الكلمة

المقالات

تصفح المقالات حسب التصنيفات الرئيسية في الموقع، بما فيها عظات قداديس أيام الآحاد على مدار السنة

العظات، يحتوي على عظات قداس الأحد على مدار السنة

موعظة يوم الأحد 28 كانون الثاني 2024. موعظة الأحد الرابع من الزمن العادي

2024-Jan-28 | عظات | 264

تث 18، 15 – 20  1 قور 7، 32 – 35  مر 1، 21 – 28  

 

«ودَخلوا كَفَرناحوم. وما إن أَتى السَّبْتُ حتَّى دَخَلَ المَجمَعَ وأَخَذَ يُعَلِّم. فأُعجِبوا بِتَعليمِه، لأَنَّه كانَ يُعَلَّمُهم كَمَن له سُلْطان، لا مِثلَ الكَتَبَة. وكانَ في مَجمَعِهِم رَجُلٌ فيهِ رُوحٌ نَجِس، فصاحَ: «ما  لَنا ولَكَ يا يَسوعُ النَّاصريّ؟ أَجِئْتَ لِتُهلِكَنا؟ أَنا أَعرِفُ مَن أَنتَ: أَنتَ قُدُّوسُ الله». فانتَهَرَهُ يسوعُ قال: «اِخرَسْ واخرُجْ مِنه!» فخَبَطَهُ الرُّوحُ النَّجِس، وصرَخَ صَرخَةً شَديدة، وخَرجَ مِنه، فدَهِشوا جَميعاً حتى أَخذوا يَتَساءلون: «ما هذا ؟ إِنَّهُ لَتعليمٌ جَديدٌ يُلْقى بِسُلْطان ! حتَّى الأَرواحُ النَّجِسَةُ يأمُرُها فَتُطيعُه !» وذاعَ ذِكرُهُ لِوَقتِه في كُلِّ مَكانٍ مِن ناحِيَةِ الجَليلِ بِأَسْرِها».

 

الموعظة

بحسب إنجيل اليوم، نحن في بداية رسالة يسوع في الجليل حيث يبشر بقدوم ملكوت الله. في هذا السبت، كان في كفرناحوم مع تلاميذه الأربعة الأوائل، وهناك حدثت المعجزة الأولى. معجزة: هذه كلمة تم اختيارها بشكل سيء للغاية. لأن ــــ وهذا قد يفاجئكم ــــ هذه الكلمة لم تظهر في أي من الأناجيل الأربعة، ولا في بقية العهد الجديد. فالكنيسة هي التي عنوت المقاطع الإنجيلية لمساعدة القارئ. الإنجيل يقول إنه في يوم سبت، في كفرناحوم، كان هناك رجل في المجمع فيه روح نجس بدأ يصيح.

وكما يقال عادة، إنه «ممسوس بالشيطان». وهذه الترجمة مؤسفة جدًا، لأنها تجعلنا نعتقد أن هذا الرجل المسكين هو ضحية بريئة لروح شرير، أي الشيطان. قوى الشر، الأرواح الشريرة تمتلكه، تتلاعب به. فينتشر شعور بالخوف من حوله وفي داخلنا: ماذا لو حدث لنا أيضًا. إذا نظرنا عن كثب إلى النص اليوناني للإنجيل، نكتشف شيئًا مختلفًا. ليس الروح النجس الذي في الإنسان، بل الإنسان الذي هو في روح نجس.

نجس، أي أن هذا الرجل يكاد يكون مستبعدًا من الشعب، مستبعدًا من جماعة المؤمنين ومن أي مشاركة في ليتورجية الهيكل، بل ونتساءل كيف تمكن من دخول المجمع. وإن أشار الإنجيلي إلى أنه بروح نجس؛ فلكي يقول لنا بأن هذا الرجل هو المسؤول عن وضعه. لقد دخل في الأمر بشكل أو بآخر، أو على الأقل بقي هناك. فهو ليس لعبة قوى خارجية تسيطر عليه وتتلاعب به كما تشاء كالدمية. فهو يظل رجلاً حراً ومسؤولاً، حتى ولو كان في الوقت الحالي ليس على ما يرام ولا يملك كل إمكانياته.

في الواقع، إنه يشبهنا ويحدث لنا أيضًا أن نكون غير واضحين تمامًا، وفي روح نجس، فنرتكب أفعالًا مدمرة لأنفسنا وللآخرين. ربما مررنا أيضًا بفترات كنا فيها مكتئبين إلى حد ما، في قاع الحفرة، وأدركنا بعد ذلك أننا كنا في بعض الأحيان، بطريقة مرضية إلى حد ما، في هذه الحالة. البعض يقول أحيانًا: «سأخبرك بما حدث لي. ماذا حدث لي، وكأن الفعل السيء الذي تم ارتكابه هو أمر حتمي لا يستطيع الهروب منه، وكأنه غير مسؤول، وكأنه أيضًا ممسوس بروح شيطانية جعله يقوم، بالرغم منه، بأعمال شريرة أو سيئة.

