الكلمة

المقالات

تصفح المقالات حسب التصنيفات الرئيسية في الموقع، بما فيها عظات قداديس أيام الآحاد على مدار السنة

مواضيع دينية، يحتوي على مواضيع متنوعة تتعلق بطرح مفهوم الدين

محاضرة الميلاد 2022: صمت الله

2022-Dec-22 | مواضيع دينية | 444

محاضرة لقاء الميلاد

صمت الله

2022

لماذا اخترنا هذا الموضوع؟ من جهة للحماية من لوقوع بالتنظير «يسوع أتى لينير ظلماتنا»، وهذا صحيح، لكن لا نعرف كيف؟ كلنا اليوم نتساءل عن صمت الله أمام ما نعيشه. بداية نحن متفقون، وتحدث مراراً وتكراراً عن عدم تدخل الله بأحداث التاريخ ليغيرها. وبالتالي أعتقد أنه من المهم أن نفهم صمت الله كما يقدمه لنا الكتاب المقدس.

المزامير أفضل تعبير عن وضعنا الحالي حيث نسمع صاحب المزمور يكرر ما نقوله نحن اليوم. كما أنه لا يمكننا أن ننسى بأن يسوع، اختبر «صمت» الآب أثناء آلامه وعلى الصليب «إن كان مستطاعاً أبعد عني هده الكأس، لكن لا مشيئتي بل مشيئتك... إلهي إلهي لماذا تركتني؟».

أخذ شكاوى الفقراء الذين، في المزامير، يعبّرون عن ضياعهم أمام صمت الله. غالبا ما يشكون من ذلك. لا يستسلم كتّاب المزامير لصمت الله: شكواهم جزء من صلاتهم: «في دُعائي أَجِبْني، يا إِلٰهَ بِرِّي» (2.4). «إِلٰهي، في النَّهارِ أَدْعو فلا تُجيب» (3،22). «أَسرِعْ وأَجِبْني يا رَبِّ فقد فَنِيَت روحي. لا تَحجُبْ وَجهَكَ عنِّي» (143، 7).

ما يطلبه مؤلفو المزامير، في اعتقادي، ليست كلمة مسموعة بل جواب مرئي، وتدخل لصالح أولئك الذين يصلون له أو لمن ينادونه، لمن يقولون فيه: «إِنَّه قالَ فكان وأمر فوجد» (مز 33، 9)، يطلبون كلمة «فعَّالة»، كما يقول اللغويون: «أسمعني في الصباح رحمتك» (مز 143، 8).

هذه هي الكلمة التي تطلبها المزامير، كلمة نشطة وفاعلة، هذه الكلمة التي يقول الرب عنها: «فكذٰلك تَكونُ كَلِمَتي الَّتي تَخرُجُ مِنَ فمي: لا تَرجِعُ إِلَيَّ فارِغة بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتَنجَحُ فيما أَرسَلْتُها لَه» (إشعياء 11.55).

بالمقابل، يقول لنا الكتاب المقدس بأن الله هو إله الكلام. الله هو كلمة وبكلمته خلق السماء والأرض. في رواية الخلق الأولى في سفر التكوين لدينا عشرة مرات عبارة «وقال الله». ويوحنا الإنجيلي يقول «في البدء كان الكلمة». فالصمت هو من تعابير الله أيضاً. أليس الصمت هو شكل من أشكال التعبير، إن لم نقل أفضل تعبير؟ فالصمت والكلام لا يتعارضان.   

في الحقيقة، لا توجد حكمة حقيقية دون إصغاء يقظ. «لسنا كلي السمع إلا إذا كنا كلي الشفاه، كما أننا لسنا كلي الشفاه إلا إذا كنا كلي السمع». وهذا ما يعبر عنه سفر الحكمة بقوله: «يَسمَعُ الحَكيمُ فيَزْدادُ تَعْليمًا» (أمثال 1، 5). ويشوع بن سيراخ يقول: «مُنيَةُ الحَكيمِ أُذُنٌ سامِعة» (سير 3، 29). هذه الآية تحمل معنيين، متكافئين: 1 ـــ المثل الأعلى للحكيم هو أن يكون أذن كلية الاستعداد للاستماع 2 ـــــ الحكيم يبحث عن أذن مستقبلة لكلمته.

