا التأويل يعتبر مهم. أولا أشار فرويد إلى العمليات النفسية التي تدخل في التصوف وفي الديني اليهودي والمسيحي: النزعة إلى الاندماجية ما قبل تكوين الأنا، حنين إلى الأب، والعلاقات مع الأب المتشابهة مع ما يحدث في عقدة الأوديب. هذا التأصل النفسي للدين نراه في التحليل النفسي ويظهر كمصدر ممكن للتصرفات والمعتقدات المرضية البحتة (تصوف خاطئ، تدين هوسي، الخ). فالقوانين النفسية التي كشفها فرويد يمكن أيضاً لمسها من خلال المراقبة، حتى ولو لم يكن لمس اللاواعي في هذه الحالة أكيد. فعلم النفس الديني يرى ذاته هنا مزوداً بمبادئ تأويل وتنظيم. ثانيا بين فرويد وجود رابط وعلاقة بين نماذج من الحضارة وبالتالي من الدين والواقع النفسي.
ومع ذلك فنحن ملزمون بأن نُحدَّ من أهلية التحليل النفسي الفرويدي: التحليل النفسي الفرويدي لا يشرح الدين بحد ذاته. فرمز الأب مثلاً الذي يعتبر أساس الدين اليهودي والمسيحي ليس نتيجة نفسية أو ذات منشأ نفسي، كما أن علم الجمال لا يُفسر، على حدّ قول فرويد نفسه، بالتحليل النفسي. فتفسير التحليل النفسي للدين عليه أن يستند على معطيات نظرية منتشرة ومبعثرة في مؤلفات فرويد والتي لم يأخذها بعين الاعتبار أثناء تحليله للدين. عندما يقول فرويد بأن الليبيدو بصفته طاقة حب (أيروس) قوة اتحاد تستعمل الشعور بالذنب لكي تنتصر الحياة على الموت. هذا التحليل هو أكثر إيجابية في تكوين الحضارة والدين من الكبت والنقل الناتجين عن عقدة الأوديب.
3 - بعد فرويد: على عكس أو بتعارض مع معلمه يرى يونغ في كل الأديان قيمة إيجابية. فهو يرى في الأديان العديد من الرموز والأوجه والهوامات التي يلقاها في أحلام الناس. فيستخلص يونغ بأن النفس مسكونة من نماذج ذات طابع ديني وهدفها محدد من قبلها.
أنطوان فيرجود (Antoine Vergote) يسعى لتوضيح العملية النفسية ضمن الدين المعاش استناداً إلى أفكار ونظريات فرويد، مبيناً بأن علم النفس لا يستطيع أن يعيد بناء الدين على طريقة السلالة ليستخلص بأن الدين هو ظاهرة حضارية. حدود التحليل النفسي في هذا المجال يثبتها المحلل جاك لاكان (J. Lacan) عندما يعلن استقلالية «النظام الرمزي»، أي أن الرموز لها استقلالية تامة وبالتالي لا يمكن ربطها وتطبيقها على المجال الديني تماماً بنفس الطريقة في التحليل النفسي.
الالتزام والانتماء
موضوع الالتزام موضوع حياتي ويومي إن صح التعبير. فالالتزام ممكن أن يُفهم كموجه للحياة أو كعمل وذلك إن كان يشير إلى طريقة في الوجود من خلالها يشترك الإنسان في مسيرة العالم، يمتحن ذاته كمسؤول عمّا يحدث، يفتح مستقبلاً للعمل أو للتصرف. أو إن كان يشير إلى عمل أو تصرف يربط الإنسان من خلاله مستقبله ، سواء بخصوص بعض الأعمال التي يتمها، سواء من خلال نشاط ما، أو من خلال حياته بمجملها. للالتزام ناحيتين مهمتين: طابع استباقي، يستبق حدوت الأمور والعلاقة التي يقيمها بين قدرة الارادة اللامتناهية والموضوع المحدد، موضوع له نهاية.
