إنجيل القيامة
سر قيامة الأموات هو قلب المسيحية. والإيمان بقيامة المسيح هو أمر أساسي للإيمان المسيحي. كما يقول الرسول بولس: «إن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطل وإيمانكم أيضًا باطل» (1 قور 15، 14). ومع ذلك، في حين أن الإيمان بقيامة المسيح هو محور إيماننا المسيحي، فإنه لا يخلو من بعض التساؤلات. ماذا يعني أن المسيح قام؟ كيف يلخص هذا الحدث التاريخي التاريخ كله ويعطيه معنى؟ ماذا يخبرنا هذا عن الله وعنا؟ كيف يصلني «إعلان القيامة» اليوم، وكيف يغير حياتي وحياة العالم؟
قيامة يسوع، حدث تاريخي
هل القيامة حدث تاريخي؟ إن تاريخية روايات الإنجيل لاتزال، حتى الآن، أحد المواضيع الأكثر نقاشاً ومرارة وأطولها منذ ولادة علوم التاريخ. من وجهة نظرهم، لا يمكن اعتبار قيامة يسوع حدثًا تاريخيًا: لم يتم تسجيلها في سجلات الزمن، ولم يتم سردها بشكل مباشر في الأناجيل، ولم يكن هناك من شهود عليها، فقد تم الإعلان عنها من قبل ملاك من السماء، فقط عدد قليل من التلاميذ أكدوا أن يسوع ظهر لهم حيًا بعد موته، لكنهم أناس مؤمنون وبالتالي تبدو أن رواياتهم غير موثوقة. فليكن، ولكن هل تكفي صفة المؤمنين لتجريدهم من كل مصداقية؟
الروايات لا تتفق، فيما يتعلق بعدد هذه الظهورات أو مدتها أو ترتيبها الزمني أو مكانها أو طرقها أو متلقيها. ومع ذلك، ما زالوا متفقين على أن الظهورات تمت. منها ولدت المسيحية، والتي لا يمكن تفسيرها بطريقة أخرى. ولذلك فهي في حد ذاتها حدث تاريخي يستحق أن يؤخذ على محمل الجد. كيف تمت ولادة إيمان الشهود لكي يستمد منها إيماننا النور والقوة اللازمين.
شهود القيامة كانوا مضطربين مما كان يحدث لهم، وشككوا فيما رأوه، وسعوا إلى فهم ما كان يحدث بالعودة إلى الكتاب المقدس وكلمات يسوع، والذين آمنوا أخيرًا بقيامته استقبلوه من الله. سوف أسلط الضوء على بعض السمات الرئيسية: اكتشاف القبر الفارغ في اليوم الثالث، والطريقة التي يترك يسوع نفسه يُرى ويتم التعرف عليه، والبحث عن فهم الكتاب المقدس، وأخيراً الاعتراف بتدخل الله.
اليوم الثالث:
التقليد الرسولي يؤرخ قيامة يسوع في اليوم الثالث بعد موته ودفنه. مقياس رمزي مهم للوقت، الوقت الذي يستطيع الناس تقدير عجزهم والاعتراف بزيارة الله. إنه اليوم الثالث الذي خرج النبي يونان من أعماق البحار (1،2). في رواية مرقس (16، 1 - 8)، كان الحجر قد دُحرج بالفعل عند وصول النساء، وتضيف الرواية أن النساء «هربن ولم يقلن شيئًا لأي شخص، فقد كن خائفات جدًا». إن فراغ القبر يحيي فيهم الشعور بغياب لا يمكن علاجه، ورحيل نهائي، واختبار ضروري لهم لكي يتمكنوا من التعرف عليه في الهوية الجديدة التي يعطيها له اختفائه في الله نفسه.
ظهر لمدة أربعين يوما.
لوقا في سفر أعمال الرسل يقول أن يسوع «أظهر نفسه» لتلاميذه بعد آلامه «لمدة أربعين يومًا» (1، 3). رقم رمزي آخر بامتياز: إنه اختبار الشك، وعدم اليقين، والتجربة، والبحث المتلمس، ولكنه أيضًا اختبار تنقية العقل، وإعادة الثقة، والصعود البطيء باتجاه النور. هذا هو الوقت الذي استغرقته مياه الطوفان لتغسل كل الدنس من الأرض (تكوين 7، 4)، والوقت الذي بقي فيه موسى على الجبل لتلقي شريعة الله هناك (خروج 24، 18). كانت هذه هي مدة إقامة يسوع في الصحراء حيث واجه وتغلب على تجارب الشيطان (متى 4، 2)، وهي مدة تذكرنا بأربعين سنة من ضياع الشعب العبراني في الصحراء تحت حماية الله (نح 9، 21).