بالنسبة للحكمة، نطق الكلمة الصحيحة لا يمكن أن يأتي إلا من قلب مهيأ للإصغاء، ينفتح بعمق على حضور الآخر، على كلمته وكذلك على صمته. والملك سليمان في حلم جبعون يطلب من الله أن يعطيه «قلبًا فهيماً» (1 ملوك 3، 9). وجواب الله له يؤكد هذا التكافؤ بين الإصغاء والحكمة: «بما أنك سألت هذا الأمر، فهاءَنَذا قد فَعَلتُ بِحَسَبِ كَلامِكَ. هاءَنَذا قد أَعطَيتُكَ قَلبًا حَكيمًا فَهيمًا» (1 مل 3، 12).

الإصغاء يؤدي إلى العمل بل ويتطلب ذلك. هذا هو السبب في أن العبرية الكتابية لا تعرف فعلاً آخر غير «اسمع» للتعبير عن الطاعة. من الأذن إلى القلب، ومن القلب إلى اليد، تشق كلمة الحكمة طريقها إلى الحياة والحق.

إذا كان هناك صامت يعترف بعدم قدرته على قول أي شيء ذو معنى، فهناك آخر ينتظر المناسبة المؤاتية. من هذا المنظور، الصمت لا يعني رفض الكلام: بل هو شرط أساسي. كما أكد Kierkegaard: «فقط الإنسان الذي يعرف بشكل أساسي كيف يكون صامتًا يعرف كيف يتكلم؛ وهو وحده الذي يعرف بشكل أساسي كيف يصمت، يعرف كيف يتصرف».

«منذ البدء وإلى الأبد الصمت والكلام ينتميان لبعضهما البعض». مع جوزيف رسام، دعونا نحدد هذا الانتماء المتبادل: «لا يمكن أن تتم الكلمة إلا في اتصال وثيق مع صمت بدائي تظهر أولاً على أنها قطع، بينما هي تعبيره أو تعديله».

إذن أولاً، الصمت يسبق الكلام «في البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خاوية خربة وعلى وجه الغمر ظلام وروح الله يرفرف على المياه». لمن يريد التكلم، يفتح الصمت أمامه الوقت للتفكير. إنها اللحظة التي يتم فيها اختيار الكلمات التي تناسب الفكر. إنه الصمت الذي يسبق النوتة الموسيقية الأولى، صمت اللوحة البيضاء قبل أن يضع الرسام فرشاته عليها، صمت الكتلة التي لا شكل لها قبل أن يميزها النحات بإزميله. كل ذلك يعني أن الصمت أساس الخلق والابداع!!!

من الناحية النموذجية، يتوافق هذا الصمت مع المسافات بين الكلمات، والتي بدونها يتعذر فك المعنى. هذه الصمتات تفصل وتوحد، تُميِّز الكلمات من أجل جعل القراءة مفهومة، توحدها بالمعنى الذي تجعله ممكنًا. وبالتالي، «يضمن هذا الصمت الاستمرارية الروحية للمعنى من خلال انقطاع الكلمات الصوتية».

وبشكل أكثر جوهرية، في اللحظة التي تتقدم فيها الكلمة، يفتحها هذا الصمت على ما وراء ذاتها أو ما بعد ذاتها الذي يغلفها ويمنحها معنى أكثر واقعية وأعمق مما كانت تبدو عليه من قبل. فالصمت هو ما يسمح لنا بسماع صوت آخر، صوت يتحدث لغة أخرى، صوت من مكان آخر… إذا كان الكلام والصمت مرتبطين ارتباطًا وثيقًا، فذلك لأن كلاهما مرتبطان بعبارة ثالثة.