الالتزام كموجه: هو موقف يكمن في أخذ الإنسان على عاتقه بشكل عملي حالة ما، أو شركة ما، أو عمل قيد التحقيق. إنه بذلك يتعارض مع موقف اللامبالاة واللامشاركة. بالطبع على الالتزام كموجه أن يُترجم بالأعمال لكنه لا يتطابق مع أي عمل كان. إنه بالأحرى نمط حياة، طريقة في التعامل مع الأحداث، مع الآخرين، مع الذات.
يمكننا أن نميز في الالتزام كموجه ثلاث مكونات هامة بشكل خاص: الاشراك أو التضمن، المسؤولية والعلاقة مع المستقبل. عندما يجد الإنسان الملتزم نفسه أمام حالة معينة فإنه يأخذها على عاتقه يشعر بأنه معني بها، يشترك بها ومسؤول عنها. والتصرف الذي يتبناه في هذه الحالة يعبر ويترجم تماما هذا الشعور.
الالتزام (معنى بالموضوع، الاشراك أو التضمن) مرتبط بالمسؤولية بمعنى أنني مسؤول عن حالة أو عنجملة من الأعمال التي تمت خارجاً عني وليس لي من علاقة مباشرة بما حصل فيها. إنه من جوهر الالتزام أن يكون منفتحاً على المستقبل. يأخذ على عاتقه الماضي من أجل المستقبل وليس لكونه من الماضي.
فلا وجود لحالة جامدة ولا لوجود مرهون بالقضاء والقدر، ومعنى الماضي ليس نهائي وثابت، ولا محدد من قبل ما سبق أن عاشه الإنسان، بل هو كالمعلق والمشدود دائماً باتجاه إمكانيات مختلفة. لهذا السبب العمل له معنى: إنه الوسيلة التي بفضلها يمكن للوجود الإنساني أن ينفتح على معناه ويحاول أن يعطي المحتوى الأكثر تناسباً مع متطلباته العميقة. من فضائل الالتزام هو حماية الوجود الإنساني من أن يتصلب ويستسلم للقدر. وأن يجد مجدداً المعنى في صميم ما يمكن أن يهدد هذا الوجود من الاستمرارية ويحافظ على الوجود مشدوداً باتجاه المستقبل. بهذا المعنى الالتزام الموجه أو الالتزام كموجه هو استباقي: يعطي للحوادث معناه الإنساني ويضعها في مكانها الصحيح ويعلن بذلك المستقبل.
الالتزام كعمل: إنه القرار بصفته يمس ويخص كيان صاحبه. كل قرار يؤثر بصاحبه، حتى ولو كان القرار يخص الأشياء؛ فأن يقرر الإنسان هذا يعني ان يربط ذاته، أن يعدل بذاته إن صح التعبير بما يتناسب مع المشروع الذي يقرره. ولكن لا يمكننا التحدث عن التزام إلاَّ عندما يكون موضوع الالتزام هو الإنسان ذاته، صاحب القرار، سواء بجزء من ذاته أو بكليته.
نوعين من الالتزام:
الالتزام بمؤسسة: عقد يُلزم بخدمة أهداف هذه المؤسسة.
الالتزام في جماعة: غياب العقد والانتساب أكثر شمولية.
الانتماء هو الوجه الآخر للالتزام.
الالتزام والانتماء: عمل مؤسس. ويعطي الهوية
ابراهيم وسارة: من التملك إلى الحرية
لماذا هذا الموضوع؟ أولاً، أريد أن أبين لكم كيف يمكن للتحليل النفسي أن يساعدنا في فهم النصوص الإنجيلية بشكل أفضل في بعض الأحيان، بمعنى آخر، أريد أن أقول لكم كيف أنه لا يمكننا اليوم، للتعبير عن إيماننا المسيحي بشكل جيد، التغاضي عن اللغة أو اللغات، عن كل الإمكانيات الأدبية والعلمية منها، الموجودة بين أيدينا للتعبير عن هذا الإيمان. وهذا أمر مهم جداً، لكونه يبين لنا كيف أن الله يكشف عن ذاته من خلال الإنسان، وبالتالي من خلال إمكانيات الإنسان العديدة لكي لا نقول غير المحدودة.
