الكلمة

المقالات

تصفح المقالات حسب التصنيفات الرئيسية في الموقع، بما فيها عظات قداديس أيام الآحاد على مدار السنة

مواضيع تربوية نفسية، يطرحها الأب رامي الياس المختص بعلم التحليل النفسي

هل المواجهة أفضل أم الهروب

2022-Aug-21 | مواضيع تربوية نفسية | 2025

هل المواجهة أفضل أم الهروب

 

عرّفنا سابقاً الأزمة من وجهات نظر مختلفة. فالأزمة هي بذات الوقت عبارة عن قرار، نقطة تحول، اختيار، تخلٍ. ومررنا سريعاً حول كيفية مواجهتها، والذي هو موضوعنا هنا.

ماذا تعني المواجهة؟ ما هي أسباب الهروب؟ هل المواجهة أفضل من الهروب؟ هذه أسئلة صعبة لأنه ليس بالسهل أن نضمن تصرفنا عندما تحدث الأزمة. طبعاً على الفرد أن يبني استراتيجته النفسية كي يعرف كيف عليه أن يتصرف إذا حلت الأزمة أو الحالة الصعبة.

إذا كانت الأزمة قراراً أو اختياراً فهذا يعني تغييراً، إذاً السؤال الذي يطرح نفسه هو هل أنا أريد التغيير؟ أو أنني أفضل أن أبقى كما أنا عليه، كالمثل الذي يقول إن ما أعرفه أفضل من الذي أجهله. فكلنا يعرف أننا نخاف من المجهول ومن المغامرة متناسين أن الحياة بمجملها مغامرة ولعبة. أليست الحالات الصعبة والأزمات هي علامات على أن الحياة مغامرة؟ نحن نخاف المغامرة والمجهول لأننا لا نملك الثقة الكافية بالحياة والحياة ليس لها وجود خارجاً عن الاختلاف والمغامرة.

بشكل عام نستعمل كلمة الاختلاف لنعبر عن الاختلاف بين الأشخاص، فكل شخص هو فريد. لكن بالمقابل هناك ما يسمى باختلاف الظروف، فظرفنا الحالي اليوم في سوريا ليس كما كان ظرفنا منذ سنوات خلت. فإذا كنت أخاف من المغامرة والمجهول، إذا كنت لا أثق بالحياة، إذا كنت أخاف التغيير والاختلاف فكيف يمكنني أن أتطور وأن أتقدم، بل وأكثر من ذلك كيف يمكن للحياة أن تستمر بالمعنى العميق والقوي للحياة وليس بالأكل والشرب فقط.  فالتطور والتغيير يتطلبان روح المغامرة والثقة، وحين أفقد الثقة يعني إلى حد كبير فقدت الحياة.

السؤال الآن أمام الأزمة أي موقف أتبنى؟ أواجه الأزمة أم أهرب، أيهما الأفضل؟

بدايةً سنتكلم عن الحالات الصعبة كالمرض أو فقدان إنسان عزيز أو فقدان العمل أو تغيير مفاجئ بظروف حياتنا وما يتشابه من أزمات وأختم بكيفية التعامل مع الأزمة. كيف علينا أن نتصرف في الحالات الصعبة وفي الأزمات؟

بلا شك كلنا اختبرنا حالات صعبة كنا نتمنى لو لم نمر فيها. المشكلة أنه تنقصنا الأدوات اللازمة لمواجهة الأزمة ومعرفة كيفية التعامل معها، خاصة تلك التي تحمينا من الوقوع في اليأس. لذلا أقول إنه إذا أردت مواجهة الحالات الصعبة أو الأزمات فلا بد من قبول الواقع. بدون شك تولد كلمة قبول الواقع شيئاً من النفور والرفض لدينا و ربما تعقد الأمور، إلا أن قبول الواقع لا يعني مطلقاً الموافقة أو الاستسلام.