بتعبير أدق، الإصغاء إلى الكلمة هو أيضًا الإصغاء إلى الصمت الذي يحيط بها، في موقف الانفتاح المتواضع على اللغز الذي يفوقها ويملأها. بالطبع، يفترض هذا المنظور مسبقًا الامتناع عن اختزال الواقع إلى لغة وبالتالي تقويض إمكانية وجود شيء ما وراء اللغة (الرمزية).

الصفحة الأولى من الكتاب المقدس تُخرج عشر كلمات إلهية دون أن يرد متكلم آخر في الوقت الحالي. من حولها يتكشف صمت غني بالمعنى.

الصمت القائم بين الثمانية الأولى، الملفوظة على عناصر الخلق، ليس مرادفًا للعدم لأنه في هذه المساحة يحدث الانتقال الكبير من الفوضى إلى الوجود بترتيب منظم بعناية. هذا الصمت يعج بالحياة، أولاً الفصل بين العناصر البدائية، ثم ظهور الأجساد والكائنات الحية التي تحمل بذورها. بالتأكيد، من وجهة نظر الله، يتطابق الكلام والفعل.

الكلمتان الأخيرتان اللتان تتوجهان إلى الإنسان، تُخلق في آن معاً رجل وامرأة، لا يتبعهما أي ظهور لكائنات جديدة. لقد وضعت مهمة للزوجين الأساسيين وحددوا شروط ممارستها دون أن يكون هناك أي سؤال حول تحقيق هذا النظام. لتترك المجال للإنسان أن يجيب.

لأنه في اليوم السابع، يصمت الله ولا يفعل شيئًا. ومع ذلك، فإن ذلك اليوم هو جزء لا يتجزأ من عملية الخلق بما أنه «انتهى الله في اليوم السابع من عمله الذي عمله». وبما أن الخلق لا يتوقف عند الفعل، فهو لا يتوقف مع صمت الكلمة الإلهية. «الصمت هو الصحراء حيث تزهر الموسيقى، والموسيقى، زهرة الصحراء هذه، هي نفسها نوع من الصمت الغامض».

اليوم السابع هو اليوم الوحيد الذي يكرسه الله: وبالتالي منذ ذلك الحين، يصبح هذا الصمت «المكان الذي يتم فيه كل حضور، والذي بدونه لن يكون لأي كلمة من معنى». في الفوضى كان الله حاضراً (تك 1، 2). من الآن فصاعدًا، البشر والكائنات الحية هم حاضرين للحضور الذي، في صمته، يدعوهم للاتحاد.

صمت اليوم السابع هو أخيرًا الوقت الممنوح للخليقة لتوجد أمام الله، أي أنه صمت يفتح على المحاور ــــ الإنسان ــــ مساحة للجواب الذي يتوقعه الله الذي تكلم أولاً. لأن «الكلام الحقيقي هو دائمًا جواب على انتظار. لهذا السبب من خلال الصمت وفي الصمت يتحقق الانسجام بين الكلام والحقيقة. والتأمل في صمت السبت المقدس يؤكد ذلك.

الصمت الكبير ليوم السبت المقدس هو الصمت الذي يغطي نصوص الإنجيل من دفن يسوع إلى التجليات الأولى للقيامة من بين الأموات. بين الاثنين: دفن يسوع وقيامته، نحن أمام فجوة نصية.

تجدر الإشارة أولاً إلى أن هذا الصمت يتناقض مع قصص القيامة التي لا تبخل عنها الأناجيل، لا سيما قصة لعازر التي يرويها الإنجيلي يوحنا بتفصيل كبير. بالمقابل، يمكن الاعتراض على كون الإنجيليين لم يرووا القيامة لأنه لم يكن هناك شهود. لكنهم لا يترددون في نقل كلمات لا يسمعها أحد أو يروي حقائق لا يراها أحد: ما حدث في بستان جتسماني. كذلك الأمر الصلاة التي وجهها يسوع حيث «كان عرقه كقطرات دم متخثر تقع على الأرض» (لوقا 22، 44).

لذلك يجب أن نستنتج أن الفراغ الذي تغطي به الروايات الكنسية قيامة يسوع متعمد ولا يعاني من نقص المعلومات.

