الكلمة

المقالات

تصفح المقالات حسب التصنيفات الرئيسية في الموقع، بما فيها عظات قداديس أيام الآحاد على مدار السنة

مواضيع تربوية نفسية، يطرحها الأب رامي الياس المختص بعلم التحليل النفسي

من الغوص بالذات إلى الثقة بها

2022-Aug-21 | مواضيع تربوية نفسية | 671

من الغوص بالذات إلى الثقة بها

 

حديثنا اليوم هام ويمس الجميع بلا استثناء فهو يتناول من جهة موضوع الغوص بالذات ومن جهة أخرى الوصول إلى الثقة بالذات، أي الغوص بالذات من أجل الوصول إلى الثقة بها . فمن المستحيل أن نصل إلى الثقة الكاملة بالذات بعدما رأينا أن الإنسان لا يزال قيد البناء والتحقيق. وبالتالي لا يوجد شيء كامل وتام بحياة الإنسان. هذا الأمر ليس سلبياً لأنه يجعل حياتنا بديناميكية مستمرة ويحمينا من الوقوع في الملل وفقدان المعنى.

لماذا يتوجب علينا الغوص في ذاتنا؟

بدايةً بما أنني لم أصبح بعد ما يجب أن أكون عليه وبما أنني قيد البناء والتحقيق فهذا يعني أنه هناك الكثير من الأمور بذاتي وشخصيتي لا أعرفها. بالطبع أجهلها لأنها لم تتحقق بعد من جهة، ومن جهة أخرى أجهلها لأنها مكبوتة بأعماقي لأسباب عديدة لن أدخل بها اليوم. ثانياً كلنا نعاني من وجود هوة قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة بين أقوالنا وبين أفعالنا، بين ما نرغب به وبين ما نحققه على أرض الواقع والذي عبر عنه بولس الرسول "الخير الذي أريده لا أفعله والشر الذي لا أريده فإياه أفعل". بمعنى آخر كلنا نختبر انقسام عدم وحدة رغباتنا ومن أجل ذلك توحيد الرغبات مهم لسببين على الأقل: أولاً توحيد الرغبات يعني توحيد ذاتي وتوحيد شخصيتي، بمعنى آخر توحيد رغباتي هو أن أسكن نفسي وبالتالي تصبح أقوالي وأفعالي متقاربة كثيراً. بالطبع لن يحصل تطابق لكن اقتراب أفعالي وأقوالي يجعلني إنساناً خلاقاً، ومن جهة أخرى هنا يكمن المصدر الأساسي الحقيقي للسعادة. لا يجب أن ننسى أنه لا يمكن لأحد أن يمنحنا السعادة وإنما هي تنبع من الداخل.

كيف أستطيع أن أغوص بداخلي؟

الطريقة الأولى هي أن أكون مع ذاتي بصمت داخلي فالصمت الخارجي مهم وضروري لكن الداخلي هو الأساس. يعني هذا الصمت أن أوقف التفكير وهذا صعب فلابد من التدريب (إذا كنتم تحتاجون تدريبات يرجى متابعة الحلقة التي تحدثت بها سابقاً عن التغير على صعيد الذات مع التمارين اللازمة). أصمت وأوقف تفكيري وأترك يومي يعبر أمامي كما هو، دون أن أبحث عن أمر آخر كمن يشاهد فيلماً سينمائياً. يتوجب تكرار هذه العملية بشكل يومي ولمدة لا تتجاوز عشر دقائق. بهذه الطريقة سأرى نفسي بشكل موضوعي قدر المستطاع لأنني أرى ذاتي من الخارج (أتابع نفسي ويومي من خلال هذا الفيلم) . وبالتالي كونوا على يقين أنكم ستتفاجؤون خلال هذه العملية من بعض تصرفاتكم وردود أفعالكم، وخاصةً أنكم سوف تكتشفون أن بعضها لا يتناسب أبداً مع الواقع. وهذا يشكل هنا السؤال؟ لمَ كانت ردة الفعل التي قمت بها عنيفة إلى هذا الحد حيال أمر بسيط وواضح. بالطبع يعني هذا الواقع بالرغم من بساطته ووضوحه أنه لمس بأعماقك أمراً حساساً وبالتالي من الضروري أن تبحث عنه. فأحاول أن أعود إلى الماضي قدر المستطاع بكل هدوء وصفاء وبعيداً عن ممارسة أي ضغط داخلي على ذاتي. حتماً لن أجد الجواب بيوم وليلة، لكن المهم ألا أنسى وتأكدوا أن الجواب سيظهر وحده في يوم من الأيام في حال الاستمرار بهذه العملية.