يسوع لم يجبر تلاميذه، الذين كانوا يعلمون أنه مات، على إعلانه حياً مرة أخرى من خلال دليل مبهر مفاجئ لا يمكن دحضه. إنه يمنح نفسه الوقت ليجعلهم يشعرون أن حضوره عاد إليهم بطريقة جديدة تمامًا، ويمنحهم الوقت ليتفاجئوا، ويشكوا، ويفكروا في الأمر، ويناقشوه فيما بينهم، وينفتحوا عليه. أربعين يومًا، ليُثبت الغياب، الذي لا يمكن التغلب عليه، لتهدأ آلام الغياب، ويُفسح المجال للرغبة، والانتظار، الشعور بلم الشمل وليتحول الغياب إلى حضور بعيد المنال ولكن لا لبس فيه.
لم يرى التلاميذ يسوع وهو يذهب، وظهر واختفى دون أن يتمكنوا من السيطرة عليه. لذلك لم يكونوا متأكدين أبدًا من أنهم رأوا يسوع حقًا؛ مما دفعهم إلى الشك في شهادات بعضهم البعض بحسب إنجيل مرقس. فالإيمان وحده هو الذي مكّن التلاميذ من الاعتراف، بالمصلوب القائم من بين الأموات، على أنه ابن الله.
كما جاء في الكتب:
أكد التقليد الرسولي الذي سجله بولس أن موت يسوع وقيامته قد تم «كما رود في الكتاب». لا شك بأن التلاميذ احتاجوا إلى اللجوء إلى الكتاب المقدس للتحقق مما كان يحدث لهم. يوحنا الإنجيلي يعترف بأنهم لم يؤمنوا لعدم فهمهم له: «ذلك بأنهما لم يكونا قد فهما ما ورد في الكتاب، من أنه يجب أن يقوم من بين الأموات» (20، 9)، ويخبرنا لوقا مرتين أن يسوع، عندما ظهر لهم، «فتح أذهانهم لفهم الكتاب المقدس»، محددًا بوضوح: «الكتب المقدسة منذ موسى وجميع الأنبياء»، وتذكيرهم بأنه هو نفسه أعلن لهم «أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه»، لكي يتم «كُلُّ ما كُتِبَ في شأني، في شَريعَةِ موسى وكُتُبِ الأَنبِياءِ والمَزامير» (24، 25- 27. 44 – 46).
فالأمر يتعلق بقراءة شاملة للكتاب المقدس، وفهم لمجمل معنى الرواية التي يرويها: أربعون يومًا لم تكن طويلة جدًا لذلك. بطرس يشرح لليهود بأن قيامة يسوع قد حققت وعد الله لداود بألا يدع نسله يموت في الجحيم (أعمال الرسل 2، 25 - 32). ونحن، علينا أن نؤمن بوعود الماضي، وندرك الحاجة إلى المرور عبر الموت لكي تصل هذه الوعود إلى الإتمام. فضيحة الصليب ألقت بظلالها على النتيجة السعيدة للقيامة.
أقامه الله:
كانت هذه قراءة الكتاب المقدس التي قام بها يسوع: قرأ فيها الفشل الذي كان ينتظره، لكنه كان يعلم أن الكلمة الأخيرة هي لله، ولم يشك في النجاح النهائي، بالشكل الذي يرضي الله، لمخطط الحب الذي أوكل إليه. كان هذا هو فهم الكتاب المقدس الذي أبلغه لتلاميذه خلال الأربعين يومًا حيث، وفقًا للوقا، «كلمهم على ملكوت الله» (أعمال الرسل 1: 3). من خلال ربط رواية يسوع بقصة الأنبياء، تعلم التلاميذ أن يكتشفوا فيه استمرارية «مخطط الآب العطوف»، وشغفه بحب البشر، والذي وجد ذروته في شغف يسوع.