يمكن لتفسير أولي أن يميز فيها تأكيد الطابع فوق التاريخي للقيامة: «تشكل تمزق لمحدوديتنا، وبالتالي فهي تفلت من التحقق». تنبع قيامة يسوع من قلب التاريخ لتتجاوزه وتلمس الإنسان في كل نقطة في المكان والزمان. لأنها لم تُروى، يمكنها أن تنضم بقوة إلى صمت أعماق الإنسان، حيث يوجد الحضور. أو بالأحرى: لأنها تحدث في جذر مجمل التاريخ، في صمت يتجاوز كل الكلمات، لا يمكن روايتها.

قراءة ثانية: في هذا الصمت مساحة واضحة للإيمان. قيامة يسوع لا تفرض نفسها، إنها تبقى في ظلمة السر. وبالتالي، فإن هذا الصمت يدعو إلى كلمة الإيمان التي أكدها بولس في رسالته إلى أهل روما على أنها في آنٍ معاً على «الشفاه التي تعترف أن يسوع رب» وفي القلب الذي «يؤمن بأن الله أقامه من الأموات» (رو 10، 8 - 9).

صمت الأناجيل يثير وينتظر كلمة الإيمان هذه، لكنه لا يلزمها. وبالتالي فهو يحترم حرية جواب الإنسان لبادرة الخلاص.

كلمات يسوع، المسجلة في إنجيل يوحنا، تأخذ معناها الكامل: «إِنَّه خَيرٌ لَكم أَن أَذهَب. فَإِن لَم أَذهَبْ، لا يَأتِكُمُ المُؤيِّد. أَمَّا إِذا ذَهَبتُ فأُرِسلُه إِلَيكُم» (يو 16، 7). يجب على المرء أن يموت لنوع ما من حضور يسوع لكي يتمم المسيح عمل الخلاص. هذا أيضًا هو معنى كلمات القائم من بين الأموات لمريم المجدلية: «لا تُمسِكيني، إِنِّي لم أَصعَدْ بَعدُ إِلى أَبي، بلِ ٱذهَبي إِلى إِخوَتي، فقولي لَهم إِنِّي صاعِدٌ إِلى أَبي وأَبيكُم، وإِلٰهي وإِلٰهِكُم» (يو 20، 17).

أعاد الكاردينال نيومان صياغة هذا البيان على النحو التالي: «الصعود من هنا بالجسد والروح إلى أبي هو نزول بروح أبي إليكم. آنئذ سأكون حاضرًا لكم، على الرغم من أنني غير مرئي، حاضر بالفعل أكثر من اليوم. عندها ستكونون قادرين على الامساك بك باحتضان غير مرئي ولكن أكثر واقعية».

استنتاج

«أَعْلِن كَلِمَةَ الله وأَلِحَّ فيها بِوَقْتِها وبِغَيرِ وَقتِها، ووَبِّخْ وعِظْ وأَنذِرْ وألزم الصَّبرَ والتَّعْليم» (2 تيم 4، 2). قد يبدو التباين صارخًا مع كلمات بن سيراخ التي شغلت تفكيرنا: «الرجل الحكيم يعرف كيف يصمت حتى اللحظة المناسبة». تباين ليس تناقض. يذكرنا وضع هاذين النصيتين معًا أن التحدث وصمت الكلمة ليسا بموقفين متعارضين، بل لحظتين أساسيتين. «هناك وقت للصمت ووقت للكلام»، (جا 3، 7).

الملاءمة في اللحظة المناسبة لا تُختزل في مسألة إستراتيجية، بل تنشأ من الدستور الأنطولوجي للكلام. كل كلام صحيح يجد دعمه في صمت أساسي ينبثق منه، ويديمه ويقود إليه، غنيًا بالآثار التي ينقشها في تاريخ البشر. لا يمكن إذن أن تولد الكلمة المناسبة إلا منسجمة « accordée» مع الصمت الذي يستمع إلى سر يغلف كل تواصل ويؤدي إلى الشركة دون اندماج مع الكلمة المتجسد.

 

 

 

SHARE