الطريقة الثانية وهي أهم وأكبر وأعرض والتي هي أن أكون مع ذاتي بصمت مرة أو مرتين بالأسبوع لفترة لا تتجاوز النصف ساعة وأترك الأفكار وحدها تأتي دون التحضير لها والباب مفتوح على مصراعيه منذ ولادتي إلى اللحظة الراهنة. لا أفكر بشيء ولا أحضر شيئاً لأن كل تحضير هو مقاومة هائلة تمنع اللاوعي -الذي هو هدف هذه العملية- من الخروج إلى ساحة الوعي، وهنا سيتولد نبع من التساؤلات. المهم ألا أرمي المسؤولية على أهلي. هم مسؤولون حتماً بجزء كبير لكن لا تنسَ أن ردود افعالك على تربية أهلك حتى ولو أنت بعمر الشهر هو بنفس أهمية تصرف أهلك.

الطريقة الثالثة هي بأن آخذ بعين الاعتبار وعلى محمل الجد ما يقوله الآخرون عني فحتماً هناك جزء صحيح بأقوالهم. فعملية الغوص بالذات لا تقدر بثمن ومصدر سعادة حقيقية فهي تساعدني جداً على قبول ذاتي والذي هو مصدر ثقتي بها.

ماذا نقول عن الثقة بالنفس؟ نادراً ما يعيش الإنسان ذاته وحقيقته، أولاً لأن الإنسان يعيش مع صورة لاواعية كوّنها عن نفسه غريبة عن حقيقته. فهي صورة غريبة عن حقيقته وهي عما يريد أن يكون، لكنه هو ليس كذلك فهذه صورة تشكل أول عائق مهم في الوصول إلى الذات الحقيقية وهنا تأتي أهمية الغوص التي تحدثت عنها.

السبب الثاني هو أن التربية في مجتمعنا لا تقبل الفرد كما هو وبالتالي تمارس على الفرد كل أنواع الضغوطات حتى يتبنى الصورة التي يريد المجتمع فرضها عليه. هذا الأمر يجعلنا غرباء عن أنفسنا مسلوبي الحرية. ونراه بالإنجيل عندما يقابل يسوع رجلاً ظل 38 سنة مُقعداً فيسأله سؤالاً بسيطاً جداً "أتريد أن تشفى؟". وهذا السؤال هو الذي شفاه لأن هذا الرجل تبنى صورة المجتمع عنه الذي لا يستطيع أن يراه إلا مقعداً.

هنا تأتي أهمية الغوص بالذات فضلاً عن أن تربيتنا للأسف مبنية على قصقصة الأجنحة بدلاً من القبول والتشجيع وبالتالي لا تساعد لا على زرع الثقة بالنفس ولا على تنميتها. لذا ثقتنا بأنفسنا كلنا دون استثناء ناقصة وضعيفة، بالطبع بدرجات تختلف حسب الأشخاص. لكن الأهم أن هذا الكلام لا يعني نهائياً أننا لا نستطيع تنمية ثقتنا بأنفسنا وحتى ولو كان عمرنا ثمانين عاماً.