كيف يمكنني أن أقبل المرض أو فقدان عملي؟ بلا شك من الصعب الموافقة على هذا، وبالتالي القبول هو بأنني بهذه اللحظة التي أنا فيها اليوم هذا هو واقعي الذي لا أستطيع إنكاره. إضافة إلى أن القبول يحميني من مقاومة الحياة حتى أضع نفسي بمسار الحياة وليس على هامشها.

المهم أن نعرفه، وما هو جوهري وأساسي أنه طالما لم أقبل هذا الواقع فأنا أضيف ألماً على ألمي، وسأجد نفسي بحلقة مفرغة من الألم من الصعب جداً الخروج منها. مما يعني أنه من المهم جداً أن أقبل واقعي وأستقبل مشاعري وأن أعبرعنها بكل بساطة لأن الخطر يكمن في عقلنة الأمور. إن عبارات "هناك بالتأكيد من هو أسوأ مني. أنظر إلى مصائب غيرك تهن عليك مصيبتك" لها إيجابياتها لأنها تساعدني على أن آخذ البعد اللازم عن الحالة الصعبة أو الأزمة وأن أعطيها الطابع الموضوعي. لكن مكانها ليس هنا بل بمكان آخر هو ليس موضوعنا اليوم.

في الحالات الصعبة والأزمات تكون هذه العبارات بمثابة المخدر وهي مقاومة مرفوضة. لأن المقاومة سلبية، وتعني كبت المشاعر الحقيقية، وحين أكبت مشاعري ستظهر بطريقة أو بأخرى شئت أم أبيت إما جسدياً كآلام بالرأس، قرحة معدية، إسهالات، إلخ، أو تظهر في المكان أو الزمان غير المناسبين وقد تقود إلى كآبة وحزن عميق مما قد يكون له عواقب. لذلك من الضروري جداً أن أعبر عن مشاعري بكل حرية وواقعية وأن آخذ الوقت لاستقبالها.

يدعوني الناس كمحلل نفسي لأعالج الحزن في حالات الوفاة، فيتفاجؤون بي أنصح أهل المتوفى بأن يعبروا بالطريقة التي يجدونها مناسبة كالكفر أو الشتيمة دون أن يكبتوا أي مشاعر. هذا ما يحرر الإنسان ويجعله يعيش حزنه كي يخرج من حالة الحزن والكآبة بأسرع وقت ممكن. في هذه الحالات علي أن أكون عطوفاً ورحيماً مع ذاتي، لأنه وعادةً بمثل هذه الحالات الصعبة أو الأزمات غالباً ما نكون قاسين مع أنفسنا بشكل لاواعٍ بمعنى أنها تشكل لدينا بشكل لاواعٍ شعوراً بالذنب أو حالة من التوتر. فأكون عصبياً مع نفسي لأنني لم أستطع تقبل هذا الواقع وهنا أضيف ألماً على ألمي. لذلك من المهم جداً أن أتعامل مع نفسي مثل الطفل الذي يتألم وأهتم بنفسي وأتساءل عمَّ أنا بحاجة إليه اليوم.

أمام الحالات الصعبة والأزمات غالباً ما نقع بفخ الحكم على الآخر. أي مثلاً طردت من عملي وسبب هذا الطرد هو مديري، فبالتالي أحكم عليه وأضع نفسي بموقف الضحيةـ متناسياً أنه حتماً علي مسؤولية. هنا من المهم جداً أن أتقبل هذا الواقع، لأنني سأجد الكثير من الناس ممن يشجعون هذا الموقف فيقولون: كيف يفعل هذا معك؟ أو مثلاً يقولون إن الكورونا هي لعبة مفتعلة ومؤامرة. هذا الشعور سيعود يوماً ويعكر صفو حياتي ويعرقل مسيرتي باتجاه القبول والواقعية. دون أن ننسى أننا عندما أحكم على الآخر فأنا أحكم على ذاتي أيضاً، لذلك علي أن أعبر عما أريده لمرة واحدة، لكن علي أن أتوجه إلى الأمام وأتساءل أي قرار سأتبنى في هذه الحالة.