ثانياً، لقد اخترت هذا النص لأنه يروي لنا قصة، ظاهرياً قصة عادية تعود إلى التاريخ القديم ولا علاقة لها بنا سوى أنها تقول لنا مدى ثقة ابراهيم بالله، وكيف علينا نحن أيضاً بدورنا أن نثق بالله. كما أنها تعبر لنا عن كيفية تدخل الله في حياة الإنسان وبالتالي عن قدرة الله بخصوص الأمور المستحيلة. ألم يقل المسيح بخصوص الشاب الغني وموضوع دخول الأغنياء إلى الملكوت: "هذا شيء يعجز الناس ولا يعجز الله، فإن الله على كل شيء قدير"؟ في الحقيقة قصة ابراهيم وسارة تظهر لنا بأن تدخل الله ليس تدخلاً سحرياً بل من خلال الواقع، الله يدفع الإنسان للقيام بمسيرة قد تكون شاقة في بعض الأحيان وهذا ما سنراه مع كل من ابراهيم وسارة.
ثالثاً، قد نقول بأن قصة العقم قصة خاصة ولا تخص سوى البعض من الناس. فيزيولوجياً، هذا القول صائب ولكن هذه القصة تتحدث لنا عن العقم بالمعنى الشامل للكلمة أي العقم بالمعنى الرمزي أو بمعنى آخر تتحدث لنا عن العقم في أية علاقة إنسانية. وبهذا المعنى نقول بأن هذه القصة تخص كل واحد منا، تلمس كل إنسان. خصوصاً، عندما نعلم إلى أي حد علاقات الإنسان شائكة، معقدة. كم من العلاقات (صداقة، زواج، زمالة الخ....) تنكسر في اليوم!
وأخيراً، اخترت هذا الموضوع لكي نرى معاً كيف أن الكتاب المقدس يروي لنا حقائق إلهية وإنسانية معاً لأنهما في النهاية حقيقتان لأمر واحد. لهذه الأسباب إذن اخترت هذا الموضوع.
القصة: قصة ابراهيم وسارة هي في النهاية قصة تحرر، تحول، قيامة إن صح التعبير. مسيرة انتقال من العقم إلى الخصوبة، بالمعنى الشامل للكلمة. بهذا المعنى هي قصة تمس كل إنسان، كما قلت. أبرام دعي للتخلي عن أرضه وبيت أبيه نحو الأرض المجهولة التي سيريه إياها الله. أبرام يثق بالله وينفذ ولهذا السبب يقول الكتاب المقدس أن ذلك "حسب له براً". أبرام متزوج من ساراي أخته من أبيه. وتقول القصة بأنها عاقر، عقيمة. يصل أبرام خلال مسيرته إلى مصر فيخاف على نفسه من المصريين فيقول لساراي امرأته: "أنا أعلم أنك امرأة جميلة المنظر، فيكون، إذا رآك المصريون، أنهم يقولون: هذه امرأته، فيقتلونني ويبقونك على قيد الحياة. فقولي أنك أختي، حتى يحسن إلي بسببك وتحيا نفسي بفضلك". وهذا ما يحصل. يأخذ فرعون ساراي زوجة له، ولكنها لم تنجب له بسبب عقمها، ثم يكتشف فرعون الأمر فيوبخ أبرام ويعيد له زوجته.
وعندما ترى ساراي بأن وعد الله لم يتحقق بعد تطلب من أبرام إقامة علاقة مع الخادمة هاجر -وهذا طلب شرعي آنذاك- فأعطته ولداً سماه اسماعيل. بعد ولادة اسماعيل يتدخل الله ثانية ليغيّر اسم كل من أبرام وساراي: فيصبح اسم أبرام، ابراهيم وساراي، سارة. ويتم العهد بين الله وابراهيم في أن يختن كل ذكر.
تتكرر قصة ابراهيم والمصريين مع أبيملك. إنما أبيملك لم يلمسها لأنه سمع في الحلم أنها زوجة ابراهيم وليست أخته. وأخيراً تتمولادة اسحق، وطرد هاجر.