ما هي علامات الثقة بالنفس؟

  • أن أقول ما أفكر به.
  • أن أقوم بما أريد.
  • أن ألح وأصر عندما أصطدم بصعوبة.
  • ألا أخجل من التخلي أوالتراجع.
  • ألا أقع بفخ الدعايات أوالموضة التي تريدني أن أؤمن بأنني لست إنساناً جيداً إلا إذا قمت بشراء هذه الماركة أو في حال فكرت بهذه الطريقة.
  • أن أضحك من كل قلبي إذا تم الاستهزاء بي.
  • معرفة إمكانية العيش مع أفشالي.
  • الجرأة بأن أقول لا أو أقف. 
  • الجرأة بأن أقول لا أعرف.
  • أن أتبع طريقي حتى ولو لوحدي.
  • الجرأة بأن أقول من حقي أن أكون سعيداً.
  • أتحمل ألا أكون محبوباً حتى ولو كان هذا يجعلني تعيساً بلحظتها.
  • شعور كبير بالراحة مع نفسي.
  • شعور كبير بأنني أستحق أن أُحَب.
  • القول بأني خائف أو حزين دون أن أشعر بالاستخفاف.
  • حب الآخرين دون أن أراقبهم لدرجة أن أخنقهم.
  • القيام بأفضل ما لدي لإنجاح ما أريد إنجاحه بدون ضغط.
  • أعطي لذاتي الحق في أن أخيب أو أن أفوت الفرصة.
  • أطلب المساعدة دون الشعور بأنني أقل من الآخرين.
  • لا أخفف من قيمتي ولا أسيء لها عندما لا أكون راضياً عن نفسي.
  • لا أشعر بالحسد أمام نجاح الآخرين أو سعادتهم.
  • أعلم أني قادر على العيش مع مشاكلي ومصائبي.
  • أعطي لذاتي الحق في تغيير رأيي بعد التفكير.
  • قادر على الضحك من ذاتي.
  • أقول ما لدي قوله حتى ولو كنت خائفاً.
  • أتعلم من أخطائي.
  • أرتدي ملابس السباحة حتى ولو لم يكن جسدي مثالياً.
  • أشعر بالرضى مع جروح الماضي ولا أخاف المستقبل.
  • أعتبر نفسي شخصاً صالحاً بكل صفاتي وأخطائي.
  • أشعر أنني أتقدم وأتعلم من الحياة.
  • أقبل نفسي كما أنا اليوم دون التخلي عن تغيير الغد.
  • الوصول للتفكير بأمر آخر غير ذاتي حتى لا أبقى منغلقاً عليها.

إذاً لائحة الثقة بالنفس كبيرة ومن الطبيعي ألا يستطيع أحد أن يطبقها كلها. لكن نستطيع الأخذ ببعض منها لنعلم إن كنا قد وصلنا الى مستوى جيد منها.

إن حجر أساس الثقة بالنفس هو قبول الذات. وهناك مقولة صوفية تقول: "ستدخل الجنة بكليتك أو لا تدخل مطلقاً".

كان لدي صبية عمرها 34 سنة كانت تقول لي بالتحليل "كنت أتساءل دائماً عمَ يفعل الأناس الآخرون عندما يجدون أنفسهم بشعين أو عندما يشعرون بأنهم قاموا بتصرف غبي واضح لمن حولهم، أو عندما يفشلون أو يهمشون أو عندما خيبوا آمال من منحهم الثقة، أو عندما شعروا بالوحدة. كيف لم يكرهوا أنفسهم بل ثابروا على الابتسامة واستمروا بالتواصل مع الآخرين. كيف استطاعوا أن يحبوا أنفسهم بالرغم من أخطائهم، بل وعندما تسألهم كيف فعلتم هذا الأمر يقولون لا نعلم".

ماذا يفعل الناس الذين يتمتعون بالثقة بأنفسهم؟ هل هم أفضل من الآخرين، هل هم أذكى، أم أجمل، أم أكثر موهبة أم عاشوا طفولة أكثر سعادة؟ في الواقع ليس الاختلاف على هذا المستوى من الصفات الموضوعية. فالناس الذين يتمتعون بتقدير كبير لذاتهم عندهم عيوب وشكوك وفشل وفي بعض الأحيان مشاعر هشاشة لكنهم يقبلونها بسلام. لا يؤثر الفشل فيهم لكنهم يعلمون أنه لا يمكن تفادي الفشل طالما هم في ساحة العمل. يمكن للانتقادات أن تمسهم وتجرحهم خاصةً إذا كانت صحيحة لكنهم يعترفون بأخطائهم دون حاجة مفرطة للتبرير أو أن ينكروها. تزعجهم حدودهم ونواقصهم وأحياناً تحرجهم لكن لا تجعلهم يتفادون الحالات الاجتماعية أو التعامل معها. ببساطة تدفعهم نقاط ضعفهم للسعي إلى التعلم والتقدم بدلاً من كثرة الكلام أو التثبيط أو الرجفان.