حين أكون في حالة صعبة أو بأزمة، أطرح على نفسي بشكل عفوي بعض الأسئلة مثل لماذا؟ لمَ يحدث هذا؟ ماذا فعلت له ليفعل بي ذلك؟ ماذا فعلت لله حتى يبتليني بمثل هذه المصيبة؟ وهذا أمر طبيعي لأنه من حقنا أن نفهم ما يحدث. لكن السؤال خاطئ وجوابه الوحيد هو أن هذه هي الحياة بحلوها ومرها، فيها أفراح وأحزان، فيها أزمات وفيها لحظات رائعة. المشكلة إذاً أن هذا السؤال يمكن أن يدوم معي كل الحياة وبالتالي أبقى في مكاني جامداً ومشلولاً وحزيناً. بينما الأفضل هو أن أتساءل كيف أستطيع أن أستمر وماذا أستطيع أن أفعل، وكيف أستطيع أن أتجاوز هذه الحالة أو الأزمة. هنا يمكنني أن أستشير بعض الأشخاص ممن يمتلكون خبرة أكثر مني، أو أن أقرأ بخصوص الحالة التي أمر بها.

أمام هذا السؤال : "ماذا أستطيع أن أفعل؟" أنا مدعو لعملية مهمة جداً هي عملية التمييز. يجب علي أن أميز بين الشيء الذي يعود لي، ما هي مسؤوليتي في الموضوع؟ كيف علي أن أتصرف؟ كيف علي أن أنظر لمثل هذه الحالة؟ وهذا يمكن أن يتطلب مني اتخاذ قرارات قد تكون مؤلمة لكنها محررة. يمكن أن أكتشف أن هناك أموراً علي أن أرتبها وأن أضعها في مكانها الصحيح. بالمقابل علي أن أميز الشيء الذي لا يعود لي وليس ضمن مسؤوليتي، هنا علي قبول استحالة السيطرة على كل شيء والتي يطلق عليها بالإنكليزية Let go  وبالفرنسية Lâche prise. وعلي أن أتحمل مسؤوليتي فليس لي الحق أن أقول لا تعنيني مثلاً حالة الكورونا إذ يجب أن أتساءل ماذا لو تصرف الآخرون مثلي كيف ستكون الأمور هل هي للأفضل أم للأسوأ. هنا تكمن أهمية أن أستعيد إمكانياتي وسلطتي، بمعنى ألا أقع بالشعور بالعجز، لأنه من البساطة أن أقول أنه ليس بإمكاني فعل شيء. إن الانسان هو كل شيء ما عدا العجز، الإنسان لديه إمكانيات بلا حدود، لا حدود لها على الإطلاق، وبالتالي لا يحق لنا أن نقبل بموقف العجز. أنا مدعو لأن أواجه ذاتي، وأركز على ما أنا عليه وعلى إمكانياتي، وأتساءل أنه كيف من الممكن أن أصنع جديداً انطلاقاً من الأزمة التي أنا فيها.

حتى أجيب على هذا السؤال لا بد من قاعدة ذهبية مهمة وغالباً نحن نعيش عكسها، وهي أن ما يحصل لا يحصل لي شخصياً، لست أنا المستهدف، وإلا سأجد نفسي مجدداً بدوامة الضحية، فأنا لست ضحية لأن ما يحصل هو جزء من الحياة، ما يحصل لا يحصل لي شخصياً، لست أنا المستهدف، لكن ما يحصل يحصل لأجلي، والفارق هنا مهم جداً. وبهذه الطريقة أستطيع أن أبدع وأحول السلبي إلى إيجابي، فالدخول بعملية القبول بهذا المعنى هو الذي يستطيع أن يعيد لي السلام الداخلي.