إذن أبرام متزوج من ساراي. أبرام يعني الأب المرتفع أو المتعالي. ساراي تعني ملكتي. أبرام متزوج من أخته من أبيه. ساراي عاقر. ما سبب عقمها؟ تدخل الله يبين لنا أن سبب العقم هو وجود خطأ أساسي في العلاقة، في الرمزية في العلاقة. وعندما يكون هناك خطأ في العلاقة فالنتيجة حتماً: العقم، بالطبع بالمعنى الرمزي والشامل للكلمة. أي أن العلاقة آنذاك لا تسمح للنمو أن يتحقق، النمو يتوقف.
ساراي تعني ملكتي. إنها ملك أبيها واسمها لم يتغير مع الزواج. من هنا نقول بوجود عائق مهم وأساسي في مسيرة سارة الحياتية والموجهة لكي تصبح أم. هذا يعيقها في أن تصبح أم. فالتشديد على الملكية يلغي إمكانية قيام زواج حقيقي مع أبرام لأنها لا تزال ملك أبيها. ونحن نرى ذلك في الواقع: عقم العلاقة في الكثير من الأحيان عائد إلى عدم قطع حبل السرة مع الأم أو مع الأهل. ساراي لا يمكنها أن تكون متزوجة فعلياً. ورمزياً أيضاً غير متزوجة، عقيمة. ليس المهم الزواج الاجتماعي والجسدي إنما الزواج الحقيقي الفعلي والرمزي.عقم سارة يعبر عن عدم زواجها، بهذا المعنى نقول بأن العارض، المشكلة تعبر عن حقيقة خفية: هنا الحقيقة الخفية هي الملكية، عدم الانفصال. فالله يتدخل لأنه يريد الحياة للإنسان: "جئت لتكون لهم الحياة وتفيض فيهم". يتدخل الله فيقول لأبرام: "انطلق من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك، إلى الأرض التي أريك".
الترجمة الحرفية تعطي ما يلي: "انطلق من أجل ذاتك أو انطلق نحو ذاتك، من أرضك ..." انطلق من المكان الموجود فيه الآن، انطلق من هذه الموانع، أخرج منها، لأن أبرام هو أيضاً أسير اسمه: الأب المرتفع، المتعالي. كيف يمكنه أن يرى أو يلتقي بزوجة على نفس "المستوى". إذن هو أيضاً لا يمكنه أن يقيم حياة زوجية حقيقية. هنا نرى أهمية الاسم الذي يميز الإنسان عن غيره. لهذا السبب من المهم جداً تسمية الطفل منذ ولادته. أحياناً الأسماء تشكل مشكلة، بمعنى آخر: كم من الأشخاص يرفضون أسماءهم لأسباب عديدة. كم من الأشخاص لديهم مشكلة مع الاسم لأنهم لا يستطيعون أن يتطابقوا مع اسمهم مثلاً: أمل.
فالله يطلب إذن من ابراهيم الإنطلاق نحو الذات. أبرام لا يعرف ذاته: "إلى الأرض التي أريك"، الله هو الوحيد الذي يستطيع أن يعرفنا بالفعل على ذواتنا. انطلق من أجل خيرك وسعادتك. إنها دعوة الله لإبراهيم، ولكنها دعوة كل إنسان. كل إنسان مدعو ليعيش ذاته. والمشكلة دائماً هي في الصراع بين أن أعيش ذاتي أو أن أعيش المجتمع أو الآخرين. هذه مشكلة ابراهيم وسارة أيضاً. والتحليل النفسي يسعى لمساعدة الإنسان على أن يعيش ذاته، حقيقته. الله يدعو الإنسان باتجاه الإنسان: "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟". الله إنساني، قبل أن يكون الهي إن صح التعبير. وهذا هو سر التجسد. هذه هي رغبة الإنسان الحقيقية والموجودة في أعماقه ولكنها، مع الأسف، غالباً ما تكون مكبوتة، لكونه يعيش المجتمع، الآخرين أكثر مما يعيش ذاته.