باختصار أكثر ما يميز الأشخاص المتمتعين بتقدير جيد لذاتهم هو قدرتهم على تحمل عيوبهم وقبولها لأنهم كوّنوا ودمجوا صورة شاملة جيدة عن أنفسهم حيث يفترضون أن يكون الآخرون أكثر حساسية لهذه الصورة من التفاصيل التافهة القاتلة ولوم النفس على التصرفات. هم لا يسمحون لأصحاب النوايا السيئة بتحطيمهم وقد تعلموا ألا جدوى أن يبنوا حياتهم وسلوكهم على هؤلاء الناس. يعيشون بحسب قناعاتهم وآرائهم ومصالحهم مع عيوبهم مهما سعى الآخرون لإقناعهم بالعكس. وبالمقابل لا الخطر ولا انتصار الآخرين كافيان حتى يغيروا قناعاتهم.

 لمَ يتوجب علي أن أقبل ذاتي ؟

إن قبول الذات هو شرط أساسي للتغير والتقدم إلى الأمام.  فالقبول يعني فقط أن أقول نعم لما هو موجود لأنه موجود. إن خوفي من المشكلة موجود لذلك من الأفضل التعرف عليها بدل من إنكارها والاعتراف بأن الأمور بالوقت الحالي هي كما هي لا كما أريدها. فالقبول ليس فقط التسامح الذي يعني بطريقة أخرى رفض الواقع، انما الالتفات إلى مكان آخر. القبول لا يعني الاستقالة والتخلي عن فكرة التصرف والتغيير بل يعني مواجهة المشكلة والاعتراف بوجودها. و تقول لنا الخبرة إن التغيير يتم من خلال القبول فمثلاً عندما أريد أن أعالج نفسي يجب أن أعترف أولاً بأنني مريض وإلا فلن أعالج نفسي. ولا أعني هنا بتاتاً أن من لديه ضعف ثقة بالنفس هو مريض.  إن لم تقبل مرضك فأنت تضيف قلقاً على أعراضك وتصبح مريض وجود، كما تصبح مريضاً مزمناً. ولكي تتقدم عليك الاعتراف والقبول بأنك غير كامل، لست مذنباً وإنما غير كامل ببساطة. إن الأمر بالواقع صعب خاصةً وأنه عكس ردود الفعل التي أوجبت علينا لسنوات كثيرة أن نتظاهر امام الآخرين بأننا أكثر جمالاً وفاعلية وذكاء مما نحن عليه.

القبول هو طريقة وجود بالعالم، وهذا مهم وحجر أساس. و يعني القبول التخلي عن السيطرة على كل شيء، ونكتشف أن هناك بعض مشاكل تختفي من تلقاء نفسها وما تبقى يبدو سهل التغير. لكن إن بدأنا بقبول الذات يجب أن نعلم أن القبول هو فلسفة عامة للحياة. لآلاف سنين كان القبول موجوداً بقلب الحكمة الشرقية والفلسفة القديمة أي أن تقول نعم لما هو موجود ومن ثم تواجه هذا الموجود. وبالتالي ممارسة قدرتك على القبول في حياتك اليومية هو مقدمة مهمة للعمل الهادئ حتى يتم التغيير إذا لزم الأمر. هذا بالطبع يتجاوز نطاق الثقة بالذات لكن يسهل بشكل غير مباشر التغيير. إن تغير نظرتنا للعالم يغير نظرتنا لأنفسنا، وقبول العالم يساعدنا على قبول ذاتنا ويسمح لنا بالتقدم إلى الأمام. فأكرر القول لا يعني القبول الخضوع ولا الاستقالة ولا التخلي عن العمل أبداً.