كل ما تكلمت به حتى الآن ينطبق على الحالات الصعبة والأزمات، لكن الأزمة طبعاً لها خصوصية أكبر. فما العمل في حالة الأزمة؟

في حالة الأزمة عادةً ما يخرج المكبوت في الماضي على الساحة ويسيطر عليها من حيث لا أدري. لماذا؟ لأنه بحالة الأزمة يسيطر علي الشعور بالخوف ويصبح المهم أو الأهم هو الحفاظ على الحياة. وبالتالي اللاوعي هو الذي يسيطر، وبهذه الحالة سأفقد إمكانياتي وتشل، فأقوم بتصرفات لاعقلانية. مثلما حصل في أوروبا في فترة الحجر الصحي بسبب الكورونا، حيث تشاجر الناس على ورق التواليت، كما لو أن للكورونا علاقة بذلك. لذا من المهم أن أعي حالتي الشخصية ومشاعري، هل أنا أعيش ذعراً أم هلعاً؟ يجب أن آخذ البعد اللازم حتى تعود لي إمكانياتي العقلانية للعمل وبالتالي أعطي للأزمة أو للحالة نسبيتها.   

في هذه الحالة أمتنع عن تغذية مخاوفي من خلال تخيل سيناريوهات كارثية. فلا أكرر نفس العبارة: إلى أين نحن ذاهبون، الله يستر من القادم لاحقاً. على العكس تماماً علي أن أتقبل أنني لا أعرف كل شيء وبالتالي أحاول أن أنظر إلى ما يمكن القيام به بالرغم من الحالة وأتساءل هل أنا جزء من الحل أو أنا جزء من الأزمة؟  دون أن ننسى أهمية التأقلم. ما يتميز به الإنسان هو إمكانياته اللامحدودة في التأقلم. وهذا ما يسمح لي أن أوظف طاقاتي وإمكانياتي في المكان المناسب. فعلينا ألا ننسى أن الحياة لعبة، وكلنا نلعب لعبة الحياة، لكن في الأزمة تتغير أوراق وقواعد الحياة، وبالتالي علي أن أتأقلم معها مثل كل التغيرات التي حدثت أثناء الحجر الصحي. في هذه الحالة أنا أمام عدة خيارات، إما أن أتبنى موقف الناقد فأحتج وأشتكي وبالتالي لن يتغير شيئاً، ولن أجد أوراق اللعبة السابقة، أو أتبنى موقف الغش فألتف على الأزمة وانعكاساتها وأرفض كل ما هو مطلوب مثلاً من حجر وحظر واحتياطات، أو أن أقبل بالواقع الحالي الذي فرضته الطبيعة علينا.

إذأً كيف يمكنني الاستفادة من هذه الأزمة، أي نقطة حساسة تمس الأزمة فيّ حالياً؟ هل هو الخوف من الموت؟ خوف من عدم وجود مال لدي؟ خوف من عدم الأمان؟ خوف من نقص الثقة بالآخرين وبالحياة؟

هذا السؤال مهم لأنه يسمح لي أن أغوص بذاتي وأكتشفها بشكل أفضل وأعمل على هذه النقطة التي اكتشفتها. فإن كانت الأزمة تمس خوفي من عدم الأمان فيجب علي أن أبحث عن الأمان في داخلي وليس في الخارج. بهذه الطريقة أحول الحالة السلبية إلى نقطة انطلاق جديدة ومحررة.

في الختام، مواجهة أم هروب؟ أولاً لا شك أن المواجهة هي الموقف السليم لأن الحياة مليئة بالأزمات والحالات الصعبة. ثانياً الهروب يمنعني من التقدم لأن الهروب كالمواجهة وهما استراتيجيتان نفسيتان. فإذا اخترت الهروب فستكون هذه هي استراتيجيتي النفسية في كل حياتي التي ستتحول من هروب إلى آخر. بينما إن اخترت استراتيجية المواجهة ستنميني نفسياً وعاطفياً وإنسانياً، كهروبنا من واقع الكورونا بقولنا إنها أزمة مفتعلة فهذا لن يلغي الواقع بل على العكس سيأزمه ويضخمه. ستسمح لي المواجهة بأن أغوص بذاتي كي أعرفها بشكل أفضل وحتماً أكتشف إمكانياتي التي لم أكن أعرفها وأتغير نحو الأفضل. تكلمت عن هذه الأمور في اللقاءات السابقة كيف أن الكورونا جعلتنا نفكر بما يجب تغييره بحياتنا وتصرفاتنا وعلاقاتنا.

 

 

SHARE