هنا نرى تشابه مهم مع قصة الإبن الضال: بعد أن جاع الإبن يقول النص أنه "رجع إلى ذاته". والترجمة الحرفية هنا تعطي: "أتى إلى ذاته". لأنه إن قلنا أنه رجع إلى ذاته هذا يعني أنه كان مع ذاته، ثم ضاع فرجع مجدداً. بينما في الواقع وحسب الترجمة الحرفية نقول أنه أتى إلى ذاته لأنه كان يجهلها. لم يكن مع ذاته قبلاً، أو منذ البدء. لقد كان غريباً عن ذاته. وعندما يتحرر من علاقته مع الأب بفقدان كل ما يأتي من الأب استطاع أن يلتقي مع ذاته، ولأول مرة يستعمل عبارة: "أنا". يترك أباه ليلتقي مع ذاته. عندما يعود إلى الأب يأتي جديداً للأب، بعلاقة جديدة مع ذاته ومع أبيه. إنه يلتقي مع أب مختلف عما كان يعرفه، لأنه الآن يعرفه بالحقيقة.
يقول لأبيه: "لا أستحق بعد أن أدعى لك ابناً". بينما يتصرف الأب عكس ذلك تماماً: بالنسبة للأب الآن هو مستحق أن يكون ابناً أو بالأحرى الآن هو ابن بالحقيقة. إنه ابن فعلي، يقول: "أنا". له شخصيته، استقلاليته. فالإنسان الغير مستقل هو ليس ابن لا بمكنه أن يكون ابناً. كذلك الأمر بالنسبة للجنة في سفر التكوين: الكتاب المقدس لا يتحدث لنا عن جنة مفقودة بل عن جنة موعودة. على الإنسان أن يصبح على صورة الله كمثاله، فهو ليس بعد كذلك.
يبدأ ابراهيم مسيرة التخلي على مثال الإبن الضال، لكي يلتقي مع ذاته (الأرض المجهولة). إنه يتخلى عن كل العوائق، عن كل الخلافات. على مثال سارة، ظاهرياً، هما يملكان الكثير ولكن في الحقيقة هما ملك للآخرين. ابراهيم ترك الأرض لكنه لم يترك أباه، لأنه أخذه معه. هنا يأتي التدخل الإلهي في مكانه مجدداً. لابد من تدخل خارجي لكي نعي عدم سلامة علاقاتنا. هذه هي دعوة الله لإبراهيم، هذه هي دعوة الله لكل إنسان: التخلي عن كل ما يمنعني من اللقاء مع ذاتي. والتحليل النفسي يسعى لوعي الذات وبالتالي للتحرر من كل ما يمنع الإنسان من عيش ذاته حقيقته.
هذا التدخل الإلهي، أو بالأحرى، طريقة التدخل الإلهي مهمة جداً، لأنه يبين لنا بأن الله لا يتدخل بشكل سحري إنما من خلال الواقع ومن خلال إمكانياتنا البشرية حتى ولو كلف ذلك الأمر الكثير من الألم وغيره. في التحليل النفسي يسمع الإنسان رغبته الحقيقية فيؤدي ذلك إلزاماً إلى التحرر. كما أن التحليل النفسي يدفعني لكي أغيّر علاقتي مع اسمي في حال وجود مشكلة على هذا الصعيد.
ينتقل ابراهيم من تعال إلي (دعوة المجتمع) إلى تعال إلى ذاتك (الدعوة الحقيقية). اذهب إلى نفسك، إلى: "الأنا، أناك". الأرض هي الذات هي: "أنا" ابراهيم. الله يدعوه إلى اكتشاف هذه الأرض الواسعة وآنذاك بإمكانه أن يصبح خصباً، "أبا لأمم كثيرة". هنا تتدخل بركة الله لإبراهيم.
الأرض هي الذات وبالتالي هي المكان الذي سيصير فيه ابراهيم إنسان. مسيرته، تدخل الله في حياة ابراهيم، في حياة كل إنسان، يشكل عمل خلاصي بكل معنى الكلمة. خصوصاً، عندما نعلم أن الخلاص هو إعطاء الحياة الحقيقية. واسم يسوع يعني الله معنا والله المخلص أيضاً، أي مجرد أن يكون الله معنا فنحن في الخلاص، في الحياة، في الحقيقة.