السؤال هل يمكن قبول كل شيء؟ من الطبيعي والجيد أن أقبل نفسي وعيوبي وعيوب الآخرين، وهموم الحياة الكبيرة والصغيرة وجوانبها اليومية. لكن يا ترى هل يفترض أن أقبل العنصرية، الظلم، البؤس، الاستغلال، عدم العدالة؟ بقدر ما نقبل العالم كما هو عليه نستطيع تغيره. باللغة السياسية يقولون إذا أردت أن تنتصر على عدوك فعليك معرفته. إذاً نستطيع تغيير العالم بقدر ما نقبل به كما هو وما هو عليه. هذا يحمينا أولاً من تجنب ردود فعل انتقامية بلا جدوى، كمثال قبول وجود قتلى ولصوص بالعالم يسمح لنا أن نحقق العدل لا أن نطبق قانون الانتقام العين بالعين والسن بالسن أو مثلاً رد فعل قاس. القبول أن الأطفال مثلاً هم أطفال وهذا يحميهم من غضب وعنف البالغين تجاههم لكن حتماً لا يعني التخلي عن تعليمهم ومعاقبتهم في بعض الأحيان. مهما كان رأينا بالعنف أو الظلم فهما موجودان ولا نستطيع إنكارهما سواء غضبنا أم استسلمنا فهما موجودان. هذا يساعدنا على القبول وهذا بالطبع ليس ذريعة لعدم التصرف إنما هو دعوة واستعداد للتصرف بشكل أكثر وضوحاً.

إن الغرض من القبول ليس استعاضة عن الفعل بل تجنب الإيماءات الداخلية كرفض تصرف غير مقبول من شخص ما ثم الذهاب إلى المنزل وكأن شيئاً لم يكن. يعني القبول إعطاء أنفسنا المزيد من القوة والوضوح للتغيير وهو بمثابة غرفة انتظار العمل والتنفيذ أكثر من أن يكون مجرد غضب أو ثورة عاطفية. فمثلاً أنت موجود بسهرة مع أشخاص لدى معظمهم معرفة واطلاع واسعين بموضوع معين وتحدثوا عنه بحماس. أنت لا تعلم شيئاً عن الموضوع، إذا قبلت ذلك سوف تستمتع بهذه السهرة وسوف تتعلم منها الكثير وسيكون لديك الجرأة والبساطة لطرح الأسئلة. وسيكون الأمر سهلاً جداً باعترافك أنك لا تعلم وعدم معرفتك واضحة للآخرين. هذا هو بالضبط ما تفعله الثقة بالذات الجيدة، فعندما يكون لدي ثقة جيدة بذاتي كما وجدتم في اللائحة السابقة أقبل بأن أكون مقيداً للحظة معينة بمجال معين لكن هذا القبول مرن وهذا الوضع ليس نهائياً. لكن إن لم أقبل بجهلي وبعدم معرفتي سأمر بوقت عصيب وسأتظاهر بالمعرفة وسأهز برأسي أمام من يتحدث وسأرتعش خوفاً من أي سؤال وجه لي لأنه لا علم لي بالموضوع، وسأنزعج من هؤلاء الضيوف الذين يعرضون معرفتهم وسأعود الى بيتي مرهقاً وغاضباً. هذه ردة فعل الثقة السيئة بالذات التي تكمن بعدم تقبل الحدود وعدم القناعة بأن هذه الحدود لا تقلل من احترام الآخرين لي، إنه عدم قبول الذات الجامد والمتصلب. وكلما قل وخف قبولك لحدودك كلما أصبحت سجيناً أكثر لهذه الحدود.

وبالتالي يعتمد موقف القبول من جهة على احترام الذات، أي أن تكون مقتنعاً بقيمتك كإنسان وأن عيوبك لا تدين شخصك وأن قيمتك  تكمن وراء وجود نقاط ضعفك. من ناحية أخرى مبنية على البراغماتية، إذ ما الهدف من الغضب أو الحزن تجاه  السلبي الموجود فيّ سوى أنني سأكون سجيناً أكثر للشكوى وردود الفعل. وكما يقول ماركوس أوريليو الذي أسس فكرة قبول الذات والثقة بها "إذا كان الخِيار مراً إرمه وإذا كان هناك شوك على طريقك تحاشاه. لا داعي للشكوى فمن الأفضل أن أقبل ما يسبب لي الغضب أو الحزن أولاً وأوفر طاقتي لأفعال أكثر أهمية من الشكوى والانزعاج".