لم يكن التلاميذ ليؤمنوا بعودة يسوع إلى الحياة لو لم يروا علامات حضوره بينهم؛ لكنهم لم يكونوا ليأخذوا هذه العلامات كبراهين لو لم يقرؤوا الكتاب المقدس في ضوء كلمات يسوع التي ذكّرهم بها الروح القدس (يو 14، 26)، أي لو لم تهتدي أحكامهم المسبقة عن طريقة توجيه الله للتاريخ، وفهموا أن حكمته على عكس الكبرياء الإنساني.
وبالمثل، لا يمكننا اليوم أن نعرف أن يسوع قام من الموت بدون شهادة التلاميذ، وبعد أن امتحناه بغربال فكرنا النقدي. ولكن هذا لا يكفي نحن نحتاج إلى سماع كلمة الله التي تلهم وتؤكد هذه الشهادة، وعلينا بدورنا أن نُهدي أفكارنا عن الله.
إعلان القيامة اليوم
حتى لو كانت مهمة تلاميذ يسوع الخاصة أن يكونوا شهودًا لقيامته، فإن جميع
المسيحيين، يشاركون في رسالتهم لإعلان المسيح. يذكرنا المجمع الفاتيكاني الثاني بذلك، خاصة بالنسبة للعلمانيين (نور الأمم، 35). لكن كيف يمكننا القيام بذلك، في أي مكان، ولمن؟ كثير من المسيحيين يؤمنون بالقيامة، لكنهم عاجزون عن التعبير عنها كما أنها تطرح عليهم العديد من التساؤلات. بولس الرسول، يحدد المكان بامتياز حيث يتم الإعلان عنها للعالم، بيننا نحن المسيحيين: إنه تذكار الإفخارستيا بامتياز. كما أنه يشير إلى الطريقة العملية للشهادة لها وإعطائها المعنى: من خلال خدمة المصالحة.
تذكار الإفخارستيا:
في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس، لدينا أول ذكر لرواية العشاء الأخير المنقولة على شكل تذكار إفخارستي: «فإِنِّي تَسَلَّمتُ مِنَ الرَّبِّ ما سَلَّمتُه إِلَيكُم، وهو أَنَّ الرَّبَّ يسوع في اللَّيلَةِ الَّتي أسلِمَ فيها أخَذَ خُبْزًا وشَكَرَ، ثُمَّ كَسَرَه وقال: هذا هو جَسَدي، إِنَّه مِن أَجْلِكُم. اِصنَعوا هذا لِذِكْري». ثم يروي مباركة الكأس، التي تنتهي بنفس الوصية «اِصنَعوا هذا لذكري».
ويختتم بولس القصة بهذه الكلمات: «فإِنَّكُمَ كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبْز وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إِلى أن يَأتي» (11، 23 - 26). فعل التذكر موجه إلى الماضي ويتم بين المؤمنين. لكن بولس، دون أن يذكر القيامة، يحول الذكرى إلى إعلان. الإعلان يتعلق بما سيأتي، وليس بم تم، إنه يتوجه للذين لا يعرفون، وليس للذين يعلمون. مات يسوع من أجل جميع البشر بدون استثناء، وكلهم أسرى الخطيئة والموت، كما يقول بولس، طالما أنهم يرفضون المصالحة مع الله التي اكتسبوها على الصليب.
والإنجيلي متى يحدد: «هذا هو دمي، دم العهد يراق من أجل الجميع» (26، 28). وبالتالي، فإن الهبة التي عبّر عنها يسوع، هي ذات بعد شامل، والذين يأتون إلى الإفخارستيا لديهم دعوة ليس فقط أن يتذكروا بأخذ الخبز والخمر، ولكن أيضًا ليعلنوا للعالم أجمع أنهم يشكروا الخلاص المقدم إلى الناس من جميع الأجناس والأديان. لقد أدركت الكنيسة منذ العصور الأولى أن حضور يسوع في الاجتماع الإفخارستي لمجموعة صغيرة من المسيحيين لم يقتصر عليهم، وأن أي احتفال هو ذبيحة الكنيسة كلها وتحقق وحدة جميع المسيحيين في جسد واحد، جسد المسيح، لكي يحافظ كل عمل إفخارستي على تداول حياة المسيح بين جميع المؤمنين وحضوره في كل مكان.