وبطبيعة الحال، عندما نرتكب أفعالاً أكثر أو أقل خطورة لا نكون حراً تماماً. ومن يستطيع الادعاء بأنه حر كلية؟ وراء أفعالنا هناك كل ما يقيدنا ويحددنا: تاريخنا الشخصي، ما عانينا منه، ما فاتنا في طفولتنا وطوال حياتنا، وبالطبع المجتمع الذي نتهمه بكل الشرور. تظل الحقيقة أننا مسؤولين عن أفعالنا. تماما مثل الرجل من مجمع كفرناحوم. فهو، وليس الشيطان، الذي يصرخ ويخلق البلبلة.

فهو الذي بروح نجس، هو الذي يعيش حياة خارج العلاقات الإنسانية الواضحة والطبيعية ولكنه يظل حرا وواضحا. واضح جدا، وهو في الواقع، لأنه فهم أمام الجميع من هو يسوع «أنت قدوس الله». إن ما يفاجئه ويزعجه ليس فقط ما يقوله يسوع، بل هو شخصه ذاته. إنه يستشعر فيه هذا النبي الذي أقامه الله في وسط الشعب والذي بدا أن سفر التثنية يعلنه، والذي قرأه بلا شك. ويشعر أنه سيتعين عليه الاختيار. خيار مؤلم. إما أن يبقى محبوسًا في الروح النجس الذي هو محبوس وملتصق به، أو يقبل أن يسلك اتجاهًا جديدًا للحياة بفضل يسوع المعترف به نبي الله القدوس.

في النهاية، إنه رجل ممزق. لم يعد يعرف جيدًا أين هو، أو بالأحرى من هو. إنه يعرف من هو يسوع، لكنه لم يعد يعرف ذاته. بداية يتحدث عن نفسه بقوله «نحن» وكأن فيه عدة شخصيات: «ما لنا ولك يا يسوع الناصري؟ أجئت لتهلكنا؟». ثم يقول: «أنا أعرف من أنت». إنه منقسم داخل نفسه، ويخشى التغيير، وفقدان توازنه غير المستقر ولكن المريح في النهاية. ويخشى تحرره ويسعى إليه في الوقت نفسه. مرة أخرى، كم يشبهنا هذا الرجل! رجل ممزق.

وكما يقول الرسول بولس في رسالته: «الخير الذي أريده لا أفعله، والشر الذي لا أريده فإياه أفعل» (رو 7، 19). كل واحد منا هنا، يعرف في أعماقه ما يجب فعله للتغيير، ليكون أكثر حرية وتوحدًا، وأقل أسرًا للروح النجسة التي يكون فيها أحيانًا أو دائمًا. فالتغيير يخيفنا. هناك شيء مطمئن فيما يتعلق بالشر أو البلاء الذي نعيشه بدرجات متفاوتة. لأن الخروج هو المجهول، هو المغامرة. مثل الرجل من كفرناحوم، نقول: «ماذا تريد منا؟» ــواتركنا وشأننا!

لكي يخرج إنساننا من نفسه، ويجد وحدته الشخصية، ولا يسيطر عليه بعد ذلك الروح الشريرة الذي يستسلم له بفرح أكبر أو أقل، يحتاج إلى مساعدة يسوع. هذا الرجل، أخيراً، أصبح حر وقادر على أن يجد مكانًا مناسبًا في مجتمعه الإنساني. هذا الرجل، كما نقول في قانون الإيمان، «نزل إلى الجحيم». ونزل معه يسوع ليساعده على الخروج منها، ليعود إلى الحياة. لاستعادة الديناميكية. نحن نعلم أن نزول يسوع إلى الجحيم كان عميقًا جدًا لدرجة أنه قاده إلى الموت خلال لحظات من اليأس الشديد، ومن خلال الشعور العنيف والمؤلم بتخلي الله نفسه عنه.

ولكننا نؤمن على أساس الشهود الأولين أن الله أقامه من بين الأموات في يوم الفصح. وهذا لأنه ليس فقط الرجل الذي يُعلِّم بسلطان بل يكشف عن ذاته، ويهب نفسه للاكتشاف كالابن الذي يعيش في ديناميكية الروح القدس، الابن بامتياز لإله معترف به كأب. أب رحيم يريد لأولاده أن يعيشوا بحرية، بالروح. فلا داعي أن نخاف مثل أهل المجمع، بل أن نفرح ونشكر.

SHARE