ثم يدخل ابراهيم إلى مصر. هنا يقول بأن ساراي هي أخته. هذا التصرف غريب من قبل ابراهيم نظراً لدعوته. إنه يتخلى عن دوره كزوج، كمن يحمي، لكي ينقذ ذاته. ساراي تصبح ملك المصريين. قولي أنك أختي. في الواقع هي أخته من أبيه، أخته لأنه يعيش معها ليس كزوج بل كأخ. فيتدخل الله مرة ثانية. فيقول ابراهيم لله: "أيها السيد الرب، ماذا تعطيني؟ إني منصرف عقيماً، وقيّم بيتي هو أليعازر الدمشقي". وقال ابراهيم: "إنك لم ترزقني نسلاً، فهوذا ربيب بيتي يرثني".
يدفع الله ابراهيم للخروج من فكرة قدرية العقم، من قدرية خطأ العلاقة ليصبح إنساناً خصباً. ساراي بدورها تعيش الأمر عينه. إنها مرتبطة = عقيمة. لا يمكنها أن تكون زوجة لأي شخص كان: لم تلد لفرعون.
ساراي تطلب من ابراهيم الإنجاب من الخادمة هاجر. (فكرة شرعية آنذاك). مقارنة العلاقتين مهمة جداً: ابراهيم وهاجر/ فرعون وساراي.
ساراي (ملكتي) تعطى لملك (فرعون). وابراهيم (الأب المتعالي) يعطى لإمرأة أقل علواً منه، إن صح التعبير. علاقة ساراي مع فرعون عقيمة على عكس علاقة ابراهيم مع هاجر.
خاف ابراهيم على ذاته / سارة تخاف أن تأخذ هاجر مكانها فتطردها مع ابنها.
كل طرف يبحث عن حل والحلول كلها تبدو مزيفة، غير حقيقية. فتدخل الله هو الوحيد الحقيقي والمنقذ (تدخل غير سحري).
فتغيير الأسماء يحررهم من أي ارتباط كان، أبرام يصبح ابراهيم أي رجل عادي جداً، إنه ينزل إلى أرض الواقع. إنه لم يعد ملكاً لأحد، كما أنه لا يملك زوجته أيضا: "ساراي امرأتك لا تسميها ساراي، بل سمّها سارة".
بين تغيير اسم سارة واسم ابراهيم تتم عملية الختن، التي توقع النقص، قبول النقص. على عكس الأب المرتفع. خصوصاً، أن الختن يلمس المكان الذي يشكل الجسر بين الرجل والمرأة. لهذا السبب عملية الختن توقع قبول النقص. والزواج بهذا المعنى هو علاقة بين شخصين يحبان بعضهما البعض ولكن غير متكاملان، إنما يكشف كل واحد للآخر نقصه.
ثم يتم المرور عن طريق أبيملك: سارة لا تحمل فوراً. إنما تعيش مسيرة، مرحلة جديدة مع أبيملك: ملك عادل، إنساني ويتقي الله (مع أنه غير مؤمن) يأخذ سارة كزوجة والله يتدخل في المنام (اللاوعي) ويقول له: لا يحق لك أن تأخذ سارة زوجة لك لأنها زوجة ابراهيم. فيرجعها أبيملك إلى ابراهيم دون أن يمسها ويعاتبه. مثل فرعون الذي عاتب ابراهيم. ولكن هنا يوجد فارق مهم: أبيملك يقيم حفلة ويقدم الهدايا إلى ابراهيم ويعطي سارة "دوتا" لأنه أبيملك، أي أبي ملك. فيتصرف كما لو أنه يزوّج ابنته، أي يقبل فصلها عنه: لم تعد بعد الآن مرتبطة بأبيها، فيمكنها أن تكون زوجة وإمرأة خصبة.
الأب رامي الياس اليسوعي
دمشق 3،11،99