ما هي فوائد قبول الذات؟

تحسين الراحة العاطفية مع ذاتي وتسهيل التغيير الشخصي اللذين يتم الحصول عليهما بهذه الطريقة. يقول أوريليو نفسه إن "من الغريب أن يشعر المرء بخفة القلب لمجرد قبوله بحسن نية بعدم كفاءته بمجال معين، أو ما أجمل اليوم الذي نتخلى فيه عن البقاء شباباً أو نحيلين". هذا الإنسان أكثر من يعلم عن الثقة بالذات حيث فهم فوائد التخلي عن كل الصراعات والتشنجات غير المجدية مع الذات والسعي القاتل لتحقيق الكمال الذي هو بالنهاية وهمي.

الجانب الآخر الأكثر تناقضاً ظاهرياً هو أننا نتغير بشكل أفضل بقبول أنفسنا. الجملة فيها تباين "نتغير بقدر ما نقبل". إذ هذا لا يتوافق نهائياً مع العقيدة المسيطرة علينا والتي تقول عدم الرضى هو الذي يجعلك تتحرك باتجاه التغير حتى بأشكال العمل وهذا المفهوم خاطئ تماماً.

إذا انطلقنا من مبدأ أن التغير النفسي يتعلق أكثر بقوانين التعلم كالتدريب على ممارسة أنماط جديدة بالسلوك والأفكار أكثر من تلك المتعلقة باكتشاف الذات الشافية أي اكتشاف السبب من معاناتنا يصبح التوتر وعدم الرضى قاتلين وغير مؤثرين لكن الأسوأ أن يعطلا عملية التعلم والتغيير. 

نتعلم بشكل أفضل بجو هادئ وخير وهذا أمر أساسي. فمثلاً إن كنا مدرسين أو أهلاً ونريد من طلابنا أن يتقدموا، فلكي يتقدم الطالب فهو ليس بحاجة لمعلمين يضغطون عليه ويقللون من قيمته من خلال تذكيرهم له بشكل مستمر بعيوبه وعدم كفاءته. وإذا تصرفوا بهذه الطريقة سيتولد لديه الشعور بالاشمئزاز وكذلك الأمرعند كل طالب يتعاملون معه. القلة فقط من الأشخاص الموهوبين والأقوياء بشكل كافٍ لا تتأثر بمثل هذا التصرف من الأساتذة وتتابع مسيرتها وكأن شيئاً لم يكن. إن تقدم معظم الطلاب يعتمد على قبول قيودهم من جانب المعلم الذي يمارس الضغط الودي على ضرورة التغيير. على سبيل المثال يسعى المعالج النفسي -الذي من الواضح أنه ليس بمعلم نهائياً- أن يكون مصغياً، ومربياً فقط. يقبل المعالج المحلَل دون التخلي عن مساعدته وبكامل اللطف بأن يتقدم الى الأمام. وسبب تصرفه بهذه الطريقة أنه يعرف تماماً أنه من الأسهل التغيير بجو من الهدوء العاطفي واحترام الذات. لكن هذا لا يعني أبداً أننا سوف ننسى الهدف وهو الراحة مع الذات. 

أخيراً وليس آخراً ما هي عواقب عدم قبول الذات؟ يرتبط جزء مهم من مشاكل الثقة بالذات بعدم قبول ما نحن عليه كنقاط ضعفنا وحدودنا وأيضاً عدم قبول صعوباتنا بالتغيير. فننزعج ونشعر باليأس من عدم التقدم وعدم القيام بما نريد أن نفعله بحياتنا.

لكن بشكل عام إن عواقب عدم قبول الذات موجودة بوضوح في المجالات الثلاث الأكثر شيوعاً للاضطرابات النفسية بالتحديد الاكتئاب والقلق والإدمان على الكحول. فوق كل ذلك إن أهم عنصر للوصول إلى قبول الذات والتقدم إلى الأمام هو الحب، أن تحب ذاتك. أحبب وافعل كما تشاء.

 

 

SHARE