إن تقديم هذا الخلاص للجميع في كل احتفال إفخارستي أمر مفهوم بمعنى أن حدث الصليب، الذي تم إنجازه مرة واحدة وإلى الأبد، أصبح حاضرا شمولياً ودائما ويعمل بشهادة الإيمان التي يثيرها في أولئك الذين يتذكرونه ويشكرونه على ذلك.
بهذا المعنى يقول يسوع «سَوفَ يَأتي أُناسٌ كَثيرونَ مِنَ المَشرِقِ والمَغرِب، فَيُجالِسونَ إِبراهيمَ وَإِسحقَ ويَعقوب على المائِدةِ في مَلَكوتِ السَّمَوات» (متى 8، 11). كان حدث العنصرة مثالاً على ذلك. عندما تجتمعون لتذكروا الشخص الذي تخلى عن جسده من أجل الجميع، استقبلوا أنفسكم، واستمعوا لبعضكم البعض، كونوا متنبهين، واتحدوا ببعضكم البعض؛ في هذه الحالة، ستتشكلون حقيقة كجسد المسيح وستعلنون بوضوح معنى موته: هذه هي رسالة القديس بولس الإفخارستية. بهذه الطريقة سينتشر إعلان القيامة بشكل فعال في جميع أنحاء العالم.
خدمة المصالحة:
لكي يكون له مفهوم شمولي، إعلان القيامة ـــــ الذي يعتبر ذكرى الإفخارستيا المكان المؤسساتي له ـــــ، لن يبقى محصورًا في شكل عبادة. بولس يربط موضوع القيامة بموضوع الخليقة الجديدة (2 كور 17،5)، وكلاهما بموضوع المصالحة، الذي يعطيه وجه سياسي، سلامًا ووحدة بين اليهود واليونانيين (أف 2: 14-16). وبعد شامل وفقًا لصيغته الشهيرة: «فلَيسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، ولَيسَ هُناكَ عَبْدٌ أَو حُرّ، ولَيسَ هُناكَ ذَكَرٌ وأُنْثى، لأَنَّكم جَميعًا واحِدٌ في المسيحِ يسوع» (غل 3، 28).
يطبق بولس هذه القاعدة على دستور الكنيسة، على «المواطنة» المسيحية (أف 2، 15)، التي يجب ألا تعكس علاقات العداء والتفرد، ولا الهيمنة واللامساواة، التي لها مسار عادي في المجتمعات المدنية والسياسية.
كان يدعي بولس بأن الجماعة المسيحية تشكل نموذجًا لبناء مجتمع مفتوح ولم يرغب في أن تكون كنيسة الله، التي تحررت من القانون وعبرت في ظل نظام الخليقة الجديدة، مكانًا حصريًا للخلاص على طريقة إسرائيل «بحسب الجسد» (6، 15). هذا هو السبب في أن «خدمة المصالحة»، أصبحت واحدة من أسرار الكنيسة، ولكن يقع على عاتق جميع المؤمنين أن يكونوا بمثابة دعوة للعمل من أجل السلام والوحدة بين الناس، ليشهدوا أن يسوع قد أُرسل من قبل الآب لهذا الغرض (يو 17، 21-22).
لذلك فإن المسيحيين الراغبين في إعلان قيامة يسوع سيشعرون بالمسؤولية الجماعية عن خدمة المصالحة، التي تكون الكنيسة مسؤولة عنها. لذلك سيحرصون على الانخراط في مختلف الأنشطة التي تستخدمها الكنيسة في خدمة العالم، سواء كان ذلك لتعزيز السلام بين الشعوب، ووقف النزاعات الاجتماعية، وتعزيز الكرامة وحقوق الإنسان، وإدانة جميع أشكال القهر والظلم. سيشجع المؤمنون الكنيسة على أداء واجباتها تجاه العالم، وقبل كل شيء عدم التسامح، بداخلها، مع الممارسات التمييزية وغير المتكافئة التي تتهمها بحق الدول والمجتمعات المدنية.
وبنفس هذه الروح الشمولية والإنسانية، لن يخشى المؤمنون العمل جنباً إلى جنب مع جميع الأشخاص ذوي النوايا الحسنة في المنظمات العلمانية، العامة أو الخاصة، بهدف إصلاح الانقسامات الاجتماعية، بأي شكل من الأشكال، وتحسين الحالة الإنسانية في المجتمع بكل النقاط التي تتألم فيها. هكذا يظهر تفرد المسيحية في الواقع كدين للإله المتجسد والمتألم.